فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب السرعة بالجنازة

( بابُُ السُّرْعَةِ بِالْجِنَازَةِ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان الْإِسْرَاع بالجنازة بعد الْحمل.

وَقَالَ أنَسٌ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنْتُمْ مُشَيِّعُونَ فَامْشُوا بَيْنَ يَدَيْهَا وَخَلْفَهَا وعَنْ يَمِينِهَا وعَنْ شِمَالِهَا

مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن السرعة بالجنازة لَا تكون غَالِبا إلاَّ فِي وجهات مُخْتَلفَة، وَلَا تكون فِي جِهَة مُعينَة لتَفَاوت النَّاس فِي الْمَشْي، وَتحصل الْمَشَقَّة من بَعضهم على بعض فِي تعْيين جِهَة، فَإِذا كَانَ كَذَلِك تكون السرعة من جوانبها الْأَرْبَع، وَهَذَا التَّعْلِيق ذكره ابْن أبي شيبَة عَن أبي بكر بن عَيَّاش عَن حميد عَن أنس فِي الْجِنَازَة: أَنْتُم مشيعون لَهَا تمشون أمامها وَخَلفهَا وَعَن يَمِينهَا وَعَن شمالها.
وَأخرجه عبد الرَّزَّاق عَن أبي جَعْفَر الرَّازِيّ عَن حميد بِهِ.
قَوْله: ( فامشوا) بِصِيغَة الْجمع، رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة الْأَكْثَرين: ( فامش) ، بِالْإِفْرَادِ وَالْأول أنسب.

وَقَالَ غَيْرُهُ: قَرِيبا مِنْهَا

أَي: قَالَ غير أنس: إمشِ قَرِيبا من الْجِنَازَة، وَالْمَقْصُود أَن يكون قَرِيبا من الْجِنَازَة من أَي جِهَة كَانَ، لاحْتِمَال أَن يحْتَاج حاملوها إِلَى المعاونة، فَإِن بعد مِنْهَا لم يكن مشيعا، فَإِن كَانَت الْمُتَابَعَة بعده لِكَثْرَة الْجَمَاعَة حصل لَهُ فضل الْمُتَابَعَة،.

     وَقَالَ  بَعضهم: والغير الْمَذْكُور أَظُنهُ عبد الرَّحْمَن بن قرط، بِضَم الْقَاف وَسُكُون الرَّاء بعْدهَا طاء مُهْملَة.
قَالَ سعيد بن مَنْصُور: حَدثنَا مِسْكين بن مَيْمُون حَدثنِي عُرْوَة بن رُوَيْم، قَالَ: ( شهد عبد الرَّحْمَن بن قرط جَنَازَة فَرَأى نَاسا تقدمُوا، وَآخَرين استأخروا، فَأمر بالجنازة فَوضعت، ثمَّ رماهم بِالْحِجَارَةِ حَتَّى اجْتَمعُوا إِلَيْهِ، ثمَّ أَمر بهَا فَحملت، ثمَّ قَالَ: بَين يَديهَا وَخَلفهَا وَعَن يسارها وَعَن يَمِينهَا) .
انْتهى.
قلت: هَذَا تخمين وحسبان، وَلَئِن سلمنَا إِنَّه هُوَ ذَاك الْغَيْر، فَلَا نسلم أَن هَذَا مُنَاسِب لما ذكره الْغَيْر، بل هُوَ بِعَيْنِه مثل مَا قَالَه أنس، وَلَا يخفى ذَلِك على المتأمل، وَعبد الرَّحْمَن الْمَذْكُور صَحَابِيّ ذكر البُخَارِيّ وَغَيره أَنه كَانَ من أهل الصّفة، وَكَانَ واليا على حمص فِي زمن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.

[ قــ :1265 ... غــ :1315 ]
- حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الله قَالَ حدَّثنا سُفْيَانُ قَالَ حَفِظْنَاهُ عَن الزهْرِيِّ عنْ سَعِيدِ ابنِ المُسَيَّبِ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: أسْرِعُوا بِالجِنَازَةِ فإنْ تَكُ صالِحَةً فَخَيْرٌ تُقَدِّمُونَهَا إلَيْهِ وَإنْ تَكُ سِوَى ذالِكَ فَشَرٌّ تَضَعُونَهُ عنْ رِقَابِكُمْ.

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، وَعلي بن عبد الله هُوَ ابْن الْمَدِينِيّ، وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة، وَالزهْرِيّ هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم.

ذكر من أخرجه غَيره: أخرجه مُسلم عَن أبي بكر بن أبي شيبَة، وَزُهَيْر بن حَرْب.
وَأخرجه أَبُو دَاوُد عَن مُسَدّد يبلغ بِهِ.
وَأخرجه التِّرْمِذِيّ عَن أَحْمد بن منيع، وَأخرجه النَّسَائِيّ عَن قُتَيْبَة.
وَأخرجه ابْن مَاجَه عَن ابْن أبي شيبَة وَهِشَام بن عمار، كلهم عَن سُفْيَان بِهِ.

ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: ( حفظناه) ، ويروى: ( حفظته) .
قَوْله: ( عَن الزُّهْرِيّ) ، هُوَ رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي بِكَلِمَة: عَن، وَفِي رِوَايَة غَيره: من، بدل: عَن.
قَوْله: ( أَسْرعُوا) ، أَمر من الْإِسْرَاع وَلَيْسَ المُرَاد بالإسراع شدَّة الْإِسْرَاع، بل المُرَاد الْمُتَوَسّط بَين شدَّة السَّعْي وَبَين الْمَشْي الْمُعْتَاد، بِدَلِيل قَوْله فِي حَدِيث أبي بكرَة: ( وَإِنَّا لنكاد أَن نرمل) ، ومقاربة الرمل لَيْسَ بالسعي الشَّديد، قَالَه شَيخنَا زين الدّين.
قلت: فِي رِوَايَة أبي دَاوُد ( عَن عُيَيْنَة بن عبد الرَّحْمَن عَن أَبِيه: أَنه كَانَ فِي جَنَازَة عُثْمَان بن أبي الْعَاصِ، وَكُنَّا نمشي مشيا خَفِيفا.
فلحقنا أَبُو بكرَة، فَرفع صَوته فَقَالَ: لقد رَأَيْتنَا وَنحن مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نرمل رملاً)
.
قَوْله: ( نرمل) ، من رمل رملاً ورملانا: إِذا أسْرع فِي الْمَشْي، وهز مَنْكِبه.
قلت: مُرَاده الْإِسْرَاع الْمُتَوَسّط، وَيدل عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة، فِي ( مُصَنفه) من حَدِيث عبد الله بن عَمْرو: ( إِن أَبَاهُ أوصاه قَالَ: إِذا أَنْت حَملتنِي على السرير فامشِ مشيا بَين المشيين، وَكن خلف الْجِنَازَة، فَإِن مقدمها للْمَلَائكَة وَخَلفهَا لبني آدم) .
قَوْله: ( بالجنازة) أَي: يحملهَا إِلَى قبرها.
وَقيل: المُرَاد الْإِسْرَاع بتجهيزها وتعجيل الدّفن بعد تَيَقّن مَوته، لحَدِيث حُصَيْن بن وحوح ( إِن طَلْحَة بن الْبَراء مرض، فَأَتَاهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يعودهُ، فَقَالَ: إِنِّي لَا أرى طَلْحَة إلاَّ وَقد حدث بِهِ الْمَوْت، فآذنوني بِهِ وعجلوا فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لجيفة مُسلم أَن تحبس بَين ظهراني أَهله) .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.
قلت: حُصَيْن، بِضَم الْحَاء وَفتح الصَّاد الْمُهْمَلَتَيْنِ، وَابْن وحوح بواوين مفتوحتين، وحائين مهملتين أولاهما سَاكِنة، وَهُوَ أَنْصَارِي لَهُ صُحْبَة.
قيل: إِنَّه مَاتَ بالعذيب، روى لَهُ أَبُو دَاوُد، وروى الطَّبَرَانِيّ بِإِسْنَاد حسن من حَدِيث ابْن عمر: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَقُول: ( إِذا مَاتَ أحدكُم فَلَا تَحْبِسُوهُ، وأسرعوا بِهِ إِلَى قَبره) .
.

     وَقَالَ  الْقُرْطُبِيّ: الأول: أظهر،.

     وَقَالَ  النَّوَوِيّ الثَّانِي: بَاطِل مَرْدُود، بقوله فِي الحَدِيث: ( تضعونة عَن رِقَابكُمْ) ، ورد عَلَيْهِ بِأَن الْحمل على الرّقاب قد يعبر بِهِ عَن الْمعَانِي، كَمَا تَقول: حمل فلَان على رقبته ذنوبا، فَيكون الْمَعْنى: استريحوا من نظر من لَا خير فِيهِ، وَيدل عَلَيْهِ أَن الْكل لَا يحملونه.
قلت: وَيُؤَيِّدهُ حَدِيث أبي دَاوُد وَالطَّبَرَانِيّ الْمَذْكُور.
قَوْله: ( فَإِن تَكُ) ، أَصله: فَإِن تكن، حذفت النُّون للتَّخْفِيف، وَالضَّمِير الَّذِي فِيهِ يرجع إِلَى الْجِنَازَة الَّتِي هِيَ عبارَة عَن الْمَيِّت.
قَوْله: ( صَالِحَة) ، نصب على الخبرية.
قَوْله: ( فَخير) ، مَرْفُوع على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف أَي: فَهُوَ ( وَخير، تقدمونها إِلَيْهِ) يَوْم الْقِيَامَة، أَو: هُوَ، مُبْتَدأ أَي: فثمة خير تقدمون الْجِنَازَة إِلَيْهِ، يَعْنِي حَاله فِي الْقَبْر حسن طيب فَأَسْرعُوا بهَا حَتَّى تصل إِلَى تِلْكَ الْحَالة قَرِيبا.
قَوْله: ( إِلَيْهِ) الضَّمِير فِيهِ يرجع إِلَى الْخَيْر بِاعْتِبَار الثَّوَاب.
.

     وَقَالَ  ابْن مَالك: رُوِيَ: ( تقدمونه إِلَيْهَا) أَي: تقدمون الْمَيِّت إِلَيْهَا أَي: إِلَى الْخَيْر، وَأَنت الضَّمِير على تَأْوِيل الْخَيْر بِالرَّحْمَةِ أَو الْحسنى، قَوْله: ( فشر) إعرابه مثل إِعْرَاب: ( فَخير) .
قَوْله: ( تضعونه) أَي: إِنَّهَا بعيدَة من الرَّحْمَة فَلَا مصلحَة لكم فِي مصاحبتها.

ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: الْأَمر بالإسراع وَنقل ابْن قدامَة أَن الْأَمر فِيهِ للاستحبابُ بِلَا خلاف بَين الْعلمَاء.
.

     وَقَالَ  ابْن حزم: وُجُوبه، وَفِي ( شرح الْمُهَذّب) : جَاءَ عَن بعض السّلف كَرَاهَة الْإِسْرَاع بالجنازة، وَلَعَلَّه يكون مَحْمُولا على الْإِسْرَاع المفرط الَّذِي يخَاف مِنْهُ انفجار الْمَيِّت، وَخُرُوج شَيْء مِنْهُ.
.

     وَقَالَ  بَعضهم: وَالْمرَاد بالإسراع شدَّة الْمَشْي، وعَلى ذَلِك حمله بعض السّلف، وَهُوَ قَول الْحَنَفِيَّة.
.

     وَقَالَ  صَاحب ( الْهِدَايَة) : ويمشون بهَا مُسْرِعين دون الخبب.
وَفِي ( الْمَبْسُوط) : لَيْسَ فِيهِ شَيْء موقت، غير إِن العجلة أحب إِلَى أبي حنيفَة.
قلت: قَوْله: وَهُوَ قَول الْحَنَفِيَّة، غير صَحِيح، وَلم يقل أحد مِنْهُم بِشدَّة الْمَشْي، وعذا احب ( الْهِدَايَة) الَّذِي لَا يذكر إلاَّ مَا هُوَ الْعُمْدَة عِنْد أبي حنيفَة، يَقُول: ويمشون بهَا مُسْرِعين دون الخبب، وَقَوله: دون الخبب، يدل على أَن المُرَاد من الْإِسْرَاع: الْإِسْرَاع الْمُتَوَسّط لَا شدَّة الْإِسْرَاع الَّتِي هِيَ الخبب، وَهُوَ الْعَدو.
وَكَذَلِكَ المُرَاد من قَول صَاحب ( الْمَبْسُوط) : العجلة أحب هِيَ العجلة المتوسطة لَا الشَّدِيدَة، وَالْعجب من هَذَا الْقَائِل يَقُول شدَّة الْمَشْي قَول الْحَنَفِيَّة، ثمَّ يذكر عَن كتابين معتبرين فِي الْمَذْهَب مَا يدل على نفي شدَّة الْمَشْي، لِأَن قَوْله: دون الخبب، هُوَ شدَّة الْمَشْي.

     وَقَالَ  الْبَيْهَقِيّ فِي ( الْمعرفَة) قَالَ الشَّافِعِي: الْإِسْرَاع بالجنازة هُوَ فَوق سجية الْمَشْي الْمُعْتَاد، وَيكرهُ الْإِسْرَاع الشَّديد.
فَإِن قلت: روى البُخَارِيّ وَمُسلم من رِوَايَة عَطاء قَالَ: حَضَرنَا مَعَ ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، جَنَازَة مَيْمُونَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، بسرف، فَقَالَ ابْن عَبَّاس: هَذِه مَيْمُونَة إِذا رفعتم نعشها فَلَا تزعزعوه وَلَا تزلزلوه وارفقوا.
وروى ابْن أبي شيبَة فِي ( مُصَنفه) عَن مُحَمَّد بن فُضَيْل عَن بنت أبي بردة ( عَن أبي مُوسَى، قَالَ: مر على النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِجنَازَة وَهِي تمحض كَمَا يمحض الزق، فَقَالَ: عَلَيْكُم بِالْقَصْدِ فِي جنائزكم) وَهَذَا يدل على اسْتِحْبابُُ الرِّفْق بالجنازة وَترك الْإِسْرَاع قلت: أما ابْن عَبَّاس فَإِنَّهُ أَرَادَ الرِّفْق فِي كَيْفيَّة الْحمل لَا فِي كَيْفيَّة الْمَشْي بهَا، وَأما حَدِيث أبي مُوسَى فَإِنَّهُ مُنْقَطع بَين بنت أبي بردة وَبَين أبي مُوسَى، وَمَعَ ذَلِك فَهُوَ ظَاهر فِي أَنه كَانَ يفرط فِي الْإِسْرَاع بهَا، وَلَعَلَّه خشِي انفجارها أَو خُرُوج شَيْء مِنْهُ، وَكَذَا الحكم عِنْد ذَلِك فِي كل مَوضِع.
وَفِيه: اسْتِحْبابُُ الْمُبَادرَة إِلَى دفن الْمَيِّت، لَكِن بعد تحقق مَوته، فَإِن من المرضى من يخفى مَوته وَلَا يظْهر إلاَّ بعد مُضِيّ زمَان، كالمسبوت وَنَحْوه، وَعَن ابْن بزيزة: يَنْبَغِي أَن لَا يسْرع بتجهيزهم حَتَّى يمْضِي يَوْم وَلَيْلَة ليتَحَقَّق مَوْتهمْ.
وَفِيه: مجانبة صُحْبَة أهل البطالة وصحبة غير الصَّالِحين.