فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب المحصب

( بابُُ المُحَصَّبِ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان حكم النُّزُول بالمحصب، وَهُوَ الأبطح، وَهُوَ بِضَم الْمِيم وَفتح الْحَاء وَتَشْديد الصَّاد الْمُهْمَلَتَيْنِ وَفِي آخِره بَاء مُوَحدَة،.

     وَقَالَ  النَّوَوِيّ: الأبطح والبطحاء وَخيف بني كنَانَة اسْم لشَيْء وَاحِد.



[ قــ :1685 ... غــ :1765 ]
- حدَّثنا أبُو نُعَيْمٍ قَالَ حدَّثنا سُفْيَانُ عنْ هِشامٍ عنْ أبيهِ عنْ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قالَتْ إنَّما كانَ مَنْزِلٌ يَنْزِلُهُ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِيَكُونَ أسْمَحَ لِخُرُوجِهِ تَعْنِي بالأبْطَحِ.

مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من معنى الحَدِيث، وَأَبُو نعيم الْفضل بن دُكَيْن، وسُفْيَان هُوَ الثَّوْريّ، وَهِشَام هُوَ ابْن عُرْوَة بن الزبير ابْن الْعَوام، وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ من طَرِيق يزِيد بن هَارُون عَن سُفْيَان حَدثنَا هِشَام.

قَوْله: ( إِنَّمَا كَانَ منزل) ، ويروى: ( منزلا) على أَنه خبر: كَانَ، أَي: إِنَّمَا كَانَ المحصب منزلا ينزله النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَيْسَ من السّنة، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ مُسلم من طَرِيق عبيد الله ابْن نمير عَن هِشَام عَن أَبِيه ( عَن عَائِشَة، قَالَت: نزُول الأبطح لَيْسَ بِسنة، إِنَّمَا نزله رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَنَّهُ كَانَ أسمح لِخُرُوجِهِ إِذا خرج) .
قَوْله: ( اسمح) أَي: أسهل لتوجهه إِلَى الْمَدِينَة ليستوي فِي ذَلِك البطىء والمعتدل، وَيكون مبيتهم وقيامهم من السحر ورحيلهم بأجمعهم إِلَى الْمَدِينَة.
فَإِن قلت: مَا وَجه الرّفْع فِي: منزل؟ قلت: فِيهِ وُجُوه: الأول: أَن يَجْعَل: مَا، فِي: إِنَّمَا، بِمَعْنى: الَّذِي، وَاسم كَانَ الضَّمِير الَّذِي فِيهِ يعود على المحصب، وَخَبره مَحْذُوف تَقْدِيره: إِن الْمنزل الَّذِي كَانَ المحصب إِيَّاه منزل، فَيكون ارْتِفَاع منزل بِكَوْنِهِ خبر: إِن.
الثَّانِي: أَن تكون: مَا، كَافَّة، ومنزل اسْم كَانَ، وخبرها ضمير عَائِد إِلَى المحصب، فَحذف الضَّمِير لَكِن يلْزم أَن يكون الِاسْم نكرَة وَالْخَبَر معرفَة، وَذَلِكَ جَائِز.
الثَّالِث: أَن يكون منزلا مَنْصُوبًا فِي اللَّفْظ إلاَّ أَنه كتب بِالْألف على اللُّغَة الربيعية.
قَوْله: ( بِالْأَبْطح) ، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: ( الأبطح) ، بِلَا بَاء، وَالْبَاء فِي الرِّوَايَة الَّتِي هِيَ فِيهَا تتَعَلَّق بقوله: ( ينزل) ،.

     وَقَالَ  الْخطابِيّ: التحصيب هُوَ أَنه إِذا نفر من منى إِلَى مَكَّة للتوديع يُقيم بالمحصب حَتَّى يهجع بِهِ سَاعَة، ثمَّ يدْخل مَكَّة، وَلَيْسَ بِشَيْء، أَي: لَيْسَ بنسك من مَنَاسِك الْحَج، إِنَّمَا نزل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم للاستراجة.
.

     وَقَالَ  الْحَافِظ زكي الدّين عبد الْعَظِيم الْمُنْذِرِيّ: التحصيب مُسْتَحبّ عِنْد جَمِيع الْعلمَاء،.

     وَقَالَ  شَيخنَا زين الدّين: وَفِيه نظر لِأَن التِّرْمِذِيّ حكى اسْتِحْبابُُه عَن بعض أهل الْعلم، وَحكى النَّوَوِيّ اسْتِحْبابُُه عَن مَذْهَب الشَّافِعِي وَمَالك وَالْجُمْهُور، وَهَذَا هُوَ الصَّوَاب، وَقد كَانَ من أهل الْعلم من لَا يستحبه فَكَانَت أَسمَاء وَعُرْوَة ابْن الزبير، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، لَا يحصبان، حَكَاهُ ابْن عبد الْبر فِي ( الاستذكار) عَنْهُمَا، وَكَذَلِكَ سعيد بن جُبَير، فَقيل لإِبْرَاهِيم: إِن سعيد بن جُبَير لَا يَفْعَله، فَقَالَ: قد كَانَ يَفْعَله، ثمَّ بدا لَهُ،.

     وَقَالَ  ابْن بطال: وَكَانَت عَائِشَة لَا تحصب وَلَا أَسمَاء، وَهُوَ مَذْهَب عُرْوَة.





[ قــ :1686 ... غــ :1766 ]
- حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الله قَالَ حَدثنَا سُفْيَانُ قَالَ عَمْرٌ وعنْ عَطاءٍ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ لَيْسَ التَّحْصِيبُ بِشِيْءٍ إِنَّمَا هُوَ مَنْزِلٌ نَزَلَهُ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.

مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه بَيَان حكم المحصب، وَعلي بن عبد الله الْمَعْرُوف بِابْن الْمَدِينِيّ، وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة، وَعَمْرو هُوَ ابْن دِينَار، وَعَطَاء هُوَ ابْن أبي رَبَاح.

وَأخرجه مُسلم أَيْضا من طَرِيق سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن عَمْرو عَن عَطاء عَن ابْن عَبَّاس نَحوه، وَأخرجه النَّسَائِيّ عَن عَليّ بن حجر عَن سُفْيَان، وَأخرجه التِّرْمِذِيّ عَن ابْن أبي عمر عَن سُفْيَان عَن عَمْرو إِلَى آخِره،.

     وَقَالَ : هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح، وَذكر الدَّارَقُطْنِيّ أَن هَذَا حَدِيث عَليّ بن حجر، قَالَ ابْن عَسَاكِر: يَعْنِي تفرد بِهِ، وَابْن عُيَيْنَة سَمعه من حسن بن صَالح عَن عَمْرو، وَلَكِن كَذَا قَالَ ابْن حجر، وَهُوَ وهم مِنْهُ، فقد رَوَاهُ ابْن أبي عمر وَعبد الْجَبَّار بن الْعَلَاء وَجَمَاعَة غَيرهمَا، وَرَوَاهُ الْإِسْمَاعِيلِيّ من حَدِيث أبي خَيْثَمَة حَدثنَا ابْن عُيَيْنَة حَدثنَا عَمْرو، وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو نعيم الْحَافِظ من طَرِيق عبد الله ابْن الزبير: حَدثنَا سُفْيَان حَدثنَا عَمْرو، فقد صرح أَبُو خَيْثَمَة والْحميدِي عَن سُفْيَان بِالتَّحْدِيثِ من عَمْرو فَانْتفى مَا قَالَه الدَّارَقُطْنِيّ، وَلما روى التِّرْمِذِيّ حَدِيث ابْن عمر قَالَ: ( كَانَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأَبُو بكر وَعمر وَعُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، ينزلون بِالْأَبْطح) .
قَالَ: وَفِي الْبابُُ عَن عَائِشَة وَأبي رَافع وَابْن عَبَّاس.
قلت: حَدِيث عَائِشَة أخرجه الْأَئِمَّة السِّتَّة، وَحَدِيث أبي رَافع أخرجه مُسلم وَأَبُو دَاوُد من رِوَايَة سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن صَالح بن كيسَان عَن سُلَيْمَان بن يسَار ( عَن أبي رَافع، قَالَ: لم يَأْمُرنِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن أنزل الأبطح حِين خرج من منى، وَلَكِن جِئْت فَضربت قُبَّته فجَاء فَنزل) قلت: وَفِي الْبابُُ عَن أبي هُرَيْرَة وَأبي أُسَامَة وَأنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَأخرج البُخَارِيّ حَدِيثهمْ،.

     وَقَالَ  بعض الْعلمَاء: كَانَ نُزُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالمحصب شكرا لله تَعَالَى على الظُّهُور بعد الاختفاء، وعَلى إِظْهَار دين الله تَعَالَى بَعْدَمَا أَرَادَ الْمُشْركُونَ من إخفائه، وَإِذا تقرر أَن نزُول المحصب لَا تعلق لَهُ بالمناسك فَهَل يسْتَحبّ لكل أحد أَن ينزل فِيهِ إِذا مر بِهِ؟ يحْتَمل أَن يُقَال باستحبابُه مُطلقًا، وَيحْتَمل أَن يُقَال باستحبابُه للْجمع الْكثير، وَإِظْهَار الْعِبَادَة فِيهِ إِظْهَارًا لشكر الله تَعَالَى على رد كيد الْكفَّار، وَإِبْطَال مَا أرادوه.
وَالله أعلم.