فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب صفوف الصبيان مع الرجال في الجنائز

(بابُُ صُفُوفِ الصِّبْيَانِ مَعَ الرِّجَالِ عَلَى الجَنَائِزِ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان صُفُوف الصّبيان مَعَ الرِّجَال عِنْد إِرَادَة الصَّلَاة فِي الْجَنَائِز، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: على الْجَنَائِز.



[ قــ :1271 ... غــ :1321 ]
- حدَّثنا مُوسَى بنُ إسْمَاعِيلَ قَالَ حدَّثنا عَبْدُ الوَاحِدِ قَالَ حَدثنَا الشَّيْبَانِي عنْ عَامِرٍ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَرَّ بِقَبْرٍ قَدْ دُفِنَ لَيْلاً فَقَالَ مَتَى دُفِنَ هاذا قالُوا البَارِحَةَ قَالَ أفَلاَ آذَنْتُمُونِي قالُوا دَفَنَّاهُ فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ فَكَرِهْنَا أنْ نُوقِظَكَ فقامَ فَصَفَفْنَا خَلْفَهُ قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ وَأنَا فِيهِمْ فَصَلَّى عَلَيْهِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، كَانَ فِي وَقت مَا صلى مَعَهم صَغِيرا، لِأَنَّهُ كَانَ فِي زمن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دون الْبلُوغ، لِأَنَّهُ شهد حجَّة الْوَدَاع وَقد قَارب الِاحْتِلَام، فيطابق الحَدِيث التَّرْجَمَة من هَذِه الْحَيْثِيَّة.
والْحَدِيث مضى فِي الْبابُُ السَّابِق، غير أَنه هَهُنَا أتم من ذَاك، ومُوسَى بن إِسْمَاعِيل أَبُو سَلمَة الْمنْقري الْبَصْرِيّ الَّذِي يُقَال لَهُ: التَّبُوذَكِي، وَقد تكَرر ذكره، وَعبد الْوَاحِد هُوَ ابْن زِيَاد الْعَبْدي الْبَصْرِيّ، والشيباني هُوَ سُلَيْمَان، وَقد مضى فِي الْبابُُ السَّابِق، وعامر هُوَ الشّعبِيّ وَقد مضى هُنَاكَ بنسبته.

قَوْله: (دفن) ، على صِيغَة الْمَجْهُول، وَنسبَة الدّفن إِلَى الْقَبْر مجَاز، لِأَن المدفون هُوَ صَاحب الْقَبْر وَهُوَ من قبيل ذكر الْمحل وَإِرَادَة الْحَال.
قَوْله: (لَيْلًا) نصب على الظَّرْفِيَّة.
قَوْله: (فَقَالُوا: البارحة) أَي: دفن البارحة.
قَالَ الْجَوْهَرِي: البارحة أقرب لَيْلَة مَضَت، تَقول: مَا لَقيته البارحة، ولقيته البارحة الأولى، وَهُوَ من: برح، أَي: زَالَ.
قَوْله: (أَفلا آذنتموني؟) أَي: أَفلا أعلمتموني؟
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ من الأحكم: الأول: فِيهِ جَوَاز الدّفن بِاللَّيْلِ، وروى التِّرْمِذِيّ من طَرِيق عَطاء (عَن ابْن عَبَّاس أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دخل قبرا لَيْلًا فأسرج لَهُ بسراج، فَأخذ من الْقبْلَة.

     وَقَالَ : رَحِمك الله إِن كنت لأواها تلاء لِلْقُرْآنِ، وَكبر عَلَيْهِ أَرْبعا) قَالَ: حَدِيث ابْن عَبَّاس حَدِيث حسن،.

     وَقَالَ : وَقد رخص أَكثر أهل الْعلم فِي الدّفن بِاللَّيْلِ، وروى أَبُو دَاوُد من حَدِيث جَابر بن عبد الله، قَالَ: (رأى نَاس نَارا فِي الْمقْبرَة، فأتوها فَإِذا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْقَبْر، وَإِذا هُوَ يَقُول: ناولوني صَاحبكُم، فَإِذا هُوَ الرجل الَّذِي كَانَ يرفع صَوته بِالذكر) .
وَرَوَاهُ الْحَاكِم وَصَححهُ،.

     وَقَالَ  النَّوَوِيّ: وَسَنَده على شَرط الشَّيْخَيْنِ، وروى ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) : حَدثنَا وَكِيع عَن شُعْبَة عَن أبي يُونُس الْبَاهِلِيّ، قَالَ: سَمِعت شَيخا بِمَكَّة كَانَ أَصله روميا يحدث عَن أبي ذَر قَالَ: كَانَ رجل يطوف بِالْبَيْتِ يَقُول: أوه أوه.
قَالَ أَبُو ذَر: فَخرجت ذَات لَيْلَة فَإِذا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْمَقَابِر يدْفن ذَلِك الرجل وَمَعَهُ مِصْبَاح.
فَإِن قلت: روى مُسلم من حَدِيث جَابر بن عبد الله، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا: يحدث عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (خطب يَوْمًا فَذكر رجلا من أَصْحَابه قبض فَكفن فِي كفن غير طائل وقبر لَيْلًا، فزجر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يقبر الرجل بِاللَّيْلِ حَتَّى يُصَلِّي عَلَيْهِ إلاَّ أَن يضْطَر إِنْسَان فِي ذَلِك، فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (إِذا كفن أحدكُم أَخَاهُ فليحسن كَفنه) ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ أَيْضا.
قلت: يحْتَمل أَن يكون نهى عَن ذَلِك أَولا ثمَّ رخصه،.

     وَقَالَ  النَّوَوِيّ: الْمنْهِي عَنهُ الدّفن قبل الصَّلَاة.
قلت: الدّفن قبل الصَّلَاة منهيٌّ عَنهُ مُطلقًا، سَوَاء كَانَ بِاللَّيْلِ أَو بِالنَّهَارِ، وَالظَّاهِر أَنه نهى عَن الدّفن بِاللَّيْلِ، وَلَو كَانَ بعد الصَّلَاة وَيُؤَيّد ذَلِك مَا رَوَاهُ ابْن مَاجَه فِي (سنَنه) من حَدِيث أبي الزبير: عَن جَابر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا تدفنوا مَوْتَاكُم بِاللَّيْلِ إلاَّ أَن تضطروا) ، وَلَكِن بشكل على هَذَا أَن الْخُلَفَاء الْأَرْبَعَة دفنُوا لَيْلًا، وَفِي حَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا: وَدفن، أَي: النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قبل أَن يصبح.
وَفِي (الْمَغَازِي) لِلْوَاقِدِي: عَن عمْرَة عَن عَائِشَة قَالَت: مَا علمنَا بدفن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى سمعنَا صَوت الْمساحِي فِي السحر لَيْلَة الثُّلَاثَاء.
وَفِي رِوَايَة أَحْمد وَدفن لَيْلَة الْأَرْبَعَاء.

الثَّانِي من الْأَحْكَام: فِيهِ الصَّلَاة على الْغَائِب، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى.

الثَّالِث: فِيهِ الصَّلَاة على الْجِنَازَة بالصفوف، وَأَن لَهَا تَأْثِيرا، وَكَانَ مَالك بن هُبَيْرَة الصَّحَابِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، يصف من يحضر الصَّلَاة على الْجِنَازَة ثَلَاثَة صُفُوف، سَوَاء قلوا أَو كَثُرُوا، وَلَكِن الْكَلَام فِيمَا إِذا تعدّدت الصُّفُوف وَالْعدَد قَلِيل، أَو كَانَ الصَّفّ وَاحِدًا.
وَالْعدَد كثيرا أَيهمَا أفضل؟ وَعِنْدِي: الصُّفُوف أفضل، وَالله أعلم.

الرَّابِع: فِيهِ تدريب الصّبيان على شرائع الْإِسْلَام وحضورهم مَعَ الْجَمَاعَات ليستأنسوا إِلَيْهَا، وَتَكون لَهُم عَادَة إِذا لزمتهم وَإِذا ندبوا إِلَى صَلَاة الْجِنَازَة ليتدربوا إِلَيْهَا، وَهِي فرض كِفَايَة، فَفرض الْعين أَحْرَى.

الْخَامِس: فِيهِ الْإِعْلَام للنَّاس بِمَوْت أحد من الْمُسلمين لينهضوا إِلَى الصَّلَاة عَلَيْهِ.
السَّادِس: فِيهِ جَوَاز الصَّلَاة على قبر الْمَيِّت، قَالَ أَصْحَابنَا: إِذا دفن الْمَيِّت وَلم يصل عَلَيْهِ صلى على قَبره مَا لم يعلم أَنه تفرق، كَذَا فِي (الْمَبْسُوط) وَهَذَا يُشِير إِلَى أَنه إِذا شكّ فِي تفرقه وتفسخه يُصَلِّي عَلَيْهِ، وَقد نَص الْأَصْحَاب على أَنه لَا يصلى عَلَيْهِ مَعَ الشَّك فِي ذَلِك، ذكره فِي (الْمُفِيد) و (الْمَزِيد) وبقولنا قَالَ الشَّافِعِي وَأحمد، وَهُوَ قَول عمر وَأبي مُوسَى وَعَائِشَة وَابْن سِيرِين وَالْأَوْزَاعِيّ ثمَّ هَل يشْتَرط فِي جَوَاز الصَّلَاة على قَبره كَونه مَدْفُونا بعد الْغسْل؟ فَالصَّحِيح: أَنه يشْتَرط.
وروى ابْن سَمَّاعَة عَن مُحَمَّد أَنه لَا يشْتَرط.
.

     وَقَالَ  صَاحب (الْهِدَايَة) : وَيصلى عَلَيْهِ قبل أَن يتفسخ، وَالْمُعْتَبر فِي ذَلِك أكبر الرَّأْي، أَي: غَالب، فَإِن كَانَ غَالب الظَّن أَنه تفسخ لَا يُصَلِّي عَلَيْهِ، وَإِن كَانَ غَالب الظَّن أَنه لم يتفسخ يُصَلِّي عَلَيْهِ، وَإِذا شكّ لَا يُصَلِّي عَلَيْهِ.
وَعَن أبي يُوسُف: يُصَلِّي عَلَيْهِ إِلَى ثَلَاثَة أَيَّام، وَبعدهَا لَا يُصَلِّي عَلَيْهِ لِأَن الصَّحَابَة كَانُوا يصلونَ على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى ثَلَاثَة أَيَّام.

وللشافعية سِتَّة أوجه: إِلَى ثَلَاثَة أَيَّام، إِلَى شهر كَقَوْل أَحْمد، مَا لم يبل جسده.
يُصَلِّي عَلَيْهِ من كَانَ من أهل الصَّلَاة عَلَيْهِ يَوْم مَوته.
يُصَلِّي من كَانَ من أهل فرض الصَّلَاة عَلَيْهِ يَوْم مَوته.
يُصَلِّي عَلَيْهِ أبدا.
فعلى هَذَا تجوز الصَّلَاة على قُبُور الصَّحَابَة وَمن قبلهم الْيَوْم، وَاتَّفَقُوا على تَضْعِيفه، وَمِمَّنْ صرح بِهِ الْمَاوَرْدِيّ والمحاملي والفواراني وَالْبَغوِيّ وَإِمَام الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزالِيّ.
.

     وَقَالَ  إِسْحَق يُصَلِّي القادم من السّفر إِلَى شهر، والحاضر إِلَى ثَلَاثَة أَيَّام.
.

     وَقَالَ  سَحْنُون من الْمَالِكِيَّة: لَا يصلى على الْقَبْر، سدا للذريعة فِي الصَّلَاة على الْقُبُور.
.

     وَقَالَ  أَصْحَابنَا: لما اخْتلفت الْأَحْوَال فِي ذَلِك فوض الْأَمر إِلَى رَأْي المبتلي بِهِ.
فَإِن قلت: روى البُخَارِيّ عَن عقبَة بن عَامر أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى على قَتْلَى أحد بعد ثَمَان سِنِين؟ قلت: حمل ذَلِك على الدُّعَاء، قَالَه بعض أَصْحَابنَا: وَفِيه نظر، لِأَن الطَّحَاوِيّ روى عَن عقبَة أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خرج يَوْمًا فصلى على قَتْلَى أحد صلَاته على الْمَيِّت.
قلت: الْجَواب السديد أَن أَجْسَادهم لم تبل.