فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب مهل أهل مكة للحج والعمرة

( بابُُ مُهَلِّ أهْلِ مَكَّةَ لِلْحَجِّ وَالعُمْرَةِ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان مهلّ أهل مَكَّة، أَي: مَوضِع إهلالهم، لِأَن لفظ: مهل، بِضَم الْمِيم وَفتح الْهَاء وَتَشْديد اللَّام، والإهلال رفع الصَّوْت بِالتَّلْبِيَةِ هُنَا.
.

     وَقَالَ  ابْن الْجَوْزِيّ، رَحمَه الله تَعَالَى: وَإِنَّمَا يَقُوله بِفَتْح الْمِيم من لَا يعرف.
قلت: هُوَ بِضَم الْمِيم اسْم مَكَان من الإهلال وَاسم زمَان أَيْضا، وَيكون مصدرا أَيْضا كالمدخل والمخرج بِمَعْنى الإدخال والأخراج، وأصل هَذِه الْمَادَّة لرفع الصَّوْت، وَمِنْه اسْتهلّ الصَّبِي إِذا صَاح عِنْد الْولادَة، وأهلَّ بِالتَّسْمِيَةِ عِنْد الذَّبِيحَة، وَأهل الْهلَال واستهل: إِذا تبين، وَأهل الْمُعْتَمِر إِذا رفع صَوته بِالتَّلْبِيَةِ.



[ قــ :1464 ... غــ :1524 ]
- حدَّثنا مُوسى بنُ إسْمَاعِيلَ قَالَ حدَّثنا وُهَيْبٌ قَالَ حدَّثنا ابنُ طاوُوسٍ عنْ أبيهِ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ قَالَ إنَّ النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وقَّتَ لأِهْلِ المَدِينةِ ذَا الحُلَيْفةِ وَلأِهْلِ الشَّامِ الجُحفَةَ وَلأِهْلِ نَجْدٍ قَرْنَ المَنَازِلِ وَلأِهلِ اليَمَنِ يَلَمْلَمَ هُنَّ لَهُنَّ ولِمَنْ أتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِهِنَّ مِمَّنْ أرَادَ الحَجَّ والعُمْرَةَ ومَنْ كانَ دُونَ ذالِكَ فَمِنْ حيثُ أنشَأ حتَّى أهَلَّ أهْلُ مَكَّةَ مِنْ مَكَّةَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: ( حَتَّى أهلَّ أهلُ مَكَّة من مَكَّة) ، يَعْنِي: لَا يَحْتَاجُونَ إِلَى الْخُرُوج إِلَى الْمِيقَات للْإِحْرَام، بل مهَّلهم لِلْحَجِّ أَي: مَوضِع إهلالهم لأجل الْحَج هُوَ مَكَّة، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانه، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: غَرَض البُخَارِيّ بَيَان أَن الْإِحْرَام لَا بُد وَأَن يكون من هَذِه الْمَوَاقِيت، فَمَا وَجه دلَالَته عَلَيْهِ إِذْ لَيْسَ فِيهِ إلاَّ أَن التَّلْبِيَة من ثمَّة؟ قلت: التَّلْبِيَة إِمَّا وَاجِبَة فِي الْإِحْرَام أَو سنة فِيهِ، وعَلى التَّقْدِيرَيْنِ فالإحرام لَا يَخْلُو مِنْهَا، فالمهلّ هُوَ الْمِيقَات.
انْتهى.
قلت: لَيْسَ غَرَضه مَا ذكره الْكرْمَانِي، وَإِنَّمَا غَرَضه بَيَان مهل أهل مَكَّة، وَلِهَذَا ترْجم بقوله: بابُُ مهلَّ أهل مَكَّة لِلْحَجِّ وَالْعمْرَة، وَمحل الشَّاهِد هُوَ قَوْله: ( حَتَّى أهل مَكَّة من مَكَّة) كَمَا ذكرنَا، وَهَذَا بِظَاهِرِهِ يدل على أَن مهلّهم هُوَ مَكَّة، سَوَاء كَانَ لِلْحَجِّ أَو الْعمرَة، وَلَكِن مهلّ أهل مَكَّة للْعُمْرَة الحلّ، كَمَا سَيَجِيءُ بَيَانه.
ذكر رِجَاله: وهم: خَمْسَة، قد ذكرُوا، ووهيب هُوَ ابْن خَالِد الْبَصْرِيّ، وَابْن طَاوُوس هُوَ عبد الله بن طَاوُوس، يروي عَن أَبِيه طَاوُوس الْيَمَانِيّ.

أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا عَن مُعلى بن أَسد، وَمُسلم بن إِبْرَاهِيم فرقهم، وَأخرجه مُسلم فِي الْحَج أَيْضا عَن أبي بكر بن أبي شيبَة.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن الرّبيع بن سُلَيْمَان صَاحب الشَّافِعِي، وَعَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم.

ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: ( وقَّت) أَي: عين وَقت، من التَّوْقِيت، وَهُوَ التَّعْيِين وأصل التَّوْقِيت أَن يَجْعَل للشَّيْء وَقت يخْتَص بِهِ،.

     وَقَالَ  عِيَاض: وَقت أَي حدد، وَقد يكون بِمَعْنى: أوجب، وَيُؤَيِّدهُ الرِّوَايَة الْمَاضِيَة بِلَفْظ: فرض.
قَوْله: ( قرن الْمنَازل) ، قد ذكرنَا تَفْسِير الْقرن فِي: بابُُ فرض مَوَاقِيت الْحَج، وَكَذَلِكَ ذكرنَا تَفْسِير ذِي الحليفة والجحفة، وَهُنَاكَ ذكر لفظ: الْقرن، فَقَط وَهَهُنَا ذكر بِلَفْظ: قرن الْمنَازل، وَهُوَ جمع منزل.
قَالَ الْكرْمَانِي: والمركب الإضافي هُوَ اسْم الْمَكَان، وَقد يقْتَصر على لفظ الْمُضَاف، كَمَا فِي الحَدِيث الْمُتَقَدّم.
قلت: النُّكْتَة فِي ذكره هُنَا بِهَذِهِ اللَّفْظَة هِيَ أَن الْمَكَان الَّذِي يُسمى الْقرن موضعان أَحدهمَا فِي هبوط، وَهُوَ الَّذِي يُقَال لَهُ: قرن الْمنَازل، وَالْآخر فِي صعُود وَهُوَ الَّذِي يُقَال لَهُ: قرن الثعالب، وَالْمَعْرُوف الأول.
وَذكر فِي ( أَخْبَار مَكَّة) للفاكهي: أَن قرن الثعالب جبل مشرف على أَسْفَل منى، بَينه وَبَين مَسْجِد منى ألف وَخَمْسمِائة ذِرَاع.
وَقيل لَهُ: قرن الثعالب لِكَثْرَة مَا كَانَ يأوي إِلَيْهِ من الثعالب، فَظهر أَن قرن الثعالب لَيْسَ من الْمَوَاقِيت، وَقد وَقع ذكره فِي حَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، فِي إتْيَان النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الطَّائِف يَدعُوهُم إِلَى الْإِسْلَام وردهم عَلَيْهِ.
قَالَ: فَلم استفق إلاَّ وَأَنا بقرن الثعالب ... الحَدِيث، ذكره ابْن إِسْحَاق فِي ( السِّيرَة النَّبَوِيَّة) .
قَوْله: ( ويلملم) بِفَتْح الْيَاء آخر الْحُرُوف وباللاَّمين وَسُكُون الْمِيم الأولى، غير منصرف.
.

     وَقَالَ  عِيَاض: وَيُقَال: ألملم، وَهُوَ الأَصْل وَالْيَاء بدل مِنْهُ، وَهِي على ميلين من مَكَّة، وَهُوَ جبل من جبال تهَامَة.
.

     وَقَالَ  ابْن حزم: هُوَ جنوب مَكَّة، وَمِنْه إِلَى مَكَّة ثَلَاثُونَ ميلًا.
وَفِي ( الْمُحكم) : يَلَمْلَم وألملم جبل.
.

     وَقَالَ  الْبكْرِيّ: أَهله كنَانَة وتنحدر أوديته إِلَى الْبَحْر وَهُوَ فِي طَرِيق الْيمن إِلَى مَكَّة.
وَهُوَ من كبار جبال تهَامَة.
.

     وَقَالَ  الزَّمَخْشَرِيّ: هُوَ وادٍ بِهِ مَسْجِد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَبِه عسكرت هوَازن يَوْم حنين.
فَإِن قلت: مَا وَزنه؟ قلت: فعمعل: كصمحمح، وَلَيْسَ هُوَ من: لملمت، لِأَن ذَوَات الْأَرْبَعَة لَا تلحقها الزِّيَادَة فِي أَولهَا إلاَّ فِي الْأَسْمَاء الْجَارِيَة على أفعالها.
نَحْو: مدحرج.
قلت: فعلى هَذَا الْمِيم الأولى وَاللَّام الثَّانِيَة زائدتان؟ وَلِهَذَا قَالَ الْجَوْهَرِي فِي: بابُُ الْمِيم وَفصل الْيَاء: يلم، ثمَّ قَالَ: يَلَمْلَم لُغَة فِي ألملم، وَهُوَ مِيقَات أهل الْيمن.
وَحكى ابْن سيدة فِيهِ: يرمرم، براءين بدل اللاَّمين، وَقد جمع وَاحِد مَوَاقِيت الْإِحْرَام بنظم، وَهُوَ قَوْله:
( قرنَ يلملمُ ذُو الحليفة جحفةٌ ... قل: ذاتُ عرقٍ كلُّها مِيقَات)

( نجدٌ تهامةُ والمدينةُ مغربٌ ... شرقٌ وَهن إِلَى الْهدى مرقات)

قَوْله: ( هن لَهُنَّ) أَي: هَذِه الْمَوَاقِيت لهَذِهِ الْبِلَاد، وَالْمرَاد أَهلهَا.
وَكَانَ الأَصْل أَن يُقَال: هن لَهُم، لِأَن المُرَاد الْأَهْل، وَقد ورد ذَلِك فِي بعض الرِّوَايَات فِي ( الصَّحِيح) .
.

     وَقَالَ  الْقُرْطُبِيّ: هن، ضمير جمَاعَة مؤنث الْعَاقِل فِي الأَصْل، وَقد يُعَاد على مَا لَا يعقل، وَأكْثر ذَلِك فِي الْعشْرَة فَمَا دونهَا، فَإِذا جاوزها قَالُوهُ بهاء الْمُؤَنَّث، كَمَا قَالَ الله تَعَالَى: { إِن عدَّة الشُّهُور عِنْد الله اثْنَا عشر شهرا} ( التَّوْبَة: 63) .
ثمَّ قَالَ: { مِنْهَا أَرْبَعَة حرم} ( التَّوْبَة: 63) .
أَي: من الإثني عشر، ثمَّ قَالَ: { فَلَا تظلموا فِيهِنَّ أَنفسكُم} ( التَّوْبَة: 63) .
أَي: فِي هَذِه الْأَرْبَعَة، وَقد قيل: فِي الْجَمِيع، وَهُوَ ضَعِيف شَاذ.
قَوْله: ( وَلمن أَتَى عَلَيْهِنَّ) ، أَي: على هَذِه الْمَوَاقِيت ( من غَيْرهنَّ) أَي: من غير أهلهن، مثلا إِذا أَتَى الشَّامي إِلَى ذِي الحليفة، يكون مهلّه ذَا الحليفة، وَكَذَا الْبَاقِي نَحوه.
قَوْله: ( وَمن كَانَ دون ذَلِك) يَعْنِي من كَانَ بَين الْمِيقَات وَمَكَّة.
قَوْله: ( فَمن حَيْثُ أنشأ) ، الْفَاء جَوَاب الشَّرْط أَي: فمهله من حَيْثُ قصد الذّهاب إِلَى مَكَّة، يَعْنِي يهل من ذَلِك الْموضع.
قَوْله: ( حَتَّى أهل مَكَّة من مَكَّة) يَعْنِي: إِذا قصد الْمَكِّيّ الْحَج فمهلَّه من مَكَّة، وَأما إِذا قصد الْعمرَة فمهلُّه من الْحل لقضية عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، حِين أرسلها النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَعَ أَخِيهَا عبد الرَّحْمَن إِلَى التَّنْعِيم لتَحْرِيم مِنْهُ.
فَإِن قلت: قَوْله: ( حَتَّى أهل مَكَّة من مَكَّة) أَعم من أَن يكون الْمَكِّيّ قَاصِدا لِلْحَجِّ وَالْعمْرَة، وَلِهَذَا ترْجم البُخَارِيّ بقوله: بابُُ مهلَّ أهل مَكَّة لِلْحَجِّ وَالْعمْرَة.
قلت: قَضِيَّة عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، تخصص هَذَا! وَلَكِن الظَّاهِر أَن البُخَارِيّ نظر إِلَى عُمُوم اللَّفْظ حَتَّى ترْجم بِهَذِهِ التَّرْجَمَة.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: أَن هَذِه الْمَوَاقِيت الْمَذْكُورَة لأهل هَذِه الْبِلَاد، وَاخْتلفُوا هَل الْأَفْضَل الْتِزَام الْحَج مِنْهُنَّ.
أَو من منزله، فَقَالَ مَالك وَأحمد وَإِسْحَاق: إِحْرَامه من الْمَوَاقِيت أفضل، وَاحْتَجُّوا بِحَدِيث الْبابُُ وَشبهه.
.

     وَقَالَ  الثَّوْريّ وَأَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وَآخَرُونَ: الْإِحْرَام من الْمَوَاقِيت رخصَة، واعتمدوا فِي ذَلِك على فعل الصَّحَابَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، فَإِنَّهُم أَحْرمُوا من قبل الْمَوَاقِيت، وهم ابْن عَبَّاس وَابْن مَسْعُود وَابْن عمر وَغَيرهم، قَالُوا: وهم أعرف بِالسنةِ، وأصول أهل الظَّاهِر تَقْتَضِي أَنه لَا يجوز الْإِحْرَام إلاَّ من الْمِيقَات إلاَّ أَن يَصح إِجْمَاع على خِلَافه.
قَالَ أَبُو عمر: مَالك أَن يحرم أحد قبل الْمِيقَات، وَرُوِيَ عَن عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه أنكر على عمرَان بن حُصَيْن إِحْرَامه من الْبَصْرَة، وَأنكر عُثْمَان بن عَفَّان على عبد الله بن عَامر إِحْرَامه قبل الْمِيقَات.
وَفِي تَعْلِيق للْبُخَارِيّ: كره عُثْمَان أَن يحرم من خُرَاسَان وكرمان، وَكره الْحسن وَعَطَاء بن أبي رَبَاح الْإِحْرَام من الْموضع الْبعيد،.

     وَقَالَ  ابْن بزيزة: فِي هَذَا ثَلَاثَة أَقْوَال: مِنْهُم من جوزه مُطلقًا، وَمِنْهُم من كرهه مُطلقًا، وَمِنْهُم من أجَازه فِي الْبعيد دون الْقَرِيب.
.

     وَقَالَ  الشَّافِعِي وَأَبُو حنيفَة الْإِحْرَام من قبل هَذِه الْمَوَاقِيت أفضل لمن قوي على ذَلِك، وَقد صَحَّ أَن عَليّ بن أبي طَالب وَابْن مَسْعُود وَعمْرَان بن حُصَيْن وَابْن عَبَّاس وَابْن عمر أَحْرمُوا من الْمَوَاضِع الْبَعِيدَة، وَعند ابْن أبي شيبَة أَن عُثْمَان بن الْعَاصِ أحرم من المنجشانية، وَهِي قَرْيَة من الْبَصْرَة، وَعَن ابْن سِيرِين أَنه أحرم هُوَ وَحميد بن عبد الرَّحْمَن وَمُسلم بن يسَار من الدارات، وَأحرم أَبُو مَسْعُود من السيلحين.
وَعَن أم سَلمَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: من أهل بِعُمْرَة من بَيت الْمُقَدّس غفر لَهُ، وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد: من أهل بِحجَّة أَو عمْرَة من الْمَسْجِد الْأَقْصَى إِلَى الْمَسْجِد الْحَرَام غفر لَهُ مَا تقدم من ذَنبه وَمَا تَأَخّر، وَوَجَبَت لَهُ الْجنَّة.
شكّ عبد الله أَيَّتهمَا قَالَ.
قلت: عبد الله هُوَ ابْن عبد الرَّحْمَن أحد رَوَاهُ الحَدِيث،.

     وَقَالَ  أَبُو دَاوُد: يرحم الله وكيعا، أحرم من بَيت الْمُقَدّس، يَعْنِي: إِلَى مَكَّة، وَأحرم ابْن سِيرِين مَعَ أنس من العقيق ومعاذ من الشَّام وَمَعَهُ كَعْب الحبر،.

     وَقَالَ  ابْن حزم: وَلَا يحل لأحد أَن يحرم بِالْحَجِّ أَو بِالْعُمْرَةِ قبل الْمَوَاقِيت، فَإِن أحرم أحد قبلهَا وَهُوَ يمر عَلَيْهَا فَلَا إِحْرَام لَهُ وَلَا حج، وَلَا عمْرَة لَهُ إلاَّ أَن يَنْوِي إِذا صَار فِي الْمِيقَات تَحْدِيد إِحْرَام، فَذَلِك جَائِز، وإحرامه حِينَئِذٍ تَامّ.

وَفِيه: من أَتَى على مِيقَات من الْمَوَاقِيت لَا يتَجَاوَز غير محرم عِنْد أبي حنيفَة سَوَاء قصد دُخُول مَكَّة أَو لم يقْصد.
.

     وَقَالَ  الْقُرْطُبِيّ: أما من مر على الْمِيقَات قَاصِدا دُخُول مَكَّة من غير نسك، وَكَانَ مِمَّن لَا يتَكَرَّر دُخُوله إِلَيْهَا، فَهَل يلْزمه دم أَو لَا؟ اخْتلف فِيهِ أَصْحَابنَا، وَظَاهر الحَدِيث أَنه إِنَّمَا يلْزم الْإِحْرَام من أَرَادَ مَكَّة لأحد النُّسُكَيْنِ، خَاصَّة وَهُوَ مَذْهَب الزُّهْرِيّ وَأبي مُصعب فِي آخَرين،.

     وَقَالَ  ابْن قدامَة: أما المجاوز للميقات مِمَّن لَا يُرِيد النّسك فعلى قسمَيْنِ: أَحدهمَا: لَا يُرِيد دُخُول مَكَّة بل يُرِيد حَاجَة فِيمَا سواهَا، فَهَذَا لَا يلْزمه الْإِحْرَام بِلَا خلاف، وَلَا شَيْء عَلَيْهِ فِي تَركه الْإِحْرَام لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَتَى بَدْرًا مرَّتَيْنِ وَلم يحرم، وَلَا أحد من أَصْحَابه، ثمَّ بَدَأَ لهَذَا الْإِحْرَام وتجدد لَهُ الْعَزْم عَلَيْهِ أَن يحرم من مَوْضِعه، وَلَا شَيْء عَلَيْهِ، هَذَا ظَاهر كَلَام الحرقي، وَبِه يَقُول مَالك وَالثَّوْري وَالشَّافِعِيّ وصاحبا أبي حنيفَة، وَحكى ابْن الْمُنْذر عَن أَحْمد فِي الرجل يخرج لحَاجَة وَهُوَ لَا يُرِيد الْحَج، فجاوز ذَا الحليفة ثمَّ أَرَادَ الْحَج يرجع إِلَى ذِي الحليفة فَيحرم؟ وَبِه قَالَ إِسْحَاق.
الْقسم الثَّانِي: من يُرِيد دُخُول الْحرم إِمَّا إِلَى مَكَّة أَو غَيرهَا، فهم على ثَلَاثَة أضْرب: أَحدهَا من يدخلهَا لقِتَال مُبَاح أَو من خوف أَو لحَاجَة متكررة كالحشاش والحطاب وناقل الْميرَة، وَمن كَانَت لَهُ ضَيْعَة يتَكَرَّر دُخُوله وَخُرُوجه إِلَيْهَا، فَهَؤُلَاءِ لَا إِحْرَام عَلَيْهِم لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دخل يَوْم فتح مَكَّة حَلَالا وعَلى رَأسه المغفر، وَكَذَا أَصْحَابه، وَلَا نعلم أَن أحدا مِنْهُم أحرم يَوْمئِذٍ، وَلَو وَجب الْإِحْرَام على من يتَكَرَّر دُخُولهَا أفْضى إِلَى أَن يكون جَمِيع زَمَنه محرما، وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِي.