فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب: أين يصلي الظهر يوم التروية

( بابٌُ أيْنَ يُصَلِّي الظُّهْرَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ)

أَي: هَذَا بابُُ يبين فِيهِ أَيْن يُصَلِّي الظّهْر، أَي: فِي أَي مَكَان يُصَلِّي صَلَاة الظّهْر يَوْم التَّرويَة، وَهُوَ الْيَوْم الثَّامِن من ذِي الْحجَّة، والتروية، بِفَتْح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَسُكُون الرَّاء وَكسر الْوَاو وَتَخْفِيف الْيَاء آخر الْحُرُوف: سميت بذلك لأَنهم كَانُوا يتروون بِحمْل المَاء مَعَهم من مَكَّة إِلَى عَرَفَات، وَقيل: إِلَى منى، وَقيل: لِأَن آدم، عَلَيْهِ السَّلَام، رأى فِيهِ حَوَّاء، عَلَيْهَا السَّلَام، وَقيل: لِأَن جِبْرِيل، عَلَيْهِ السَّلَام أرى فِيهِ إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام،، الْمَنَاسِك، وَقيل: لأَنهم كَانُوا يروون إبلهم فِيهِ، وَقيل: لِأَن إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ السَّلَام، رأى تِلْكَ اللَّيْلَة فِي مَنَامه أَنه يذبح وَلَده بِأَمْر الله تَعَالَى، فَلَمَّا أصبح كَانَ يروي فِي النَّهَار كُله، أَي: يتفكر.
وَقيل: هُوَ من الرِّوَايَة، لِأَن الإِمَام يروي للنَّاس مناسكهم.
قلت: ذكره الْجَوْهَرِي فِي: بابُُ روى، معتل الْعين وَاللَّام، وَذكر فِيهِ مواد كَثِيرَة، ثمَّ قَالَ: وَسمي يَوْم التَّرويَة لأَنهم كَانُوا يرتوون فِيهِ من المَاء لما بعد، وَيكون أَصله من: رويت من المَاء بِالْكَسْرِ أوري ريا وريا، وروى أَيْضا مثل، رَضِي وَتَكون التَّرويَة مصدرا من بابُُ التفعيل، تَقول: رويته المَاء تروية، وَأما قَول من قَالَ: لِأَن آدم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، رأى فِيهِ حَوَّاء فَغير صَحِيح من حَدِيث الِاشْتِقَاق، لِأَن رأى الَّذِي هُوَ من الرُّؤْيَة مَهْمُوز الْعين معتل اللَّام، نعم، جَاءَ من هَذَا الْبابُُ ترئية وترية، وَلم يَجِيء: تروية فَالْأول من قَوْلك: رَأَتْ الْمَرْأَة ترئية إِذا رَأَتْ الدَّم الْقَلِيل عِنْد الْحيض، وَالثَّانِي اسْم الْخِرْقَة الَّتِي تعرف بهَا الْمَرْأَة حَيْضهَا من طهرهَا، وَأما بَقِيَّة الْأَقْوَال فكون أَصْلهَا من الرُّؤْيَة غير مستبعد، وَلَكِن لم يجىء لفظ التَّرويَة مِنْهَا لعدم الْمُنَاسبَة بَينهمَا فِي الِاشْتِقَاق.
وَأما قَول من قَالَ: هُوَ من الرِّوَايَة، فبعيد جدا لِأَنَّهُ لم يَجِيء تروية من هَذَا الْبابُُ لعدم الِاشْتِقَاق بَينهمَا،.

     وَقَالَ  بَعضهم: قيل فِي تَسْمِيَة التَّرويَة أَقْوَال شَاذَّة، وَذكر هَذِه الْأَقْوَال.
قلت: هَذَا يدل على أَن أَصْلهَا صَحِيح فِي الِاشْتِقَاق، لِأَن الشاذ مَا يكثر اسْتِعْمَاله، وَلكنه على خلاف الْقيَاس، وَلَكِن هَذَا الْقَائِل لَو عرف الِاشْتِقَاق بَين الْمصدر وَالْأَفْعَال الَّتِي تشتق مِنْهُ لما صدر مِنْهُ هَذَا الْكَلَام فِي غير تَأمل وترو.

[ قــ :1583 ... غــ :1653 ]
- حدَّثني عَبْدُ الله بنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حدَّثنا إسْحَاقُ الأزْرَقُ قَالَ حدَّثنا سُفْيانُ عنْ عَبْدِ العَزِيزِ بنِ رُفَيْعٍ قَالَ سَألْتُ أنَسَ بنَ مالِكٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ.

قُلْتُ أخْبِرْنِي بِشِيْءٍ عَقَلْتَهُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أيْنَ صَلَّى الظُّهْرَ والعَصْرَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ قَالَ بِمِنًى.

قُلْتُ فأيْنَ صَلَّى العَصْرَ يَوْمَ النَّفْرِ قَالَ بِالأبْطَحِ ثُمَّ قالَ افْعَلْ كَما يَفْعَلُ أُمَرَاؤُكَ.

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.

ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: عبد الله بن مُحَمَّد بن عبد الله أَبُو جَعْفَر الْجعْفِيّ الْمَعْرُوف بالمسندي.
الثَّانِي: إِسْحَاق بن يُوسُف الْأَزْرَق، مَاتَ سنة سِتّ وَتِسْعين وَمِائَة.
الثَّالِث: سُفْيَان الثَّوْريّ.
الرَّابِع: عبد الْعَزِيز بن رفيع، بِضَم الرَّاء وَفتح الْفَاء وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره عين مُهْملَة، قد مر فِي أَبْوَاب الطّواف.
الْخَامِس: أنس بن مَالك، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.

ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع وبصيغة الْجمع فِي موضِعين.
وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع.
وَفِيه: القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع.
وَفِيه: السُّؤَال.
وَفِيه: أَن شَيْخه بخاري وَأَنه من أَفْرَاده وَإِسْحَاق واسطي وسُفْيَان كُوفِي وَعبد الْعَزِيز مكي سكن الْكُوفَة، رَحمَه الله.
وَفِيه: أَنه لَيْسَ لعبد الْعَزِيز بن رفيع عَن أنس فِي ( الصَّحِيحَيْنِ) إلاَّ هَذَا الْوَاحِد.

ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْحَج عَن مُحَمَّد بن الْمثنى، وَعَن عَليّ وَإِسْمَاعِيل بن أبان، وَأخرجه مُسلم فِيهِ عَن زُهَيْر بن حَرْب.
وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن أَحْمد بن إِبْرَاهِيم.
وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن أَحْمد بن منيع وَمُحَمّد بن الْوَزير الوَاسِطِيّ.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل وَعبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد.

ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: ( عقلته) ، أَي: أَدْرَكته وفهمته، وَهِي جملَة فِي مَحل الْجَرّ لِأَنَّهَا وَقعت صفة لقَوْله: شَيْء.
قَوْله: ( أَيْن صلى الظّهْر) ، يَعْنِي فِي: أَي مَكَان صلاهَا.
قَوْله: ( قَالَ: بمنى) أَي: صلاهَا بمنى.
قَوْله: ( يَوْم النَّفر) ، بِفَتْح النُّون وَسُكُون الْفَاء، وَهُوَ الرُّجُوع من منى.
قَوْله: ( بِالْأَبْطح) هُوَ مَكَان متسع بَين مَكَّة وَمنى، وَالْمرَاد بِهِ: المحصب.
قَوْله: ( ثمَّ قَالَ) ، أَي: أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.

ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: إستحبابُ إِقَامَة صَلَاة الظّهْر وَالْعصر يَوْم التَّرويَة بمنى لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خرج إِلَى منى قبل الظّهْر وَصلى فِيهِ الظّهْر وَالْعصر، وَذكر أَبُو سعد النَّيْسَابُورِي فِي ( كتاب شرف الْمُصْطَفى) : أَن خُرُوجه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم التَّرويَة كَانَ ضحى.
وَفِي سيرة الملاّ: أَنه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، خرج إِلَى منى بَعْدَمَا زاغت الشَّمْس.
وَفِي ( شرح الْمُوَطَّأ) لأبي عبد الله الْقُرْطُبِيّ: خرج، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِلَى منى عَشِيَّة يَوْم التَّرويَة،.

     وَقَالَ  النَّوَوِيّ: وَيكون خُرُوجهمْ بعد صَلَاة الصُّبْح بِمَكَّة حَيْثُ يصلونَ الظّهْر فِي أول وَقتهَا، هَذَا هُوَ الصَّحِيح الْمَشْهُور من نُصُوص الشَّافِعِي.
وَفِيه: قَول ضَعِيف أَنهم يصلونَ الظّهْر بِمَكَّة ثمَّ يخرجُون، وَفِي حَدِيث جَابر الطَّوِيل عِنْد مُسلم: ( فَلَمَّا كَانَ يَوْم التَّرويَة توجهوا إِلَى منى فأهلُّوا بِالْحَجِّ، وَركب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فصلى بهَا الظّهْر وَالْعصر وَالْمغْرب وَالْعشَاء وَالْفَجْر.
.
)
الحَدِيث، وروى أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَأحمد وَالْحَاكِم، من حَدِيث ابْن عَبَّاس، قَالَ: ( صلى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الظّهْر يَوْم التَّرويَة، وَالْفَجْر يَوْم عَرَفَة بمنى) ، وَلأَحْمَد من حَدِيثه: ( صلى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بمنى خمس صلوَات) ، وَلأَحْمَد عَن ابْن عمر: أَنه كَانَ يحب إِذا اسْتَطَاعَ أَن يُصَلِّي الظّهْر بمنى، يَوْم التَّرويَة، وَذَلِكَ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى الظّهْر بمنى، وَحَدِيث ابْن عمر فِي ( الْمُوَطَّأ) : عَن نَافِع عَنهُ مَوْقُوف، وَلابْن خُزَيْمَة وَالْحَاكِم من طَرِيق الْقَاسِم ابْن مُحَمَّد عَن عبد الله بن الزبير قَالَ: من سنة الْحَج أَن يُصَلِّي الإِمَام الظّهْر وَمَا بعْدهَا، وَالْفَجْر بمنى، ثمَّ يَغْدُونَ إِلَى عَرَفَة،.

     وَقَالَ  الْمُهلب: النَّاس فِي سَعَة من هَذَا يخرجُون مَتى أَحبُّوا وَيصلونَ حَيْثُ أمكنهم، وَلذَلِك قَالَ أنس: صلى حَيْثُ يُصَلِّي أمراؤك، وَالْمُسْتَحب فِي ذَلِك مَا فعله الشَّارِع، صلى الظّهْر وَالْعصر بمنى، وَهُوَ قَول مَالك وَالثَّوْري وَأبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق وَأبي ثَوْر.
.

     وَقَالَ  ابْن حبيب: إِذا مَالَتْ الشَّمْس يطوف سبعا ويركع وَيخرج، وَإِن خرج قبل ذَلِك فَلَا حرج، وَعَادَة أهل مَكَّة أَن يخرجُوا إِلَى منى بعد صَلَاة الْعشَاء، وَكَانَت عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، تخرج ثلث اللَّيْل، وَهَذَا يدل على التَّوسعَة، وَكَذَلِكَ الْمبيت عَن منى لَيْلَة عَرَفَة لَيْسَ فِيهِ حرج إِذا وافى عَرَفَة ذَلِك الْوَقْت الَّذِي يُخَيّر، وَلَيْسَ فِيهِ جبر كَمَا يجْبر ترك الْمبيت بهَا بعد الْوُقُوف أَيَّام رمي الْجمار، وَبِه قَالَ مَالك وَأَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو ثَوْر.





[ قــ :1584 ... غــ :1654 ]
- حدَّثنا عَليٌّ سَمِعَ أبَا بَكْرِ بنِ عَيَّاشٍ قَالَ حدَّثنا عَبْدُ العَزِيزِ قَالَ لَ قيتُ أنَسا ( ح) وحدَّثني إسْمَاعِيلُ بنُ أبَانٍ قَالَ حدَّثنا أبُو بَكْرٍ عنْ عَبْدِ العَزِيزِ قَالَ خَرَجْتُ إلَى مِنىً يَوْمَ التَّرْوِيَةِ فلَقِيتُ أنَسا رَضِي الله تَعَالَى عنهُ ذَاهِبا عَلَى حِمَارٍ فَقُلْتُ أيْنَ صَلَّى النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هاذَا اليَوْمَ الظُّهْرَ فَقَالَ انْظُرْ حَيْثُ يُصَلِّي أُمَراؤُكَ فَصَلِّ.

( انْظُر الحَدِيث 3561 وطرفه) .

هَذَا طَرِيق آخر أوردهُ من رِوَايَة أبي بكر بن عَيَّاش، الظَّاهِر أَنه أوردهُ تَأْكِيدًا لطريق إِسْحَاق الْأَزْرَق، فَإِن التِّرْمِذِيّ لما أخرج حَدِيث إِسْحَاق قَالَ: صَحِيح يستغرب من حَدِيث إِسْحَاق الْأَزْرَق عَن الثَّوْريّ، أَرَادَ أَن إِسْحَاق تفرد بِهِ، وَرَوَاهُ البُخَارِيّ من طَرِيقين: الأول: عَن عَليّ هُوَ ابْن الْمَدِينِيّ، قَالَه الْكرْمَانِي:.

     وَقَالَ  بَعضهم: وَالَّذِي يظْهر لي أَنه ابْن الْمَدِينِيّ؟ قلت: أَخذه من الْكرْمَانِي ثمَّ نسبه إِلَى نَفسه، وَأَبُو بكر بن عَيَّاش، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره شين مُعْجمَة: ابْن سَالم الْأَسدي الْكُوفِي الحناط، بالنُّون، الْمقري، قيل: اسْمه مُحَمَّد، وَقيل: عبد الله وَقيل: سَالم، وَقيل غير ذَلِك، وَالصَّحِيح ان اسْمه كنيته، وَعبد الْعَزِيز هُوَ ابْن رفيع الْمَذْكُور.
وَالطَّرِيق الثَّانِي: عَن إِسْمَاعِيل بن أبان، بِفَتْح الْهمزَة وَتَخْفِيف الْبَاء الْمُوَحدَة وَفِي آخِره نون، وَهُوَ منصرف على الْأَصَح، وَقد مر فِي: بابُُ من قَالَ فِي الْخطْبَة: أما بعد.
وَإِنَّمَا قدم الطَّرِيق الأول لتصريحه فِيهِ بِالتَّحْدِيثِ بَين أبي بكر بن عَيَّاش وَعبد الْعَزِيز، وَالطَّرِيق الثَّانِي بالعنعنة.

قَوْله: ( ذَاهِبًا) نصب على الْحَال، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: رَاكِبًا.
قَوْله: ( هَذَا الْيَوْم) أَي: يَوْم التَّرويَة.
قَوْله: ( فَقَالَ) أَي: أنس لعبد الْعَزِيز: انْظُر.
قَوْله: ( فصلِّ) أَمر يُخَاطب بِهِ أنس لعبد الْعَزِيز.

وَفِيه: إِشَارَة إِلَى مُتَابعَة أولي الْأَمر والاحتراز عَن مُخَالفَة الْجَمَاعَة، وَكَانَ الْأُمَرَاء لَا ينزلون بِالْأَبْطح، وَكَانُوا لَا يصلونَ الظّهْر وَالْعصر إلاَّ بمنى كَمَا فعله الشَّارِع، فَلذَلِك استحبت الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة وَغَيرهم ذَلِك، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مستقصىً.