فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب الكلام في الطواف

( بابُُ الكَلامِ فِي الطَّوَافِ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان إِبَاحَة الْكَلَام فِي الطّواف، وَإِنَّمَا أطلق وَلم يبين الحكم فِيهِ من حَيْثُ إِن المُرَاد مُطلق الْإِبَاحَة من الْكَلَام الَّذِي لَيْسَ فِيهِ الْمُؤَاخَذَة، كَمَا ورد فِي الحَدِيث الْمَشْهُور عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، مَوْقُوفا وَمَرْفُوعًا: ( الطّواف بِالْبَيْتِ صَلَاة إلاَّ أَن الله تَعَالَى أَبَاحَ الْكَلَام فِيهِ، فَمن نطق فَلَا ينْطق إلاَّ بِخَير) ، رَوَاهُ الْحَاكِم.
وَفِي لفظ: ( الطّواف مثل الصَّلَاة إلاَّ أَنكُمْ تتكلمون، فَمن تكلم فِيهِ فَلَا يتَكَلَّم إلاَّ بِخَير) ، وَرَوَاهُ ابْن حبَان فِي ( صَحِيحه) من حَدِيث فُضَيْل بن عِيَاض عَن عَطاء بِلَفْظ: ( الطّواف بِالْبَيْتِ صَلَاة إلاَّ أَن الله أحل فِيهِ النُّطْق، فَمن نطق فَلَا ينْطق إلاَّ بِخَير) ، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ من حَدِيث طَاوُوس عَن ابْن عَبَّاس: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: ( الطّواف حول الْبَيْت مثل الصَّلَاة، إلاَّ أَنكُمْ تتكلمون فِيهِ، فَمن تكلم فِيهِ فَلَا يتَكَلَّم إلاَّ بِخَير) .
.

     وَقَالَ  أَبُو عِيسَى: وَقد رُوِيَ عَن ابْن طَاوُوس وَغَيره عَن ابْن عَبَّاس مَوْقُوفا، وَلَا نعرفه مَرْفُوعا، ألاَّ من حَدِيث عَطاء بن السَّائِب.
.

     وَقَالَ  النَّسَائِيّ: أخبرنَا قُتَيْبَة بن سعيد، قَالَ: حَدثنَا أَبُو عوَانَة عَن إِبْرَاهِيم بن ميسرَة عَن طَاوُوس عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: ( الطّواف بِالْبَيْتِ صَلَاة، فأقلوا بِهِ الْكَلَام) .
.

     وَقَالَ  الشَّافِعِي: حَدثنَا سعيد بن سَالم عَن حَنْظَلَة عَن طَاوُوس عَن ابْن عمر أَنه قَالَ: ( أقلوا الْكَلَام فِي الطّواف، فَإِنَّمَا أَنْتُم فِي صَلَاة) ، وَعِنْده أَيْضا عَن إِبْرَاهِيم بن نَافِع قَالَ: ( كلمت طاووسا فِي الطّواف فكلمني) .
.

     وَقَالَ  التِّرْمِذِيّ: وَالْعَمَل على هَذَا عِنْد أَكثر أهل الْعلم أَنهم يستحبون أَن لَا يتَكَلَّم الرجل فِي الطّواف إلاَّ بحاجة أَو بِذكر الله أَو من الْعلم.
.

     وَقَالَ  أَبُو عمر عَن عَطاء: أَنه كَانَ يكره الْكَلَام فِي الطّواف إلاَّ الشَّيْء الْيَسِير، وَكَانَ مُجَاهِد يقْرَأ عَلَيْهِ الْقُرْآن فِي الطّواف.
.

     وَقَالَ  مَالك: لَا أَدْرِي ذَلِك، وليقبل على طَوَافه.
.

     وَقَالَ  الشَّافِعِي: أَنا أحب الْقِرَاءَة فِي الطّواف وَهُوَ أفضل مَا يتَكَلَّم بِهِ الْإِنْسَان.
وَفِي ( شرح الْمُهَذّب) : يكره للْإنْسَان الطَّائِف الْأكل وَالشرب فِي الطّواف، وَكَرَاهَة الشّرْب أخف، وَلَا يبطل الطّواف بِوَاحِد مِنْهُمَا وَلَا بهما جَمِيعًا.
وقالالشافعي: روى عَن ابْن عَبَّاس أَنه شرب وَهُوَ يطوف،.

     وَقَالَ  ابْن بطال: كره جمَاعَة قِرَاءَة الْقُرْآن فِي الطّواف، مِنْهُم عُرْوَة وَالْحسن وَمَالك،.

     وَقَالَ : مَا ذَاك من عمل النَّاس وَلَا بَأْس بِهِ إِذا أخفاه، وَلَا يكثر مِنْهُ،.

     وَقَالَ  عَطاء: قِرَاءَة الْقُرْآن فِي الطّواف مُحدث.



[ قــ :1553 ... غــ :1620 ]
- حدَّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ مُوسَى قَالَ حدَّثنا هِشَامٌ أنَّ ابنَ جُرَيْجٍ أخْبَرَهُمْ قَالَ أخبرَنِي سُلَيْمانُ الأحْوَلُ أنَّ طاوُوسا أخْبَرَهُ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُمَا أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَرَّ وَهْوَ يَطُوفُ بِالكَعْبَةِ بإنْسَانٍ رَبَطَ يَدَهُ إِلَى إنْسَانٍ بِسَيْرٍ أوْ بِخَيْطٍ أوْ بِشَيْءٍ غَيْرَ ذلِكَ فقَطَعَهُ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِيَدِهِ ثُمَّ قالَ قُدْهُ بِيَدِهِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: ( قده بِيَدِهِ) ، فَإِنَّهُ تكلم وَهُوَ طائف.

ذكر رِجَاله: وهم: سِتَّة: الأول: إِبْرَاهِيم بن مُوسَى ابْن يزِيد الْفراء أَبُو إِسْحَاق يعرف بالصغير.
الثَّانِي: هِشَام بن يُوسُف أَبُو عبد الرَّحْمَن.
الثَّالِث: عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز ابْن جريج.
الرَّابِع: سُلَيْمَان بن أبي مُسلم الْأَحول.
الْخَامِس: طَاوُوس بن كيسَان.
السَّادِس: عبد الله بن عَبَّاس.

ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين.
وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْإِفْرَاد فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع.
وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد.
وَفِيه: القَوْل فِي مَوضِع وَاحِد.
وَفِيه: أَن شَيْخه رازي وهشاما صنعاني يماني قاضيها وَأَن ابْن جريج وَسليمَان مكيان وَأَن طاووسا يماني.

ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْإِيمَان وَالنُّذُور عَن أبي عَاصِم النَّبِيل، وَكَذَا أخرجه عَنهُ فِي الْحَج.
وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْأَيْمَان وَالنُّذُور عَن يحيى بن معِين.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ وَفِي الْحَج عَن يُوسُف بن سعيد بن مُسلم.

ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: ( وَهُوَ يطوف) الْوَاو فِيهِ للْحَال.
قَوْله: ( بِإِنْسَان) يتَعَلَّق بقوله: مر، وَفِي رِوَايَة أَحْمد عَن عبد الرَّزَّاق عَن ابْن جريج إِلَى إِنْسَان آخر، وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ: ( بِإِنْسَان قد ربظ يَده بِإِنْسَان) .
قَوْله: ( بسير) ، بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره رَاء، وَهُوَ مَا يقد من الْجلد، وَالْقد الشق طولا، يُقَال: قددت السّير أقده.
قيل: إِن أهل الْجَاهِلِيَّة كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنهم يَتَقَرَّبُون بِمثلِهِ إِلَى الله تَعَالَى.
قَوْله: ( وبشيء غير ذَلِك) كَأَن الرَّاوِي لم يضْبط مَا كَانَ مربوطا بِهِ، فلأجل ذَلِك شكّ فِيهِ، وَغير السّير وَالْخَيْط نَحْو المنديل الَّذِي يرْبط بِهِ أَو الْوتر أَو غَيرهمَا.
قَوْله: ( قده) ، بِضَم الْقَاف: أَمر من قَادَهُ يَقُودهُ من القيادة أَو الْقود، وَهُوَ الْجَرّ والسجب، ويروى: ( قد بِيَدِهِ) ، بِدُونِ الضَّمِير فِي: قده، وَفِي رِوَايَة أَحْمد وَالنَّسَائِيّ: قده، بالضمير.
وَفِي ( التَّلْوِيح) بِخَط مُصَنفه: خُذ بِيَدِهِ، قيل: ظَاهر الحَدِيث أَن المقود كَانَ ضريرا، ورد بِأَنَّهُ يحْتَمل أَن يكون لِمَعْنى آخر،.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: قيل: إسم الرجل المقود ثَوَاب ضد الْعقَاب.

     وَقَالَ  بَعضهم: وَلم أر ذَلِك لغيره، وَلَا أَدْرِي من أَيْن أَخذه.
قلت: إِن هَذَا مِمَّا يتعجب مِنْهُ، فَلَا يلْزم من عدم رُؤْيَته كَذَلِك، عدم رُؤْيَة الْغَيْر، وَلَا اطلع هُوَ على الْمَوَاضِع الْمُتَعَلّقَة بِهَذَا جَمِيعًا جتى يستغرب ذَلِك.

ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: إِبَاحَة الْكَلَام بِالْخَيرِ فِي الطّواف.
وَفِيه: أَنه يجوز للطائف فعل مَا خف من الْأَفْعَال.
وَفِيه: أَنه إِذا رأى مُنْكرا فَلهُ أَن يُغير بِيَدِهِ.
وَفِيه: أَن من نذر مَالا طَاعَة لله فِيهِ لَا يلْزمه، ذكره الدَّاودِيّ وَاعْتَرضهُ ابْن التِّين، فَقَالَ: لَيْسَ هُنَا نذر ذَلِك، وغفل أَنه ذكره فِي النّذر، وَقد روى أَحْمد من طَرِيق عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده: ( أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أدْرك رجلَيْنِ وهما مقترنان، فَقَالَ: مَا بَال القِران؟ قَالَا: إِنَّا نذرنا لنقترنن حَتَّى نأتي الْكَعْبَة.
فَقَالَ: أطلقا أنفسكما، لَيْسَ هَذَا نذرا إِنَّمَا النّذر مَا يَبْتَغِي بِهِ وَجه الله)
.
وروى الطَّبَرَانِيّ من طَرِيق فَاطِمَة بنت مُسلم: ( حَدثنِي خَليفَة بن بشر عَن أَبِيه أَنه أسلم، فَرد عَلَيْهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَاله وَولده، ثمَّ لقِيه هُوَ وَابْنه طلق بن بشر مقترنين بِحَبل، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَقَالَ: حَلَفت لَئِن رد الله عَليّ مَالِي وَوَلَدي لأحجن بَيت الله مَقْرُونا.
فَأخذ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْحَبل فَقَطعه،.

     وَقَالَ  لَهما: حجا، إِن هَذَا من عمل الشَّيْطَان)
.
.

     وَقَالَ  النَّوَوِيّ: قطعه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم السّير مَحْمُول على أَنه لم يُمكن إِزَالَة هَذَا الْمُنكر إلاَّ بِقطعِهِ.

فروع ذكرهَا الشَّافِعِيَّة: وَهِي: يجوز لَهُ إنشاد الشّعْر وَالرجز فِي الطّواف إِذا كَانَ مُبَاحا، قَالَه الْمَاوَرْدِيّ، وَتَبعهُ صَاحب ( الْبَحْر) وَيكرهُ أَن يبصق فِيهِ أَو يتنخم أَو يغتاب أَو ينم فَلَا يفْسد طَوَافه بِشَيْء من ذَلِك، وَإِن أَثم صرح بِهِ الْمَاوَرْدِيّ، وَقيل: لَا يكره لَهُ التَّعْلِيم فِيهِ كَمَا فِي الِاعْتِكَاف، قَالَه الرَّوْيَانِيّ، وَيكرهُ أَن يضع يَده على فَمه كَمَا فِي الصَّلَاة، قَالَه الرَّوْيَانِيّ، وَلَو احْتَاجَ إِلَيْهِ للتثاوب فَلَا بَأْس بذلك، وَلَو طافت الْمَرْأَة متنقبة وَهِي غير مُحرمَة، قَالَ فِي ( التَّوْضِيح) : فَمُقْتَضى مَذْهَبنَا كَرَاهَته كَمَا فِي الصَّلَاة.
وَحكى ابْن الْمُنْذر عَن عَائِشَة أَنَّهَا كَانَت تَطوف متنقبة، وَبِه قَالَ أَحْمد وَابْن الْمُنْذر، وَكَرِهَهُ طَاوُوس وَغَيره، وَالله أعلم.