فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب: كيف تهل الحائض والنفساء "

( بابٌُ كيُفَ تُهِلُ الحَائِضُ والنُّفَساءُ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان كَيْفيَّة إهلال الْحَائِض وَالنُّفَسَاء، وَالْمرَاد بالإهلال الْإِحْرَام.

أهَلَّ تَكَلَّمَ بِهِ وَاسْتَهْلَلْنَا وأهْلَلْنَا الهِلاَلَ كُلّهُ مِنَ الظّهُورِ وَاسْتَهَلَّ المَطَرُ خَرَجَ مِنَ السَّحَابِ وَمَا أُهِلَّ لِغيرِ الله وَهْوَ مِنِ اسْتِهْلالِ الصَّبِيِّ

جرى البُخَارِيّ على دأبه أَنه إِذا رأى مَادَّة من الْكَلَام تسْتَعْمل فِي معانٍ كَثِيرَة مِمَّا جَاءَ فِي الْكتاب أَو فِي السّنة يذكر ذَلِك ويبينه، وَذكر أَشْيَاء مِنْهَا، قَوْله: ( أهلَّ: تكلم بِهِ) يَعْنِي: إِذا تكلم أظهره مَا فِي قلبه.
وَمِنْهَا قَوْله: ( استهللنا وأهللنا الْهلَال) ، يَعْنِي: طلبنا ظُهُوره، وَيُقَال: أهل الْهلَال واستهل، على مَا لم يسم فَاعله، وَيُقَال أَيْضا: اسْتهلّ على صِيغَة الْمَعْلُوم، وَمَعْنَاهُ: تبين، وَلَا يُقَال أهلَّ.
وَيُقَال: أَهْلَلْنَا عَن لَيْلَة كَذَا، وَلَا يُقَال: أهللناه فَهَل، كَمَا يُقَال: أدخلْنَاهُ فَدخل وَهُوَ قِيَاسه.
وَمِنْهَا: ( اسْتهلّ الْمَطَر) إِذا ظهر نُزُوله من السَّحَاب بِصَوْت، وَيُقَال: تهلل وَجه الرجل من فرحه، واستهل إِذا ظهر سروره، وتهللت دُمُوعه إِذا سَالَتْ، وانهلت السَّمَاء: صبَّتْ، وانهل الْمَطَر إنهلالاً إِذا سَالَ بِشدَّة، وَمِنْهَا قَوْله: { وَمَا أهلَّ لغير الله} مَعْنَاهُ: إِذا نُودي عَلَيْهِ بِغَيْر إسم الله، وَأَصله رفع صَوت الذَّابِح عِنْد الذّبْح.
وَمِنْهَا قَوْله: ( وَهُوَ من استهلال الصَّبِي) وَهُوَ ظُهُور صياحه عِنْد الْولادَة، وَمِنْه: أهل الْمُعْتَمِر، إِذا رفع صَوته بِالتَّلْبِيَةِ.
قَوْله: ( كُله من الظُّهُور) أَي: كل وَاحِد من أهلَّ واستهللنا، وأهللنا من الظُّهُور، وَهَذَا كَانَ مَحَله أَن يذكر بعد قَوْله: ( وَهُوَ من استهلال الصَّبِي) ، لِأَن جَمِيع مَا ذكره من الْموَاد الْمَذْكُورَة من الظُّهُور، وَذكره بعد قَوْله: ( وأهللنا الْهلَال) فِي غير مَحَله.



[ قــ :1492 ... غــ :1556 ]
- حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مَسْلَمَةَ قَالَ حدَّثنا مالِكٌ عنِ ابنِ شِهَابٍ عنْ عُرْوَةَ بنِ الزُّبَيْرِ عنْ عَائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا زَوْجَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قالَتْ خَرَجْنا مَعَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ فأهْلَلْنَا بِعُمْرَةٍ ثُمَّ قالَ النبيُّ مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيُهِلَّ بِالحَجِّ مَعَ العُمْرَةِ ثُمَّ لاَ يَحِلَّ حَتَّى يَحِلَّ مِنْهُمَا جَمِيعا فَقَدِمْتُ مَكَّةَ وأنَا حائِضٌ ولَمْ أطُفْ بِالبَيْتِ وَلاَ بَيْنَ الصَّفَا وَالمَرْوَةَ فشَكَوْتُ ذالكَ إلَى النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فقالَ انْقُضِي رأْسَكِ وَامتَشِطِي وَأهِلِّي بالحَجِّ ودعِي العُمْرَةَ فَفَعَلْتُ فلَمَّا قَضَيْنَا الحَجَّ أرْسَلَنِي النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَعَ عَبْدِ الرَّحْمانِ بنِ أبي بَكْرٍ إِلَى التَّنْعِيمَ فاعْتَمَرْتُ فَقَالَ هاذَا مَكانُ عُمْرَتِكَ قالَتْ فَطَافَ الَّذِينَ كانُوا أهَلُّوا بِالعُمْرَةِ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالمَرْوَةِ ثُمَّ أحَلُّوا ثُمَّ طَافُوا طَوَافا وَاحِدا بَعْدَ أنْ رَجَعُوا مِنْ مِنىً وَأمَّا الَّذِينَ جَمَعُوا الحَجَّ وَالعُمْرَةَ فإنَّمَا طافُوا طَوَافا واحِدا..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: ( انقضي رَأسك وامتشطي) إِلَى قَوْله: ( هَذِه مَكَان عمرتك) .

وَرِجَاله قد تكَرر ذكرهم، وَعبد الله بن مسلمة، بِفَتْح الميمين: هُوَ القعْنبِي، وَابْن شهَاب: هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ.

ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرج البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث فِي الْحيض، وَعقد لَهُ بابُُا بقوله: بابُُ كَيفَ تهل الْحَائِض بِالْحَجِّ وَالْعمْرَة: حَدثنَا يحيى بن بكير، قَالَ: حَدثنَا اللَّيْث عَن عقيل عَن ابْن شهَاب عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة، قَالَت: خرجنَا مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ... الحَدِيث، وَبَين الطَّرِيقَيْنِ والمتن تفَاوت يسير يعرف بِالنّظرِ، وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْحَج عَن عبد الله بن يُوسُف، وَفِي الْمَغَازِي عَن إِسْمَاعِيل بن عبد الله.
وَأخرجه مُسلم فِي الْحَج عَن يحيى بن يحيى.
وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن القعْنبِي عَن مَالك.
وَأخرجه التِّرْمِذِيّ عَن أبي مُصعب عَن مَالك.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن سَلمَة والْحَارث بن مِسْكين وَعَن مُحَمَّد بن يحيى النَّيْسَابُورِي، وَعَن يَعْقُوب الدَّوْرَقِي، وَفِيه وَفِي الطَّهَارَة عَن مُحَمَّد بن عبد الله، وَفِي الطَّهَارَة أَيْضا عَن يُونُس بن عبد الْأَعْلَى.
وَأخرجه ابْن مَاجَه عَن هِشَام بن عمار وَأبي مُصعب، كِلَاهُمَا عَن مَالك.

ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: ( فِي حجَّة الْوَدَاع) ، وَكَانَت فِي سنة عشر من الْهِجْرَة، وَلم يحجّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الْمَدِينَة بعد الْهِجْرَة غَيرهَا وَمَا قبلهَا لما كَانَ بِمَكَّة حج حجَجًا لَا يعلم عَددهَا إِلَّا الله، وَسميت: حجَّة الْوَدَاع: لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وعظهم وودعهم، فسميت بذلك حجَّة الْوَدَاع.
قَوْله: ( فأهللنا بِعُمْرَة) قَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: تقدم فِي: بابُُ الْحيض، وَسَيَجِيءُ فِي: بابُُ التَّمَتُّع، أَنهم كَانُوا لَا يرَوْنَ إِلَّا الْحَج؟ قلت: مَعْنَاهُ: وَلَا يرَوْنَ عِنْد الْخُرُوج إلاَّ ذَلِك فَبعد ذَلِك أَمرهم رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بالاعتمار رفعا لما اعتقدوا من حُرْمَة الْعمرَة فِي أشهر الْحَج.
انْتهى.
قلت: لَو وقف الْكرْمَانِي على الرِّوَايَات الَّتِي رويت عَن عَائِشَة لما احْتَاجَ إِلَى هَذَا السُّؤَال وَلَا إِلَى الْجَواب عَنهُ: فَإِن الرِّوَايَات اخْتلفت فِي إِحْرَام عَائِشَة اخْتِلَافا كثيرا، فههنا فأهللنا بِعُمْرَة، وَفِي أُخْرَى: فمنا من أهل بِعُمْرَة وَمنا من أهل بِحَجّ.
قَالَت: وَلم أهل إلاَّ بِعُمْرَة.
وَفِي أُخْرَى: خرجنَا لَا نُرِيد إلاَّ الْحَج، وَفِي أُخْرَى: لبينا بِالْحَجِّ، وَفِي أُخْرَى: مهلين بِالْحَجِّ، وَالْكل صَحِيح.
وَفِي رِوَايَة: وَكنت مِمَّن تمتّع وَلم يسق الْهَدْي.
.

     وَقَالَ  أَبُو عمر: وَالْأَحَادِيث عَن عَائِشَة فِي هَذَا مضطربة جدا، وَكَذَا قَالَ القَاضِي عِيَاض، وَذكر أَن فِي الرِّوَايَات عَنْهَا اخْتِلَافا شَدِيدا.
.

     وَقَالَ  ابْن عبد الْبر فِي ( تمهيده) : دفع الْأَوْزَاعِيّ وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو ثَوْر وَابْن علية حَدِيث عُرْوَة هَذَا، وَقَالُوا: هُوَ غلط لم يُتَابع عُرْوَة على ذَلِك أحد من أَصْحَاب عَائِشَة.
.

     وَقَالَ  إِسْمَاعِيل بن إِسْحَاق: اجْتمع هَؤُلَاءِ يَعْنِي: الْقَاسِم وَالْأسود وَعمرَة على أَن أم الْمُؤمنِينَ كَانَت مُحرمَة بِحجَّة لَا بِعُمْرَة، فَعلمنَا بذلك أَن الرِّوَايَة الَّتِي رويت عَن عُرْوَة غلط، لِأَن عُرْوَة قَالَ فِي رِوَايَة حَمَّاد بن سَلمَة عَن هِشَام عَنهُ: حَدثنِي غير وَاحِد أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ لَهَا: دعِي عمرتَكِ، فَدلَّ على أَنه لم يسمع الحَدِيث مِنْهَا.
.

     وَقَالَ  ابْن حزم: حَدِيث أبي الْأسود عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة، وَحَدِيث يحيى بن عبد الرَّحْمَن بن حَاطِب عَنْهَا منكران وخطآن عِنْد أهل الْعلم بِالْحَدِيثِ، وَقد سبقَنا إِلَى تخطئة حَدِيث أبي الْأسود هَذَا أَحْمد بن حَنْبَل،.

     وَقَالَ  مَالك: لَيْسَ الْعَمَل عندنَا على حَدِيث عُرْوَة عَنْهَا قَدِيما وَلَا حَدِيثا.
قَوْله: ( من كَانَ مَعَه هدي) بِسُكُون الدَّال أَو بِكَسْرِهَا وَتَشْديد الْيَاء وَإِسْكَان الدَّال أفْصح، وَسوى بَينهمَا ثَعْلَب، وَالتَّخْفِيف لُغَة أهل الْحجاز، والتثقيل لُغَة تَمِيم، وَوَاحِد الْهَدْي: هَدِيَّة، وَقد قرى مُبْهما جَمِيعًا فِي قَوْله: { حَتَّى يبلغ الْهَدْي مَحَله} ( الْبَقَرَة: 691) .
وَهُوَ مَا يهدي إِلَى الْحرم من النعم.
قَوْله: ( مِنْهُمَا) أَي: من الْحَج وَالْعمْرَة.
قَوْله: ( فَقدمت) ، بِضَم التَّاء، وَهُوَ إِخْبَار عَائِشَة عَن نَفسهَا.
قَوْله: ( وَأَنا حَائِض) ، جملَة إسمية وَقعت حَالا.
قَوْله: ( ذَلِك) أَي: ترك الطّواف بِالْبَيْتِ وَبَين الصَّفَا والمروة بِسَبَب الْحيض.
قَوْله: ( انقضي رَأسك) من النَّقْض، بالنُّون وَالْقَاف وَالضَّاد الْمُعْجَمَة،.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: وَيجوز بِالْفَاءِ إِن صحت الرِّوَايَة.
قلت: لِأَن كلا مِنْهُمَا بِمَعْنى، وَلَكِن رِوَايَة الْفَاء مَا ثبتَتْ.
قَوْله: ( وامتشطي) ، من امتشاط الشّعْر وَهُوَ: تسريحه.
قَوْله: ( ودعي الْعمرَة) يدل على أَنَّهَا كَانَت قارنة.
قَوْله: ( فَفعلت) أَي: نقض الرَّأْس والامتشاط.
قَوْله: ( مَعَ عبد الرَّحْمَن بن أبي بكر) ، هُوَ أَخُوهَا شقيقها، وأمهما أم رُومَان بنت عَامر.
قَوْله: ( إِلَى التَّنْعِيم) ، قد مر تَفْسِيره مرّة، وَهُوَ طرف حرم مَكَّة من نَاحيَة الشَّام، وَهُوَ الْمَشْهُور بمساجد عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا.
قَوْله: ( هَذِه مَكَان عمرتك) بِرَفْع مَكَان على أَنه خبر، أَي: عوض عمرتك الْفَائِتَة، وَيجوز بِالنّصب على الظّرْف، قيل: النصب أوجه، وَلَا يجوز غَيره، وَالْعَامِل فِيهِ مَحْذُوف تَقْدِيره: هَذِه كائنة مَكَان عمرتك أَو مجعولة مَكَانهَا.
قَالَ القَاضِي عِيَاض: وَالرَّفْع أوجه عِنْدِي إِذْ لم يرد بِهِ الظّرْف، إِنَّمَا أَرَادَ عوض عمرتك، فَمن قَالَ: كَانَت قارنة، قَالَ: مَكَان عمرتك الَّتِي أردْت أَن تَأتي بهَا مُفْردَة، وَمن قَالَ: كَانَت مُفْردَة، قَالَ: مَكَان عمرتك الَّتِي فسخت الْحَج إِلَيْهَا وَلم تتمكني من الْإِتْيَان بهَا للْحيض، وَكَانَ ابْتِدَاء حَيْضهَا يَوْم السبت لثلاث خلون من ذِي الْحجَّة بسرف، وطهرت يَوْم السبت وَهُوَ يَوْم النَّحْر.
قَوْله: ( وَبَين الصَّفَا والمروة) أَي: وطافوا بَين الصَّفَا والمروة، وَأَرَادَ بِهِ السَّعْي بَينهمَا.
قَوْله: ( طَوافا وَاحِدًا) فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني والجرجاني: ( طَوافا آخر) .
.

     وَقَالَ  عِيَاض هُوَ الصَّوَاب.

ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: الْحجَّة لمن يَقُول بأفضلية الْقُرْآن لقَوْله: فَمن كَانَ مَعَه هدي فليهل بِالْحَجِّ مَعَ الْعمرَة، وَهَذَا هُوَ الْقُرْآن، لِأَن فِيهِ الْجمع بَين النُّسُكَيْنِ فِي سفرة وَاحِدَة.
.

     وَقَالَ  الْقُرْطُبِيّ: ظَاهره أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمرهم بِالْقُرْآنِ.
وَقَوله: ( ثمَّ لَا يحل حَتَّى يحل مِنْهُمَا جَمِيعًا) هَذَا هُوَ حكم الْقُرْآن بِلَا نزاع، وَمِمَّنْ ذهب إِلَى تَفْضِيل الْقُرْآن بِهِ وبالأحاديث الَّتِي ذَكرنَاهَا الدَّالَّة على أَفضَلِيَّة الْقُرْآن، وعَلى أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ قَارنا فِي حجَّة الْوَدَاع: شَقِيق بن سَلمَة وَالثَّوْري وَأَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمّد وَإِسْحَاق والمزني من أَصْحَاب الشَّافِعِي، وَأَبُو إِسْحَاق الْمروزِي وَابْن الْمُنْذر، وَهُوَ قَول عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَفِي ( الْمُجَرّد) .
وَإِمَّا حج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَاخْتلف فِيهِ بِحَسب الْمذَاهب، وَالْأَظْهَر قَول أَحْمد: لَا أَشك أَنه كَانَ قَارنا، والمتعة أحب إِلَيّ.
فَإِن قلت: قد رُوِيَ: أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أفرد الْحَج، وَرُوِيَ: أَنه تمتّع، وَرُوِيَ: أَنه قرن، فَمَا التَّوْفِيق فِيهَا؟ قلت: قَالَ الطَّحَاوِيّ: طَرِيق التَّوْفِيق فِيهَا أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أحرم بِعُمْرَة فِي بَدْء أمره فَمضى فِيهَا مُتَمَتِّعا، ثمَّ أحرم بِحجَّة قبل طَوَافه وإفرادها بِالْإِحْرَامِ، فَصَارَ بهَا قَارنا.
فَإِن قلت: فِيهِ إِدْخَال الْحَج على الْعمرَة فَمَا حكمه؟ قلت: قَالَ القَاضِي عِيَاض: اتّفق الْعلمَاء على جَوَاز إِدْخَال الْحَج على الْعمرَة، وشذ بعض النَّاس فَمَنعه،.

     وَقَالَ : لَا يدْخل بِإِحْرَام على إِحْرَام، كَمَا فِي الصَّلَاة.
وَاخْتلفُوا فِي عَكسه، وَهُوَ إِدْخَال الْعمرَة على الْحَج، فجوزه أَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ فِي الْقَدِيم، وَمنعه آخَرُونَ، وَقَالُوا: هَذَا كَانَ خَاصّا بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قُلْنَا: دَعْوَى الخصوصية تحْتَاج إِلَى دَلِيل.

وَفِيه: أَن الْمُتَمَتّع إِذا فرغ من أَعمال الْعمرَة لم يحل حَتَّى يحرم بِالْحَجِّ إِذا كَانَ مَعَه هدي، وَهُوَ مَذْهَب أَصْحَابنَا عملا بقوله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لَهَا بِنَقْض رَأسهَا ثمَّ بالامتشاط، فَقَالَ الشَّافِعِي: تَأْوِيله أَنه أَمر لَهَا أَن تدع الْعمرَة وَتدْخل عَلَيْهَا الْحَج فَتَصِير قارنة.
.

     وَقَالَ  ابْن حزم: وَالصَّحِيح أَنَّهَا كَانَت قارنة.
.

     وَقَالَ  الْخطابِيّ: الحَدِيث مُشكل جدا إلاَّ أَن يؤول على التَّرَخُّص لَهَا أَن تدع الْعمرَة وَتدْخل على الْحَج، فَتكون قارنة.
لَا أَن تدع الْعمرَة نَفسهَا.
فَإِن قلت: يوهن هَذَا التَّأْوِيل لفظ: ( انقضي رَأسك وامتشطي) .
قلت: لَا، لِأَن نقض الرَّأْس والامتشاط جائزان فِي الْإِحْرَام بِحَيْثُ لَا تنتف شعرًا، وَقد يتَأَوَّل بِأَنَّهَا كَانَت معذورة بِأَن كَانَ برأسها أَذَى، فأباح لَهَا كَمَا أَبَاحَ لكعب بن عجْرَة للأذى.
وَقيل: المُرَاد بالامتشاط تَسْرِيح الشّعْر بالأصابع لغسل الْإِحْرَام بِالْحَجِّ، وَيلْزمهُ مِنْهُ نقضه.

وَفِيه: فِي قَوْلهَا: ( فَقدمت مَكَّة وَأَنا حَائِض وَلم أطف بِالْبَيْتِ وَلَا بَين الصَّفَا والمروة) قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: فِيهِ دلَالَة على أَن طواف الْمُحدث لَا يجوز، وَلَو كَانَ ذَلِك لأجل الْمَسْجِد لقَالَ: لَا يدْخل الْمَسْجِد، وَقد اخْتلفُوا فِيهِ، فَعَن أَحْمد: طواف الْمُحدث وَالْجنب لَا يَصح، وَعنهُ: يَصح.
.

     وَقَالَ  أَصْحَابنَا: الطَّهَارَة لَيست بِشَرْط فَلَو طَاف وَعَلِيهِ نَجَاسَة أَو طَاف مُحدثا أَو جنبا صَحَّ طَوَافه، لقَوْله تَعَالَى: { وليطوفوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيق} ( الْحَج: 92) .
أَمر بِالطّوافِ مُطلقًا، وتقييده بِالطَّهَارَةِ بِخَبَر الْوَاحِد زِيَادَة على النَّص فَلَا يجوز، وَلَكِن إِن طَاف مُحدثا فَعَلَيهِ شَاة، وَإِن طَاف جنبا فَعَلَيهِ بَدَنَة، ويعيده مَا دَامَ فِي مَكَّة، وَعَن دَاوُد: الطَّهَارَة لَهُ وَاجِبَة.
فَإِن طَاف مُحدثا أَجزَأَهُ إلاَّ الْحَائِض.
وَعند الشَّافِعِي: الطَّهَارَة شَرط فَلَا يَصح بِدُونِهَا، وَمذهب الْجُمْهُور: أَن السَّعْي يَصح من الْمُحدث وَالْجنب وَالْحَائِض.
وَعَن الْحسن: أَنه إِن كَانَ قبل التَّحَلُّل أعَاد السَّعْي، وَإِن كَانَ بعده فَلَا شَيْء عَلَيْهِ.

وَفِيه: حجَّة لمن قَالَ: الطّواف الْوَاحِد وَالسَّعْي الْوَاحِد يكفيان للقارن، وَهُوَ مَذْهَب عَطاء وَالْحسن وطاووس، وَبِه قَالَ مَالك وَأحمد وَالشَّافِعِيّ وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر وَدَاوُد،.

     وَقَالَ  مُجَاهِد وَجَابِر بن زيد وَشُرَيْح القَاضِي وَالشعْبِيّ وَمُحَمّد بن عَليّ بن حُسَيْن وَالنَّخَعِيّ وَالْأَوْزَاعِيّ وَالثَّوْري وَالْأسود بن يزِيد وَالْحسن بن حَيّ وَحَمَّاد بن سَلمَة وَحَمَّاد ابْن سُلَيْمَان وَالْحكم بن عُيَيْنَة وَزِيَاد بن مَالك وَابْن شبْرمَة وَابْن أبي ليلى وَأَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه: لَا بُد للقارن من طوافين وسعيين، وَحكي ذَلِك عَن عمر وَعلي وإبنيه: الْحسن وَالْحُسَيْن، وَابْن مَسْعُود، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، هُوَ رِوَايَة عَن أَحْمد.
وروى مُجَاهِد عَن ابْن عمر أَنه جمع بَين الْحَج وَالْعمْرَة،.

     وَقَالَ : سبيلهما وَاحِد، وَطَاف لَهما طوافين وسعى لَهما سعيين،.

     وَقَالَ : هَكَذَا رَأَيْت رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يصنع كَمَا صنعت، وَعَن عَليّ: أَنه جمع بَينهمَا، وَفعل ذَلِك ثمَّ قَالَ: هَكَذَا رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكَذَا عَن عَلْقَمَة عَن ابْن مَسْعُود قَالَ: طَاف رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لعمرته وحجته طوافين وسعى سعيين، وَأَبُو بكر وَعمر وَعلي، وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ أَيْضا من حَدِيث عمرَان بن حُصَيْن وَضَعفه، وَالله أعلم.