فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب اتباع النساء الجنائز

( بابُُ اتِّبَاعِ النِّسَاءِ الجَنَائِزِ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان اتِّبَاع النِّسَاء الْجَنَائِز، وَلم يبين كَيْفيَّة الحكم: هَل هُوَ جَائِز أَو غير جَائِز أَو مَكْرُوه؟ لاخْتِلَاف الْعلمَاء فِيهِ، لِأَن قَول أم عَطِيَّة يحْتَمل أَن يكون نهي تَحْرِيم، وَيحْتَمل أَن يكون نهي تَنْزِيه، على أَن ظَاهر قَول أم عَطِيَّة: وَلم يعزم علينا، يَقْتَضِي أَن يكون النَّهْي نهي تَنْزِيه، وَقد ورد فِي هَذَا الْبابُُ أَحَادِيث تدل على الْجَوَاز، فلأجل هَذَا الِاخْتِلَاف أطلق البُخَارِيّ التَّرْجَمَة وَلم يقيدها بِحكم.
وَفِي بعض النّسخ: بابُُ اتِّبَاع النِّسَاء الْجِنَازَة.



[ قــ :1231 ... غــ :1278 ]
- حدَّثنا قَبِيصَةُ بنُ عُقْبَةَ قَالَ حدَّثنا سُفْيَانُ عنْ خالِدٍ عنْ أُمِّ الهُذَيْلِ عنْ أُمِّ عَطِيَّةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قالَتْ نُهِينَا عنِ اتِّبَاعِ الجَنَائِزِ ولَمْ يُعْزَمْ عَلَيْنَا..
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه بَين مَا أبهمه البُخَارِيّ فِي التَّرْجَمَة فِي إِطْلَاق الحكم بِأَنَّهُ مَنْهِيّ، وسُفْيَان هُوَ الثَّوْريّ وَأم الْهُذيْل هِيَ: حَفْصَة بنت سِيرِين، وَأم عَطِيَّة هِيَ نسيبة.
وَقد تقدم كل الروَاة.
وَتقدم الحَدِيث أَيْضا فِي: بابُُ الطّيب للْمَرْأَة عِنْد غسلهَا من الْمَحِيض، فِي كتاب الْحيض، من طَرِيق أَيُّوب عَن حَفْصَة عَن أم عَطِيَّة مطولا، وَفِيه: ( وَكُنَّا ننهى عَن اتِّبَاع الْجَنَائِز) .
وَرَوَاهُ هِشَام بن حسان أَيْضا عَن حَفْصَة عَن أم عَطِيَّة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
وَأخرج الْإِسْمَاعِيلِيّ هَذَا الحَدِيث من رِوَايَة يزِيد ابْن أبي حَكِيم عَن الثَّوْريّ بِإِسْنَاد هَذَا الْبابُُ، وَلَفظه: ( نَهَانَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) فَإِن قلت: هَذَا الحَدِيث لَا حجَّة فِيهِ لِأَنَّهُ لم يسم الناهي فِيهِ؟ قلت: الَّذِي أخرجه الْإِسْمَاعِيلِيّ يرد مَا قيل فِيهِ من ذَلِك، وَهَذَا الْبابُُ مُخْتَلف فِيهِ، فالجمهور على أَن كل مَا ورد بِهَذِهِ الصِّيغَة حكمه حكم الْمَرْفُوع، وروى الطَّبَرَانِيّ عَن إِسْمَاعِيل بن عبد الرَّحْمَن بن عَطِيَّة عَن جدته أم عَطِيَّة، قَالَت: ( لما دخل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمَدِينَة جمع النِّسَاء فِي بَيت ثمَّ بعث إِلَيْنَا عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَقَالَ: إِنِّي رَسُول رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إلَيْكُنَّ، بَعَثَنِي لأبايعكن على أَن لَا تسرقن.
.
)
الحَدِيث، وَفِي آخِره: ( وأمرنا أَن نخرج فِي الْعِيد الْعَوَاتِق، ونهانا أَن نخرج فِي جَنَازَة) .
وَهَذَا يدل على أَن حَدِيث الْبابُُ مُرْسل.
قَوْله: ( وَلم يعزم علينا) ، على صِيغَة الْمَجْهُول أَي: لم يُوجب وَلم يفْرض أَو لم يشدد وَلم يُؤَكد علينا فِي الْمَنْع، كَمَا أكد علينا فِي غَيره من المنهيات، فَكَانَ الْمَعْنى: أَنَّهَا قَالَت: كره لنا اتِّبَاع الْجَنَائِز من غير تَحْرِيم.
.

     وَقَالَ  الْقُرْطُبِيّ: ظَاهر الحَدِيث يَقْتَضِي أَن النَّهْي للتنزيه، وَبِه قَالَ جُمْهُور أهل الْعلم،.

     وَقَالَ  ابْن الْمُنْذر: روينَا عَن ابْن مَسْعُود وَابْن عمر وَعَائِشَة وَأبي أُمَامَة أَنهم كَرهُوا ذَلِك للنِّسَاء، وَكَرِهَهُ أَيْضا إِبْرَاهِيم وَالْحسن ومسروق وَابْن سِيرِين وَالْأَوْزَاعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق.
.

     وَقَالَ  الثَّوْريّ: اتِّبَاع النِّسَاء الْجَنَائِز بِدعَة، وَعَن أبي حنيفَة: لَا يَنْبَغِي ذَلِك للنِّسَاء، وروى إجَازَة ذَلِك عَن ابْن عَبَّاس وَالقَاسِم وَسَالم وَالزهْرِيّ وَرَبِيعَة وَأبي الزِّنَاد، وَرخّص فِيهِ مَالك، وَكَرِهَهُ للشابة، وَعند الشَّافِعِي مَكْرُوه، وَلَيْسَ بِحرَام، وَنقل الْعَبدَرِي عَن مَالك: يكره إلاَّ أَن يكون الْمَيِّت وَلَدهَا أَو والدها أَو زَوجهَا، وَكَانَت مِمَّن يخرج مثلهَا لمثله.
.

     وَقَالَ  ابْن حزم: لَا يمنعن من اتباعها، وآثار النَّهْي عَن ذَلِك لَا تصح لِأَنَّهَا إِمَّا عَن مَجْهُول أَو مُرْسلَة أَو عَمَّن لَا يحْتَج بِهِ، وأشبه شَيْء فِيهِ حَدِيث الْبابُُ، وَهُوَ غير مُسْند لأَنا لَا نَدْرِي من هُوَ الناهي، وَلَعَلَّه بعض الصَّحَابَة، ثمَّ لَو صَحَّ مُسْندًا لم يكن فِيهِ حجَّة، بل كَانَ يكون على كَرَاهَة فَقَط، وَقد صَحَّ خِلَافه.
روى ابْن أبي شيبَة من حَدِيث أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: ( أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ فِي جَنَازَة فَرَأى عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، امْرَأَة فصاح بهَا، فَقَالَ لَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: دعها يَا عمر فَإِن الْعين دامعة وَالنَّفس مصابة والعهد قريب) .
قلت: أخرج الْحَاكِم هَذَا،.

     وَقَالَ : صَحِيح على شَرط الشَّيْخَيْنِ، وَفِيه نظر لِأَن الْبَيْهَقِيّ نَص على انْقِطَاعه، وَفِي سَنَده سَلمَة بن الْأَزْرَق، قَالَ ابْن الْقطَّان: سَلمَة هَذَا لَا يعرف حَاله وَلَا أعرف أحدا من مصنفي الرِّجَال ذكره، وروى الْحَاكِم قَالَ: أخبرنَا أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن عبد الله الصفار حَدثنَا أَبُو إِسْمَاعِيل مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل حَدثنَا سعيد بن أبي مَرْيَم أخبرنَا نَافِع بن يزِيد أَخْبرنِي ربيعَة ابْن سيف حَدثنِي أَبُو عبد الرَّحْمَن الحبلي ( عَن عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ قَالَ: قبرنا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رجلا، فَلَمَّا رَجعْنَا وحاذينا بابُُه إِذا هُوَ بِامْرَأَة لَا نظنه عرفهَا فَقَالَ: يَا فَاطِمَة! من أَيْن جِئْت؟ قَالَت: جِئْت من أهل الْمَيِّت، رحمت إِلَيْهِم ميتهم وعزيتهم، قَالَ: فلعلك بلغت مَعَهم الكدي؟ قَالَت: معَاذ الله أَن أبلغ مَعَهم الكدى، وَقد سَمِعتك تذكر فِيهِ مَا تذكر.
قَالَ: لَو بلغت مَعَهم الكدى مَا رَأَيْت الْجنَّة حَتَّى يرى جد أَبِيك)
.
والكدى: الْمَقَابِر.
قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح على شَرط الشَّيْخَيْنِ وَلم يخرجَاهُ.
قلت: كَيفَ يَقُول على شَرط الشَّيْخَيْنِ وَرَبِيعَة بن سيف لم يخرج لَهُ أحد مِنْهُمَا؟.

     وَقَالَ  الدَّاودِيّ: قَوْلهَا: ( نهينَا عَن اتِّبَاع الْجَنَائِز، أَي: إِلَى أَن نصل إِلَى الْقُبُور) وَقَوْلها: ( وَلم يعزم علينا) أَي: لَا نأتي أهل الْمَيِّت فنعزيهم ونترحم على ميتهم من غير أَن نتبع جنَازَته،.

     وَقَالَ  بَعضهم: وَفِي أَخذ هَذَا التَّفْصِيل من هَذَا السِّيَاق نظر.
قلت: وَفِي نظره نظر، لِأَن الحَدِيث الَّذِي رَوَاهُ الْحَاكِم عَن عبد الله بن عَمْرو الْمَذْكُور يساعده.
وَقيل: يحْتَمل أَن يكون المُرَاد بقولِهَا: ( وَلم يعزم علينا) أَي: كَمَا عزم على الرِّجَال بترغيبهم فِي اتباعها بِحُصُول القيراط، وَنَحْو ذَلِك.
انْتهى.
وَأحسن حالات الْمَرْأَة مَعَ الْجِنَازَة أَنَّهَا لَا تُوجد فِي حُضُورهَا،.

     وَقَالَ  الْحَازِمِي: أما بِاتِّبَاع الْجِنَازَة فَلَا رخصَة لَهُنَّ فِيهِ، وَقد رُوِيَ عَن يزِيد بن أبن حبيب أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حضر جَنَازَة رجل فَلَمَّا وضعت ليصلى عَلَيْهَا أبْصر امْرَأَة فَسَأَلَ عَنْهَا، فَقيل: هِيَ أُخْت الْمَيِّت.
فَقَالَ لَهَا: إرجعي فَلم يصل عَلَيْهَا حَتَّى تَوَارَتْ.
.

     وَقَالَ  لامْرَأَة أُخْرَى: إرجعي وإلاَّ رجعت.