فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب من أعطاه الله شيئا من غير مسألة ولا إشراف نفس {وفي أموالهم حق للسائل والمحروم} [الذاريات: 19]

( بابُُ مَنْ أعْطَاهُ الله شَيْئا مِنْ غَيْرِ مَسْئلَةٍ وَلاَ إشْرَافِ نَفْسٍ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان حكم من أعطَاهُ الله.
.
إِلَى آخِره، وَجَوَاب الشَّرْط مَحْذُوف تَقْدِيره: فليقبل، وَهَذَا هُوَ الحكم، وَإِنَّمَا حذفه اكْتِفَاء بِمَا دلّ عَلَيْهِ فِي حَدِيث الْبابُُ،.

     وَقَالَ  بَعضهم: وَإِنَّمَا حذفه للْعلم بِهِ وَفِيه نظر، لِأَن مُرَاده إِن كَانَ علمه من الْخَارِج فَلَا نسلم أَنه يُعلمهُ مِنْهُ، وَإِن كَانَ من الحَدِيث فَلَا يُقَال إلاَّ بِمَا قُلْنَا لِأَنَّهُ الْأَوْجه والأسد.
قَوْله: ( من غير مَسْأَلَة) أَي: من غير سُؤال، وَالْمَسْأَلَة مصدر ميمي من سَأَلَ.
قَوْله: ( وَلَا إشراف) ، بِكَسْر الْهمزَة وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة، وَهُوَ التَّعَرُّض للشَّيْء والحرص عَلَيْهِ من قَوْلهم: أشرف على كَذَا إِذا تطاول لَهُ، وَمِنْه قيل للمكان المتطاول: شرف.

{ وَفِي أمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ والمَحْرُومِ} ( الذاريات: 91، المعارج: 42 و 52) .

لَيْسَ هَذَا بموجود عِنْد أَكثر الروَاة، وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي الْآيَة مُقَدّمَة على قَوْله: من أعطَاهُ الله شَيْئا.
.

     وَقَالَ  صَاحب ( التَّلْوِيح) : بابُُ فِي قَوْله تَعَالَى: { وَفِي أَمْوَالهم حق للسَّائِل والمحروم} ( الذاريات: 91، المعارج: 42 و 52) .
وَكَذَا فِي نُسْخَة، وَفِي أُخْرَى: بابُُ من أعطَاهُ الله ... إِلَى آخِره، وَكَأَنَّهُ أليق بِالْحَدِيثِ.
قَوْله: { وَفِي أَمْوَالهم} ( الذاريات: 91، المعارج: 42 و 52) .
أَي: وَفِي أَمْوَال الْمُتَّقِينَ الْمَذْكُورين قبل هَذِه الْآيَة وَهِي قَوْله: { إِن الْمُتَّقِينَ فِي جنَّات وعيون آخذين مَا آتَاهُم رَبهم إِنَّهُم كَانُوا قبل ذَلِك محسنين كَانُوا قَلِيلا من اللَّيْل مَا يهجعون وبالأسحار هم يَسْتَغْفِرُونَ وَفِي أَمْوَالهم حق للسَّائِل والمحروم} ( الذاريات: 51 91) .
والسائل هُوَ الَّذِي يسْأَل النَّاس ويستجدي، والمحروم الَّذِي يحْسب غَنِيا فَيحرم الصَّدَقَة لتعففه.
وَقيل: المحروم المحارف الَّذِي لَيْسَ لَهُ فِي الْإِسْلَام سهم، وَقيل: المحارف الَّذِي لَا يكَاد يكْسب، وَعَن عِكْرِمَة: المحروم الَّذِي لَا ينمى لَهُ مَال، وَعَن زيد بن أسلم: هُوَ الْمُصَاب بثمره وزرعه أَو مَاشِيَته.
.

     وَقَالَ  مُحَمَّد بن كَعْب الْقرظِيّ: هُوَ صَاحب الْحَاجة، والمحارف، بِفَتْح الرَّاء: المنقوص الْحَظ الَّذِي لَا يُثمر لَهُ مَال، وَهُوَ خلاف الْمُبَارك، والعوام بِكَسْر الرَّاء، وَاسْتدلَّ بِهَذِهِ الْآيَة الْكَرِيمَة جمَاعَة من التَّابِعين، وَمن الصَّحَابَة أَبُو ذَر على أَن فِي المَال حَقًا غير الزَّكَاة.
.

     وَقَالَ  الْجُمْهُور: المُرَاد من الْحق هُوَ الزَّكَاة، وَاحْتَجُّوا على ذَلِك بِأَحَادِيث: مِنْهَا: حَدِيث الْأَعرَابِي فِي ( الصَّحِيح) ( هَل عَليّ غَيرهَا؟ قَالَ: لَا إلاَّ إِن تطوع) فَإِن قلت: روى مُسلم من حَدِيث أبي سعيد، قَالَ: ( بَينا نَحن مَعَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي سفر إِذْ جَاءَ رجل على رَاحِلَته، فَجعل يصرفهَا يَمِينا وَشمَالًا، فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: من كَانَ لَهُ فضل ظهر فليعد بِهِ على من لَا ظهر لَهُ، وَمن كَانَ عِنْده فضل زَاد فليعد بِهِ على من لَا زَاد لَهُ، حَتَّى ظننا أَنه لَا حق لأحد منا فِي الْفضل) .
فَفِيهِ: إِيجَاب إِنْفَاق الْفضل من الْأَمْوَال.
قلت: الْأَمر بإنفاق الْفضل أَمر إرشاد وَندب إِلَى الْفضل، وَقيل: كَانَ ذَلِك قبل نزُول فرض الزَّكَاة، وَنسخ بهَا كَمَا نسخ صَوْم عَاشُورَاء بِصَوْم رَمَضَان، وَعَاد ذَلِك فضلا وفضيلة بَعْدَمَا كَانَ فَرِيضَة.



[ قــ :1415 ... غــ :1473 ]
- حدَّثنا يَحْيى بنُ بُكَيْرٍ قَالَ حدَّثنا اللَّيْثُ عنْ يُونُسَ عنِ الزُّهْرِيِّ عنْ سالِمٍ أنَّ عَبْدَ الله بنَ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ سَمِعْتُ عُمَرَ يَقُولُ كانَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُعْطِيني العَطَاءَ فأقُولُ أعْطِهِ مَنْ هُوَ أفْقَرُ إليْهِ مِنِّي فَقَالَ خُذْهُ إذَا جاءَكَ مِنْ هاذا المالِ شَيءٌ وأنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ وَلاَ سائِلٍ فَخُذْهُ وَما لاَ فَلاَ تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ.

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: ( خُذْهُ إِذا جَاءَك من هَذَا المَال وَأَنت غير مشرف وَلَا سَائل) ، وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، وَيُونُس وَالزهْرِيّ قد ذكرا فِي سَنَد حَدِيث الْبابُُ السَّابِق، وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْأَحْكَام عَن أبي الْيَمَان الحكم ابْن نَافِع عَن شُعَيْب.
وَأخرجه مُسلم فِي الزَّكَاة عَن هَارُون بن مَعْرُوف وحرملة بن يحيى، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن عَمْرو بن مَنْصُور.

ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: ( فَأَقُول: أعْطه من هُوَ أفقر مني) ، زَاد فِي رِوَايَة شُعَيْب عَن الزُّهْرِيّ الْآتِيَة فِي الْأَحْكَام: ( حَتَّى أَعْطَانِي مرّة مَالا فَقلت: أعْطه أفقر إِلَيْهِ مني، فَقَالَ: خُذْهُ فتموله وَتصدق بِهِ) .
وَذكر شُعَيْب فِيهِ عَن الزُّهْرِيّ إِسْنَادًا آخر، قَالَ: أَخْبرنِي السَّائِب بن يزِيد أَن حويطب بن عبد الْعُزَّى أخبرهُ أَن عبد الله بن السَّعْدِيّ أخبرهُ أَنه قدم على عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فِي خِلَافَته، فَذكر قصَّة فِيهَا هَذَا الحَدِيث، والسائب وَمن فَوْقه صحابة فَفِيهِ أَرْبَعَة من الصَّحَابَة فِي نسق.
قَوْله: ( إِذا جَاءَك) شَرط وجزاؤه قَوْله: ( فَخذه) ، وَأطلق الْأَخْذ أَولا بِالْأَمر، وعلق ثَانِيًا بِالشّرطِ، فَحمل الْمُطلق على الْمُقَيد.
قَوْله: ( وَأَنت غير مشرف) ، جملَة إسمية وَقعت حَالا، وَقد مضى تَفْسِير الإشراف.
قَوْله: ( وَمَا لَا) أَي: وَمَا لَا يكون كَذَلِك بِأَن لَا يَجِيء إِلَيْك وتميل نَفسك إِلَيْهِ ( فَلَا تتبعه نَفسك) فِي الطّلب واتركه.

ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: قَالَ الطَّبَرِيّ: اخْتلف الْعلمَاء فِي قَوْله: ( فَخذه) بعد إِجْمَاعهم على أَنه أَمر ندب وإرشاد.
فَقَالَ بَعضهم: هُوَ ندب لكل من أعطي عَطِيَّة أَن يقبلهَا سَوَاء كَانَ الْمُعْطِي سُلْطَانا أَو غَيره، صَالحا كَانَ أَو فَاسِقًا، بعد أَن كَانَ مِمَّن تجوز عطيته.
رُوِيَ ( عَن أبي هُرَيْرَة أَنه قَالَ: مَا أحد يهدي إِلَيّ هَدِيَّة إلاَّ قبلتها، فَأَما أَن أسأَل، فَلَا) وَعَن أبي الدَّرْدَاء مثله، وَقبلت عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، من مُعَاوِيَة.
.

     وَقَالَ  حبيب بن أبي ثَابت: رَأَيْت هَدَايَا الْمُخْتَار تَأتي ابْن عمر وَابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، فيقبلانها،.

     وَقَالَ  عُثْمَان بن عَفَّان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، جوائز السُّلْطَان لحم ظَبْي زكي، وَبعث سعيد بن الْعَاصِ إِلَى عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، بِهَدَايَا فقبلها،.

     وَقَالَ : خُذ مَا أعطوك.
وَأَجَازَ مُعَاوِيَة الْحُسَيْن بأربعمائة ألف، وَسُئِلَ أَبُو جَعْفَر مُحَمَّد بن عَليّ بن الْحُسَيْن عَن هَدَايَا السُّلْطَان، فَقَالَ: إِن علمت أَنه من غصب وسحت فَلَا تقبله، وَإِن لم تعرف ذَلِك فاقبله، ثمَّ ذكر قصَّة بَرِيرَة،.

     وَقَالَ  الشَّارِع: هُوَ لنا هَدِيَّة،.

     وَقَالَ : مَا كَانَ من مأثم فَهُوَ عَلَيْهِم، وَمَا كَانَ من مهنأ فَهُوَ لَك، وَقبلهَا عَلْقَمَة وَالْأسود وَالنَّخَعِيّ وَالْحسن وَالشعْبِيّ.
.

     وَقَالَ  آخَرُونَ: بل ذَلِك ندب مِنْهُ أمته إِلَى قبُول عَطِيَّة غير ذِي سُلْطَان، فَأَما السُّلْطَان فَإِن بَعضهم كَانَ يَقُول: حرَام قبُول عطيته، وَبَعْضهمْ كرهها، وَرُوِيَ أَن خَالِد بن أسيد أعْطى مسروقا ثَلَاثِينَ ألفا فَأبى أَن يقبلهَا.
فَقيل لَهُ: لَو أَخَذتهَا فوصلت بهَا رَحِمك؟ فَقَالَ: أَرَأَيْت لَو أَن لصا نقب بَيْتا مَا أُبَالِي أَخَذتهَا أَو أخذت ذَلِك، وَلم يقبل ابْن سِيرِين وَلَا ابْن محيريز من السُّلْطَان،.

     وَقَالَ  هِشَام بن عُرْوَة: بعث إِلَيّ عبد الله ابْن الزبير، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، وَإِلَى أخي بِخَمْسِمِائَة دِينَار، فَقَالَ أخي: درها فَمَا أكلهَا أحد وَهُوَ غَنِي عَنْهَا إلاَّ أحوجه الله إِلَيْهَا.
.

     وَقَالَ  ابْن الْمُنْذر: كره جوائز السُّلْطَان مُحَمَّد بن وَاسع وَالثَّوْري وَابْن الْمُبَارك وَأحمد.
.

     وَقَالَ  آخَرُونَ: بل ذَلِك ندب إِلَى قبُول هَدِيَّة السُّلْطَان دون غَيره، وَرُوِيَ عَن عِكْرِمَة قَالَ: إِنَّا لَا نقبل إلاَّ من الْأُمَرَاء.
.

     وَقَالَ  الطَّبَرِيّ: وَالصَّوَاب عِنْدِي أَنه ندب مِنْهُ إِلَى قبُول عَطِيَّة كل معط جَائِزَة لسلطان كَانَت أَو غَيرهَا لحَدِيث عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فندبه إِلَى قبُول كل مَا آتَاهُ الله من المَال من جَمِيع وجوهه من غير تَخْصِيص سوى مَا اسْتَثْنَاهُ، وَذَلِكَ مَا جَاءَ بِهِ من وَجه حرَام عَلَيْهِ، وَعلم بِهِ.

وَوجه من رد أَنه إِنَّمَا كَانَ على من كَانَ الْأَغْلَب من أمره أَنه لَا يَأْخُذ المَال من وَجهه، فَرَأى أَن الأسلم لدينِهِ وَالْإِبْرَاء لعرضه تَركه، وَلَا يدْخل فِي ذَلِك مَا إِذا علم حرمته.
وَوجه من قبل مِمَّن لم يبال من أَيْن أَخذ المَال وَلَا فِيمَا وَضعه أَنه يَنْقَسِم ثَلَاثَة أَقسَام: مَا علم حلّه يَقِينا فَلَا يسْتَحبّ رده، وَعَكسه فَيحرم قبُوله، وَمَا لَا فَلَا يُكَلف الْبَحْث عَنهُ، وَهُوَ فِي الظَّاهِر أولى بِهِ من غَيره مَا لم يسْتَحق.

وَأما مبايعة من يخالط مَاله الْحَرَام وَقبُول هداياه فكره ذَلِك قوم وَأَجَازَهُ آخَرُونَ.
فَمِمَّنْ كرهه: عبد الله بن يزِيد وَأَبُو وَائِل وَالقَاسِم وَسَالم، وَرُوِيَ أَنه توفيت مولاة لسالم كَانَت تبيع الْخمر بِمصْر فَترك مِيرَاثهَا أَيْضا.
.

     وَقَالَ  مَالك: قَالَ عبد الله بن يزِيد بن هُرْمُز: إِنِّي لَا أعجب مِمَّن يرْزق الْحَلَال ويرغب فِي الرِّبْح فِيهِ الشَّيْء الْيَسِير من الْحَرَام فَيفْسد المَال كُله، وَكره الثَّوْريّ المَال الَّذِي يخالطه الْحَرَام، وَمِمَّنْ أجَازه ابْن مَسْعُود، رُوِيَ عَنهُ أَن رجلا سَأَلَهُ فَقَالَ فِي جَار: لَا يتورع من أكل الرِّبَا وَلَا من أَخذ مَا لَا يصلح، وَهُوَ يَدْعُونَا إِلَى طَعَامه وَتَكون لنا الْحَاجة فنستقرضه؟ فَقَالَ: أجبه إِلَى طَعَامه واستقرضه، فَلَكَ المهنأ وَعَلِيهِ المأثم، وَسُئِلَ ابْن عمر عَن رجل أكل طَعَام من يَأْكُل الرِّبَا فَأَجَازَهُ، وَسُئِلَ النَّخعِيّ عَن الرجل يَأْتِي المَال من الْحَلَال وَالْحرَام، قَالَ: لَا يحرم عَلَيْهِ إلاَّ الْحَرَام بِعَيْنِه.
وَعَن سعيد بن جُبَير أَنه، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، مر بالعشَّارين وَفِي أَيْديهم شماريخ، فَقَالَ: ناولونيها من سحتكم هَذَا إِنَّه حرَام عَلَيْكُم وعلينا حَلَال.
وَأَجَازَ الْبَصْرِيّ طَعَام العشار والضراب وَالْعَامِل وَعَن مَكْحُول وَالزهْرِيّ: إِذا اخْتَلَط الْحَرَام والحلال فَلَا بَأْس بِهِ فَإِنَّمَا يكره من ذَلِك شَيْء يعرف بِعَيْنِه، وَأَجَازَهُ ابْن أبي ذِئْب،.

     وَقَالَ  ابْن الْمُنْذر: وَاحْتج من رخص فِيهِ بِأَن الله تَعَالَى ذكر الْيَهُود، فَقَالَ: { سماعون للكذب أكالون للسحت} ( الْمَائِدَة: 24) .
وقدرهن الشَّارِع درعه عِنْد يَهُودِيّ،.

     وَقَالَ  الطَّبَرِيّ فِي إِبَاحَة الله تَعَالَى أَخذ الْجِزْيَة من أهل الْكتاب مَعَ علمه بِأَن أَكثر أَمْوَالهم أَثمَان الْخُمُور والخنازير، وهم يتعاملون بالربا أبين الدّلَالَة على أَن من كَانَ من أهل الْإِسْلَام بِيَدِهِ مَال لَا يدْرِي أَمن حرَام كَسبه أَو من حَلَال؟ فَإِنَّهُ لَا يحرم قبُوله لمن أعطَاهُ، وَإِن كَانَ مِمَّن لَا يُبَالِي اكْتَسبهُ من غير حلّه بعد أَن لَا يعلم أَنه حرَام بِعَيْنِه، وَبِنَحْوِ ذَلِك قَالَت الْأَئِمَّة من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ، وَمن كرهه فَإِنَّمَا ركب فِي ذَلِك طَرِيق الْوَرع وتجنب الشُّبُهَات والاستبراء لدينِهِ.

وَمن فَوَائِد الحَدِيث الْمَذْكُور أَن للْإِمَام أَن يُعْطي الرجل وَغَيره أحْوج إِلَيْهِ مِنْهُ إِذا رأى لذَلِك وَجها، وَأَن مَا جَاءَ من المَال الْحَلَال من غير سُؤال فَإِن أَخذه خير من تَركه، وَإِن رد عَطاء الإِمَام لَيْسَ من الْأَدَب،.

     وَقَالَ  النَّوَوِيّ: اخْتلفُوا فِيمَن جَاءَهُ مَال: هَل يجب قبُوله؟ الصَّحِيح الْمَشْهُور أَنه يسْتَحبّ فِي غير عَطِيَّة السُّلْطَان، وَأما عطيته فَالصَّحِيح أَنه إِن غلب الْحَرَام فِيمَا فِي يَده فَحَرَام، وإلاَّ فمباح.

     وَقَالَ ت طَائِفَة: الْأَخْذ وَاجِب من السُّلْطَان لقَوْله تَعَالَى: { وَمَا آتَاكُم الرَّسُول فَخُذُوهُ} ( الْحَشْر: 7) .
فَإِذا لم يَأْخُذهُ فَكَأَنَّهُ لم يأتمر.
.

     وَقَالَ  الطَّحَاوِيّ: لَيْسَ معنى هَذَا الحَدِيث فِي الصَّدقَات، وَإِنَّمَا هُوَ فِي الْأَمْوَال الَّتِي يقسمها الإِمَام على أَغْنِيَاء النَّاس وفقرائهم، فَكَانَت تِلْكَ الْأَمْوَال يعطاها النَّاس لَا من جِهَة الْفقر، وَلَكِن من حُقُوقهم فِيهَا، فكره رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لعمر حِين أعطَاهُ قَوْله: ( أعْطه من هُوَ أفقر إِلَيْهِ مني) لِأَنَّهُ إِنَّمَا أعطَاهُ لِمَعْنى غير الْفقر، ثمَّ قَالَ لَهُ: خُذْهُ فتموله، كَذَا رَوَاهُ شُعَيْب عَن الزُّهْرِيّ، فَدلَّ أَن ذَلِك لَيْسَ من أَمْوَال الصَّدقَات، لِأَن الْفَقِير لَا يَنْبَغِي أَن يَأْخُذهُ من الصَّدقَات مَا يَتَّخِذهُ مَالا كَانَ عَن مَسْأَلَة أَو غير مَسْأَلَة.