فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب ذبح الرجل البقر عن نسائه من غير أمرهن

(بابُُ ذَبْحِ الرَّجُلِ الْبَقَرَ عنْ نِسَائِهِ مِنْ غَيْرِ أمْرِهِنَّ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان حكم ذبح الرجل الْبَقر ... إِلَى آخِره، هَذَا التَّقْدِير على أَن يكون فِي معنى التَّرْجَمَة اسْتِفْهَام بِمَعْنى: هَل يجزىء ذبح الرجل الْبَقر عَن نِسَائِهِ من غير أمرهن إِذْ وَجب عَلَيْهِنَّ الدَّم؟ وَجَوَابه يفهم من حَدِيث الْبابُُ أَنه يجزىء عَنْهُن، وَعَن هَذَا قَالَ الْمُهلب فِي حَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، من الْفِقْه: أَنه من كفر عَن غَيره كَفَّارَة يَمِين أَو كَفَّارَة ظِهَار أَو قتل أَو أهْدى عَنهُ أَو أدّى عَنهُ دينا فَإِن ذَلِك يكون مجزئا عَنهُ، لِأَن نسَاء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يعرفن مَا أدّى عَنْهُن لما وَجب عَلَيْهِنَّ من نسك التَّمَتُّع.



[ قــ :1635 ... غــ :1709 ]
- حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا مالِكٌ عنْ يَحيى بنِ سَعِيدٍ عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمانِ قالَتْ سَمِعْتُ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا تَقُولُ خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ ذِي القَعْدَةِ لاَ نُرَى إلاَّ الحَجَّ فلَمَّا دَنَوْنَا مِنْ مَكَّةَ أمَرَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَنْ لَمْ يَكُنْ معَهُ هَدْيٌ إذَا طافَ وسَعَى بَيْنَ الصَّفَا والمَرْوَةِ أنْ يَحِلَّ قالَتْ فَدُخِلَ علَيْنَا يَوْمَ النَّحْرِ بِلَحْمِ بَقَرٍ فقُلْتُ مَا هاذا قَالَ نَحَرَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عنْ أزْوَاجِهِ قَالَ يَحْيَى فذَكَرْتُهُ لِلقَاسِمِ فَقَالَ أتَتْكَ بِالحَدِيثِ عَلَى وَجْهِهِ..
قيل لَا مُطَابقَة بَين الحَدِيث والترجمة، لِأَن التَّرْجَمَة بِالذبْحِ والْحَدِيث بِلَفْظ النَّحْر.
وَأجِيب: بِأَنَّهُ أَشَارَ بِلَفْظ الذّبْح إِلَى مَا ورد فِي بعض طرق الحَدِيث بِلَفْظ: الذّبْح، وَسَيَأْتِي هَذَا بعد سَبْعَة أَبْوَاب فِي: بابُُ مَا يَأْكُل من الْبدن وَمَا يتَصَدَّق، وللعلماء فِيهِ خلاف سَيَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى.

ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة، قد تكَرر ذكرهم، وَيحيى بن سعيد الْأنْصَارِيّ، وَعمرَة بنت عبد الرَّحْمَن بن سعد بن زُرَارَة الْأَنْصَارِيَّة.

ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد.
وَفِيه: الْإِخْبَار كَذَلِك.
وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين.
وَفِيه: السماع.
وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين.
وَفِيه: أَن رِجَاله مدنيون مَا خلا شيخ البُخَارِيّ فَإِنَّهُ تنيسي وَهُوَ أَيْضا من أَفْرَاده.
وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التابعية عَن الصحابية.
وَفِيه: عَن عمْرَة، وَفِي رِوَايَة سُلَيْمَان بن بِلَال: عَن يحيى حَدَّثتنِي عمْرَة، وَسَيَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى.

ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْجِهَاد عَن القعْنبِي عَن مَالك، وَفِي الْحَج أَيْضا عَن خَالِد بن مخلد عَن سُلَيْمَان بن بِلَال، وَأخرجه مُسلم فِي الْحَج أَيْضا عَن القعْنبِي عَن سُلَيْمَان بن بِلَال وَعَن مُحَمَّد ابْن أبي الْمثنى وَعَن ابْن أبي عمر.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن سَلمَة والْحَارث بن مِسْكين وَعَن عَمْرو ابْن عَليّ وَعَن هناد.

ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (لخمس بَقينَ) ، كَذَا قالته عَائِشَة لِأَنَّهَا حدثت بذلك بعد أَن انْقَضى الشَّهْر، فَإِن كَانَ فِي الشَّهْر فَالصَّوَاب أَن تَقول: لخمس إِن بَقينَ، لِأَنَّهُ لَا يدْرِي الشَّهْر كَامِل أَو نَاقص.
قَوْله: (من ذِي الْقعدَة) ، بِفَتْح الْقَاف وَكسرهَا، سمي بذلك لأَنهم كَانُوا يَقْعُدُونَ فِيهِ عَن الْقِتَال.
قَوْله: (لَا نرى) ، بِضَم النُّون وَفتح الرَّاء: أَي لَا نظن إلاَّ الْحَج، وَهَذَا يحْتَمل أَن تُرِيدُ حِين خُرُوجهمْ من الْمَدِينَة قبل الإهلال، وَيحْتَمل أَن تُرِيدُ إِن إِحْرَام من أحرم مِنْهُم بِالْعُمْرَةِ لَا يحل حَتَّى يردف الْحَج، فَيكون الْعَمَل لَهما جَمِيعًا، والإهلال مِنْهُمَا، وَلَا يَصح إرادتها، أَن كلهم أحرم بِالْحَجِّ لحديثها الآخر من رِوَايَة عمْرَة عَنْهَا، فمنا من أهل بِالْحَجِّ، وَمنا من أهل بِعُمْرَة، وَمنا من أهل بهما.
وَقيل: لَا نرى إِلَّا الْحَج أَي: لم يَقع فِي أنفسهم إلاَّ ذَلِك،.

     وَقَالَ  الدَّاودِيّ: وَفِيه دَلِيل أَنهم أهلوا منتظرين، وَترد عَلَيْهِ رِوَايَة: (لَا نذْكر إِلَّا الْحَج) .
قَوْله: (أَن يحل) ، بِكَسْر الْحَاء أَي: يصير حَلَالا بِأَن يتمتع، وَأما من مَعَه الْهَدْي، فَلَا يتَحَلَّل حَتَّى يبلغ الْهَدْي.
قَوْله: (فَدخل علينا) على صِيغَة الْمَجْهُول، بِضَم الدَّال.
قَوْله: (يَوْم النَّحْر) ، بِالنّصب على الظَّرْفِيَّة أَي: فِي يَوْم النَّحْر.
قَوْله: (نحر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن أَزوَاجه) مُقْتَضَاهُ نحر الْبَقر.
قَوْله: (فَقَالَ أتتك) أَي: قَالَ الْقَاسِم بن مُحَمَّد بن أبي بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، أتتك عمْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، بِالْحَدِيثِ الَّذِي حدثته على وَجهه، يَعْنِي: ساقته لَك سياقا تَاما لم تختصر مِنْهُ شَيْئا، وَلَا غيرته بِتَأْوِيل وَلَا غَيره، فَذكرت ابْتِدَاء الْإِحْرَام وانتهاءه حَتَّى وصلوا إِلَى مَكَّة، وَفِيه تَصْدِيق لعمرة، وإخبار عَن حفظهَا وضبطها.

ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: أَن نحر الْبَقر جَائِز عِنْد الْعلمَاء إلاَّ أَن الذّبْح مُسْتَحبّ عِنْدهم لقَوْله تَعَالَى: { إِن الله يَأْمُركُمْ أَن تذبحوا بقرة} (الْبَقَرَة: 76) .
وَخَالف الْحسن بن صَالح فاستحب نحرها.
.

     وَقَالَ  مَالك: إِن ذبح الْجَزُور من غير ضَرُورَة أَو نحر الشَّاة من غير ضَرُورَة لم تُؤْكَل، وَكَانَ مُجَاهِد يسْتَحبّ نحر الْبَقر.
قلت: الحَدِيث ورد بِلَفْظ النَّحْر، كَمَا هَهُنَا، وَورد أَيْضا بِلَفْظ: الذّبْح، وَعَلِيهِ ترْجم البُخَارِيّ على مَا يَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
قيل: يجوز أَن يكون الرَّاوِي لما اسْتَوَى الْأَمْرَانِ عِنْده عبر مرّة بالنحر وَمرَّة بِالذبْحِ.
وَفِي رِوَايَة ضحى، قَالَ ابْن التِّين: فَإِن يكنَّ هَدَايَا فَهُوَ أصل مَذْهَب مَالك، وَإِن يكنَّ ضحايا فَيحْتَمل أَن تكون وَاجِبَة كوجوب ضحايا غير الْحَاج.
.

     وَقَالَ  الْقَدُورِيّ: الْمُسْتَحبّ فِي الْإِبِل النَّحْر، فَإِن ذَبحهَا جَازَ وَيكرهُ، وَإِنَّمَا يكره فعله لَا الْمَذْبُوح، وَالذّبْح هُوَ قطع الْعُرُوق الَّتِي فِي أَعلَى الْعُنُق تَحت اللحيين، والنحر يكون فِي اللبة، كَمَا أَن الذّبْح يكون فِي الْحلق.
وَفِيه: احتجاج جمَاعَة من الْعلمَاء فِي جَوَاز الِاشْتِرَاك فِي هدي التَّمَتُّع وَالْقرَان، وَمنعه مَالك.
قَالَ ابْن بطال: وَلَا حجَّة لمن خَالفه فِي هَذَا الحَدِيث لِأَن قَوْله: (نحر عَن أَزوَاجه بقرة وَاحِدَة فَإِن يُونُس انْفَرد بِهِ وَحده وَخَالفهُ مَالك فَأرْسلهُ وَرَوَاهُ الْقَاسِم وَعمرَة عَن عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نحر عَن أَزوَاجه الْبَقر) ، يحْتَمل أَن يكون نحر عَن كل وَاحِدَة مِنْهُنَّ بقرة، قَالَ: وَهَذَا غير مَدْفُوع فِي التَّأْوِيل، وردَّ بِأَنَّهُ يَدْفَعهُ رِوَايَة عُرْوَة (عَن عَائِشَة: ذبح رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عَمَّن اعْتَمر من نِسَائِهِ بقرة) ، ذكره ابْن عبد الْبر من حَدِيث الْأَوْزَاعِيّ عَن الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة.
وَفِي (الصَّحِيحَيْنِ) من حَدِيث جَابر: (ذبح رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن نِسَائِهِ بقرة يَوْم النَّحْر) ، وَفِي رِوَايَة: بقرة فِي حجَّته) ، وَفِي رِوَايَة: (ذَبحهَا عَن نِسَائِهِ) .
وَفِي (صَحِيح الْحَاكِم) على شَرط الشَّيْخَيْنِ من حَدِيث يحيى بن أبي كثير عَن أبي سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة: (ذبح رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَمَّن اعْتَمر من نِسَائِهِ فِي حجَّة الْوَدَاع بقرة بَينهُنَّ) .
.

     وَقَالَ  ابْن بطال: فَإِن قيل: إِنَّمَا نحر الْبَقَرَة عَنْهُن على حسب مَا أَتَى عَنهُ فِي الْحُدَيْبِيَة أَنه نحر الْبَقَرَة عَن سَبْعَة، والبدنة عَن سَبْعَة.
قيل: هَذِه دَعْوَى لَا دَلِيل عَلَيْهَا، لِأَن نَحره فِي الْحُدَيْبِيَة كَانَ عندنَا تَطَوّعا، والاشتراك فِي هدي التَّطَوُّع جَائِز على رِوَايَة ابْن عبد الحكم عَن مَالك، وَالْهَدْي فِي حَدِيث عَائِشَة وَاجِب، والاشتراك مُمْتَنع فِي الْهَدْي الْوَاجِب، فالحديثان مستعملان عندنَا على هَذَا التَّأْوِيل،.

     وَقَالَ  القَاضِي إِسْمَاعِيل: وَأما رِوَايَة يُونُس عَن الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نحر عَن أَزوَاجه بقرة وَاحِدَة، فَإِن يُونُس انْفَرد بِهِ وَحده، وَخَالفهُ مَالك فَأرْسلهُ، وَرَوَاهُ الْقَاسِم وَعمرَة عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا: أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نحر عَن أَزوَاجه الْبَقر، وَحدثنَا بذلك أَبُو مُصعب عَن مَالك عَن عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم عَن أَبِيه عَن عَائِشَة، وَحدثنَا بِهِ القعْنبِي عَن سُلَيْمَان بن بِلَال عَن يحيى عَن عمْرَة عَنْهَا.
انْتهى.
وَاعْلَم أَن الشَّاة لَا تجزىء إلاَّ عَن وَاحِد، وَأَنَّهَا أقل مَا يجب، وَذكر بعض شرَّاح (الْهِدَايَة) أَنه إِجْمَاع.
.

     وَقَالَ  السكاكي.

     وَقَالَ  مَالك وَأحمد وَاللَّيْث وَالْأَوْزَاعِيّ: تجوز الشَّاة عَن أهل بَيت وَاحِد، وَكَذَا بقرة أَو بَدَنَة، والبدنة تجزىء عَن سَبْعَة إِذا كَانُوا يُرِيدُونَ بهَا وَجه الله، وَكَذَا الْبَقَرَة.
وَإِن كَانَ أحدهم يُرِيد الْأكل لم يجز عَن الْكل.
وَكَذَا لَو كَانَ نصيب أحدهم أقل من السَّبع، وَيَسْتَوِي الْجَواب إِذا كَانَ الْكل من جنس وَاحِد أَو من أَجنَاس مُخْتَلفَة أحدهم يُرِيد جَزَاء الصَّيْد، وَالْآخر هدي الْمُتْعَة، وَالْآخر الْأُضْحِية بعد أَن يكون الْكل لوجه الله تَعَالَى، وَهَذَا اسْتِحْسَان، وَالْقِيَاس أَن لَا يجوز، وَبِه قَالَ زفر، رَحمَه الله تَعَالَى.
وَفِيه: مَا قَالَه الدَّاودِيّ وَهُوَ: النَّحْر عَمَّن لم يَأْمر، فَإِن الْإِنْسَان يُدْرِكهُ مَا عمل عَنهُ بِغَيْر أمره.
وَأَن معنى قَوْله تَعَالَى: { وَأَن لَيْسَ للْإنْسَان إلاَّ مَا سعى} (النَّجْم: 93) .
أَي: لَا يكون لَهُ مَا سعاه غَيره لنَفسِهِ.
وَقد قَالَ تَعَالَى: { وَلَا تنسوا الْفضل بَيْنكُم} (الْبَقَرَة: 732) .
مَعَ قَوْله: { لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالكُم بَيْنكُم بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَن تكون تِجَارَة عَن ترَاض مِنْكُم} (النِّسَاء: 92) .
فَخرج هَذَا عُمُوما يُرَاد بِهِ الْخُصُوص، ثمَّ بَينه بقوله: { وَلَا تنسوا الْفضل بَيْنكُم} (الْبَقَرَة: 732) .
وَبِقَوْلِهِ: { إلاَّ أَن تَفعلُوا إِلَى أوليائكم مَعْرُوفا} (سُورَة الْأَحْزَاب: 6) .
وَبِقَوْلِهِ: { من بعد وَصِيَّة يوصى بهَا أَو دين} (النِّسَاء: 11) .
فَلَيْسَ للْإنْسَان إِلَّا مَا سعى، أَو سعى لَهُ.