فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب الصبر عند الصدمة الأولى

(بابُُ الصَّبْرِ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأُولَى)

يجوز فِي: بابُُ، التَّنْوِين، وَيجوز بِالْإِضَافَة إِلَى الصَّبْر، وعَلى التَّقْدِيرَيْنِ ارْتِفَاع بابُُ على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف، أَي: هَذَا بابُُ، وَلَفظ الصَّبْر عِنْد إِضَافَة الْبابُُ إِلَيْهِ يكون مجرورا بِالْإِضَافَة، وَعند كَون الْبابُُ منونا يكون لفظ الصَّبْر مَرْفُوعا على الِابْتِدَاء وَخَبره قَوْله: عِنْد الصدمة الأولى.

وَقَالَ عُمَرُ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ نِعْمَ العِدْلاَنِ ونِعْمَ العِلاَوَةُ الَّذِينَ إذَا أصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إنَّا لله وإنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ المُهْتَدُونَ (الْبَقَرَة: 651، 751) .


مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن الله تَعَالَى أخبر عَن الصابرين الَّذين يَقُولُونَ عِنْد الْمُصِيبَة: { إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون} (الْبَقَرَة: 651، 751) .
وَأخْبر أَنهم هم الَّذين { عَلَيْهِم صلوَات من رَبهم وَرَحْمَة} (الْبَقَرَة: 751) .
وَأخْبر أَنهم: { هم المهتدون} (الْبَقَرَة: 751) .
وَإِنَّمَا استحقوا هَذِه الْفَضَائِل الجزيلة بصبرهم المبشر عَلَيْهِ بِهَذِهِ الْبشَارَة، وَهُوَ الصَّبْر عِنْد الصدمة الأولى، وَهُوَ الصَّبْر الْمَحْمُود الَّذِي يكون عِنْد مفاجأة الْمُصِيبَة فَإِنَّهُ إِذا طَالَتْ الْأَيَّام عَلَيْهَا وَقع السلو وَصَارَ الصَّبْر حِينَئِذٍ طبعا.
قَوْله: (نعم العدلان) بِكَسْر الْعين أَي المثلان،.

     وَقَالَ  الْمُهلب: العدلان الصَّلَوَات وَالرَّحْمَة والعلاوة: { أُولَئِكَ هم المهتدون} (الْبَقَرَة: 751) .
وَقيل: { إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون} (الْبَقَرَة: 651) .
والعلاوة الَّتِي يُثَاب عَلَيْهَا.
.

     وَقَالَ  ابْن التِّين: قَالَ أَبُو الْحسن: الْعدْل الْوَاحِد قَول الْمُصَاب: { إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون} (الْبَقَرَة: 651) .
وَالْعدْل الثَّانِي الصَّلَوَات الَّتِي هِيَ عَلَيْهِنَّ من الله تَعَالَى، والعلاوة { وَأُولَئِكَ هم المهتدون} (الْبَقَرَة: 751) .
وَهُوَ ثَنَاء من الله تَعَالَى عَلَيْهِم.
.

     وَقَالَ  الدَّاودِيّ: إِنَّمَا هُوَ مثل ضربه للجزاء، فالعدلان عدلا الْبَعِير أَو الدَّابَّة، والعلاوة الغرارة الَّتِي تُوضَع فِي وسط العدلين مَمْلُوءَة، يَقُول: وكما حملت هَذِه الرَّاحِلَة وسقاءها فَإِنَّهَا لم يبْق مَوضِع يحمل عَلَيْهِ، فَكَذَلِك أعْطى هَذَا الْأجر وافرا، وعَلى قَول الدَّاودِيّ يكون العدلان والعلاوة.
{ أُولَئِكَ عَلَيْهِم صلوَات} (الْبَقَرَة: 751) .
إِلَى { المهتدون} (الْبَقَرَة: 751) .
.

     وَقَالَ  ابْن قرقول: الْعدْل هُنَا نصف الْحمل على أحد شقي الدَّابَّة، وَالْحمل عَدْلَانِ، والعلاوة مَا جعل بَينهمَا.
وَقيل: مَا علق على الْبَعِير، ضرب ذَلِك مثلا بقوله: { صلوَات من رَبهم وَرَحْمَة} (الْبَقَرَة: 751) .
قَالَ: فالصلوات عدل، وَالرَّحْمَة عدل.
{ وَأُولَئِكَ هم المهتدون} (الْبَقَرَة: 751) .
العلاوة.
.

     وَقَالَ  الْفراء: الْعدْل، بِالْفَتْح: مَا عدل الشَّيْء من غير جنسه، وبالكسر: الْمثل، والعلاوة، بِالْكَسْرِ، مَا علقت على الْبَعِير بعد تَمام الوقر.
نَحْو السقاء وَغَيره.
قَوْله: (نعم) ، كلمة مدح، والعدلان فَاعله، (وَنعم العلاوة) عطف عَلَيْهِ.
وَقَوله: (الَّذين) هُوَ الْمَخْصُوص بالمدح.
.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: وَالظَّاهِر أَن المُرَاد بالعدلين القَوْل وجزاؤه، أَي قَوْله الْكَلِمَتَيْنِ وَنَوع الثَّوَاب، وهما متلازمان فِي أَن الْعدْل الأول مركب من كَلِمَتَيْنِ، وَالثَّانِي من النَّوْعَيْنِ من الثَّوَاب، وَمعنى الصَّلَاة من الله الْمَغْفِرَة، ثمَّ هَذَا الْأَثر الْمُعَلق وَصله الْحَاكِم فِي (مُسْتَدْركه) من طَرِيق جرير عَن مَنْصُور عَن مُجَاهِد عَن سعيد بن الْمسيب عَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
كَمَا سَاقه البُخَارِيّ، وَزَاد { أُولَئِكَ عَلَيْهِم صلوَات من رَبهم وَرَحْمَة} (الْبَقَرَة: 751) .
نعم العدلان.
{ وَأُولَئِكَ هم المهتدون} (الْبَقَرَة: 751) .
نعم العلاوة.
وَهَكَذَا أخرجه الْبَيْهَقِيّ عَن الْحَاكِم.

و.

     قَوْلُهُ  تَعَالى: { واسْتَعِينُوا بالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إلاَّ علَى الخَاشِعِينَ} (الْبَقَرَة: 54) .

وَقَوله، مجرور لِأَنَّهُ عطف على قَوْله: بابُُ الصَّبْر، وَالتَّقْدِير: وَبابُُ قَوْله تَعَالَى: { وَاسْتَعِينُوا ... } (الْبَقَرَة: 54) .
الْآيَة، وَيجوز أَن يكون مَرْفُوعا عطفا على قَوْله: (الصَّبْر عِنْد الصدمة الأولى) ، على تَقْدِير قطع الْإِضَافَة فِي لفظ: بابُُ، كَمَا ذكرنَا فِيهِ الْوَجْهَيْنِ، وَجه ذكر هَذِه الْآيَة الْكَرِيمَة هُنَا هُوَ أَنه: لما كَانَ الْمعبر من الصَّبْر هُوَ الصَّبْر عِنْد الصدمة الأولى الَّذِي ذكرنَا مَعْنَاهُ أَتَى الصابر بصبر مقرون بِالصَّلَاةِ، وَلِهَذَا (كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا حزبه أَمر صلَّى) ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وروى الطَّبَرَانِيّ فِي (تَفْسِيره) بِإِسْنَاد حسن عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا: (أَنه نعى إِلَيْهِ أَخُوهُ قثم، وَهُوَ فِي سفر، فَاسْتَرْجع ثمَّ تنحى عَن الطَّرِيق فَأَنَاخَ فصلى رَكْعَتَيْنِ أَطَالَ فيهمَا الْجُلُوس، ثمَّ قَامَ وَهُوَ يَقُول: { وَاسْتَعِينُوا بِالصبرِ وَالصَّلَاة ... } (الْبَقَرَة: 54) .
الْآيَة.
قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: معنى الْآيَة: اسْتَعِينُوا على مَا يستقبلكم من أَنْوَاع البلايا بِالصبرِ وَالصَّلَاة، وَقيل: فِي أَمر الْآخِرَة، وَقيل: فِي ترك الرياسة.
وَالصَّبْر الْحَبْس، لِأَن الصابر حَابِس نَفسه على مَا تكرههُ، وسمى الصَّوْم صبرا لحبس النَّفس فِيهِ عَن الطَّعَام وَغَيره، وَنهى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن قتل شَيْء من الدَّوَابّ صبرا وَهُوَ أَن يحبس حَيا.
وَقيل: المُرَاد بِالصبرِ فِي هَذِه الْآيَة الصَّوْم، قَالَه مُجَاهِد.
قَوْله: { وَإِنَّهَا} أَي: وَإِن الصَّلَاة، وَلم يقل: وإنهما، مَعَ أَن الْمَذْكُور: الصَّبْر وَالصَّلَاة، فَقيل: لِأَنَّهُ رد الضَّمِير إِلَى مَا هُوَ الأهم والأغلب، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: { وَالَّذين يكنزون الذَّهَب وَالْفِضَّة وَلَا يُنْفِقُونَهَا} (التَّوْبَة: 43) .
رد الضَّمِير إِلَى الْفضة لِأَنَّهَا أَعم وأغلب.
فَإِن قلت: مَا وَجه الِاسْتِعَانَة بِالصَّلَاةِ؟ قلت: لما كَانَ فِيهَا تِلَاوَة الْقُرْآن وَالدُّعَاء والخضوع لله تَعَالَى كَانَ ذَلِك مَعُونَة على مَا تنَازع إِلَيْهِ النَّفس من حب الرياسة والأنفة من الانقياد إِلَى الطَّاعَة.
قَوْله: { لكبيرة} أَي: شَدِيدَة ثَقيلَة على الْكَافرين إلاَّ على الخاشعين لَيست بكبيرة، والخاشع الَّذِي يرى أثر الذل والخضوع عَلَيْهِ، والخشوع فِي اللُّغَة: السّكُون.
قَالَ: خَشَعت الْأَصْوَات للرحمن، وَقيل: الْخُشُوع فِي الصَّوْت وَالْبَصَر، والخضوع فِي الْبدن.
فَإِن قلت: قد علمت أَن العَبْد مَنْهِيّ عَن الهجر وتسخط قَضَاء الرب فِي كل حَال، فَمَا وَجه خُصُوص نزُول النائبة بِالصبرِ فِي حَال حدوثها؟ قلت: لِأَن النَّفس عِنْد هجوم الْحَادِثَة تتحرك على الْخُشُوع لَيْسَ فِي غَيرهَا مثله، وَذَلِكَ يضعف على ضبط النَّفس فِيهَا لكثير من النَّاس، بل يصير كل جازع بعد ذَلِك إِلَى السلو ونسيان الْمُصِيبَة وَالْأَخْذ بقهر الصابر النَّفس، وغلبته هَواهَا عِنْد صدمته يكون إيثارا لأمر الله تَعَالَى على هوى نَفسه، ومنجزا لوعده، بل السالي عَن مصائبه لَا يسْتَحق الصَّبْر على الْحَقِيقَة لِأَنَّهُ آثر السلو على الْجزع وَاخْتَارَهُ، وَإِنَّمَا الصَّبْر على الْحَقِيقَة من صَبر نَفسه وحبسها عَن شهواتها وقهرها عَن الْحزن والجزع والبكاء الَّذِي فِيهِ رَاحَة النَّفس وإطفاء لنار الْحزن، فَإِذا قَابل سُورَة الْحزن وهجومه بِالصبرِ الْجَمِيل، وَتحقّق أَنه لَا خُرُوج لَهُ عَن قَضَائِهِ وَأَنه يرجع إِلَيْهِ بعد الْمَوْت، اسْتحق حِينَئِذٍ جزيل الْأجر وعد من الصابرين الَّذين وعدهم الله بِالرَّحْمَةِ وَالْمَغْفِرَة.



[ قــ :1253 ... غــ :1302 ]
- حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ بَشَّارٍ قَالَ حدَّثنا غُنْدُرٌ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ عنْ ثَابِتٍ.
قَالَ سَمِعْتُ أنسا رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأولى.

التَّرْجَمَة هِيَ عين الحَدِيث، وَقد مر الحَدِيث مطولا فِي: بابُُ زِيَارَة الْقُبُور، أخرجه عَن آدم عَن شُعْبَة.
.
إِلَى آخِره، وَلَفظه هُنَاكَ: (إِنَّمَا الصَّبْر عِنْد الصدمة الأولى) ، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ، وغندر، بِضَم الْغَيْن الْمُعْجَمَة: لقب مُحَمَّد بن جَعْفَر، وَقد تكَرر ذكره.