فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب الجريد على القبر

(بابُُ الجَرِيدِ عَلَى القَبْرِ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان وضع الجريد على قبر الْمَيِّت، والجريد الَّذِي يجرد عَنهُ الخوص.

وَأوْصَى بُرَيْدَةُ الأسْلَمِيُّ أنْ يُجْعَلَ فِي قَبْرِهِ جَرِيدَانِ

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَبُرَيْدَة، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَفتح الرَّاء وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح الدَّال الْمُهْملَة: ابْن الْحصيب، بِضَم الْحَاء وَفتح الصَّاد الْمُهْمَلَتَيْنِ: ابْن عبد الله الْأَسْلَمِيّ، مَاتَ بمرو سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ، وَقد تقدم فِي: بابُُ من ترك الْعَصْر، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله ابْن سعد من طَرِيق مُورق الْعجلِيّ قَالَ: أوصى بُرَيْدَة أَن يوضع فِي قَبره جريدان.
وَقَوله: (فِي قَبره) رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي: (على قَبره) ، وَالْحكمَة فِي ذَلِك، على رِوَايَة الْأَكْثَرين، التفاؤل ببركة النَّخْلَة.
لقَوْله تَعَالَى: { كشجرة طيبَة} (إِبْرَاهِيم: 42) .
وعَلى رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي الِاقْتِدَاء بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي وَضعه الجريدتين على الْقَبْر، وَسَنذكر الْحِكْمَة فِيهِ عَن قريب، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
وَرَأى ابنُ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا فُسْطَاطا عَلَى قَبْرِ عَبْدِ الرَّحْمانِ فَقَالَ انْزَعْهُ يَا غُلاَمُ فَإنَّمَا يُظِلُّهُ عَمَلُهُ

وَجه إِدْخَال أثر ابْن عمر فِي هَذِه التَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه كَانَ يرى أَن وضع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الجريدتين على القبرين خَاص بهما، وَأَن بُرَيْدَة حمله على الْعُمُوم، فَلذَلِك عقب أثر بُرَيْدَة بأثر عبد الله بن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، وَعبد الرَّحْمَن هُوَ ابْن أبي بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، بنيه ابْن سعد فِي رِوَايَته لَهُ مَوْصُولا من طَرِيق أَيُّوب بن عبد الله بن يسَار.
قَالَ: مر عبد الله بن عمر على قبر عبد الرَّحْمَن بن أبي بكر أخي عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَعَلِيهِ فسطاط مَضْرُوب، فَقَالَ: يَا غُلَام إنزعه فَإِنَّمَا يظله عَمه.
قَالَ الْغُلَام: تضربني مولاتي.
قَالَ: كلا فَنَزَعَهُ.
قَوْله: (انزعه) أَي: إقلعه، وَكَانَ الْغُلَام الَّذِي خاطبه عبد الله غُلَام عَائِشَة أُخْت عبد الرَّحْمَن.
قَوْله: (فَإِنَّمَا يظله) أَي: لَا يظله الْفسْطَاط، بل يظله الْعَمَل الصَّالح فَدلَّ هَذَا على أَن نصب الْخيام على الْقَبْر مَكْرُوه، وَلَا ينفع الْمَيِّت ذَلِك، وَلَا يَنْفَعهُ إلاَّ عمله الصَّالح الَّذِي قدمه، وَتَفْسِير الْفسْطَاط قد مر مُسْتَوفى فِي: بابُُ مَا يكره من اتِّخَاذ الْمَسَاجِد على الْقُبُور.

وقالَ خارِجَةُ بنُ زَيْدٍ ورَأيْتُنِي وَنَحْنُ شُبَّانٌ فِي زَمَنِ عُثْمَانَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ وَإنْ أشَدَّنا وَثْبَةً الَّذِي يَثِبُ قَبْرَ عُثْمَانَ بنِ مَظْعُونٍ حَتَّى يُجَاوِزَهُ

قيل: لَا مُنَاسبَة فِي إِدْخَال قَول خَارِجَة فِي هَذَا الْبابُُ، وَإِنَّمَا مَوْضِعه فِي: بابُُ موعظة الْمُحدث عِنْد الْقَبْر وقعود أَصْحَابه حوله، وَكَانَ بعض الروَاة كتبه فِي غير مَوْضِعه، وَقد تكلّف طَرِيق إِلَى كَونه من هَذَا الْبابُُ، وَهِي الْإِشَارَة إِلَى أَن ضرب الْفسْطَاط إِن كَانَ لغَرَض صَحِيح كالتستر من الشَّمْس مثلا للإحياء لَا لإظلال الْمَيِّت فَقَط، جَازَ، فَكَأَنَّهُ يَقُول: إِذا كَانَ على الْقَبْر لغَرَض صَحِيح لَا لقصد المباهاة جَازَ، كَمَا يجوز الْقعُود عَلَيْهِ لغَرَض صَحِيح لَا لمن أحدث عَلَيْهِ، وخارجة بن زيد بن ثَابت الْأنْصَارِيّ، أحد التَّابِعين الثِّقَات وَأحد الْفُقَهَاء السَّبْعَة من أهل الْمَدِينَة، وصل هَذَا التَّعْلِيق البُخَارِيّ فِي (التَّارِيخ الصَّغِير) من طَرِيق ابْن إِسْحَاق: حَدثنِي يحيى بن عبد الرَّحْمَن بن أبي عمْرَة الْأنْصَارِيّ، سَمِعت خَارِجَة فَذكره.
قَوْله: (رَأَيْتنِي) بِضَم التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق، وَكَون الْفَاعِل وَالْمَفْعُول ضميرين لشَيْء وَاحِد من خَصَائِص أَفعَال الْقُلُوب، وَالتَّقْدِير: رَأَيْت نَفسِي، وَالْوَاو فِي: (وَنحن شُبَّان) للْحَال، و: شُبَّان، بِضَم الشين الْمُعْجَمَة وَتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة جمع: شَاب.
قَوْله: (وثبة) مصدر من: وثب يثب وثبا ووثبة، ومظعون، بِظَاء مُعْجمَة سَاكِنة وَعين مُهْملَة.

وَقَالَ عُثْمَانُ بنُ حَكِيمٍ أخَذَ بِيَدِي خارِجَةُ فأجْلَسَنِي عَلَى قَبْرٍ وَأخْبَرَني عَنْ عَمِّهِ يَزِيدَ بنِ ثابِتٍ قَالَ إنَّمَا كُرِهَ ذالِكَ لِمَنْ أحْدَثَ عليهِ

الْكَلَام فِي ذكر مُنَاسبَة هَذَا كَالْكَلَامِ فِي الَّذِي قبله، وَعُثْمَان بن حَكِيم بن عباد بن حنيف الْأنْصَارِيّ الأوسي الأحملاني أَبُو سهل الْمدنِي، ثمَّ الْكُوفِي، أَخُو حَكِيم بن حَكِيم.
وَعَن أَحْمد: ثِقَة ثَبت وَهُوَ من أَفْرَاد مُسلم، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله مُسَدّد فِي (مُسْنده) الْكَبِير وبيَّن فِيهِ سَبَب إِخْبَار خَارِجَة لحكيم بذلك، وَلَفظه: حَدثنَا مُسَدّد حَدثنَا عِيسَى بن يُونُس حَدثنَا عُثْمَان بن حَكِيم حَدثنَا عبد الله بن سرجس وَأَبُو سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن إنَّهُمَا (سمعا أَبَا هُرَيْرَة يَقُول: لِأَن أَجْلِس على جَمْرَة فتحرق مَا دون لحمي حَتَّى تُفْضِي إِلَى، أحب من أَن أَجْلِس على قَبره.
قَالَ عُثْمَان: فَرَأَيْت خَارِجَة بن زيد فِي الْمَقَابِر، فَذكرت لَهُ ذَلِك فَأخذ بيَدي) الحَدِيث، وَقد أخرج مُسلم حَدِيث أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا، فَقَالَ: حَدثنِي زُهَيْر بن حَرْب، قَالَ: حَدثنَا جرير عَن سُهَيْل عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ: قَالَ رَسُول لله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لِأَن يجلس أحدكُم على جَمْرَة فتحرق ثِيَابه فتخلص إِلَى جلده خير لَهُ من أَن يجلس على قبر) .
.

     وَقَالَ  بَعضهم: وروى الطَّحَاوِيّ من طَرِيق مُحَمَّد بن كَعْب، قَالَ: إِنَّمَا قَالَ أَبُو هُرَيْرَة: من جلس على قبر ليبول عَلَيْهِ، أَو يتغوط، فَكَأَنَّمَا جلس على جَمْرَة، لَكِن إِسْنَاده ضَعِيف.
قلت: سبخان الله مَا لهَذَا الْقَائِل من التعصبات الْبَارِدَة، فالطحاوي أخرج هَذَا عَن أبي هُرَيْرَة من طَرِيقين، أَحدهمَا هَذَا الَّذِي ذكره هَذَا الْقَائِل أخرجه عَن يُونُس بن عبد الْأَعْلَى شيخ مُسلم عَن عبد الله بن وهب عَن مُحَمَّد بن أبي حميد عَن مُحَمَّد بن كَعْب عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
وَالْآخر أخرجه عَن ابْن أبي دَاوُد عَن مُحَمَّد بن أبي بكر الْمقدمِي عَن سُلَيْمَان بن دَاوُد عَن مُحَمَّد بن أبي حميد ... إِلَى آخِره نَحوه، وَأخرجه عبد الله بن وهب وَالطَّيَالِسِي فِي مسنديهما، وَلم يذكر الطَّحَاوِيّ هَذَا الحَدِيث إِلَّا تَقْوِيَة لحَدِيث زيد بن ثَابت أخرجه عَن سُلَيْمَان بن شُعَيْب عَن الْحصيب عَن عَمْرو بن عَليّ عَن عُثْمَان بن حَكِيم عَن أبي أُمَامَة أَن زيد بن ثَابت، قَالَ: هَلُمَّ يَا ابْن أخي أخْبرك إِنَّمَا نهى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الْجُلُوس على الْقُبُور لحَدث غَائِط أَو بَوْل، وَرِجَاله ثِقَات، وَعَمْرو بن عَليّ هُوَ الفلاس شيخ الْجَمَاعَة، فَهَذَا الْقَائِل: هلا مَا أورد هَذَا الحَدِيث الصَّحِيح، وَأورد الحَدِيث الَّذِي هُوَ مُحَمَّد بن أبي حميد الْمُتَكَلّم فِيهِ، مَعَ أَنه ذكر الطَّحَاوِيّ هَذَا اسْتِشْهَادًا وتقوية، وَلَكِن إِنَّمَا ذكره هَذَا الْقَائِل حَتَّى يفهم أَن الطَّحَاوِيّ الَّذِي ينصر مَذْهَب الْحَنَفِيَّة إِنَّمَا يروي فِي هَذَا الْبابُُ الْأَحَادِيث الضعيفة، وَمن شدَّة تعصبه ذكر الحَدِيث فنسبه إِلَى أبي هُرَيْرَة، ولِمَ لَم يذكر فِيهِ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَة: قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فأبرزه فِي صُورَة الْمَوْقُوف، والْحَدِيث مَرْفُوع، وَتَحْقِيق الْكَلَام فِي هَذَا الْبابُُ مَا قَالَه الطَّحَاوِيّ: بابُُ الْجُلُوس على الْقُبُور: حَدثنَا يُونُس، قَالَ: حَدثنَا يحيى بن حسان، قَالَ: حَدثنَا صَدَقَة بن خَالِد عَن عبد الرَّحْمَن بن يزِيد بن جَابر عَن بسر بن عبيد الله عَن أبي إِدْرِيس الْخَولَانِيّ عَن وَاثِلَة بن الْأَسْقَع عَن أبي مرْثَد الغنوي، قَالَ: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: (لَا تصلوا إِلَى الْقُبُور وَلَا تجلسوا إِلَيْهَا) .
وَأخرج هَذَا الحَدِيث من أَربع طرق، وَأخرجه مُسلم وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ، وَاسم أبي مرْثَد: كناز بن الْحصين، وَأخرج أَيْضا من حَدِيث عَمْرو بن جزم قَالَ: (رأني رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على قبر فَقَالَ: إنزل عَن الْقَبْر فَلَا تؤذ صَاحب الْقَبْر وَلَا يُؤْذِيك) .
وَأخرجه أَحْمد فِي (مُسْنده) وَأخرجه أَيْضا من حَدِيث جَابر قَالَ: (نهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن تجصيص الْقُبُور وَالْكِتَابَة عَلَيْهَا وَالْجُلُوس عَلَيْهَا وَالْبناء عَلَيْهَا) .
وَأخرجه الْجَمَاعَة غير البُخَارِيّ.
وَأخرج أَيْضا من حَدِيث أبي هُرَيْرَة نَحْو رِوَايَة مُسلم عَنهُ، وَقد ذَكرْنَاهُ الْآن، ثمَّ قَالَ: فَذهب قوم إِلَى هَذِه الْآثَار وقلدوها وكرهوا من أجلهَا الْجُلُوس على الْقُبُور، وَأَرَادَ بالقوم: الْحسن الْبَصْرِيّ وَمُحَمّد بن سِيرِين وَسَعِيد بن جُبَير ومكحولاً وَأحمد وَإِسْحَاق وَأَبا سُلَيْمَان، ويروى ذَلِك أَيْضا عَن عبد الله وَأبي بكرَة وَعقبَة بن عَامر وَأبي هُرَيْرَة وَجَابِر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَإِلَيْهِ ذهب الظَّاهِرِيَّة.

     وَقَالَ  ابْن حزم فِي (الْمحلى) : وَلَا يحل لأحد أَن يجلس على قبر، وَهُوَ قَول أبي هُرَيْرَة وَجَمَاعَة من السّلف، ثمَّ قَالَ الطَّحَاوِيّ: وَخَالفهُم فِي ذَلِك آخَرُونَ فَقَالُوا: لم ينْه عَن ذَلِك لكَرَاهَة الْجُلُوس على الْقَبْر، وَلكنه أُرِيد بِهِ الْجُلُوس للغائط أَو الْبَوْل، وَذَلِكَ جَائِز فِي اللُّغَة، يُقَال: جلس فلَان للغائط وَجلسَ فلَان للبول، وَأَرَادَ بالآخرين: أَبَا حنيفَة ومالكا وَعبد الله بن وهب وَأَبا يُوسُف ومحمدا، وَقَالُوا: مَا رُوِيَ عَن النَّهْي مَحْمُول على مَا ذكرنَا، ويحكى ذَلِك عَن عَليّ بن أبي طَالب وَعبد الله بن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، ثمَّ قَالَ: وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِمَا حَدثنَا سُلَيْمَان بن شُعَيْب، وَقد ذَكرْنَاهُ عَن قريب، وَهُوَ حَدِيث زيد بن ثَابت، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، ثمَّ قَالَ: فَبين زيد فِي هَذَا الْجُلُوس الْمنْهِي عَنهُ فِي الأثار الأول مَا هُوَ ثمَّ رُوِيَ عَن أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَيْضا من طَرِيق ابْن يُونُس، وَطَرِيق ابْن أبي دَاوُد، وَقد ذكرناهما الْآن، ثمَّ قَالَ: فَثَبت بذلك أَن الْجُلُوس الْمنْهِي عَنهُ فِي الْآثَار الأول هُوَ هَذَا الْجُلُوس، يَعْنِي: للغائط وَالْبَوْل، فَأَما الْجُلُوس بِغَيْر ذَلِك فَلم يدْخل فِي ذَلِك النَّهْي، وَهَذَا قَول أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف وَمُحَمّد، رَحِمهم الله تَعَالَى.
قلت: فعلى هَذَا مَا ذكره أَصْحَابنَا فِي كتبهمْ من أَن وطأ الْقُبُور حرَام، وَكَذَا النّوم عَلَيْهَا، لَيْسَ كَمَا يَنْبَغِي.
فَإِن الطَّحَاوِيّ هُوَ أعلم النَّاس بمذاهب الْعلمَاء، وَلَا سِيمَا بِمذهب أبي حنيفَة.

وَقَالَ نافعٌ كانَ ابنُ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا يَجْلِسُ عَلَى القُبُورِ

هَذَا التَّعْلِيق وَصله الطَّحَاوِيّ: حَدثنَا عَليّ، قَالَ: حَدثنَا عبد الله بن صَالح، قَالَ: حَدثنِي بكير عَن عَمْرو عَن بكير، أَن نَافِعًا حَدثهُ: أَن عبد الله بن عمر كَانَ يجلس على الْقُبُور.
فَإِن قلت: روى ابْن أبي شيبَة بِإِسْنَاد صَحِيح عَنهُ قَالَ: لِأَن أَطَأ على رضف أحب إليَّ من أَن أَطَأ على قبر؟ قلت: ثَبت من فعله أَنه كَانَ يجلس على الْقُبُور، وَيحمل قَوْله: (لِأَن أَطَأ، على معنى: لِأَن أَطَأ لأجل الحَدِيث،.

     وَقَالَ  بَعضهم، بعد أَن أورد مَا أخرجه الطَّحَاوِيّ من أثر ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: وَلَا يُعَارض هَذَا مَا أخرجه ابْن أبي شيبَة، وَهُوَ الَّذِي ذَكرْنَاهُ الْآن، وَهُوَ من الْمسَائِل الْمُخْتَلف فِيهَا، وَورد فِيهَا من صَحِيح الحَدِيث مَا أخرجه مُسلم عَن أبي مرْثَد الغنوي مَرْفُوعا: (لَا تجلسوا على الْقُبُور وَلَا تصلوا إِلَيْهَا) قلت: لَيْت شعري كَيفَ يكون مَا ذكره من هَذَا جَوَابا لدفع الْمُعَارضَة وَالْجَوَاب مَا ذَكرْنَاهُ، ثمَّ قَالَ هَذَا الْقَائِل:.

     وَقَالَ  النَّوَوِيّ: المُرَاد بِالْجُلُوسِ الْقعُود عِنْد الْجُمْهُور،.

     وَقَالَ  مَالك: المُرَاد بالقعود الْحَدث وَهُوَ تَأْوِيل ضَعِيف أَو بَاطِل قلت: شدَّة التعصب يحمل صَاحبه على أَكثر من هَذَا، وَكَيف يَقُول النَّوَوِيّ: إِن تَأْوِيل مَالك بَاطِل وَهُوَ أعلم من النَّوَوِيّ؟ وَمثله بموارد الْأَحَادِيث والْآثَار؟.

     وَقَالَ  هَذَا الْقَائِل أَيْضا، بعد نَقله عَن النَّوَوِيّ: وَهُوَ يُوهم بانفراد مَالك بذلك، وَكَذَا أَوْهَمهُ كَلَام ابْن الْجَوْزِيّ، حَيْثُ قَالَ جُمْهُور الْفُقَهَاء على الْكَرَاهَة خلافًا لمَالِك، وَصرح النَّوَوِيّ فِي (شرح الْمُهَذّب) : أَن مَذْهَب أبي حنيفَة كالجمهور، وَلَيْسَ كَذَلِك، بل مَذْهَب أبي حنيفَة وَأَصْحَابه كَقَوْل مَالك لما نَقله عَنْهُم الطَّحَاوِيّ وَاحْتج لَهُ بأثر ابْن عمر الْمَذْكُور.
وَأخرج عَن عَليّ نَحوه.
قلت: الدَّعْوَى بِأَن الْجُمْهُور على الْكَرَاهَة غير مسلمة، لِأَن الْمُخَالف لَهُم: مَالك وَعبد الله بن وهب وَأَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمّد والطَّحَاوِي، وَمن الصَّحَابَة: عبد الله بن عمر وَعلي بن أبي طَالب، فَكيف يُقَال بِأَن الْجُمْهُور على الْكَرَاهَة وَنحن أَيْضا نقُول الْجُمْهُور على عدم الْكَرَاهَة، ثمَّ قَالَ هَذَا الْقَائِل: وَيُؤَيّد قَول الْجُمْهُور مَا أخرجه أَحْمد من حَدِيث عمر بن حزم الْأنْصَارِيّ مَرْفُوعا: (لَا تقعدوا على الْقُبُور) ، وَفِي رِوَايَة عَنهُ: (رَآنِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَنا متكىء على قبر، فَقَالَ: لَا تؤذ صَاحب الْقَبْر) ، إِسْنَاده صَحِيح، وَهُوَ دَال على أَن المُرَاد بِالْجُلُوسِ الْقعُود على حَقِيقَته.
قلت: المُرَاد من النَّهْي عَن الْقعُود على الْقُبُور، هُوَ النَّهْي عَن الْقعُود لأجل الْحَدث، حَتَّى ينْدَفع التَّعَارُض بَينه وَبَين مَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَة، وَلَا يلْزم من النَّهْي عَن الْقعُود على الْقَبْر لأجل الْحَدث نفي حَقِيقَة الْقعُود.



[ قــ :1307 ... غــ :1361 ]
- حدَّثنا يَحْيَى قَالَ حدَّثنا أبُو مُعَاوِيةَ عنِ الأعْمَشِ عنْ مُجَاهِدٍ عنْ طاوُسٍ عنِ ابنِ عبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنَّهُ مَرَّ بِقَبْرَيْنِ يُعَذَّبَانِ فَقَالَ إنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ أمَّا أحدُهُمَا لاَ يَسْتَتِرُ مِنَ البَوْلِ وَأمَّا الآخَرُ فكانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ ثُمَّ أخَذَ جَرِيدَةً رَطْبَةً فَشَقَّهَا بِنِصْفَيْنِ ثُمَّ غَرَزَ فِي كُلِّ قَبْرِ وَاحِدَةً فقالُوا يَا رسولَ الله لِمَ صَنَعتَ هاذَا فَقَالَ لَعَلَّهُ أنْ يخَفَّفَ عَنْهُمَا مَا لَمْ يَيْبَسَا..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (ثمَّ أَخذ جَرِيدَة.
.
) إِلَى آخِره، وَهَذَا الحَدِيث وَهَذَا الحَدِيث قد مضى فِي كتاب الْوضُوء فِي: بابُُ من الْكَبَائِر أَن لَا يسْتَتر من بَوْله، أخرجه هُنَاكَ: عَن عُثْمَان عَن جرير عَن مَنْصُور عَن مُجَاهِد عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: (مر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بحائط من حيطان الْمَدِينَة أَو مَكَّة فَسمع صَوت إنسانين يعذبان فِي قبورهما) الحَدِيث، غير أَن هُنَاكَ: عَن مُجَاهِد عَن ابْن عَبَّاس، وَهَهُنَا: عَن مُجَاهِد عَن طَاوُوس عَن ابْن عَبَّاس، وَكِلَاهُمَا صَحِيح، لِأَن مُجَاهدًا يروي عَن ابْن عَبَّاس وَعَن طَاوُوس أَيْضا، وَعكس الْكرْمَانِي فَقَالَ هَهُنَا: عَن مُجَاهِد عَن ابْن عَبَّاس، وَهُنَاكَ: عَن مُجَاهِد عَن طَاوُوس، وَهَذَا سَهْو مِنْهُ، وَشَيْخه هُنَاكَ يحيى، ذكره غير مَنْسُوب، فَقَالَ الغساني: قَالَ ابْن السكن: هُوَ يحيى بن مُوسَى،.

     وَقَالَ  الكلاباذي: سمع يحيى بن جَعْفَر أَبَا مُعَاوِيَة وَهُوَ مُحَمَّد بن خازم، بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة وَالزَّاي: الضَّرِير، وَبِه جزم أَبُو نعيم فِي (مستخرجه) أَنه يحيى بن جَعْفَر، وَجزم أَبُو مَسْعُود فِي (الْأَطْرَاف) : والحافظ الْمزي أَيْضا بِأَنَّهُ يحيى بن يحيى، وَمضى الْكَلَام فِي الحَدِيث هُنَاكَ مَبْسُوطا مُسْتَوفى.