فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب أخذ الصدقة من الأغنياء وترد في الفقراء حيث كانوا

( بابُُ أخْذِ الصَّدَقَةِ مِن الأغْنِيَاءِ وتُرَدُّ فِي الفُقرَاءِ حَيْثُ كَانُوا)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان أَخذ الصَّدَقَة، أَي: الزَّكَاة، من الْأَغْنِيَاء، فَإِذا أخذت مَا يكون حكمهَا أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله: ( وَترد فِي الْفُقَرَاء) وَترد، بِنصب الدَّال بِتَقْدِير: أَن، ليَكُون فِي حكم الْمصدر، وَيكون التَّقْدِير: وَأَن ترد، أَي: وَالرَّدّ فِي الْفُقَرَاء حَاصله: بابُُ فِي أَخذ الصَّدَقَة، وَفِي ردهَا فِي الْفُقَرَاء حَيْثُ كَانَ الْفُقَرَاء.
قَوْله: ( حَيْثُ كَانُوا) ، يشْعر بِأَنَّهُ اخْتَار جَوَاز نقل الزَّكَاة من بلد إِلَى بلد، وَفِيه خلاف، فَعَن اللَّيْث بن سعد وَأبي حنيفَة وَأَصْحَابه جَوَازه، وَنَقله ابْن الْمُنْذر عَن الشَّافِعِي وَاخْتَارَهُ، وَالأَصَح عِنْد الشَّافِعِيَّة والمالكية ترك النَّقْل، فَلَو نقل أَجْزَأَ عِنْد الْمَالِكِيَّة على الْأَصَح، وَلم يجزىء عِنْد الشَّافِعِيَّة على الْأَصَح إلاَّ إِذا فقد المستحقون لَهَا.
.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: الظَّاهِر أَن غَرَض البُخَارِيّ بَيَان الِامْتِنَاع، أَي: ترد على فُقَرَاء أُولَئِكَ الْأَغْنِيَاء، أَي: فِي مَوضِع وجد لَهُم الْفُقَرَاء، وإلاَّ جَازَ النَّقْل، وَيحْتَمل أَن يكون غَرَضه عَكسه.
قلت: لَيْسَ الظَّاهِر مَا قَالَه، فَإِنَّهُ قَالَ: ترد حَيْثُ كَانُوا، أَي: الْفُقَرَاء، وَهُوَ أَعم من أَن يَكُونُوا فِي مَوضِع كَانَ فِيهِ الْأَغْنِيَاء أَو فِي غَيره، فالعجب مِنْهُ الْعَكْس حَيْثُ جعل الِامْتِنَاع ظَاهرا وَهُوَ مُحْتَمل، وَجعل الظَّاهِر عكسا.
فَافْهَم، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى فِي حَدِيث معَاذ فِي أَوَائِل الزَّكَاة.



[ قــ :1437 ... غــ :1496 ]
- حدَّثنا مُحَمَّدٌ قَالَ أخبرنَا عَبْدُ الله قَالَ أخبرنَا زَكَرِيَّاءُ بنُ إسْحَاقَ عنْ يَحْيَى بنِ عَبْدِ الله ابنِ صَيْفِيٍ ّ عنْ أبِي مَعْبَدٍ مَوْلَى ابنِ عَبَّاسٍ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا.
قَالَ قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِمُعَاذِ بنِ جَبَلٍ حِينَ بَعثَهُ إِلَى اليَمَنُ إنَّكَ سَتأتِي قَوْما أهْلَ كِتَابٍ فإذَا جِئْتُهمْ فادْعُهُمْ إلَى أنْ يَشْهَدُوا أنْ لَا إلاهَ إلاَّ الله وَأَن مُحَمَّدا رسُولَ الله فإنْ هُمْ أطَاعُوا لَكَ بِذالِكَ فأخْبِرْهُمْ أنَّ الله قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَومٍ ولَيْلَةٍ فإنْ هُمْ أطَاعُوا لَكَ بِذالِكَ فأخْبِرْهُمْ أنَّ الله قَدْ فَرَضَ علَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أغْنِيَائهِمْ فَتُرَدُّ عَلىَ فُقَرَائِهِمْ فإنْ هُمْ أطَاعُوا لَكَ بِذالِكَ فإيَّاكَ وَكَرَائِمَ أمْوالِهِم وَاتَّقِ دَعْوَةَ المَظْلُومِ فإنَّهُ ليْسَ بَيْنَهُ وبيْنَ الله حِجَابٌ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: ( تُؤْخَذ من أغنيائهم فَترد على فقرائهم) ، وَهَذَا الحَدِيث قد مضى فِي أول: بابُُ وجوب الزَّكَاة، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن أبي عَاصِم الضَّحَّاك بن مخلد عَن زَكَرِيَّاء بن إِسْحَاق.
.
إِلَى آخِره، وَهنا أخرجه عَن مُحَمَّد بن مقَاتل عَن عبد الله بن الْمُبَارك ... إِلَى آخِره، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ مستقصىً، وَهَهُنَا زِيَادَة، وَهِي قَوْله: ( فإياك وكرائم أَمْوَالهم وَاتَّقِ دَعْوَة الْمَظْلُوم) إِلَى آخِره، ولنذكر هُنَا مَا لم نذكرهُ هُنَاكَ.
فَقَوله: ( عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِمعَاذ حِين بَعثه إِلَى الْيمن) ، هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيع الطّرق إلاَّ مَا أخرجه مُسلم عَن أبي بكر بن أبي شيبَة، وَأبي كريب وَإِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم ثَلَاثَتهمْ عَن وَكِيع، فَقَالَ فِيهِ: عَن ابْن عَبَّاس ( عَن معَاذ بن جبل، قَالَ: بَعَثَنِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى الْيمن) فعلى هَذَا فَهُوَ من مُسْند معَاذ، وَسَائِر الرِّوَايَات غير هَذِه من مُرْسل ابْن عَبَّاس.
وَأخرجه التِّرْمِذِيّ عَن أبي كريب عَن وَكِيع عَن ابْن عَبَّاس أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بعث معَاذًا، وَكَذَا أخرجه إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه عَن وَكِيع نَحوه، وَكَذَا رَوَاهُ أَحْمد فِي ( مُسْنده) عَن وَكِيع، وَأخرجه عَنهُ أَبُو دَاوُد، وَأخرجه البُخَارِيّ فِي الْمَظَالِم عَن يحيى بن مُوسَى عَن وَكِيع كَذَلِك.
وَأخرجه ابْن خُزَيْمَة فِي ( صَحِيحه) عَن مُحَمَّد بن عبد الله المَخْزُومِي، وجعفر بن مُحَمَّد الثَّعْلَبِيّ والإسماعيلي من طَرِيق أبي خَيْثَمَة، ومُوسَى بن المسندي وَالدَّارَقُطْنِيّ من طَرِيق يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم الدَّوْرَقِي، وَإِسْحَاق ابْن إِبْرَاهِيم الْبَغَوِيّ، كلهم عَن وَكِيع كَذَلِك، وَلَا يستبعد حُضُور ابْن عَبَّاس لذَلِك لِأَنَّهُ كَانَ فِي أَوَاخِر حَيَاة النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهُوَ إِذْ ذَاك مَعَ أَبَوَيْهِ.

قَوْله: ( ستأتي قوما) تَوْطِئَة للْوَصِيَّة ليقوي همته عَلَيْهَا لكَون أهل الْكتاب أهل علم فِي الْجُمْلَة فَلذَلِك خصهم بِالذكر تَفْضِيلًا لَهُم على غَيرهم.
قَوْله: ( أهل كتاب) ، بدل لَا صفة، وَكَانَ فِي الْيمن أهل الذِّمَّة وَغَيرهم.
وَحكى ابْن إِسْحَاق فِي أول ( السِّيرَة) : إِن أصل دُخُول الْيَهُود فِي الْيمن فِي زمن أسعد أبي كرب، وَهُوَ تبع الْأَصْفَر.
قَوْله: ( فَإِذا جئتهم) إِنَّمَا ذكر لَفْظَة: إِذا، دون: أَن، تفاؤلاً بِحُصُول الْوُصُول إِلَيْهِم.
قَوْله: ( فادعهم إِلَى شَهَادَة أَن لَا إلاهَ إلاَّ الله وَأَن مُحَمَّدًا رَسُول الله) ، كَذَا فِي رِوَايَة زَكَرِيَّا بن إِسْحَاق لم يخْتَلف عَلَيْهِ فِيهَا، وَفِي رِوَايَة روح بن الْقَاسِم عَن إِسْمَاعِيل بن أُميَّة: ( فَأول مَا تدعوهم إِلَيْهِ عبَادَة الله تَعَالَى، فَإِذا عرفُوا الله) .
وَفِي رِوَايَة الْفضل بن الْعَلَاء عَنهُ: ( إِلَى أَن يوحدوا الله، وَإِذا عرفُوا ذَلِك) .
قَوْله: ( فَإِن هم أطاعوا لَك بذلك) أَي: شهدُوا وانقادوا، وَفِي رِوَايَة ابْن خُزَيْمَة: ( فَإِن هم أجابوا لذَلِك) ، وَفِي رِوَايَة الْفضل ابْن الْعَلَاء: ( فَإِذا عرفُوا ذَلِك) ، وَإِنَّمَا عدى: أطاعوا، بِاللَّامِ وَإِن كَانَ يتَعَدَّى بِنَفسِهِ لتَضَمّنه معنى: انقادوا قَوْله ( فإياك) كلمة تحذير ( وكرائم) مَنْصُوب بِفعل مُضْمر لَا يجوز إِظْهَاره قَالَ ابْن قُتَيْبَة وَلَا يجوز حذف الْوَاو، أما عدم جَوَاز إِظْهَار الْفِعْل فللقرينة الدَّالَّة عَلَيْهِ ولطول الْكَلَام، وَقيل: لِأَن مثل هَذَا يُقَال عِنْد تَشْدِيد الْخَوْف، وَأما عدم جَوَاز حذف الْوَاو لِأَنَّهَا حرف عطف، فيختل الْكَلَام بحذفه، والكرائم جمع: كَرِيمَة وَهِي النفيسة.
قَوْله: ( وَاتَّقِ دَعْوَة الْمَظْلُوم) أَي: تجنب الظُّلم لِئَلَّا يَدْعُو عَلَيْك الْمَظْلُوم، وَقيل: هُوَ تذييل لاشْتِمَاله على الظُّلم الْخَاص وَهُوَ أَخذ الكرائم وعَلى غَيره.
قَوْله: ( فَإِنَّهُ) أَي: فَإِن الشان، وَهُوَ تَعْلِيل للاتقاء، وتمثيل للدعوة كمن يقْصد إِلَى السُّلْطَان متظلما فيمَ يحجب عَنهُ.

ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: عظة الإِمَام وتخويفه من الظُّلم قَالَ تَعَالَى: { أَلا لعنة الله على الظَّالِمين} ( هود: 81) .
ولعنة الله إبعاده من رَحمته، وَالظُّلم محرم فِي كل شَرِيعَة، وَقد جَاءَ: ( إِن دَعْوَة الْمَظْلُوم لَا ترد وَإِن كَانَت من كَافِر) .
وروى أَحْمد فِي ( مُسْنده) ، من حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ مَرْفُوعا: ( دَعْوَة الْمَظْلُوم مستجابة وَإِن كَانَ فَاجِرًا، ففجوره على نَفسه) .
وَمعنى ذَلِك أَن الرب سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَا يرضى ظلم الْكَافِر كَمَا لَا يرضى ظلم الْمُؤمن، وَأخْبر سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنه لَا يظلم النَّاس شَيْئا، فَدخل فِي عُمُوم هَذَا اللَّفْظ جَمِيع النَّاس من مُؤمن وَكَافِر، وحذر معَاذًا، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، من الظُّلم مَعَ علمه وفضله وورعه، وَأَنه من أهل بدر وَقد شهد لَهُ بِالْجنَّةِ، غير أَنه لَا يَأْمَن أحدا، بل يشْعر نَفسه بالخوف، وفوائده كَثِيرَة ذَكرنَاهَا فِي حَدِيث معَاذ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فِي أول الزَّكَاة.