فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب سقاية الحاج

( بابُُ سِقَايَةِ الْحَاجِّ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي ذكر سِقَايَة الْحَاج، والسقاية بِكَسْر السِّين مَا يبْنى للْمَاء، وَأما السِّقَايَة الَّتِي فِي قَوْله تَعَالَى: { اجعلتم سِقَايَة الْحَاج} ( التَّوْبَة: 91) .
فَهُوَ مصدر، وَالَّتِي فِي قَوْله تَعَالَى: { جعل السِّقَايَة فِي رَحل أَخِيه} ( يُوسُف: 07) .
مشربَة الْملك.
.

     وَقَالَ  الْجَوْهَرِي: هِيَ الصواع الَّذِي كَانَ الْملك يشرب فِيهِ.
.

     وَقَالَ  ابْن الْأَثِير: سِقَايَة الْحَاج مَا كَانَت قُرَيْش تسقيه الْحَاج من الزَّبِيب المنبوذ فِي المَاء وَكَانَ يَليهَا عَبَّاس بن عبد الْمطلب فِي الْجَاهِلِيَّة وَالْإِسْلَام،.

     وَقَالَ  الفاكهي: حَدثنَا أَحْمد بن مُحَمَّد حَدثنَا الْحسن بن مُحَمَّد بن عبيد الله حَدثنَا ابْن جريج عَن عَطاء، قَالَ: سِقَايَة الْحَاج زَمْزَم.
.

     وَقَالَ  الْأَزْرَقِيّ: كَانَ عبد منَاف يتَحَمَّل المَاء فِي الرَّوايا والقِرَب إِلَى مَكَّة ويسكبه فِي حِيَاض من أَدَم بِفنَاء الْكَعْبَة للْحَاج، ثمَّ فعله ابْنه هِشَام بعده، ثمَّ عبد الْمطلب، فَلَمَّا حفر زَمْزَم كَانَ يَشْتَرِي الزَّبِيب فنبذه فِي مَاء زَمْزَم.
ويسقي النَّاس.
.

     وَقَالَ  إِبْنِ إِسْحَاق: لما ولي قصي بن كلاب أَمر الْكَعْبَة كَانَ إِلَيْهِ الحجابة والسقاية واللواء والوفادة وَدَار الندوة، ثمَّ تصالح بنوه على أَن لعبد منَاف السِّقَايَة والوفادة، والبقية للآخرين.
ثمَّ ذكر نَحْو مَا تقدم.
قَالَ: ثمَّ ولي السِّقَايَة من بعد عبد الْمطلب وَلَده الْعَبَّاس، وَهُوَ يَوْمئِذٍ من أحدث إخْوَته سنا، فَلم تزل بِيَدِهِ حَتَّى قَامَ الْإِسْلَام، وَهِي بِيَدِهِ، وأقرها رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَعَه فَهِيَ الْيَوْم إِلَى بني الْعَبَّاس.



[ قــ :1565 ... غــ :1634 ]
- حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ أبي الأسْوَدِ قَالَ حدَّثنا أبُو ضَمْرَةَ قَالَ حدَّثنا عُبَيْدُ الله عَن نافِعٍ عنِ ابنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ اسْتأذَنَ العَبَّاسُ بنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنْ يَبيتَ بِمكَّةَ لَياليَ مِنىً منْ أجْلِ سِقايَتهِ فأذِنَ لهُ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: ( من أجل سقايته) لِأَن السِّقَايَة كَانَت بِيَدِهِ بعد أَبِيه عبد الْمطلب كَمَا ذَكرْنَاهُ آنِفا.
والْحَدِيث من أَفْرَاده، وَعبد الله بن مُحَمَّد بن أبي الْأسود ضد الْأَبْيَض.
وَقد مر فِي: بابُُ فضل أللهم رَبنَا لَك الْحَمد، وَأَبُو ضَمرَة بِفَتْح الضَّاد الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْمِيم وبالراء، واسْمه أنس بن عِيَاض اللَّيْثِيّ الْمدنِي، وَعبيد الله بن عمر بن حَفْص بن عَاصِم بن عمر بن الْخطاب رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم.

قَوْله: ( ليَالِي منى) هِيَ: لَيْلَة الْحَادِي عشر، وَالثَّانِي عشر، وَالثَّالِث عشر،.

     وَقَالَ  النَّوَوِيّ: هَذَا يدل على مَسْأَلَتَيْنِ: إِحْدَاهمَا: أَن الْمبيت بمنى ليَالِي أَيَّام التَّشْرِيق مَأْمُور بِهِ، وَهل هُوَ وَاجِب أَو سنة؟ قَالَ أَبُو حنيفَة: سنة.
وَالْآخرُونَ: وَاجِب.
وَالثَّانيَِة: يجوز لأهل السِّقَايَة أَن يتْركُوا هَذَا الْمبيت ويذهبوا إِلَى مَكَّة ليستقوا بِاللَّيْلِ المَاء من زَمْزَم، ويجعلوه فِي الْحِيَاض مسبلاً للْحَاج، وَلَا يخْتَص ذَلِك عِنْد الشَّافِعِي بِالْعَبَّاسِ، بل كل من تولى السِّقَايَة كَانَ لَهُ ذَلِك،.

     وَقَالَ  بعض أَصْحَابنَا: تخْتَص الرُّخْصَة بِالْعَبَّاسِ،.

     وَقَالَ  بَعضهم: بآل الْعَبَّاس.
انْتهى.
قلت: قَالَ بَعضهم: تخْتَص ببني هَاشم من آل عَبَّاس وَغَيرهم،.

     وَقَالَ  أَصْحَابنَا: يكره أَن لَا يبيت بمنى ليالى الرَمَل لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَات بهَا، وَكَذَا عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَكَانَ يُؤَدب على تَركه، فَلَو بَات فِي غَيره مُتَعَمدا لَا يلْزمه شَيْء.
.

     وَقَالَ  بَعضهم: الْمبيت فِي هَذِه اللَّيَالِي سنة عندنَا، وَبِه قَالَ أهل الظَّاهِر.
قَالَ الْقُرْطُبِيّ: رُوِيَ نَحوه عَن ابْن عَبَّاس وَالْحسن،.

     وَقَالَ  ابْن بطال: رَوَاهُ ابْن عُيَيْنَة عَن عَمْرو عَن ابْن عَبَّاس.

وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: الْمبيت بمنى ليَالِي التَّشْرِيق من سنَن الْحَج بِلَا خلاف، إلاَّ لِذَوي السِّقَايَة أَو الرُّعَاة، وَمن تعجل بالنفر فِي ترك ذَلِك فِي لَيْلَة وَاحِدَة أَو جَمِيع اللَّيَالِي كَانَ عَلَيْهِ دم عِنْد مَالك،.

     وَقَالَ  السفاقسي: الْمبيت بهَا مَأْمُور بِهِ، وإلاَّ فَكَانَ يجوز للْعَبَّاس وَغَيره ذَلِك دون إرخاص، وَهُوَ أَن يبيت من جَمْرَة الْعقبَة إِلَيْهَا،.

     وَقَالَ  مَالك: من بَات وَرَاء الْجَمْرَة فَعَلَيهِ الْفِدْيَة وَوَجهه أَنه يبيت بِغَيْر منى وَهُوَ مبيت مَشْرُوع فِي الْحَج فَلَزِمَ الدَّم بِتَرْكِهِ كالمبيت بِالْمُزْدَلِفَةِ.
وَعند ابْن أبي شيبَة عَن زيد بن حبابُ أَنبأَنَا إِبْرَاهِيم بن نَافِع أَنبأَنَا عَمْرو ابْن دِينَار عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: إِذا رميت الْجمار بت حَيْثُ شِئْت.
حَدثنَا زيد بن حبابُ أَنبأَنَا إِبْرَاهِيم حَدثنَا ابْن أبي نجيح عَن عَطاء، قَالَ: لَا بَأْس أَن يبيت الرجل بِمَكَّة ليَالِي منى إِذا كَانَ فِي ضيعته.
وَمن حَدِيث لَيْث عَن طَاوُوس عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ لَا يبيتن أحد من وَرَاء الْعقبَة لَيْلًا بمنى أَيَّام التَّشْرِيق.
وَمن حَدِيث عبد الله بن عمر عَن نَافِع عَن ابْن عمر أَن عمر كَانَ ينْهَى أَن يبيت أحد من وَرَاء الْعقبَة، وَكَانَ يَأْمُرهُم أَن يدخلُوا منى.
وَمن حَدِيث حجاج عَن عَطاء أَن ابْن عمر كَانَ يكره أَن ينَام أحد أَيَّام منى بِمَكَّة.
وَمن حَدِيث لَيْث عَن مُجَاهِد: لَا بَأْس أَن يكون أول اللَّيْل بِمَكَّة وَآخره بمنى، وَلَا بَأْس أَن يكون أول اللَّيْل بمنىٍ وأخره بِمَكَّة.
وَعَن مُحَمَّد بن كَعْب من السّنة إِذا زرت الْبَيْت أَن لَا تبيت إلاَّ بمنى.
وَعَن أبي قلَابَة: إجعلوا أَيَّام منى بمنى.
وَعَن عُرْوَة: لَا يبيتن أحد من وَرَاء الْعقبَة أَيَّام التَّشْرِيق.
.

     وَقَالَ  إِبْرَاهِيم: إِذا بَات دون الْعقبَة اهراق لذَلِك دَمًا.
وَعَن عَطاء: يتَصَدَّق بدرهم أَو نَحوه.
وَعَن سَالم: يتَصَدَّق بدرم، والأسانيد إِلَيْهِم صَحِيحَة.

وَفِي ( شرح الْمُهَذّب) : وَمن المعذورين من لَهُ مَال يخَاف ضيَاعه إِن اشْتغل بالمبيت، أَو يخَاف على نَفسه، أَو كَانَ بِهِ مرض أَو لَهُ مَرِيض يطْلب آبقا وَشبه ذَلِك، فَفِي هَؤُلَاءِ وَجْهَان، الصَّحِيح الْمَنْصُوص: يجوز لَهُم ترك الْمبيت، وَلَا شَيْء عَلَيْهِم بِسَبَبِهِ، وَلَهُم النَّفر بعد الْغُرُوب وَلَو ترك البيات نَاسِيا كَانَ كتركه عَامِدًا.
وَفِي ( التَّوْضِيح) : لَا يحصل الْمبيت إلاَّ بمعظم اللَّيْل، وَفِي قَول: إِن الِاعْتِبَار بِوَقْت بِطُلُوع الْفجْر، وَفِي ( الْمُدَوَّنَة) : من بَات عَنْهَا كل اللَّيْل فَعَلَيهِ دم.
.

     وَقَالَ  ابْن عَبَّاس: من كَانَ لَهُ مناخ بِمَكَّة يخْشَى عَلَيْهِ ضيَاعه بَات بهَا، وَمُقْتَضَاهُ إِبَاحَته للْعُذْر، وَعَلِيهِ دم على مُقْتَضى قَول ابْن نَافِع فِي ( مبسوطه) : من زار الْبَيْت فَمَرض وَبَات بِمَكَّة فَعَلَيهِ هدي يَسُوقهُ من الْحل إِلَى الْحرم، وَإِن بَات اللَّيَالِي كلهَا بِمَكَّة قَالَ الدَّاودِيّ: فَقيل: عَلَيْهِ شَاة، وَقيل: بَدَنَة.





[ قــ :1566 ... غــ :1635 ]
- حدَّثنا إسْحَاقُ قَالَ حدَّثنا خَالِدٌ عنْ خالِدٍ الحَذَّاءِ عَنْ عِكْرِمَةَ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جاءَ إِلَى السِّقَايَةِ فاسْتَسْقَى فَقَالَ الْعَبَّاسُ يَا فَضْلُ اذْهَبْ إلَى أُمِّكَ فاتِ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِشَرابٍ مِنْ عِنْدِهَا فَقَالَ اسْقِنِي قَالَ يَا رَسولَ الله إنَّهُمْ يَجْعَلُونَ أيْدِيهِمْ فِيهِ قَالَ إسْقِنِي فَشَرِبَ مِنْهُ ثُمَّ أتَى زَمْزْمَ وهُمْ يَسْقُونَ ويَعْمَلُونَ فِيهَا فقَال اعْمَلُوا فإنَّكُمُ عَلَى عَمَلٍ صالِحٍ ثُمَّ قَالَ لَوْلاَ أنْ تُغْلَبُوا لنَزَلْتُ حَتَّى أضَعَ الحَبْلَ عَلى هاذهِ يَعْنِي عاتِقَهُ وأشَارَ إلَى عاتِقِهِ.

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (جَاءَ إِلَى السِّقَايَة) ، هَذَا الأسناد بِعَيْنِه مضى فِي أول: بابُُ الْمَرِيض يطوف رَاكِبًا، وَإِسْحَاق هُوَ ابْن شاهين الوَاسِطِيّ.
.

     وَقَالَ  صَاحب (التَّلْوِيح) : هُوَ إِسْحَاق بن بشر، وَهُوَ وهم، وخَالِد الأول: هُوَ ابْن عبد الله الطَّحَّان، وَالثَّانِي: خَالِد ابْن مهْرَان الْحذاء.

وَهَذَا الحَدِيث من أَفْرَاده.

ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (جَاءَ إِلَى السِّقَايَة) ، قد ذكرنَا أَن السِّقَايَة مَا يبْنى للْمَاء، وَهُوَ الْموضع الَّذِي يسقى فِيهِ المَاء، وَفِي (الْمُجْمل) : هُوَ الْموضع الَّذِي يتَّخذ فِيهِ الشَّرَاب فِي الْمَوْسِم وَغَيره.
قَوْله: (فَاسْتَسْقَى) أَي: طلب الشّرْب.
قَوْله: (يَا فضل) ، هُوَ ابْن الْعَبَّاس أَخُو عبد الله، وأمهما لبابَُُة بنت الْحَارِث الْهِلَالِيَّة.
قَوْله: (إِنَّهُم يجْعَلُونَ إيديهم فِيهِ) وَفِي رِوَايَة الطَّبَرِيّ عَن أبي كريب عَن أبي بكر بن عَيَّاش عَن يزِيد بن أبي زِيَاد عَن عِكْرِمَة (عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: لما طَاف النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَتَى الْعَبَّاس وَهُوَ فِي السِّقَايَة فَقَالَ: إسقوني.
قَالَ الْعَبَّاس: إِن هَذَا قد مرت يَعْنِي: قد مرس أَفلا أسقيك مِمَّا فِي بُيُوتنَا؟ قَالَ: لَا، وَلَكِن إسقوني مِمَّا يشرب النَّاس، فَأتى بِهِ فذاقه، فقطب ثمَّ دَعَا بِمَاء فَكَسرهُ، ثمَّ قَالَ: إِذا اشْتَدَّ نبيذكم فاكسروه بِالْمَاءِ، وتقطيبه مِنْهُ إِنَّمَا كَانَ لحموضة فَقَط، وكسره بِالْمَاءِ ليهون عَلَيْهِ شربه، وَمثل ذَلِك يحمل على مَا رُوِيَ عَن عمر وَعلي، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، فِيهِ لَا غير.
وروى مُسلم من حَدِيث بكر بن عبد الله الْمُزنِيّ قَالَ: كنت جَالِسا مَعَ ابْن عَبَّاس عِنْد الْكَعْبَة، فَأَتَاهُ أَعْرَابِي فَقَالَ: مَا لي أرى بني عمكم يسقون الْعَسَل وَاللَّبن وَأَنْتُم تسقون النَّبِيذ؟ أَمن حَاجَة بكم أم من بخل؟ فَقَالَ ابْن عَبَّاس: الْحَمد لله، مَا بِنَا من حَاجَة وَلَا بخل، قدم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على رَاحِلَته وَخَلفه أُسَامَة، فَاسْتَسْقَى، فأتيناه بِإِنَاء فِيهِ نَبِيذ فَشرب وَسَقَى فَضله أُسَامَة،.

     وَقَالَ : أَحْسَنْتُم وَأَجْمَلْتُمْ، كَذَا فَاصْنَعُوا، وَلَا نزيد مَا أَمر بِهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
قَوْله: (قَالَ: اسْقِنِي) ويروى: (فَقَالَ) ، الْفَاء فِيهِ فصيحة أَي: فَذهب فَأتى بِالشرابِ، فَقَالَ لَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إسقني.
قَوْله: (وهم يسقون) ، جملَة حَالية أَي: يسقون النَّاس.
قَوْله: (ويعملون فِيهَا) ، أَي: ينزحون مِنْهَا المَاء.
قَوْله: (لَوْلَا أَن تغلبُوا) ، بِضَم التَّاء على صِيغَة الْمَجْهُول، أَي: لَوْلَا أَن يجْتَمع عَلَيْكُم النَّاس، وَمن كَثْرَة الزحام تصيرون مغلوبين.
.

     وَقَالَ  الدَّاودِيّ: أَي أَنكُمْ لَا تتركوني أستقي وَلَا أحب أَن أفعل بكم مَا تَكْرَهُونَ فتغلبوا.
وَقيل: مَعْنَاهُ لَوْلَا أَن تقع عَلَيْكُم الْغَلَبَة بِأَن يجب عَلَيْكُم ذَلِك بِسَبَب فعلي.
وَقيل.
مَعْنَاهُ: لَوْلَا أَن تغلبُوا بِأَن ينتزعها الْوُلَاة مِنْكُم حرصا على حِيَازَة هَذِه المكرمة.
وروى مُسلم من حَدِيث جَابر (أَتَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بني عبد الْمطلب وهم يسقون على زَمْزَم، فَقَالَ: إنزغوا بني عبد الْمطلب، فلولا أَن يغلبكم النَّاس على سِقَايَتكُمْ لنزغت مَعكُمْ، فناولوه دلوا فَشرب مِنْهُ) .
وَذكر ابْن السكن أَن الَّذِي نَاوَلَهُ الدَّلْو هُوَ الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب.

ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: دَلِيل على أَن الظَّاهِر أَن أَفعاله فِيمَا يتَّصل بِأُمُور الشَّرِيعَة على الْوُجُوب، فَتَركه الْفِعْل شَفَقَة أَن يتَّخذ سنة، قَالَه الْخطابِيّ.
وَفِيه: الشّرْب من سِقَايَة الْحَاج،.

     وَقَالَ  طَاوُوس: الشّرْب من سِقَايَة الْعَبَّاس من تَمام الْحَج،.

     وَقَالَ  عَطاء: لقد أدْركْت هَذَا الشَّرَاب، وَأَن الرجل ليشْرب فتلتزق شفتاه من حلاوته، فَلَمَّا ذهبت الْحُرِّيَّة وَولى العبيد تهاونوا بِالشرابِ واستخفوا بِهِ، وروى ابْن أبي شيبَة عَن السَّائِب بن عبد الله أَنه أَمر مُجَاهدًا مَوْلَاهُ بِأَن يشرب من سِقَايَة الْعَبَّاس وَيَقُول: إِنَّه من تَمام السّنة.
.

     وَقَالَ  الرّبيع بن سعد: أَتَى أَبُو جَعْفَر السِّقَايَة فَشرب وَأعْطى جعفرا فَضله، وَمِمَّنْ شرب مِنْهَا: سعيد بن جُبَير وَأمر بِهِ سُوَيْد بن غَفلَة: وروى ابْن جريج عَن نَافِع أَن ابْن عمر لم يكن يشرب من النَّبِيذ فِي الْحَج، وَكَذَا روى خَالِد ابْن أبي بكر أَنه حج مَعَ سَالم مَا لَا يُحْصى، فَلم يره يشرب من نَبِيذ السِّقَايَة.
وَفِيه: إِثْبَات أَمر السِّقَايَة للْحَاج، وَأَن مشروعيته من بابُُ إكرام الضَّيْف واصطناع الْمَعْرُوف.
وَفِيه: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم تحرم عَلَيْهِ الصَّدقَات الَّتِي سَبِيلهَا الْمَعْرُوف كالمياه الَّتِي تكون فِي السقايات تشربها الْمَارَّة.
.

     وَقَالَ  ابْن التِّين: شربه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يَخْلُو أَن يكون ذَلِك من مَال الْكَعْبَة الَّذِي كَانَ يُؤْخَذ لَهَا من الْخمس، أَو من مَال الْعَبَّاس الَّذِي عمله للغني وَالْفَقِير، فَشرب مِنْهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ليسهل على النَّاس.
وَفِيه: أَنه لَا يكره طلب السَّقْي من الْغَيْر.
وَفِيه: رد مَا يعرض على الْمَرْء من الْإِكْرَام إِذا عارضته مصلحَة أولى مِنْهُ، لِأَن رده لما عرض عَلَيْهِ الْعَبَّاس مِمَّا يُؤْتى بِهِ من بَيته لمصْلحَة التَّوَاضُع الَّتِي ظَهرت من شربه مِمَّا يشرب مِنْهُ النَّاس.
وَفِيه: التَّرْغِيب فِي سقِِي المَاء خُصُوصا مَاء زَمْزَم.
وَفِيه: تواضع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
وَفِيه: حرص أَصْحَابه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على الِاقْتِدَاء بِهِ.
وَفِيه: كَرَاهَة التقذر والتكره للمأكولات والمشروبات.
وَفِيه: أَن الأَصْل فِي الْأَشْيَاء الطَّهَارَة لتنَاوله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، من الشَّرَاب الَّذِي غمست فِيهِ الْأَيْدِي، قَالَه ابْن التِّين، وَالله أعلم بِحَقِيقَة الْحَال.