فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب فضل اتباع الجنائز

( بابُُ فَضْلِ اتِّبَاعِ الجَنَائِزِ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان فضل اتِّبَاع الْجَنَائِز، وَالْمرَاد من الإتباع أَن يتبع الْجِنَازَة وَيُصلي عَلَيْهَا، وَلَيْسَ المُرَاد أَن يتبع ثمَّ ينْصَرف بِغَيْر صَلَاة.
فَإِن قلت: مَا تدل التَّرْجَمَة على الحكم؟ قلت: المُرَاد إِثْبَات الْأجر وَالتَّرْغِيب فِيهِ لَا تعْيين الحكم وَقيل: المُرَاد من الِاتِّبَاع الْقدر الَّذِي يحصل بِهِ مُسَمَّاهُ الَّذِي يحصل بِهِ القيراط من الْأجر.

وقَالَ زَيْدُ بنُ ثَابِتٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ: إذَا صَلَّيْتَ فَقَدْ قَضَيْتَ الَّذِي عَلَيْكَ

مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن الصَّلَاة على الْمَيِّت لَا تحصل إِلَّا باتباعه، وَزيد بن ثَابت بن الضَّحَّاك بن زيد الْأنْصَارِيّ النجاري أَبُو خَارِجَة الْمدنِي، قدم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمَدِينَة وَهُوَ ابْن إِحْدَى عشرَة سنة، وَكَانَ يكْتب الْوَحْي لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكَانَ من فضلاء الصَّحَابَة، وَمن أَصْحَاب الْفَتْوَى، توفّي سنة خمس وَأَرْبَعين بِالْمَدِينَةِ، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله سعيد بن مَنْصُور من طَرِيق عُرْوَة عَنهُ، وَوَصله ابْن أبي شيبَة عَن أبي مُعَاوِيَة ووكيع عَن هِشَام عَن أَبِيه عَن زيد بن ثَابت: ( إِذا صليتم على الْجِنَازَة فقد قضيتم مَا عَلَيْكُم فَخلوا بَينهَا وَبَين أَهلهَا) .
قَوْله: ( إِذا صليت) أَي: على الْمَيِّت ( فقد قضيت) حَقه ( الَّذِي عَلَيْك) ، من الْوَاجِب الَّذِي هُوَ على الْكِفَايَة، وَإِذا أَرَادَ الِاتِّبَاع بعد ذَلِك إِلَى قَبره فَلهُ زِيَادَة الْأجر.

وَقَالَ حُمَيْدُ بنُ هِلاَلٍ: مَا عَلِمْنَا علَى الجَنَازَةِ إذْنا وَلاكِنْ مَنْ صَلَّى ثُمَّ رَجَعَ فَلَهُ قِيرَاطٌ

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: ( من صلى ثمَّ رَجَعَ) لِأَن الصَّلَاة تكون بالاتباع، وَحميد، بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة: ابْن هِلَال ابْن هُبَيْرَة أَبُو نصر الْبَصْرِيّ التَّابِعِيّ، مر فِي: بابُُ يرد الْمُصَلِّي من يمر بَين يَدَيْهِ.
قَوْله: ( إِذْنا) ، بِكَسْر الْهمزَة أَي، مَا ثَبت عندنَا أَنه يُؤذن على الْجِنَازَة، وَلَكِن ثَبت من صلى ... إِلَى آخِره، هَذَا أَن الصَّلَاة على الْجِنَازَة حق الْمَيِّت، ولابتغاء الْفضل وَلَيْسَ للأولياء فِيهَا حق حَتَّى يتَوَقَّف الِانْصِرَاف بعد الصَّلَاة على الْأذن.
وَفِي هَذَا الْبابُُ اخْتِلَاف، فَروِيَ عَن زيد بن ثَابت وَجَابِر بن عبد الله وَعُرْوَة بن الزبير وَالقَاسِم بن مُحَمَّد وَالْحسن وَقَتَادَة وَابْن سِيرِين وَأبي قلَابَة: أَنهم كَانُوا يَنْصَرِفُونَ بعد الصَّلَاة وَلَا يستأذنون، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي وَجَمَاعَة من الْعلمَاء،.

     وَقَالَ ت طَائِفَة: لَا بُد من الْإِذْن فِي ذَلِك، وَرُوِيَ عَن عمر وَابْن مَسْعُود وَابْن عمر وَأبي هُرَيْرَة والمسور بن مخرمَة وَالنَّخَعِيّ: أَنهم كَانُوا لَا يَنْصَرِفُونَ حَتَّى يستأذنون، وروى ابْن عبد الحكم عَن مَالك قَالَ: لَا يجب لمن يشْهد جَنَازَة أَن ينْصَرف عَنْهَا حَتَّى يُؤذن لَهُ، إلاَّ أَن يطول ذَلِك.
فَإِن قلت: روى عبد الرَّزَّاق من طَرِيق عَمْرو بن شُعَيْب ( عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: أميران وليسا بأميرين: الرجل يكون مَعَ الْجِنَازَة يُصَلِّي عَلَيْهَا فَلَيْسَ لَهُ أَن يرجع حَتَّى يسْتَأْذن وَليهَا) الحَدِيث، وروى الْبَزَّار من حَدِيث جَابر مَرْفُوعا: ( أميران وليسا بأميرين: الْمَرْأَة تحج مَعَ الْقَوْم فتحيض، وَالرجل يتبع الْجِنَازَة فَيصَلي عَلَيْهَا لَيْسَ لَهُ أَن يرجع حَتَّى يستأمر أهل الْجِنَازَة) .
وروى أَحْمد من حَدِيث أبي هُرَيْرَة يرفعهُ: ( من تبع جَنَازَة فَحمل من علوها، وحثى فِي قبرها، وَقعد حَتَّى يُؤذن لَهُ رَجَعَ بقيراطين) .
قلت: أما حَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب فَهُوَ مُنْقَطع مَوْقُوف.
فَإِن قلت: روى عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا أَيْضا؟ قلت: قَالَ أَبُو جَعْفَر الْعقيلِيّ: لم يُتَابع عَلَيْهِ.
وَأما حَدِيث جَابر فَهُوَ ضَعِيف، وَكَذَلِكَ حَدِيث أَحْمد ضَعِيف.



[ قــ :1273 ... غــ :1323 ]
- حدَّثنا أبُو النُّعْمَانِ قَالَ حدَّثنا جَرِيرُ بنُ حازِمٍ قَالَ سَمِعْتُ نافِعا يَقُولُ حُدِّثَ ابنُ عُمَرَ أنَّ أبَا هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم يقُولُ مَنْ تَبِعَ جَنَازَةً فَلَهُ قِيرَاطٌ فَقَالَ أكْثَرَ أبُو هُرَيْرَةَ عَلَيْنَا.
فَصَدَّقَتْ يَعْنِي عائِشَةَ أبَا هُرَيْرَةَ وَقالَتْ سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُهُ فَقَالَ ابنُ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا لَقَدْ فَرَّطْنَا فِي قَرَارِيطَ كَثِيرَةٍ.

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَرِجَاله قد مضوا غير مرّة، وَأَبُو النُّعْمَان مُحَمَّد بن الْفضل السدُوسِي وَجَرِير، بِفَتْح الْجِيم وبكسر الرَّاء المكررة: ابْن حَازِم، بِالْحَاء الْمُهْملَة وَالزَّاي، سبق فِي: بابُُ يسْتَقْبل الإِمَام النَّاس إِذا سلم.

ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا وَمُسلم وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه من رِوَايَة معمر عَن الزُّهْرِيّ عَن سعيد ابْن الْمسيب عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
وَأخرجه البُخَارِيّ وَمُسلم وَالنَّسَائِيّ أَيْضا من رِوَايَة الزُّهْرِيّ عَن الْأَعْرَج عَن أبي هُرَيْرَة.
وَأخرجه مُسلم أَيْضا كَمَا أخرجه البُخَارِيّ هَهُنَا من رِوَايَة نَافِع عَن أبي هُرَيْرَة، وَرَوَاهُ البُخَارِيّ أَيْضا من رِوَايَة سعيد المَقْبُري عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة، وَرَوَاهُ مُسلم أَيْضا من رِوَايَة سُهَيْل بن أبي صَالح عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة، وَمن رِوَايَة يزِيد بن كيسَان عَن أبي حَازِم عَن أبي هُرَيْرَة.
وَرَوَاهُ مُسلم أَيْضا وَأَبُو دَاوُد من رِوَايَة خبابُ صَاحب الْمَقْصُورَة عَن أبي هُرَيْرَة، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد أَيْضا من رِوَايَة سُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة عَن سمي عَن أبي صَالح عَن أبي صَالح عَن أبي هُرَيْرَة، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ،.

     وَقَالَ : حَدثنَا أَبُو كريب حَدثنَا عَبدة بن سُلَيْمَان عَن مُحَمَّد بن عَمْرو حَدثنَا أَبُو سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ( من صلى على جَنَازَة فَلهُ قِيرَاط، وَمن تبعها حَتَّى يقْضِي دَفنهَا فَلهُ قيراطان أَحدهمَا أَو أصغرهما مثل أحد، فَذكرت ذَلِك لِابْنِ عمر، فَأرْسل إِلَى عَائِشَة يسْأَلهَا عَن ذَلِك، فَقَالَت: صدق أَبُو هُرَيْرَة، فَقَالَ ابْن عمر: لقد فرطنا فِي قراريط كَثِيرَة) .
وَفِي الْبابُُ عَن الْبَراء رَوَاهُ النَّسَائِيّ عَنهُ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ( من تبع جَنَازَة حَتَّى يصلى عَلَيْهَا كَانَ لَهُ من الْأجر قِيرَاط، وَمن مَشى مَعَ الْجِنَازَة حَتَّى تدفن كَانَ لَهُ من الْأجر قيراطان، والقيراط مثل أحد) ، وَعَن عبد الله بن الْمُغَفَّل روى حَدِيثه النَّسَائِيّ أَيْضا عَنهُ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ( من تبع جَنَازَة حَتَّى يفرغ مِنْهَا فَلهُ قيراطان، فَإِن رَجَعَ قبل أَن يفرغ مِنْهَا فَلهُ قِيرَاط.
وَعَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، واسْمه: سعد بن مَالك الْأنْصَارِيّ، روى حَدِيثه ابْن أبي شيبَة فِي ( مُصَنفه) عَنهُ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ( من أَتَى الْجِنَازَة عِنْد أَهلهَا فَمشى مَعهَا حَتَّى يُصَلِّي عَلَيْهَا فَلهُ قِيرَاط، وَمن شَهِدَهَا حَتَّى تدفن فَلهُ قيراطان مثل أحد) .
وَعَن أبي بن كَعْب أخرج حَدِيثه ابْن مَاجَه عَنهُ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ( من صلى على جَنَازَة فَلهُ قِيرَاط، وَمن شَهِدَهَا حَتَّى تدفن فَلهُ قِيرَاط، وَالَّذِي نفس مُحَمَّد بِيَدِهِ القيراط أعظم من أحد) .
وَعَن ابْن عمر: أخرج حَدِيثه ابْن أبي شيبَة فِي ( مُصَنفه) قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ( من صلى على جَنَازَة فَلهُ قِيرَاط) ، وَعَن ثَوْبَان أخرج حَدِيثه مُسلم وَابْن مَاجَه، عَنهُ: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: ( من صلى على جَنَازَة فَلهُ قِيرَاط، فَإِن شهد دَفنهَا فَلهُ قيراطان، القيراط مثل أحد) .

ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: ( حدث) ، بِضَم الْحَاء على صِيغَة الْمَجْهُول من الْمَاضِي وَلم يبين فِي شَيْء من الطّرق من كَانَ حدث ابْن عمر عَن أبي هُرَيْرَة بذلك، وَلَكِن يُمكن أَن يُقَال: إِنَّه بَين فِي موضِعين أَحدهمَا فِي ( صَحِيح مُسلم) : حَدثنَا مُحَمَّد بن عبد الله بن نمير، قَالَ: حَدثنَا عبد الله بن يزِيد، قَالَ: حَدثنَا حَيْوَة بن صَخْر عَن يزِيد بن عبد الله بن قسيط أَنه حدث أَن دَاوُد بن عَامر ابْن سعد بن أبي وَقاص حَدثهُ عَن أَبِيه أَنه كَانَ قَاعِدا عِنْد عبد الله بن عمر إِذْ طلع خبابُ صَاحب الْمَقْصُورَة، فَقَالَ: يَا عبد الله بن عمر ألاَ تسمع مَا يَقُول أَبُو هُرَيْرَة؟ إِنَّه سمع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: من خرج مَعَ جَنَازَة من بَيتهَا وَصلى عَلَيْهَا ثمَّ تبعها حَتَّى تدفن كَانَ لَهُ قيراطان من الْأجر مثل أحد، وَمن صلى عَلَيْهَا ثمَّ رَجَعَ كَانَ لَهُ من الْأجر مثل أحد.
فَأرْسل ابْن عمر خبابُا إِلَى عَائِشَة يسْأَلهَا عَن قَول أبي هُرَيْرَة، ثمَّ رَجَعَ إِلَيْهِ يُخبرهُ مَا قَالَت، وَأخذ ابْن عمر قَبْضَة من حَصْبَاء الْمَسْجِد يقلبها فِي يَده حَتَّى رَجَعَ إِلَيْهِ الرَّسُول، فَقَالَ: قَالَت عَائِشَة: صدق أَبُو هُرَيْرَة، فَضرب ابْن عمر بالحصباء الَّذِي كَانَ فِي يَده ثمَّ قَالَ: لقد فرطنا فِي قراريط كَثِيرَة)
.
والموضع الآخر فِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ، وَقد ذَكرْنَاهُ.
قَوْله: ( أَن أَبَا هُرَيْرَة يَقُول: من تبع) كَذَا فِي جَمِيع الطّرق لم يذكر فِيهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكَذَا أخرجه الْإِسْمَاعِيلِيّ من طَرِيق إِبْرَاهِيم بن رَاشد عَن أبي النُّعْمَان شيخ البُخَارِيّ فِيهِ، وَأخرجه أَبُو عوَانَة فِي صَحِيحه عَن مهْدي بن الْحَارِث عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل وَعَن أبي أُميَّة عَن أبي النُّعْمَان وَعَن التسترِي عَن شَيبَان، ثَلَاثَتهمْ عَن جرير بن حَازِم عَن نَافِع، قَالَ: قيل لِابْنِ عمر: إِن أَبَا هُرَيْرَة يَقُول: سَمِعت رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَقُول: ( من تبع جَنَازَة فَلهُ قِيرَاط من الْأجر) ، فَذكره.
قَوْله: ( من تبع جَنَازَة فَلهُ قِيرَاط) ، زَاد مُسلم فِي رِوَايَته: ( من الْأجر.
.
)
والقيراط، بِكَسْر الْقَاف.
قَالَ الْكرْمَانِي: القيراط لُغَة: نصف دانق، وَالْمَقْصُود مِنْهُ هُنَا النَّصِيب.
وَقيل: القيراط جُزْء من أَجزَاء الدِّينَار، وَهُوَ نصف عشره فِي أَكثر الْبِلَاد، وَأهل الشَّام يجعلونه جُزْءا من أَرْبَعَة وَعشْرين، وَأَصله: القراط، يَعْنِي بِالتَّشْدِيدِ بِدَلِيل جمعه بالقراريط، فأبدل إِحْدَى الراءين يَاء.
وَعَن ابْن عقيل: القيراط نصف سدس دِرْهَم أَو نصف عشر دِينَار.
وَقيل: المُرَاد بالقيراط هَهُنَا جُزْء من أَجزَاء مَعْلُومَة عِنْد الله تَعَالَى، وَقد قربهَا النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، للفهم بتمثيله القيراط بِأحد،.

     وَقَالَ  الطَّيِّبِيّ: قَوْله: ( مثل أحد) تَفْسِير للمقصود من الْكَلَام لَا للفظ القيراط، وَالْمرَاد مِنْهُ أَن يرجع بِنَصِيب من الْأجر، وَذَلِكَ لِأَن لفظ القيراط مُبْهَم من وَجْهَيْن فَبين الْمَوْزُون بقوله: ( من الْأجر) وَبَين الْمِقْدَار المُرَاد مِنْهُ بقوله: ( مثل أحد) .
فَإِن قلت: لِمَ خص القيراط بِالذكر؟ قلت: لِأَن غَالب مَا تقع بِهِ معاملتهم كَانَ بالقيراط.

وَقد ورد لفظ القيراط فِي عدَّة أَحَادِيث: فَمِنْهَا: مَا يحمل على القيراط الْمُتَعَارف.
وَمِنْهَا: مَا يحمل على الْجُزْء وَإِن لم تعرف النِّسْبَة، فَمن الأول: حَدِيث كَعْب بن مَالك: ( إِنَّكُم ستفتحون بَلَدا يذكر فِيهَا القيراط) ، وَحَدِيث أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا ( كنت أرى الْغنم لأهل مَكَّة بالقراريط) .
قَالَ ابْن مَاجَه عَن بعض شُيُوخه، يَعْنِي: كل شَاة بقيراط،.

     وَقَالَ  غَيره: قراريط جبل بِمَكَّة، وَمن الْمُحْتَمل حَدِيث ابْن عمر الَّذين أعْطوا الْكتاب أعْطوا قيراطا قيراطا، وَحَدِيث الْبابُُ.
وَحَدِيث أبي هُرَيْرَة: ( من اقتنى كَلْبا نقص من عمله كل يَوْم قِيرَاط) .
وَقد جَاءَ فِي حَدِيث مُسلم، وَغَيره: ( القيراط مثل أحد) ، وَسَيَأْتِي فِي الْبابُُ الَّذِي يَأْتِي: القيراطان مثل الجبلين العظيمين، وَهَذَا تَمْثِيل واستعارة، وَيجوز أَن يكون حَقِيقَة بِأَن يَجْعَل الله عمله ذَلِك يَوْم الْقِيَامَة فِي صُورَة عين يُوزن كَمَا توزن الْأَجْسَام، وَيكون قدر هَذَا كَقدْر أحد.
فَإِن قلت: التَّمْثِيل بِأحد مَا وَجه تَخْصِيصه؟ قلت: لِأَنَّهُ كَانَ قَرِيبا من المخاطبين وَكَانَ أَكْثَرهم يعرفونه كَمَا يَنْبَغِي، وَقيل: لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ فِي حَقه: ( إِنَّه جبل يحبنا وَنحن نحبه) .
وَقيل: لِأَنَّهُ أعظم الْجبَال خلقا.
قلت: فِيهِ نظر لَا يخفى.
قَوْله: ( فَقَالَ) ، أَي: قَالَ ابْن عمر: أَكثر أَبُو هُرَيْرَة علينا.
قَالَ الْكرْمَانِي: أَي: فِي ذكر الْأجر أَو فِي رِوَايَة الحَدِيث، خَافَ لِكَثْرَة رواياته أَنه اشْتبهَ عَلَيْهِ الْأَمر، فِيهِ لَا أَنه نسبه إِلَى رِوَايَة مَا لم يسمع لِأَن مرتبتهما أجل من ذَلِك.

     وَقَالَ  ابْن التِّين لم يهتم ابْن عمر بل خشِي عَلَيْهِ السَّهْو أَو قَالَ ذَلِك لكَونه لم ينْقل لَهُ عَن أبي هُرَيْرَة أَنه رَفعه، فَظن أَنه قَالَ بِرَأْيهِ، فاستنكره.
وَوَقع فِي رِوَايَة أبي سَلمَة عِنْد سعيد ابْن مَنْصُور، فَبلغ ذَلِك ابْن عمر فتعاظمه، وَفِي رِوَايَة الْوَلِيد بن عبد الرَّحْمَن عِنْد سعيد أَيْضا ومسدد وَأحمد بِإِسْنَاد صَحِيح: فَقَالَ ابْن عمر: يَا أَبَا هُرَيْرَة أنظر مَا تحدث من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ قَوْله: ( فصدقت) يَعْنِي عَائِشَة أَبَا هُرَيْرَة، لفظ: يَعْنِي، من البُخَارِيّ، كَأَنَّهُ شكّ فاستعملها، وَقد رَوَاهُ الْإِسْمَاعِيلِيّ من طَرِيق أبي النُّعْمَان شيخ البُخَارِيّ فَلم يقلها، وَقد ذكرنَا رِوَايَة مُسلم وفيهَا: فَبعث ابْن عمر إِلَى عَائِشَة فَسَأَلَهَا فصدقت أَبَا هُرَيْرَة، وَقد ذكرنَا أَيْضا عَن التِّرْمِذِيّ: ( فَأرْسل إِلَى عَائِشَة يسْأَلهَا عَن ذَلِك فَقَالَت: صدق أَبُو هُرَيْرَة) .
فَإِن قلت: روى سعيد بن مَنْصُور من حَدِيث الْوَلِيد بن عبد الرَّحْمَن: ( فَقَامَ أَبُو هُرَيْرَة فَأخذ بِيَدِهِ فَانْطَلقَا حَتَّى أَتَيَا عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، فَقَالَ لَهَا: يَا أم الْمُؤمنِينَ، أنْشدك الله أسمعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول؟ فَذكره، فَقَالَت: أللهم نعم) .
قلت: التَّوْفِيق فِي ذَلِك بِأَن الرَّسُول لما رَجَعَ إِلَى ابْن عمر بِخَبَر عَائِشَة بلغ ذَلِك أَبَا هُرَيْرَة فَمشى إِلَى ابْن عمر فأسمعه ذَلِك من عَائِشَة مشافهة، وَزَاد فِي رِوَايَة الْوَلِيد: ( فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَة: لم يشغلني عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم غرس بالوادي وَلَا صفق بالأسواق، وَإِنَّمَا كنت أطلب من رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَكلَة يطعمنيها أَو كلمة يعلمنيها.
قَالَ لَهُ ابْن عمر: كنت ألزمنا رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأَعْلَمنَا بحَديثه)
.
قَوْله: ( لقد فرطنا فِي قراريط كَثِيرَة) أَي: من عدم الْمُوَاظبَة على حُضُور الدّفن.

ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: تَمْيِيز أبي هُرَيْرَة فِي الْحِفْظ، وَأَن إِنْكَار الْعلمَاء بَعضهم على بعض قديم، وَأَن الْعَالم يستغرب مَا لم يصل إِلَى علمه.
وَفِيه: عدم مبالاة الْحَافِظ بإنكار من لم يحفظ.
وَفِيه: مَا كَانَت الصَّحَابَة عَلَيْهِ من التثبت فِي الْعلم والْحَدِيث النَّبَوِيّ والتحرير فِيهِ.
وَفِيه: دلَالَة على فَضِيلَة ابْن عمر من حرصه على الْعلم وتأسفه على مَا فَاتَهُ من الْعَمَل الصَّالح.
وَفِيه: فِي قَوْله: ( من تبع جَنَازَة) حجَّة لمن قَالَ: إِن الْمَشْي خلف الْجِنَازَة أفضل من الْمَشْي أمامها، لِأَن ذَلِك حَقِيقَة الِاتِّبَاع حسا.
.

     وَقَالَ  ابْن دَقِيق الْعِيد: الَّذين رجحوا الْمَشْي أمامها حملُوا الإتباع هُنَا على الإتباع الْمَعْنَوِيّ، أَي: المصاحبة، وَهُوَ أَعم من أَن يكون أمامها أَو خلفهَا أَو غير ذَلِك.
قلت: هَذَا تحكم، وَاتِّبَاع الرجل غَيره فِي اللُّغَة وَالْعرْف عبارَة عَن أَن يمشي وَرَاءه، وَلَيْسَ لما قَالَه وَجه من الْوُجُوه.

فَرَّطْتُ: ضَيَّعْتُ مِنْ أمْرِ الله

جرى دأب البُخَارِيّ أَنه يُفَسر الْكَلِمَة الغريبة من الحَدِيث إِذا وَافَقت كلمة من الْقُرْآن، وَهَذَا إِشَارَة إِلَى مَا ورد فِي الْقُرْآن: { يَا حسرتا على مَا فرطت فِي جنب الله} ( الزمر: 65) .
وَمَعْنَاهُ: ضيعت من أَمر الله، وَفِي جَمِيع الطّرق وَقع: فرطت ضيعت من أَمر الله، وَفِي بعض النّسخ: فرطت من أَمر الله أَي: ضيعت، وَهَذَا أشبه.