فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب وسم الإمام إبل الصدقة بيده

( بابُُ وَسْمِ الإمَامُ إبِلَ الصَّدَقَةِ بِيَدِهِ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي ذكر وسم الإِمَام، وَهُوَ الإِمَام الْأَعْظَم، والوسم بِفَتْح الْوَاو وَهُوَ: التَّأْثِير بعلامة نَحْو: كَيَّة وَقطع الْأذن، وَأَصله من السمة وَهِي الْعَلامَة، كَذَا قَالَه الْكرْمَانِي.
قلت: كَيفَ يكون الوسم من السمة وَكِلَاهُمَا مصدر؟ يُقَال: وسم يسم وسما وسمة.
أَصله وسمة.
فَلَمَّا حذفت الْوَاو مِنْهُ اتبَاعا لفعله، لِأَن أصل يسم يوسم حذفت الْوَاو لوقوعها بَين الْيَاء والكسرة فحذفت فِي سمة أَيْضا وعوضت عَنْهَا التَّاء، كَمَا فعل هَكَذَا فِي بابُُ: وعد يعد عدَّة؟ قَوْله: ( وَقطع الْأذن) فِيهِ نظر، لِأَن قطع الْأذن من الْمثلَة وَلَا يُسمى وسما، يُقَال: وسمه، إِذا أثر فِيهِ بكي.



[ قــ :1442 ... غــ :1502 ]
- حدَّثنا إبْراهِيمُ بنُ المُنْذِرِ قَالَ حدَّثنا الوَلِيدُ قَالَ حدَّثنا أبُو عَمْرٍ والأوْزَاعِيُّ قَالَ حدَّثني إسْحَاقُ بنُ عَبْدِ الله بنِ أبي طَلْحَةَ قَالَ حدَّثني أنَسُ بنُ مَالِكٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ.
قَالَ غَدَوْتُ إِلَى رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِعَبْدِ الله بنِ أبي طَلْحَة لِيُحنكِّهُ فَوَافَيْتُهُ فِي يَدِهِ المِيسَمُ يَسِمُ إبِلَ الصَّدَقَةِ.

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.

ذكر رِجَاله: وهم: خَمْسَة: الأول: إِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر، بِضَم الْمِيم وَسُكُون النُّون وَكسر الذَّال الْمُعْجَمَة: من الْإِنْذَار ضد الإبشار، وكنيته أَبُو إِسْحَاق الْحزَامِي، بالزاي: الْقرشِي الْأَسدي.
الثَّانِي: الْوَلِيد بن مُسلم، أَبُو الْعَبَّاس الْأمَوِي الْقرشِي مَوْلَاهُم.
مَاتَ سنة خمس وَتِسْعين وَمِائَة.
الثَّالِث: أَبُو عَمْرو الْأَوْزَاعِيّ، واسْمه عبد الرَّحْمَن بن عَمْرو.
الرَّابِع: إِسْحَاق بن عبد الله بن أبي طَلْحَة، واسْمه: زيد بن سهل الْأنْصَارِيّ ابْن أخي أنس بن مَالك، يكنى أَبَا يحيى.
الْخَامِس: أنس بن مَالك، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.

ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع وبصيغة الْإِفْرَاد فِي موضِعين.
وَفِيه: القَوْل فِي مَوضِع وَاحِد.
وَفِيه: أَن شَيْخه من أَفْرَاده، وَأَنه ذكر مَنْسُوبا إِلَى جده، وَاسم أَبِيه: عبد الله بن الْمُنْذر، وَأَنه وَإِسْحَاق مدنيان وَأَن الْوَلِيد وَالْأَوْزَاعِيّ دمشقيان.
وَفِيه: أحد الروَاة مَذْكُور بكنيته ونسبته وَهُوَ الْأَوْزَاعِيّ.
وَفِيه: رِوَايَة الرَّاوِي عَن عَمه وَهُوَ إِسْحَاق.

والْحَدِيث أخرجه مُسلم أَيْضا فِي اللبَاس عَن هَارُون بن مَعْرُوف وَفِي بعض النّسخ: عَن هُرْمُز بن مَعْرُوف.

ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: ( غَدَوْت) من الغدو، وَهُوَ الرواح من أول النَّهَار.
قَوْله: ( ليحنكه) ، من التحنيك، وَهُوَ أَن يمضغ التمرة ويجعلها فِي فَم الصَّبِي وَيحك بهَا فِي حنكه بسبابُته حَتَّى يتَحَلَّل فِي حنكه، والحنك أَعلَى دَاخل الْفَم.
قَوْله: ( فوافيته) ، من الموافاة: وَهُوَ الْإِتْيَان.
يُقَال: وافيته إِذا أَتَيْته.
قَوْله: ( الميسم) بِكَسْر الْمِيم وَفتح السِّين الْمُهْملَة، وَهُوَ المكوى، وَهُوَ الْآلَة الَّتِي يكوى بهَا وَقيل بالشين الْمُعْجَمَة والمهملة، وَقيل بَينهمَا فرق، فبالمهملة يكون الكي فِي الْوَجْه، وبالمعجمة فِي سَائِر الْجَسَد.
وَفِي ( الْجَامِع) : الميسم: الحديدة الَّتِي يوسم بهَا، وَالْجمع: مواسم، وأصل ميسم: موسم، قلبت الْوَاو يَاء لسكونها وانكسار مَا قبلهَا، وَهَذِه قَاعِدَة مطردَة، وَلم يبين فِي هَذِه الرِّوَايَة الْموضع الَّذِي كَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يسم فِيهِ إبل الصَّدَقَة، وبيَّن ذَلِك فِي رِوَايَة أُخْرَى فَإِذا هُوَ فِي مربد الْغنم.

ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: إِبَاحَة الكي فِي الْحَيَوَان.
.

     وَقَالَ  قوم من الشَّافِعِيَّة: الكي مُسْتَحبّ فِي نعم الزَّكَاة والجزية وَجَائِز فِي غَيرهَا، وَالْمُسْتَحب أَن يسم الْغنم فِي آذانها وَالْإِبِل وَالْبَقر فِي أصُول أفخاذها، وَفِي رِوَايَة لِأَحْمَد وَابْن مَاجَه: يسم الْغنم فِي آذانها، ووسم الْآدَمِيّ حرَام، وَغير الْآدَمِيّ فِي الْوَجْه مَنْهِيّ عَنهُ، وَفَائِدَته تَمْيِيز الْحَيَوَان بعضه من بعض، وليرده من أَخذه وَمن التقطه يعرّفه، وَإِذا تصدق بِهِ لَا يعود إِلَيْهِ، وَيسْتَحب أَن يكْتب فِي مَاشِيَة الزَّكَاة: زَكَاة أَو صَدَقَة، وَنقل ابْن الصّباغ وَغَيره إِجْمَاع الصَّحَابَة على ذَلِك،.

     وَقَالَ  بَعضهم: وَفِي حَدِيث الْبابُُ حجَّة على من كره الوسم من الْحَنَفِيَّة بالميسم لدُخُوله فِي عُمُوم النَّهْي عَن الْمثلَة، وَقد ثَبت ذَلِك من فعل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَدلَّ على أَنه مَخْصُوص من الْعُمُوم الْمَذْكُور للْحَاجة، كالختان فِي الْآدَمِيّ.
قلت: ذكر أَصْحَابنَا فِي كتبهمْ: لَا بَأْس بكي الْبَهَائِم للعلامة، لِأَن فِيهِ مَنْفَعَة، وَكَذَا لَا بَأْس بكي الصّبيان إِذا كَانَ لداء أَصَابَهُم، لِأَن ذَاك مداواة.
.

     وَقَالَ  الْمُهلب وَغَيره فِي هَذَا الحَدِيث: إِن للْإِمَام أَن يتَّخذ مبسما وَلَيْسَ للنَّاس أَن يتخذوا نَظِيره.
وَهُوَ كالخاتم.
وَفِيه: اعتناء الإِمَام بأموال الصَّدَقَة وتوليها بِنَفسِهِ.
وَفِيه: جَوَاز إيلام الْحَيَوَان للْحَاجة.
وَفِيه: قصد أهل الْفضل وَالصَّلَاح لتحنيك الْمَوْلُود لأجل الْبركَة.
وَفِيه: مُبَاشرَة أَعمال المهنة وَترك الاستطابة فِيهَا للرغبة فِي زِيَادَة الْأجر وَنفي الْكبر.

بِسْمِ الله الرحمان الرَّحِيم

( أبْوَابُ صَدَقَةِ الفِطْرِ)
أَي: هَذِه أَبْوَاب صَدَقَة الْفطر، وَفِي بعض النّسخ: صَدَقَة الْفطر، بِدُونِ قَوْله: أَبْوَاب، وَالتَّقْدِير فِيهِ أَيْضا: أَبْوَاب صَدَقَة الْفطر، أَو: بابُُ صَدَقَة الْفطر، وَإِضَافَة الصَّدَقَة إِلَى الْفطر من إِضَافَة الشَّيْء إِلَى شَرطه، كحجة الْإِسْلَام.
وَقيل: أضيفت الصَّدَقَة إِلَى الْفطر لكَونهَا تجب بِالْفطرِ من رَمَضَان،.

     وَقَالَ  ابْن قُتَيْبَة: المُرَاد بِصَدقَة الْفطر صَدَقَة النُّفُوس، مَأْخُوذ من الْفطْرَة الَّتِي هِيَ أصل الْخلقَة، وَالْأول أظهر، وَيُؤَيِّدهُ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي بعض طرق الحَدِيث: ( زَكَاة الْفطر من رَمَضَان) ثمَّ أعلم أَن هَذَا الْبابُُ يحْتَاج إِلَى خَمْسَة عشرَة معرفَة.

الأولى: معرفَة صَدَقَة الْفطر لُغَة وَشرعا.
فَقَالَ النَّوَوِيّ: هِيَ لَفْظَة مولدة لَا عَرَبِيَّة وَلَا معربة بل هِيَ اصطلاحية للفقهاء.
كَأَنَّهَا من الْفطْرَة الَّتِي هِيَ النُّفُوس والخلقة.
أَي: زَكَاة الْخلقَة، ذكرهَا صَاحب ( الْحَاوِي) وَالْمُنْذِرِي.
قلت: وَلَو قيل: لَفْظَة إسلامية كَانَ ولى لِأَنَّهَا مَا عرفت إلاَّ فِي الْإِسْلَام، وَيُؤَيّد هَذَا مَا ذكره ابْن الْعَرَبِيّ: هُوَ اسْمهَا على لِسَان صَاحب الشَّرْع، وَيُقَال لَهَا: صَدَقَة الْفطر وَزَكَاة الْفطر وَزَكَاة رَمَضَان وَزَكَاة الصَّوْم، وَفِي حَدِيث ابْن عَبَّاس، صَدَقَة الصَّوْم، وَفِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة: ( صَدَقَة رَمَضَان) ، وَتسَمى أَيْضا صَدَقَة الرؤوس وَزَكَاة الْأَبدَان سَمَّاهَا الإِمَام مَالك، رَحمَه الله تَعَالَى، أما شرعا فَإِنَّهَا اسْم لما يعْطى من المَال بطرِيق الصِّلَة ترحما مُقَدرا، بِخِلَاف الْهِبَة فَإِنَّهَا تُعْطى صلَة تكرما لَا ترحما، ذكره فِي ( الْمُحِيط) .
الثَّانِيَة: معرفَة وُجُوبهَا، فبأحاديث الْبابُُ على مَا سَيَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
الثَّالِثَة: معرفَة سَبَب وُجُوبهَا، فَهُوَ رَأس يمونه مؤونة تَامَّة ويلي عَلَيْهِ ولَايَة تَامَّة لما فِي الحَدِيث: ( عَمَّن تمونون) .
الرَّابِعَة: معرفَة شَرط وُجُوبهَا، فالإسلام وَالْحريَّة والغنى على مَا يَأْتِي بِالْخِلَافِ فِيهِ.
الْخَامِسَة: معرفَة ركنها، فالتمليك.
السَّادِس: معرفَة شَرط جَوَازهَا بِكَوْن الْمصرف إِلَيْهِ فَقِيرا.
السَّابِعَة: معرفَة من تجب عَلَيْهِ، فَتجب على الْأَب عَن أَوْلَاده الصغار الْفُقَرَاء، وعَلى السَّيِّد عَن عَبده ومدبره ومدبرته وَأم وَلَده.
الثَّامِنَة: معرفَة الَّذِي تجب من أَجله، فأولاده الصغار ومماليكه للْخدمَة دون مكَاتبه وَزَوجته.
التَّاسِعَة: معرفَة مِقْدَار الْوَاجِب فِيهَا، فَنصف صَاع من بر أَو صَاع من شعير أَو تمر، على مَا يَأْتِي بَيَانه إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
الْعَاشِرَة: معرفَة الْكَيْل الَّذِي تجب بِهِ، فَهُوَ الصَّاع، وَسَنذكر الِاخْتِلَاف فِيهِ.
الْحَادِيَة عشرَة: معرفَة وَقت وُجُوبهَا، فوقته طُلُوع الْفجْر الثَّانِي من يَوْم الْفطر، وَفِيه الْخلاف على مَا يَأْتِي بَيَانه إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
الثَّانِيَة عشر: معرفَة كَيْفيَّة وُجُوبهَا، فَتجب وجوبا موسعا على الْأَصَح.
الثَّالِثَة عشر: معرفَة وَقت اسْتِحْبابُُ أَدَائِهَا، فقد اتّفقت الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة فِي اسْتِحْبابُُ أَدَائِهَا بعد فجر يَوْم الْفطر، قبل الذّهاب إِلَى صَلَاة الْعِيد.
الرَّابِعَة عشر: معرفَة جَوَاز تَقْدِيمهَا على يَوْم الْفطر، فَعِنْدَ أبي حنيفَة: يجوز تَقْدِيمهَا لسنة وسنتين، وَعَن خلف ابْن أَيُّوب: يجوز لشهر، وَقيل: بِيَوْم أَو يَوْمَيْنِ.
الْخَامِسَة عشر: معرفَة وَقت أَدَائِهَا، فَيوم الْفطر من أَوله إِلَى آخِره وَبعده، يجب الْقَضَاء عِنْد بعض أَصْحَابنَا، وَالأَصَح أَن يكون أَدَاء.