فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب سنة الصلاة على الجنازة

( بابُُ سُنَّةِ الصَّلاَةِ عَلَى الجَنَازَةِ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان سنة الصَّلَاة على الْجِنَازَة، وَالْمرَاد من السّنة مَا شَرعه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي صَلَاة الْجِنَازَة من الشَّرَائِط، والأركان.
وَمن الشَّرَائِط أَنَّهَا لَا تجوز بِغَيْر الطَّهَارَة، وَلَا تجوز عُريَانا، وَلَا تجوز بِغَيْر اسْتِقْبَال الْقبْلَة.
وَمن الْأَركان: التَّكْبِيرَات.
.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: غَرَض البُخَارِيّ بَيَان جَوَاز إِطْلَاق الصَّلَاة على صَلَاة الْجِنَازَة، وَكَونهَا مَشْرُوعَة، وَإِن لم تكن ذَات الرُّكُوع وَالسُّجُود فاستدل عَلَيْهِ تَارَة بِإِطْلَاق اسْم الصَّلَاة عَلَيْهِ، والآمر بهَا.
وَتارَة بِإِثْبَات مَا هُوَ من خَصَائِص الصَّلَاة، نَحْو: عدم التَّكَلُّم فِيهَا، وَكَونهَا مفتتحة بِالتَّكْبِيرِ مختتمة بِالتَّسْلِيمِ وَعدم صِحَّتهَا إلاَّ بِالطَّهَارَةِ، وَعدم أَدَائِهَا عِنْد الْوَقْت الْمَكْرُوه، وبرفع الْيَد وَإِثْبَات الأحقية بِالْإِمَامَةِ، ولوجوب طلب المَاء لَهُ وَالدُّخُول فِيهَا بِالتَّكْبِيرِ، وَيكون استفتاحها بِالتَّكْبِيرِ، وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: { وَلَا تصل على أحد مِنْهُم مَاتَ} .
فَإِنَّهُ أطلق الصَّلَاة عَلَيْهِ، حَيْثُ نهى عَن فعلهَا، وبكونها ذَات صُفُوف وَإِمَام، وَحَاصِله أَن الصَّلَاة لفظ مُشْتَرك بَين ذَات الْأَركان الْمَخْصُوصَة من الرُّكُوع وَنَحْوه، وَبَين صَلَاة الْجِنَازَة، وَهُوَ حَقِيقَة شَرْعِيَّة فيهمَا.
انْتهى.
قلت: فِي قَوْله: وَحَاصِله ... إِلَى آخِره، فِيهِ نظر، لِأَن الصَّلَاة فِي اللُّغَة وَالدُّعَاء والاتباع، وَقد اسْتعْملت فِي الشَّرْع فِيمَا لم يجد فِيهِ الدُّعَاء والاتباع: كَصَلَاة الْأَخْرَس المنفردة، وَصَلَاة من لَا يقدر على الْقِرَاءَة وَحده، ثمَّ إِن الشَّارِع استعملها فِي غير مَعْنَاهَا اللّغَوِيّ، وَغلب اسْتِعْمَالهَا فِيهَا بِحَيْثُ يتَبَادَر الذِّهْن إِلَى الْمَعْنى الَّذِي استعملها الشَّارِع فِيهِ عِنْد الْإِطْلَاق، وَهِي مجَاز هجرت حَقِيقَته بِالشَّرْعِ فَصَارَت حَقِيقَة شَرْعِيَّة، وَلَيْسَت بمشتركة بَين الصَّلَاة الْمَعْهُودَة فِي الشَّرْع وَبَين صَلَاة الْجِنَازَة، فَلَا تكون حَقِيقَة شَرْعِيَّة فيهمَا، وَلَا يفهم من كَلَام البُخَارِيّ الَّذِي نَقله عَنهُ الْكرْمَانِي أَن إِطْلَاق لفظ الصَّلَاة على صَلَاة الْجِنَازَة بطرِيق الْحَقِيقَة لَا بطرِيق الِاشْتِرَاك بَين الصَّلَاة الْمَعْهُودَة وَصَلَاة الْجِنَازَة.

وَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَنْ صَلَّى عَلَى الجَنَازَةِ
هَذَا اسْتدلَّ بِهِ البُخَارِيّ على جَوَاز إِطْلَاق الصَّلَاة على صَلَاة الْجِنَازَة، فَإِنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: من صلى على الْجِنَازَة ... فَأطلق بِلَفْظ ( صلى على الْجِنَازَة) ، وَلم يقل: من دَعَا للجنازة، وَنَحْو ذَلِك، وَهَذَا طرف من حَدِيث أبي هُرَيْرَة أخرجه مَوْصُولا فِي: بابُُ من انْتظر حَتَّى تدفن، وَلَكِن لَفْظَة: ( من شهد الْجِنَازَة حَتَّى يُصَلِّي فَلهُ قِيرَاط) الحَدِيث، وَلَفظ مُسلم: ( من صلى على جَنَازَة وَلم يتبعهَا فَلهُ قِيرَاط، وَإِن تبعها فَلهُ قيراطان) .

وَقَالَ صَلُّوا عَلَى صاحِبِكُمْ

هَذَا اسْتدلَّ بِهِ على مَا ذهب إِلَيْهِ من إِطْلَاق الصَّلَاة على صَلَاة الْجِنَازَة بِالْأَمر بِالصَّلَاةِ عَلَيْهَا حَيْثُ قَالَ: ( صلوا) ، وَهُوَ طرف من حَدِيث سَلمَة بن الْأَكْوَع، أخرجه مَوْصُولا فِي أَوَائِل الْحِوَالَة مطولا، وأوله: ( كُنَّا جُلُوسًا عِنْد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذْ أُتِي بِجنَازَة، فَقَالُوا: صل عَلَيْهَا) الحَدِيث، وَفِيه: قَالَ: ( هَل عَلَيْهِ دين؟ قَالُوا: ثَلَاثَة دَنَانِير! قَالَ: صلوا على صَاحبكُم) .
الحَدِيث.

وَقَالَ صلُّوا عَلَى النَّجَاشِيِّ
هَذَا أَيْضا بطرِيق الْأَمر، وَقد تقدم هَذَا فِي: بابُُ الصُّفُوف على الْجِنَازَة، وَلَكِن لَفظه هُنَا، فصلوا عَلَيْهِ.

سَمَّاهَا صَلاَةً لَيْسَ فِيهَا رُكُوعٌ وَلاَ سُجُودٌ

أَي: سمى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْهَيْئَة الْخَاصَّة الَّتِي يدعى فِيهَا للْمَيت: صَلَاة، وَالْحَال أَنه لَيْسَ فِيهَا رُكُوع وَلَا سُجُود، وَلَكِن التَّسْمِيَة لَيست بطرِيق الْحَقِيقَة، وَلَا بطرِيق الِاشْتِرَاك، وَلَكِن بطرِيق الْمجَاز.

وَلاَ يُتَكَلَّمُ فِيها وَفِيهَا تَكْبِيرٌ وَتَسْلِيمٌ

أَي: وَلَا يتَكَلَّم فِي صَلَاة الْجِنَازَة، وَهَذَا أَيْضا من جملَة جَوَاز إِطْلَاق الصَّلَاة على صَلَاة الْجِنَازَة بِإِثْبَات مَا هُوَ من خَصَائِص الصَّلَاة، وَهُوَ عدم التَّكَلُّم فِي صَلَاة الْجِنَازَة كَالصَّلَاةِ.
قَوْله: ( وفيهَا) أَي: وَفِي صَلَاة الْجِنَازَة ( تَكْبِير وَتَسْلِيم) كَمَا فِي الصَّلَاة.
أما التَّكْبِير فَلَا خلاف فِيهِ، وَأما التَّسْلِيم فمذهب أبي حنيفَة أَنه يسلم تسليمتين، وَاسْتدلَّ لَهُ بِحَدِيث عبد الله بن أبي أوفى أَنه يسلم عَن يَمِينه وَعَن شِمَاله، فَلَمَّا انْصَرف قَالَ: ( لَا أَزِيدكُم على مَا رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يصنع أَو هَكَذَا يصنع) .
رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ،.

     وَقَالَ  الْحَاكِم: حَدِيث صَحِيح.
وَفِي ( المُصَنّف) بِسَنَد جيد عَن جَابر بن زيد وَالشعْبِيّ وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ: أَنهم كَانُوا يسلمُونَ تسليمتين.
وَفِي ( الْمعرفَة) : روينَا عَن أبي عبد الرَّحْمَن ( عبد الله بن مَسْعُود أَنه قَالَ: ثَلَاث كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يفعلهن، تركهن النَّاس: إِحْدَاهُنَّ: التَّسْلِيم على الْجِنَازَة مثل التسليمتين فِي الصَّلَاة،.

     وَقَالَ  قوم: يسلم تَسْلِيمَة وَاحِدَة)
روى ذَلِك عَن عَليّ وَابْن عَبَّاس وَابْن عمر وَجَابِر وَأبي هُرَيْرَة وَأبي أُمَامَة بن سهل وَأنس وَجَمَاعَة من التَّابِعين، وَهُوَ قَول مَالك وَأحمد وَإِسْحَاق.

ثمَّ: هَل يسرّ بهَا أَو يجْهر؟ فَعَن جمَاعَة من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ إِخْفَاؤُهَا، وَعَن مَالك: يسمع بهَا من يَلِيهِ، وَعَن أبي يُوسُف: لَا يجْهر كل الْجَهْر وَلَا يسر كل الْإِسْرَار وَلَا يرفع يَدَيْهِ إلاَّ عِنْد تَكْبِيرَة الْإِحْرَام، لما روى التِّرْمِذِيّ عَن أبي هُرَيْرَة، مَرْفُوعا: ( إِذا صلى على جَنَازَة يرفع يَدَيْهِ فِي أول تَكْبِيرَة) .
وَزَاد الدَّارَقُطْنِيّ: ( ثمَّ لَا يعود) ، وَعَن ابْن عَبَّاس عِنْده مثله بِسَنَد فِيهِ الْحجَّاج ابْن نصير.
وَفِي ( الْمَبْسُوط) : أَن ابْن عمر وعليا، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، قَالَا: لَا ترفع الْيَد فِيهَا، إلاَّ عِنْد تَكْبِيرَة الْإِحْرَام، وَحَكَاهُ ابْن حزم عَن ابْن مَسْعُود، وَابْن عمر، ثمَّ قَالَ: لم يَأْتِ بِالرَّفْع فِيمَا عدا الأولى نَص وَلَا إِجْمَاع.
وَحكى فِي ( المُصَنّف) عَن النَّخعِيّ وَالْحسن بن صَالح: أَن الرّفْع فِي الأولى فَقَط، وَحكى ابْن الْمُنْذر الْإِجْمَاع على الرّفْع فِي أول تَكْبِيرَة، وَعند الشَّافِعِيَّة: يرفع فِي الْجَمِيع،.

     وَقَالَ  صَاحب ( التَّوْضِيح) : وَرُوِيَ مثل قَوْلنَا عَن ابْن عمر وَسَالم وَعَطَاء وَمَكْحُول وَالزهْرِيّ وَالْأَوْزَاعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق.

وكانَ ابنُ عُمَرَ لاَ يُصَلِّي إلاَّ طاهِرا وَلاَ تُصَلَّى عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَلاَ غُرُوبِهَا وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ
هَذَا أَيْضا مِمَّا اسْتدلَّ بِهِ البُخَارِيّ على إِطْلَاق الصَّلَاة على صَلَاة الْجِنَازَة.

هَذِه ثَلَاث مسَائِل.

الأولى: أَن عبد الله ابْن عمر كَانَ لَا يُصَلِّي على الْجِنَازَة إلاَّ بِطَهَارَة،.

     وَقَالَ  ابْن بطال: كَانَ غَرَض البُخَارِيّ بِهَذَا الرَّد على الشّعبِيّ، فَإِنَّهُ أجَاز الصَّلَاة على الْجِنَازَة بِغَيْر طَهَارَة، قَالَ: لِأَنَّهُ دُعَاء لَيْسَ فِيهَا رُكُوع وَلَا سُجُود.
قَالَ: وَالْفُقَهَاء مجمعون من السّلف وَالْخلف على خلاف قَوْله.
انْتهى.
قلت:.

     وَقَالَ  بِهِ أَيْضا مُحَمَّد بن جرير الطَّبَرِيّ والشيعة،.

     وَقَالَ  أَبُو عمر: قَالَ ابْن علية: الصَّلَاة على الْمَيِّت اسْتِغْفَار، وَالِاسْتِغْفَار يجوز بِغَيْر وضوء، وأوصل هَذَا التَّعْلِيق مَالك فِي ( الْمُوَطَّأ) : عَن نَافِع بِلَفْظ: أَن ابْن عمر كَانَ يَقُول: لَا يُصَلِّي الرجل على الْجِنَازَة إلاَّ وَهُوَ طَاهِر.
وَأما إِطْلَاق الطَّهَارَة فَيتَنَاوَل الْوضُوء وَالتَّيَمُّم.
.

     وَقَالَ  أَبُو حنيفَة: يجوز التَّيَمُّم للجنازة مَعَ وجود المَاء إِذا خَافَ فَوتهَا بِالْوضُوءِ، وَكَانَ الْوَلِيّ غَيره، وَحَكَاهُ ابْن الْمُنْذر أَيْضا عَن الزُّهْرِيّ، وَعَطَاء وَسَالم وَالنَّخَعِيّ وَعِكْرِمَة وَسعد بن إِبْرَاهِيم وَيحيى الْأنْصَارِيّ وَرَبِيعَة وَاللَّيْث وَالْأَوْزَاعِيّ وَالثَّوْري وَإِسْحَاق وَابْن وهب، وَهِي رِوَايَة عَن أَحْمد، وروى ابْن عدي عَن ابْن عَبَّاس ( مَرْفُوعا) ( إِذا فجأتك جَنَازَة وَأَنت على غير وضوء فَتَيَمم) .
وَرَوَاهُ ابْن أبي شيبَة عَنهُ مَوْقُوفا.
وَحَكَاهُ أَيْضا عَن الحكم وَالْحسن،.

     وَقَالَ  مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو ثَوْر: لَا يتَيَمَّم.
.

     وَقَالَ  ابْن حبيب: الْأَمر فِيهِ وَاسع، وَنقل ابْن التِّين عَن ابْن وهب أَنه يتَيَمَّم إِذا خرج طَاهِرا فأحدث، وَإِن خرج مَعهَا على غير طَهَارَة لم يتَيَمَّم.

الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة: أَن عبد الله بن عمر مَا كَانَ يُصَلِّي على الْجِنَازَة عِنْد طُلُوع الشَّمْس وَلَا عِنْد غُرُوبهَا لما روى ابْن أبي شيبَة فِي ( مُصَنفه) : حَدثنَا حَاتِم بن إِسْمَاعِيل عَن أنيس بن أبي يحيى عَن أَبِيه أَن جَنَازَة وضعت، فَقَامَ ابْن عمر قَائِما فَقَالَ: أَيْن ولي هَذِه الْجِنَازَة؟ ليصل عَلَيْهَا قبل أَن يطلع قرن الشَّمْس.
وَحدثنَا وَكِيع عَن جَعْفَر بن برْقَان عَن مَيْمُون، قَالَ: كَانَ ابْن عمر يكره الصَّلَاة على الْجِنَازَة إِذا طلعت الشَّمْس حَتَّى تغيب، وَحدثنَا أَبُو الْأَحْوَص عَن أبي إِسْحَاق عَن أبي بكر، يَعْنِي ابْن حَفْص، قَالَ: كَانَ ابْن عمر إِذا كَانَت الْجِنَازَة صلى الْعَصْر ثمَّ قَالَ: عجلوا بهَا قبل أَن تطفل الشَّمْس.
.

     وَقَالَ  التِّرْمِذِيّ: بابُُ مَا جَاءَ فِي كَرَاهَة الصَّلَاة على الْجِنَازَة عِنْد طُلُوع الشَّمْس وَعند غُرُوبهَا، ثمَّ روى حَدِيث عقبَة بن عَامر الْجُهَنِيّ: ( ثَلَاث سَاعَات كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ينهانا أَن نصلي فِيهَا، ونقبر فِيهِنَّ مَوتَانا، حِين تطلع الشَّمْس: بازغة حَتَّى ترْتَفع، وَحين يقوم قَائِم الظهيرة حَتَّى تميل، وَحين تضيف الشَّمْس للغروب حَتَّى تغرب) .
وَأخرجه مُسلم وَبَقِيَّة أَصْحَاب السّنَن أَيْضا، ثمَّ قَالَ التِّرْمِذِيّ: وَالْعَمَل على هَذَا عِنْد بعض أهل الْعلم من أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَغَيرهم، يكْرهُونَ الصَّلَاة على الْجِنَازَة فِي هَذِه الْأَوْقَات،.

     وَقَالَ  ابْن الْمُبَارك: معنى هَذَا الحَدِيث أَن نقبر فِيهِنَّ مَوتَانا، يَعْنِي: الصَّلَاة على الْجِنَازَة، وَهُوَ قَول أَحْمد وَإِسْحَاق،.

     وَقَالَ  الشَّافِعِي: لَا بَأْس أَن يصلى على الْجِنَازَة فِي السَّاعَات الَّتِي تكره فِيهَا الصَّلَاة.

الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة: هِيَ قَوْله: ( وَيرْفَع يَدَيْهِ) ، أَي: وَيرْفَع ابْن عمر يَدَيْهِ فِي صَلَاة الْجِنَازَة، قَالَ بَعضهم: وَصله البُخَارِيّ فِي كتاب ( رفع الْيَدَيْنِ) الْمُفْرد من طَرِيق عبيد الله بن عمر عَن نَافِع عَن ابْن عمر: أَنه كَانَ يرفع يَدَيْهِ فِي كل تَكْبِيرَة على الْجِنَازَة.
قلت: قَوْله: ( وَيرْفَع يَدَيْهِ) .
مُطلق يتَنَاوَل الرّفْع فِي أول التَّكْبِيرَات ويتناول الرّفْع فِي جَمِيعهَا، وَعدم تَقْيِيد البُخَارِيّ ذَلِك يدل على أَن الَّذِي رَوَاهُ فِي كتاب ( رفع الْيَدَيْنِ) غير مرضِي عِنْده، إِذْ لَو كَانَ رَضِي بِهِ لَكَانَ ذكره فِي ( الصَّحِيح) أَو قيد قَوْله: ( وَيرْفَع يَدَيْهِ) بِلَفْظ: فِي التَّكْبِيرَات كلهَا، على أَنا قد ذكرنَا عَن قريب أَن ابْن حزم حكى عَن ابْن عمر أَنه لم يرفع إلاَّ فِي الأولى.
.

     وَقَالَ : لم يَأْتِ فِيمَا عدا الأولى نَص وَلَا إِجْمَاع، وَذكرنَا عَن أبي هُرَيْرَة وَابْن عَبَّاس مثله.
فَإِن قلت: روى الطَّبَرَانِيّ فِي ( الْأَوْسَط) من حَدِيث نَافِع عَن ابْن عمر أَنه كَانَ يرفع يَدَيْهِ فِي الْكل؟ قلت: إِسْنَاده ضَعِيف فَلَا يحْتَج بِهِ، وَالله تَعَالَى أعلم.

وَقَالَ الحَسَنُ أدْرَكْتُ النَّاسَ وَأحَقُّهُمْ عَلَى جَنَائِزِهِمْ مَنْ رَضُوهُمْ لِفَرَائِضِهِمْ

هَذَا أَيْضا من جملَة مَا يسْتَدلّ بِهِ البُخَارِيّ على جَوَاز إِطْلَاق الصَّلَاة على صَلَاة الْجِنَازَة، فَإِن الَّذين أدركهم من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ الْكِبَار كَانُوا يلحقون صَلَاة الْجِنَازَة بالصلوات، وَلِهَذَا مَا كَانَ أَحَق بِالصَّلَاةِ على الْجِنَازَة إلاَّ من كَانَ يُصَلِّي لَهُم الْفَرَائِض، وَالْوَاو فِي: وأحقهم، للْحَال وارتفاعه بِالِابْتِدَاءِ، وَخَبره هُوَ قَوْله: من، وَهِي مَوْصُولَة، يَعْنِي: الَّذين.
وَقَوله: رضوهم، صلتها.
وَقَوله: رضوهم بضمير الْجمع رِوَايَة الْحَمَوِيّ وَالْمُسْتَمْلِي، وَفِي رِوَايَة غَيرهمَا: رضوه، بإفراد الضَّمِير.
وَهَذَا الْبابُُ فِيهِ خلاف بَين الْعلمَاء.
قَالَ ابْن بطال: أَكثر أهل الْعلم قَالَ: الْوَالِي أَحَق من الْوَلِيّ، رُوِيَ ذَلِك عَن جمَاعَة، مِنْهُم: عَلْقَمَة وَالْأسود وَالْحسن، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وَمَالك وَالْأَوْزَاعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق.
.

     وَقَالَ  أَبُو يُوسُف وَالشَّافِعِيّ: الْوَلِيّ أَحَق من الْوَالِي،.

     وَقَالَ  مطرف وَابْن عبد الحكم وَأصبغ: لَيْسَ ذَلِك إلاَّ إِلَى من أليه الصَّلَاة من قَاض أَو صَاحب شرطة أَو خَليفَة الْوَالِي الْأَكْبَر، وَإِنَّمَا ذَلِك إِلَى الْوَالِي الْأَكْبَر الَّذِي يُؤَدِّي إِلَيْهِ الطَّاعَة، وَحكى ابْن أبي شيبَة عَن النَّخعِيّ وابي بردة وَابْن أبي ليلى وَطَلْحَة وزبيد وسُويد بن غَفلَة: تَقْدِيم إِمَام الْحَيّ، وَعَن أبي الشعْثَاء وَسَالم وَالقَاسِم وطاووس وَمُجاهد وَعَطَاء: أَنهم كَانُوا يقدمُونَ الإِمَام على الْجِنَازَة، وروى الثَّوْريّ عَن أبي حَازِم قَالَ: شهِدت الْحُسَيْن بن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، قدم سعيد بن الْعَاصِ يَوْم مَاتَ الْحسن بن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا.
.

     وَقَالَ  لَهُ: تقدم، فلولا السّنة مَا قدمتك، وَسَعِيد يَوْمئِذٍ أَمِير الْمَدِينَة.
.

     وَقَالَ  ابْن الْمُنْذر: لَيْسَ فِي هَذَا الْبابُُ أَعلَى من هَذَا، لِأَن شَهَادَة الْحسن شَهِدَهَا عوام النَّاس من الصَّحَابَة والمهاجرين وَالْأَنْصَار.

وَإذَا أحْدَثَ يَوْمَ العِيدِ أوْ عِنْدَ الجَنَازَةِ يِطْلُبُ المَاءَ وَلاَ يَتَيَمَّمُ

الظَّاهِر أَن هَذَا من بَقِيَّة كَلَام الْحسن، لِأَن ابْن أبي شيبَة روى عَن حَفْص على أَشْعَث عَن الْحسن أَنه سُئِلَ عَن الرجل يكون فِي الْجِنَازَة على غير وضوء، قَالَ: لَا يتَيَمَّم وَلَا يُصَلِّي إلاَّ على طهر.
فَإِن قلت: روى سعيد بن مَنْصُور عَن حَمَّاد بن زيد عَن كثير بن شنظير، قَالَ: سُئِلَ الْحسن عَن الرجل يكون فِي الْجِنَازَة على غير وضوء، فَإِن ذهب يتَوَضَّأ تفوته.
قَالَ: يتَيَمَّم وَيُصلي.
قلت: يحمل هَذَا على أَنه روى عَنهُ رِوَايَتَانِ، وَيدل ذكر البُخَارِيّ هَذَا على أَنه لم يقف عَن الْحسن إلاَّ على مَا روى عَنهُ من عدم جَوَاز الصَّلَاة على الْجِنَازَة إلاَّ بِالْوضُوءِ، أما التَّيَمُّم لصَلَاة الْجِنَازَة فقد مر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى عَن قريب.

وَأما التَّيَمُّم لصَلَاة الْعِيد فعلى التَّفْصِيل عندنَا، وَهُوَ أَنه إِن كَانَ قبل الشُّرُوع فِي صَلَاة الْعِيد لَا يجوز للْإِمَام، لِأَنَّهُ ينْتَظر، وَأما الْمُقْتَدِي فَإِن كَانَ المَاء قَرِيبا بِحَيْثُ لَو تَوَضَّأ لَا يخَاف الْفَوْت لَا يجوز، وإلاَّ فَيجوز، فَلَو أحدث أَحدهمَا بعد الشُّرُوع بِالتَّيَمُّمِ يتَيَمَّم وَإِن كَانَ الشُّرُوع بِالْوضُوءِ وَخَافَ ذهَاب الْوَقْت لَو تَوَضَّأ، فَكَذَلِك عِنْد أبي حنيفَة خلافًا لَهما.
وَفِي ( الْمُحِيط) وَإِن كَانَ الشُّرُوع بِالْوضُوءِ وَخَافَ زَوَال الشَّمْس لَو تَوَضَّأ يتَيَمَّم بِالْإِجْمَاع، وإلاَّ فَإِن كَانَ يَرْجُو إِدْرَاك الإِمَام قبل الْفَرَاغ لَا يتَيَمَّم بِالْإِجْمَاع، وإلاَّ يتَيَمَّم وَيَبْنِي عِنْد أبي حنيفَة.
وَقَالا: يتَوَضَّأ وَلَا يتَيَمَّم، فَمن الْمَشَايِخ من قَالَ: هَذَا اخْتِلَاف عصر وزمان، فَفِي زمن أبي حنيفَة كَانَت الْجَبانَة بعيدَة من الْكُوفَة، وَفِي زمنهما كَانُوا يصلونَ فِي جبانة قريبَة، وَعند الشَّافِعِي: لَا يجوز التَّيَمُّم لصَلَاة الْعِيد أَدَاء وَبِنَاء.
.

     وَقَالَ  النَّوَوِيّ: قَاس الشَّافِعِي صَلَاة الْجِنَازَة والعيد على الْجُمُعَة،.

     وَقَالَ : تفوت الْجُمُعَة بِخُرُوج الْوَقْت بِالْإِجْمَاع، والجنازة لَا تفوت بل يصلى على الْقَبْر إِلَى ثَلَاثَة أَيَّام بِالْإِجْمَاع، وَيجوز بعْدهَا عندنَا.

وإذَا انْتَهِى إلَى الجنَازَةِ وَهُمْ يُصَلُّونَ يَدْخُلُ مَعَهُمْ بِتَكْبِيرَةٍ

هَذَا بَقِيَّة من كَلَام الْحسن أَيْضا، أَي: إِذا انْتهى الرجل إِلَى الْجِنَازَة وَالْحَال أَن الْجَمَاعَة يصلونَ يدْخل مَعَهم بتكبيرة، وَقد وَصله ابْن أبي شيبَة: حَدثنَا معَاذ عَن أَشْعَث عَن الْحسن فِي الرجل يَنْتَهِي إِلَى الْجِنَازَة وهم يصلونَ عَلَيْهَا، قَالَ: يدْخل مَعَهم بتكبيرة، قَالَ: وَحدثنَا أَبُو أُسَامَة عَن هِشَام عَن مُحَمَّد، قَالَ: يكبر مَا أدْرك وَيَقْضِي مَا سبقه.
.

     وَقَالَ  الْحسن: يكبر مَا أدْرك وَلَا يقْضِي مَا سبقه، وَعِنْدنَا لَو كبر الإِمَام تَكْبِيرَة أَو تكبيرتين لَا يكبر الْآتِي حَتَّى يكبر الإِمَام تَكْبِيرَة أُخْرَى عِنْد أبي حنيفَة وَمُحَمّد، ثمَّ إِذا كبر الإِمَام يكبر مَعَه، فَإِذا فرغ الإِمَام كبر هَذَا الْآتِي مَا فَاتَهُ قبل أَن ترفع الْجِنَازَة.
.

     وَقَالَ  أَبُو يُوسُف: يكبر حِين يحضر، وَبِه قَالَ الشَّافِعِي وَأحمد فِي رِوَايَة، وَعَن أَحْمد مُخَيّر، وقولهما هُوَ قَول الثَّوْريّ والْحَارث بن يزِيد، وَبِه قَالَ مَالك وَإِسْحَاق وَأحمد فِي رِوَايَة.

وَقَالَ ابنُ المُسَيَّبُ يُكَبِّرُ بِاللَّيْلِ والنَّهَارِ وَالسَّفَرِ وَالْحَضَرِ أرْبَعا

أَي: قَالَ سعيد بن الْمسيب: يكبر الرجل فِي صَلَاة الْجِنَازَة سَوَاء كَانَت بِاللَّيْلِ أَو بِالنَّهَارِ، وَسَوَاء كَانَت فِي السّفر أَو فِي الْحَضَر أَرْبعا أَي: أَربع تَكْبِيرَات، وَقد ذكرنَا الِاخْتِلَاف فِي عدد التَّكْبِيرَات.

وقَالَ أنسٌ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ التَّكْبِيرَةُ الوَاحِدَةِ اسْتِفْتَاحُ الصَّلاَةِ

هَذَا أَيْضا مِمَّا يدل على مَا قَالَه البُخَارِيّ من جَوَاز إِطْلَاق الصَّلَاة على صَلَاة الْجِنَازَة حَيْثُ أثبت لَهَا تَكْبِيرَة الاستفتاح، كَمَا فِي صَلَاة الْفَرْض، وروى سعيد بن مَنْصُور مَا يتَضَمَّن مَا ذكره البُخَارِيّ عَن أنس عَن إِسْمَاعِيل بن علية عَن يحيى بن أبي إِسْحَاق، قَالَ زُرَيْق بن كريم لأنس بن مَالك: رجل صلى فَكبر ثَلَاثًا؟ قَالَ أنس: أوليس التَّكْبِير ثَلَاثًا؟ قَالَ: يَا أَبَا حَمْزَة، التَّكْبِير أَربع.
قَالَ: أجل غير أَن وَاحِدَة هِيَ افْتِتَاح الصَّلَاة.

وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ ولاَ تُصَلِّ عَلَى أحَدٍ مِنْهُمْ

هَذَا مَعْطُوف على أصل التَّرْجَمَة، وَهِي قَوْله: بابُُ سنة الصَّلَاة على الْجِنَازَة، فَإِنَّهُ أطلق عَلَيْهِ الصَّلَاة حَيْثُ نهى عَن فعلهَا على أحد من الْمُنَافِقين.

وَفِيهِ صُفُوفٌ وَإمَامٌ

هَذَا عطف على قَوْله: وفيهَا تَكْبِير وَتَسْلِيم، وَالضَّمِير فِي: فِيهِ، يرجع إِلَى صَلَاة الْجِنَازَة، والتذكير بِاعْتِبَار الْمَذْكُور أَو بِاعْتِبَار فعل الصَّلَاة، أَرَادَ أَن كَون الصُّفُوف فِي صَلَاة الْجِنَازَة وَكَون الإِمَام فِيهَا يدلان على إِطْلَاق الصَّلَاة على صَلَاة الْجِنَازَة.



[ قــ :1272 ... غــ :1322 ]
- حدَّثنا سُلَيْمَانُ بنُ حَرْبٍ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ عنِ الشَّيْبَانِيِّ عنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ أَخْبرنِي مَنْ مَرَّ مَعَ نَبِيِّكُمْ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَى قَبْرٍ مَنْبُوذٍ فَأمَّنَا فَصَفَفْنَا خَلْفَهُ فَقُلْنَا يَا أبَا عَمْرٍ ومَنْ حَدَّثَكَ قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: ( فأمنا فصففنا) ، لِأَن الْإِمَامَة وتسوية الصُّفُوف من سنة صَلَاة الْجِنَازَة، والْحَدِيث قد مر فِي الْبابُُ الَّذِي قبله وَقبل قبله، والشيباني هُوَ سُلَيْمَان، وَالشعْبِيّ هُوَ عَامر بن شرَاحِيل.
قَوْله: ( يابا عَمْرو) أَصله: يَا أَبَا عَمْرو، حذفت الْهمزَة للتَّخْفِيف، وَأَبُو عَمْرو هَذَا هُوَ الشّعبِيّ.