فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب الادلاج من المحصب

( بابُُ الإدْلاجِ مِنَ الْمُحَصَّبِ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان جَوَاز الإدلاج من المحصب، وأصل الإدلاج الإدتلاج، فقلبت التَّاء دَالا وأدغمت الدَّال فِي الدَّال، فَصَارَ: الإدلاج، بتَشْديد الدَّال، وَهُوَ السّير فِي آخر اللَّيْل.
وَأما الإدلاج بِسُكُون الدَّال فَهُوَ السّير فِي أول اللَّيْل، وَهَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَالصَّوَاب التَّشْدِيد لِأَن المُرَاد هُنَا هُوَ السّير فِي آخر اللَّيْل، لِأَن الْمَقْصُود هُوَ الرحيل من مَكَان الْمبيت بالمحصب سحرًا، وَقد ذكرنَا أَن المحصب هُوَ الأبطح، وَيُسمى الْبَطْحَاء أَيْضا.



[ قــ :1691 ... غــ :1771 ]
- حدَّثنا عُمَرُ بنُ حَفْصٍ قَالَ حدَّثنا أبي قَالَ حَدثنَا الأعْمَشُ قَالَ حدَّثني إبْرَاهِيمُ عَنِ الأسْوَدِ عنْ عَائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قالَتْ حاضَتْ صَفِيَّةُ لَيْلَةَ النَّفْرِ فقالَتْ مَا أُرَانِي إلاَّ حابِسَتُكُمْ قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَقْرَى حَلْقَى أطَافَتْ يَوْمَ النَّحْرِ قِيلَ نَعَمْ قَالَ فانْفِرِي..
لما كَانَت الْقِصَّة فِي حَدِيث حَفْص بن غياث وَحَدِيث محَاضِر متحدة، وَكَانَ حَدِيث محَاضِر مطابقا للتَّرْجَمَة فِي قَوْله ( فلقيناه مدلجاً) بتَشْديد الدَّال أَي سَائِر من آخر اللَّيْل صَار حَدِيث حَفْص أَيْضا مطابقاً للتَّرْجَمَة.

من هَذِه الْحَيْثِيَّة وَإِن لم يكن فِيهِ مُطَابقَة صَرِيحًا.

وَرِجَاله سِتَّة: الأول: عمر بن حَفْص أَبُو حَفْص النَّخعِيّ.
الثَّانِي: أَبوهُ حَفْص بن غياث بن طلق بن مُعَاوِيَة.
الثَّالِث: سُلَيْمَان الْأَعْمَش.
الرَّابِع: إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ.
الْخَامِس: الْأسود بن يزِيد.
السَّادِس: أم الْمُؤمنِينَ عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا.

وَهَؤُلَاء كلهم إِلَّا عَائِشَة كوفيون.
وَفِيه: ثَلَاثَة من التَّابِعين.
وَفِيه: رِوَايَة الابْن عَن الاب وَرِوَايَة الرَّاوِي عَن خَاله، وَهُوَ إِبْرَاهِيم.

والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْحَج أَيْضا عَن يحيى بن يحيى، وَأبي بكر بن أبي شيبَة وَأبي كريب ثَلَاثَتهمْ عَن أبي مُعَاوِيَة.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن سُلَيْمَان بن عبيد الله الغيلاني، وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَعلي بن مُحَمَّد.

قَوْله: ( حَاضَت صَفِيَّة) هِيَ بنت حييّ زوج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَعْنَاهُ أَن صَفِيَّة حَاضَت قبل طواف الْوَدَاع، فَلَمَّا أَرَادَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الِانْصِرَاف إِلَى الْمَدِينَة، ( قَالَت: مَا أَرَانِي) أَي: مَا أَظن نَفسِي إلاَّ حابستكم لانتظار طهري وطوافي للوداع، فَإِنِّي لم أطف للوداع، وَقد حِضْت فَلَا يمكنني الطّواف الْآن، وظنت أَن طواف الْوَدَاع لَا يسْقط عَن الْحَائِض، فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أما كنت طفتِ طواف الْإِفَاضَة يَوْم النَّحْر؟ قَالَت، بلَى.
قَالَ: يَكْفِيك ذَلِك، لِأَنَّهُ هُوَ الطّواف الَّذِي هُوَ ركن لَا بُد لكل أحد مِنْهُ.
وَأما طواف الْوَدَاع فَلَا يجب على الْحَائِض، وَتَفْسِير: عقرى حلقى، قد مر غير مرّة.
قَوْله: ( أطافت؟) الْهمزَة فِيهِ للاستفهام على سَبِيل الاستخبار.
قَوْله: ( فانفري) أَي: إرحلي.





[ قــ :1691 ... غــ :177 ]
- قَالَ أبُو عَبْدِ الله وزَادَنِي مُحَمَّدٌ قَالَ حدَّثنا محاضِرٌ قَالَ حَدثنَا الأعْمَشُ عنْ إبْرَاهِيمَ عنِ الأسْوَدِ عَن عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قالَتْ خَرَجْنَا مَعَ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا نَذْكُرُ إلاَّ الحَجَّ فَلَمَّا قَدِمْنا أمرَنَا أَن نَحِلَّ فَلَمَّا كانَتُ لَيْلَةُ النَّفْرِ حاضَتْ صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ فقالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَلْقَى عَقْرَى مَا أُرَاهَا إلاَّ حابِسَتِكُمْ ثُمَّ قَالَ كُنْتِ طُفْتِ يَوْمَ النَّحْرِ قالَتْ نَعَمْ قَالَ فانْفِرِي.

قُلْتُ يَا رَسُولَ الله إنِّي لَمْ أكُنْ حَلَلْتُ قَالَ فاعْتَمِرِي مِنَ التَّنْعِيمِ فخَرَجَ معَهَا أخُوهَا فلَقِيناهُ مُدِّلجا فَقَالَ مَوْعِدُكِ مَكانَ كذَا وكذَا.

.
وَقد ذكرنَا وَجه الْمُطَابقَة للتَّرْجَمَة.
قَوْله: (قَالَ أَبُو عبد الله) هُوَ البُخَارِيّ نَفسه.
قَوْله: (وَزَادَنِي مُحَمَّد) أَي: فِي الحَدِيث الْمَذْكُور، وَقد اخْتلف فِي مُحَمَّد هَذَا، فَزعم الجياني أَن مُحَمَّدًا هَذَا هُوَ الذهلي، وَاقْتصر عَلَيْهِ الْمزي فِي تهذيبه) فَقَالَ: يُقَال: الذهلي وَوَقع فِي رِوَايَة أبي عَليّ بن السكن: مُحَمَّد بن سَلام.
ومحاضر، بِضَم الْمِيم على وزن اسْم الْفَاعِل من المحاضرة من الْحُضُور ضد الْغَيْبَة: ابْن الْمُوَرِّع، بِضَم الْمِيم وَفتح الْوَاو وَكسر الرَّاء الْمُشَدّدَة وَفِي آخِره عين مُهْملَة: الْهَمدَانِي اليامي، مَاتَ سنة سِتّ وَمِائَتَيْنِ، اسْتشْهد بِهِ البُخَارِيّ، وَأخرج لَهُ مُسلم فَرد حَدِيث (من يدعوني فأستجيب لَهُ؟) الحَدِيث، وَهُوَ صَدُوق مُغفل، قَالَ أَحْمد: كَانَ مغفلاً جدا.
وَقيل: لم يخرج البُخَارِيّ عَنهُ إلاَّ تَعْلِيقا، لَكِن ظَاهر هَذَا الْموضع الْوَصْل.

قَوْله: (مَا أَرَاهَا) أَي: مَا أرى صَفِيَّة إلاَّ حابستكم عَن النَّفر.
قَوْله: (كنت طفت؟) أَصله: أَكنت طفت بالاستفهام عَن طوافها يَوْم النَّحْر.
قَوْله: (فاعتمري) أَي: قَالَ لَهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: فاعتمري، وَإِنَّمَا أمرهَا بالاعتمار لتطييب قَلبهَا حِين أَرَادَت أَن تكون لَهَا عمْرَة مُنْفَرِدَة مُسْتَقلَّة كَمَا لسَائِر أُمَّهَات الْمُؤمنِينَ، وَإِنَّمَا خص التَّنْعِيم بِالذكر مَعَ أَن جَمِيع جِهَات الْحل سَوَاء فِيهِ وَالْإِحْرَام من التَّنْعِيم غير وَاجِب أما لِأَنَّهُ كَانَ أسهل عَلَيْهَا، وَأما لغَرَض آخر.
.

     وَقَالَ  القَاضِي عِيَاض بِوُجُوب الْإِحْرَام مِنْهُ، قَالَ: وَهُوَ مِيقَات الْمُعْتَمِر من مَكَّة.
قَوْله: (فَخرج مَعهَا أَخُوهَا) ، أَي: فَخرج مَعَ عَائِشَة خوها عبد الرَّحْمَن بن أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، قَوْله: (فلقيناه) أَي: لَقينَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَائِل هَذَا هُوَ عَائِشَة أَرَادَت أَنَّهَا وأخاها لقيا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مدلجا أَي: حَال كَونه مدلجا، أَي سائرا من آخر اللَّيْل فَإِنَّهُمَا لما رجعا إِلَى الْمنزل بعد أَن قَضَت عَائِشَة الْعمرَة صادفا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُتَوَجها إِلَى طواف الْوَدَاع، وَقد ذكرنَا أَن مدلجا بتَشْديد الدَّال وَهُوَ السّير من آخر اللَّيْل، وَأما الإدلاج بِسُكُون الدَّال فَهُوَ السّير من أول اللَّيْل، وَقد ذَكرْنَاهُ عَن قريب.
قَوْله: (فَقَالَ موعدك) أَي: قَالَ النَّبِي لعَائِشَة: موعدك، وَأَرَادَ بِهِ مَوضِع الْمنزلَة.
.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: الْموعد هُوَ مَوضِع تكلم بِهَذَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ووعدها الِاجْتِمَاع لمَكَان كَذَا وَكَذَا، فَإِنَّهُ مَكَان وَفَاء الْعَهْد.
قلت: الْموعد مصدر ميمي بِمَعْنى الْمَوْعُود وَالْمَكَان مُقَدرا، والوعد الَّذِي فِي ضمن اسْم الْمَكَان هُوَ بِمَعْنى الْمَوْعُود.
انْتهى.
قلت: فِيهِ تعسف لَا يخفى، وَالْحَاصِل أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما لقيهمَا قَالَ لعَائِشَة: مَوضِع الْمنزلَة كَذَا وَكَذَا، يَعْنِي تكون الملاقاة هُنَاكَ حَتَّى إِذا عَاد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من طَوَافه للوداع يجْتَمع بهَا هُنَاكَ للرحيل، وَالله تَعَالَى أعلم.