فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب متى يدفع من جمع

(بابٌُ متَى يُدْفَعُ مِنْ جَمْعٍ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان وَقت الدّفع من جمع، يَعْنِي: بعد الْوُقُوف بالمشعر الْحَرَام.
وَقَوله: بِضَم الْيَاء على بِنَاء الْمَجْهُول، وَيجوز بِفَتْح الْيَاء على بِنَاء الْمَعْلُوم أَي: مَتى يدْفع الْحَاج.



[ قــ :1613 ... غــ :1684 ]
- حدَّثنا حَجَّاجُ بنُ مِنْهَالٍ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ بنُ الحَجَّاجِ عنْ أبِي إسْحَاقَ سَمِعْتُ عَمْرَو بنَ مَيْمُون يَقُولُ شَهِدْتُ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ صَلَّى بِجَمْعٍ الصُّبْحَ ثُمَّ وَقَفَ فَقَالَ إنَّ المُشْرِكينَ كانُوا لاَ يُفِيضُونَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ ويَقُولُونَ أشْرِقْ ثَبِيرُ وأنَّ النَّبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خالَفَهُمْ ثُمَّ أفَاضَ قَبْلَ أنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ.

(الحَدِيث 4861 طرفه فِي: 8383) .

مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (ثمَّ أَفَاضَ قبل أَن تطلع الشَّمْس) ، فَبين أَن وَقت الدّفع من جمع قبل طُلُوع الشَّمْس.

وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، وحجاج على وزن: فعال، بِالتَّشْدِيدِ، ومنهال، بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون النُّون: الْأنمَاطِي الْبَصْرِيّ وَأَبُو إِسْحَاق هُوَ عَمْرو بن عبد الله السبيعِي.
وَعَمْرو بن مَيْمُون بن مهْرَان الْبَصْرِيّ.

وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : وَهَذَا الحَدِيث من أَفْرَاده.
قلت: لَيْسَ كَذَلِك، فَإِن البُخَارِيّ رَوَاهُ من رِوَايَة شُعْبَة وَالثَّوْري، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد من رِوَايَة الثَّوْريّ فَقَط، وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ من رِوَايَة شُعْبَة فَقَط، وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه من رِوَايَة حجاج بن أَرْطَأَة ثَلَاثَتهمْ عَن أبي إِسْحَاق بِهِ.
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ فَقَالَ: حَدثنَا مَحْمُود بن غيلَان حَدثنَا أَبُو دَاوُد أَنبأَنَا شُعْبَة (عَن أبي إِسْحَاق قَالَ: سَمِعت عَمْرو بن مَيْمُون يَقُول: كُنَّا وقوفا بِجمع، فَقَالَ عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: إِن الْمُشْركين كَانُوا لَا يفيضون حَتَّى تطلع الشَّمْس، وَكَانُوا يَقُولُونَ: أشرق ثبير، وَإِن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، خالفهم.
فَأَفَاضَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قبل طُلُوع الشَّمْس) .
قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح، وروى التِّرْمِذِيّ أَيْضا من حَدِيث ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَفَاضَ قبل طُلُوع الشَّمْس) .
وَانْفَرَدَ بِهِ، وروى مُسلم وَأَبُو دَاوُد من حَدِيث جَابر الطَّوِيل، وَفِيه: (فَلم يزل وَاقِفًا حَتَّى أَسْفر جدا، فَدفع قبل أَن تطلع الشَّمْس) .

ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (صلى بِجمع) ، أَي: بِالْمُزْدَلِفَةِ.
قَوْله: (لَا يفيضون) ، بِضَم الْيَاء من الْإِفَاضَة، وَهُوَ الدّفع.

     وَقَالَ  الْجَوْهَرِي: وكل دفْعَة إفَاضَة، قَالَ: وأفاضوا فِي الحَدِيث أَي انْدَفَعُوا فِيهِ، وأفاض الْبَعِير أَي: دفع جرته من كرشه فأخرجها.
قَوْله: (أشرق) ، بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة وَكسر الرَّاء: أَمر من الْإِشْرَاق، يُقَال: أشرقَ: إِذا دخل فِي الشروق، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: { فأتبعوهم مشرقين} (الشُّعَرَاء: 06) .
أَي: حَال كَونهم داخلين فِي شروق الشَّمْس، كَمَا يُقَال: أجنب، إِذا دخل فِي الْجنُوب، وأشمل إِذا دخل فِي الشمَال، وَحَاصِل معنى: أشرق ثبير؛ لتطلع عَلَيْك الشَّمْس.
.

     وَقَالَ  الْهَرَوِيّ: يُرِيد: أَدخل أَيهَا الْجَبَل فِي الشروق.
.

     وَقَالَ  عِيَاض: أشرق ثبير: أَدخل يَا جبل فِي الْإِشْرَاق.
.

     وَقَالَ  ابْن التِّين: ضَبطه أَكْثَرهم بِفَتْح الْهمزَة، وَبَعْضهمْ بِكَسْر الْهمزَة كَأَنَّهُ ثلاثي: من شَرق، وَلَيْسَ هَذَا ببيِّن، لِأَن شَرق مستقبله: يشرق، بِضَم الرَّاء، وَالْأَمر مِنْهُ: أشرق، بِضَم الْهمزَة لَا بِالْكَسْرِ، وَالَّذِي عَلَيْهِ الْجَمَاعَة بِفَتْح الْهمزَة أَي: لتطلع عَلَيْك الشَّمْس.
وَقيل: مَعْنَاهُ اطلع الشَّمْس يَا جبل.
قَوْله: (ثبير) ، بِفَتْح الثَّاء الْمُثَلَّثَة وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره رَاء: وَهُوَ جبل الْمزْدَلِفَة على يسَار الذَّاهِب إِلَى منى.
وَقيل: هُوَ أعظم جبال مَكَّة عرف بِرَجُل من هُذَيْل اسْمه ثبير وَدفن فِيهِ، وَهَذَا هُوَ المُرَاد، وَإِن كَانَ للْعَرَب جبال أخر كل إسم مِنْهَا ثبير، وَهُوَ منصرف، وَلَكِن بِدُونِ التَّنْوِين لِأَنَّهُ منادى مُفْرد معرفَة تَقْدِيره: أشرق يَا ثبير،.

     وَقَالَ  مُحَمَّد بن الْحسن: إِن للْعَرَب أَرْبَعَة أجبال أسماؤها: ثبير، وَكلهَا حجازية،.

     وَقَالَ  الْمُحب الطَّبَرِيّ: أما حَدِيث: أقطع رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، شُرَيْح بن ضَمرَة الْمُزنِيّ ثبيرا فَلَيْسَ بجبل، وَإِنَّمَا هُوَ اسْم مَا لمزبنة، وَعند ابْن مَاجَه: أشرق ثبير، كَيْمَا نغير من الإغارة أَي: كَيْمَا ندفع ونفيض للنحر وَغَيره، وَذَلِكَ من قَوْلهم: أغار الْفرس إغارة الثَّعْلَب، وَذَلِكَ إِذا دفع وأسرع فِي دَفعه.
.

     وَقَالَ  ابْن التِّين: وَضَبطه بَعضهم بِسُكُون الرَّاء فِي ثبير ونغير لإِرَادَة السجع.
قلت: لِأَنَّهُ من محسنات الْكَلَام.
قَوْله: (ثمَّ أَفَاضَ) ، يحْتَمل أَن يكون فَاعله عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَوَجهه أَن يكون: ثمَّ أَفَاضَ عطفا على قَوْله: (إِن الْمُشْركين لَا يفيضون حَتَّى تطلع الشَّمْس) وَفِيه بعد، وَالَّذِي يَقْتَضِيهِ التَّرْكِيب أَن فَاعله هُوَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَنَّهُ عطف على قَوْله: (خالفهم) وَيُؤَيّد هَذَا مَا وَقع فِي رِوَايَة أبي دَاوُد الطَّيَالِسِيّ عَن شُعْبَة عِنْد التِّرْمِذِيّ: (فَأَفَاضَ) ، بِالْفَاءِ وَفِي رِوَايَة الثَّوْريّ: (فخالفهم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأَفَاضَ) ، وَفِي رِوَايَة الطَّبَرِيّ من طَرِيق زَكَرِيَّا عَن أبي إِسْحَاق بِسَنَدِهِ: (كَانَ الْمُشْركُونَ لَا ينفرون حَتَّى تطلع الشَّمْس، وَأَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كره ذَلِك فنفر قبل طُلُوع الشَّمْس) ، وَله من رِوَايَة إِسْرَائِيل: فَدفع بِقدر صَلَاة الْقَوْم المسفرين لصَلَاة الْغَدَاة، وَأظْهر من ذَلِك وَأقوى للدلالة على أَنه النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مَا رَوَاهُ مُسلم من حَدِيث جَابر الطَّوِيل، وَفِيه: (ثمَّ ركب الْقَصْوَاء حَتَّى أَتَى الْمشعر الْحَرَام فَاسْتقْبل الْقبْلَة، فَدَعَا الله وَكبره وَهَلله وَوَحدهُ، فَلم يزل وَاقِفًا حَتَّى أَسْفر جدا فَدفع قبل أَن تطلع الشَّمْس) .

ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: الْوُقُوف بِمُزْدَلِفَة، وَقد ذكرنَا أَنه إِذا ترك الْوُقُوف بهَا بعد الصُّبْح من غير عذر فَعَلَيهِ دم، وَإِن كَانَ بِعُذْر الزحام فتعجل السّير إِلَى منى فَلَا شَيْء عَلَيْهِ.
وَفِيه: الْإِفَاضَة قبل طُلُوع الشَّمْس من يَوْم النَّحْر، وَاخْتلفُوا فِي الْوَقْت الْأَفْضَل للإفاضة، فَذهب الشَّافِعِي إِلَى أَنه إِنَّمَا يسْتَحبّ بعد كَمَال الْإِسْفَار، وَهُوَ مَذْهَب الْجُمْهُور لحَدِيث جَابر الطَّوِيل.
وَفِيه: (فَلم يزل وَاقِفًا حَتَّى أَسْفر جدا فَدفع قبل أَن تطلع الشَّمْس) ، وَذهب مَالك إِلَى اسْتِحْبابُُ الْإِفَاضَة من الْمزْدَلِفَة قبل الْأَسْفَار) ، والْحَدِيث حجَّة عَلَيْهِ، وروى ابْن خُزَيْمَة والطبري من طَرِيق عِكْرِمَة (عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا: كَانَ أهل الْجَاهِلِيَّة يقفون بِالْمُزْدَلِفَةِ حَتَّى إِذا طلعت الشَّمْس فَكَانَت على رُؤُوس الْجبَال كَأَنَّهَا العمائم على رُؤُوس الرِّجَال دفعُوا فَدفع رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، حِين أَسْفر كل شَيْء قبل أَن تطلع الشَّمْس) ، وروى الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث الْمسور بن مخرمَة نَحوه.