فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب قول الله تعالى: {فأما من أعطى واتقى، وصدق بالحسنى، فسنيسره لليسرى، وأما من بخل واستغنى، وكذب بالحسنى، فسنيسره للعسرى} [الليل: 6] «اللهم أعط منفق مال خلفا»

( بابُُ قَوْلِ الله تَعَالَى: { فأمَّا مَنْ أعْطَى وَاتَّقَى وصَدَّقَ بِالحُسْنَى فسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وأمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} )

ذكر هَذِه الْآيَة الْكَرِيمَة هُنَا إِشَارَة إِلَى التَّرْغِيب فِي الأنفاق فِي وُجُوه الْبر، لِأَن الله تَعَالَى يُعْطِيهِ الْخلف فِي العاجل، وَالثَّوَاب الجزيل فِي الآجل، وَإِشَارَة إِلَى التهديد لمن يبخل وَيمْتَنع من الْإِنْفَاق فِي القربات.
وَفِي ( تَفْسِير الطَّبَرِيّ) : عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى: { فأمَّا من اعطى وَاتَّقَى} ( اللَّيْل: 5) .
قَالَ أعْطى مِمَّا عِنْده، وَصدق بالخلف من الله تَعَالَى، وَاتَّقَى ربه،.

     وَقَالَ  قَتَادَة: أعْطى حق الله تَعَالَى، وَاتَّقَى مَحَارمه الَّتِي نهى عَنْهَا.
.

     وَقَالَ  الضَّحَّاك: زكى وَاتَّقَى الله تَعَالَى.
قَوْله: { وصدَّق بِالْحُسْنَى} ( اللَّيْل: 5 01) .
يَعْنِي: قَالَ: لَا إِلَه إلاَّ الله، قَالَه الضَّحَّاك وَأَبُو عبد الرَّحْمَن وَابْن عَبَّاس، وَعَن مُجَاهِد: وَصدق بِالْحُسْنَى: بِالْجنَّةِ.
.

     وَقَالَ  قَتَادَة: صدق بموعود الله تَعَالَى على نَفسه، فَعمل بذلك الْمَوْعُود الَّذِي وعده، وَذكر الطَّبَرِيّ أَيْضا: أَن هَذِه الْآيَة نزلت فِي أبي بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَفِي ( الْمعَانِي) للفراء: نزلت فِي أبي بكر وَفِي أبي سُفْيَان.
.

     وَقَالَ  أَبُو اللَّيْث السَّمرقَنْدِي فِي ( تَفْسِيره) بأسناده عَن عبد الله بن مَسْعُود، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: أَن أَبَا بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، اشْترى بِلَالًا من أُميَّة بن خلف وَأبي بن خلف بِبُرْدَةٍ وَعشر أَوَاقٍ ذهب، فَأعْتقهُ لله تَعَالَى، فَأنْزل الله هَذِه السُّورَة: { وَاللَّيْل إِذا يغشى وَالنَّهَار إِذا تجلى وَمَا خلق الذّكر وَالْأُنْثَى إِن سعيكم لشتى} ( اللَّيْل: 1 4) .
يَعْنِي: سعي أبي بكر وَأُميَّة بن خلف.
{ فَأَما من أعْطى} ( اللَّيْل: 1 01) .
المَال.
{ وَاتَّقَى} ( اللَّيْل: 1 01) .
الشّرك.
{ وَصدق بِالْحُسْنَى} ( اللَّيْل: 1 01) .
يَعْنِي: بِلَا إِلَه إلاَّ الله.
{ فسنيسره لليسرى} ( اللَّيْل: 1 01) .
يَعْنِي الْجنَّة.
{ وَأما من بخل} ( اللَّيْل: 1 01) .
بِالْمَالِ.
{ وَاسْتغْنى وَكذب بِالْحُسْنَى} ( اللَّيْل: 1 01) .
يَعْنِي: بِلَا إِلَه إلاَّ الله.
{ فسنيسره للعسرى} ( اللَّيْل: 1 01) .
يَعْنِي: سنهون عَلَيْهِ أُمُور النَّار، يَعْنِي أُميَّة وأبيا إِذا مَاتَا.
وَقيل: فَأَما من أعْطى يَعْنِي: أَبَا الدحداح أعْطى من فضل مَاله.
وَقيل: الصدْق من قلبه.
وَقيل: حق الله وَاتَّقَى محارم الله الَّتِي نهي عَنْهَا، وَصدق بالحسني أَي: بِالْجنَّةِ، وَقيل: بوعد الله، وَقيل: بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاة وَالصَّوْم.
قَوْله: { وَاسْتغْنى} ( اللَّيْل: 1 01) .
يَعْنِي: عَن ثَوَاب الله تَعَالَى فَلم يرغب فِيهِ.
وَقيل: اسْتغنى بِمَالِه.
قَوْله: { فسنيسره للعسرى} ( اللَّيْل: 1 01) .
يَعْنِي الْعَمَل بِمَا لَا يرضى الله بِهِ.
وَقيل: سندخله جَهَنَّم.
وَقيل: للعود إِلَى الْبُخْل.

أللَّهُمَ أعْطِ مُنْفِقَ مالٍ خلَفا

قَالَ الْكرْمَانِي: وَجه ربطه بِمَا قبله أَنه مَعْطُوف على قَول الله تَعَالَى، وَحذف حرف الْعَطف جَائِز، وَهُوَ بَيَان للحسنى، فَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى أَن قَول الله تَعَالَى مُبين بِالْحَدِيثِ، يَعْنِي: تيسير الْيُسْرَى لَهُ إِعْطَاء الْخلف لَهُ، والْحَدِيث رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَة كَمَا يجيىء الْآن: قَالَ الْقُرْطُبِيّ: هُوَ مُوَافق لقَوْله تَعَالَى: { وَمَا أنفقتم من شَيْء فَهُوَ يخلفه} ( سبإ: 93) .



[ قــ :1385 ... غــ :1442 ]
- حدَّثنا إسْمَاعِيلُ قَالَ حدَّثني أخِي عنْ سُلَيْمَانَ عنْ مُعَاوِيَةَ بنِ أبِي مُزَرِّدٍ عنْ أبِي الحُبابُُِ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ العِبَادُ فِيهِ إلاَّ مَلَكَانِ يَنْزِلانِ فَيَقُولُ أحَدُهُمَا اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقا خَلَفا ويَقُولُ الآخَرُ ألَّلهُمَّ أعْطِ مُمْسِكا تَلَفا.

مطابقته لقَوْله: ( أللهم أعْط منفقَ مالٍ خلفا) ظَاهِرَة لِأَنَّهُ بَينه.

ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: إِسْمَاعِيل بن أبي أويس.
الثَّانِي: أَخُوهُ، وَهُوَ أَبُو بكر واسْمه عبد الحميد.
الثالت: سُلَيْمَان بن بِلَال.
الرَّابِع: مُعَاوِيَة بن أبي مزرد، بِضَم الْمِيم وَفتح الزَّاي وَكسر الرَّاء وَفِي آخِره دَال مُهْملَة: واسْمه عبد الرَّحْمَن.
الْخَامِس: أَبُو الْحبابُ، بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَتَخْفِيف الْبَاء الْمُوَحدَة الأولى، واسْمه سعيد بن يسَار ضد الْيَمين عَم مُعَاوِيَة الْمَذْكُور.
السَّادِس: أَبُو هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.

ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع.
وَفِيه: العنعنة فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع.
وَفِيه: أَن رُوَاته كلهم مدنيون.
وَفِيه: رِوَايَة الرجل عَن أَخِيه.
وَفِيه: رِوَايَة الرجل عَن عَمه.

ذكر من أخرجه غَيره: أخرجه مُسلم فِي الزَّكَاة عَن الْقَاسِم بن زَكَرِيَّا.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي عشرَة النِّسَاء عَن مُحَمَّد بن نصر، وَفِي الْمَلَائِكَة عَن عَبَّاس بن مُحَمَّد.

ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: ( من من يَوْم) ، وَفِي حَدِيث أبي الدَّرْدَاء: ( مَا من يَوْم طلعت فِيهِ الشَّمْس إلاَّ وبجنبتيها ملكان يناديان يسمعهما خلق الله كلهم إلاَّ الثقلَيْن: يَا أَيهَا النَّاس هلموا إِلَى ربكُم إِن مَا قل وَكفى خير مِمَّا كثر وألهى، وَلَا غربت شمسه إلاَّ وبجنبتيها ملكان يناديان يسمعان أهل الأَرْض إلاَّ الثقلَيْن: أللهم أعْط منفقا خلفا وَأعْطِ ممسكا مَالا تلفا) .
رَوَاهُ أَحْمد.
قَوْله: ( بجنبتيها) تَثْنِيَة: جنبة، بِفَتْح الْجِيم وَسُكُون النُّون وَهِي: النَّاحِيَة.
قَوْله: ( مَا من يَوْم) يَعْنِي: لَيْسَ من يَوْم، وَكلمَة: من، زَائِدَة، و: يَوْم، اسْمه.
وَقَوله: ( يصبح الْعباد فِيهِ) صفة يَوْم.
وَقَوله: ( إلاَّ ملكان) مُسْتَثْنى من مُتَعَلق مَحْذُوف، وَهُوَ خبر: مَا، الْمَعْنى: لَيْسَ يَوْم مَوْصُوف بِهَذَا الْوَصْف ينزل فِيهِ أحد إلاَّ ملكان يَقُولَانِ كَيْت وَكَيْت، فَحذف الْمُسْتَثْنى مِنْهُ وَدلّ عَلَيْهِ بِوَصْف: الْملكَانِ ينزلان، وَنَظِيره فِي مَجِيء الْمَوْصُوف مَعَ الصّفة بُعد إلاَّ فِي الِاسْتِثْنَاء المفرغ، قَوْلك: مَا أخْبرت مِنْكُم أحدا إلاَّ رَفِيقًا.
قَوْله: ( خلفا) بِفَتْح اللَّام أَي: عوضا.
يُقَال أخلف الله عَلَيْك خلفا أَي: عوضا أَي: أبدلك بِمَا ذهب مِنْك.
قَوْله: ( أعطِ ممسكا تلفا) التَّعْبِير بِالْعَطِيَّةِ هُنَا من قبيل المشاكلة، لِأَن التّلف لَيْسَ بعطية.

ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: أَنه مُوَافق لقَوْله تَعَالَى: { وَمَا أنفقتم من شَيْء فَهُوَ يخلفه} ( سبإ: 93) .
وَلقَوْله: ( ابْن آدم أنْفق أنْفق عَلَيْك) ، وَهَذَا يعم الْوَاجِب وَالْمَنْدُوب.
وَفِيه: أَن الممسك يسْتَحق تلف مَاله، وَيُرَاد بِهِ الْإِمْسَاك عَن الْوَاجِبَات دون المندوبات، فَإِنَّهُ قد لَا يسْتَحق هَذَا الدُّعَاء، اللَّهُمَّ إلاَّ أَن يغلب عَلَيْهِ الْبُخْل بهَا، وَإِن قلت فِي نَفسهَا كالحبة واللقمة وَنَحْوهمَا.
وَفِيه: الحض على الْإِنْفَاق فِي الْوَاجِبَات كَالنَّفَقَةِ على الْأَهْل وصلَة الرَّحِم، وَيدخل فِيهِ صَدَقَة التَّطَوُّع وَالْفَرْض.
وَفِيه: دُعَاء الْمَلَائِكَة، وَمَعْلُوم أَنه مجاب بِدَلِيل قَوْله: ( من وَافق تأمينه تَأْمِين الْمَلَائِكَة غفر لَهُ مَا تقدم من ذَنبه) .