فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب إذا أحصر المعتمر

(كتابُ المُحْصَرِ)
أَي: هَذِه أَبْوَاب فِي بَيَان أَحْكَام الْمحصر وَأَحْكَام جَزَاء الصَّيْد الَّذِي يتَعَرَّض إِلَيْهِ الْمحرم، وَثبتت الْبَسْمَلَة لجَمِيع الروَاة، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: أَبْوَاب، بِلَفْظ الْجمع وَفِي رِوَايَة غَيره: بَاب، بِالْإِفْرَادِ.
وقَوْلِهِ تَعَالى: {فإنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ ولاَ تَحْلِقُوا رُؤوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} (الْبَقَرَة: 691) .
وَقَوله، بِالْجَرِّ عطف على قَوْله: (الْمحصر) ، أَي: وَفِي بَيَان المُرَاد من قَوْله تَعَالَى: {فَإِن أحصرتم { (الْبَقَرَة: 691) .
الْكَلَام هَهُنَا على أَنْوَاع: الأول فِي معنى الْحصْر والإحصار.
الْإِحْصَار: الْمَنْع وَالْحَبْس عَن الْوَجْه الَّذِي يَقْصِدهُ، يُقَال: أحصره الْمَرَض أَو السُّلْطَان إِذا مَنعه عَن مقْصده، فَهُوَ محصر،، والحصر الْحَبْس، يُقَال: حصره إِذا حَبسه فَهُوَ مَحْصُور،.

     وَقَالَ  القَاضِي إِسْمَاعِيل: الظَّاهِر أَن الْإِحْصَار بِالْمرضِ والحصر بالعدو، وَمِنْه: فَلَمَّا حصر رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،.

     وَقَالَ  تَعَالَى: {فَإِن أحصرتم} (الْبَقَرَة: 691) .
.

     وَقَالَ  الْكسَائي: يُقَال من الْعَدو: حصر فَهُوَ مَحْصُور، وَمن الْمَرَض: أحْصر فَهُوَ محصر، وَحكى عَن الْفراء أَنه أجَاز كل وَاحِد مِنْهُمَا مَكَان الآخر، وَأنكر الْمبرد والزجاج، وَقَالا: هما مُخْتَلِفَانِ فِي الْمَعْنى، وَلَا يُقَال فِي الْمَرَض: حصره، وَلَا فِي الْعَدو: أحصره، وَإِنَّمَا هَذَا كَقَوْلِهِم حَبسه إِذا جعله فِي الْحَبْس، وأحبسه أَي عرضه للحبس، وَقَتله أوقع بِهِ الْقَتْل، وأقتله أَي عرضه للْقَتْل، وَكَذَلِكَ حصره: حَبسه، وأحصره، عرضه للحصر.
النَّوْع الثَّانِي: فِي سَبَب نزُول هَذِه الْآيَة: ذكرُوا أَن هَذِه الْآيَة نزلت فِي سنة سِتّ، أَي: عَام الْحُدَيْبِيَة حِين حَال الْمُشْركُونَ بَين رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَبَين الْوُصُول إِلَى الْبَيْت، وَأنزل الله فِي ذَلِك سُورَة الْفَتْح بكمالها، وَأنزل لَهُم رخصَة أَن يذبحوا مَا مَعَهم من الْهَدْي، وَكَانَ سبعين بَدَنَة، وَأَن يتحللوا من إحرامهم، فَعِنْدَ ذَلِك أَمرهم، عَلَيْهِ السَّلَام، أَن يذبحوا مَا مَعَهم من الْهَدْي وَأَن يحلقوا رؤوسهم ويتحللوا، فَلم يَفْعَلُوا انتظارا للنسخ، حَتَّى خرج فحلق رَأسه، فَفعل النَّاس، وَكَانَ مِنْهُم من قصّ رَأسه وَلم يحلقه، فَلذَلِك قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (رحم الله المحلقين! قَالُوا: والمقصرين يَا رَسُول الله؟ فَقَالَ فِي الثَّالِثَة: والمقصرين) ، وَقد كَانُوا اشْتَركُوا فِي هديهم ذَلِك كل سَبْعَة فِي بَدَنَة، وَكَانُوا ألفا وَأَرْبَعمِائَة، وَكَانَ منزلهم بِالْحُدَيْبِية خَارج الْحرم، وَقيل: بل كَانُوا على طرف الْحلم.
النَّوْع الثَّالِث فِي تَفْسِير هَذِه الْآيَة: قَوْله: {فَإِن أحصرتم} (الْبَقَرَة: 691) .
أَي: منعتم عَن تَمام الْحَج وَالْعمْرَة فحللتم: {فَمَا اسْتَيْسَرَ} (الْبَقَرَة: 691) .
أَي: فَعَلَيْكُم مَا اسْتَيْسَرَ {من الْهَدْي} (الْبَقَرَة: 691) .
أَي: مَا تيَسّر مِنْهُ، يُقَال: يسر الْأَمر واستيسر، كَمَا يُقَال: صَعب واستصعب.
.

     وَقَالَ  الزَّمَخْشَرِيّ: الْهَدْي جمع هَدِيَّة، كَمَا يُقَال فِي جدية السرج جدي، وقرىء: من الْهَدْي، بِالتَّشْدِيدِ جمع هَدِيَّة، كمطية ومطي، وَحَاصِل الْمَعْنى: فَإِن منعتم من الْمُضِيّ إِلَى الْبَيْت وَأَنْتُم محرمون بِحَجّ أَو عمْرَة فَعَلَيْكُم إِذا أردتم التَّحَلُّل مَا اسْتَيْسَرَ من الْهَدْي من بعير أَو بقرة أَو شَاة.
قَوْله: {وَلَا تحلقوا رؤوسكم} (الْبَقَرَة: 691) .
عطف على قَوْله: {وَأَتمُّوا الْحَج وَالْعمْرَة لله} (الْبَقَرَة: 691) .
وَلَيْسَ مَعْطُوفًا على قَوْله: {فَإِن أحصرتم} (الْبَقَرَة: 691) .
كَمَا زَعمه ابْن جرير، لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابه عَام الْحُدَيْبِيَة لما حصرهم كفار قُرَيْش عَن الدُّخُول إِلَى الْحرم حَلقُوا وذبحوا هديهم خَارج الْحرم، وَأما فِي حَال الْأَمْن والوصول إِلَى الْحرم فَلَا يجوز الْحلق حَتَّى يبلغ الْهَدْي مَحَله، ويفرغ الناسك من أَفعَال الْحَج وَالْعمْرَة إِن كَانَ قَارنا أَو من فعل أَحدهمَا إِن كَانَ مُفردا أَو مُتَمَتِّعا.
النَّوْع الرَّابِع: اخْتِلَاف الْعلمَاء فِي الْحصْر، بِأَيّ شَيْء يكون، وَبِأَيِّ معنى يكون، فَقَالَ قوم وهم عَطاء بن أبي رَبَاح وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وسُفْيَان الثَّوْريّ: يكون الْحصْر بِكُل حَابِس من مرض أَو غَيره من عَدو وَكسر وَذَهَاب نَفَقَة وَنَحْوهَا مِمَّا يمنعهُ عَن الْمُضِيّ إِلَى الْبَيْت، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف وَمُحَمّد وَزفر.
وَرُوِيَ ذَلِك عَن ابْن عَبَّاس وَابْن مَسْعُود وَزيد بن ثَابت.
.

     وَقَالَ  آخَرُونَ، وهم اللَّيْث بن سعد وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق: لَا يكون الْإِحْصَار إِلَّا بالعدو فَقَط، وَلَا يكون بِالْمرضِ، وَهُوَ قَول عبد الله بن عمر.
.

     وَقَالَ  الْجَصَّاص فِي (كتاب الْأَحْكَام) وَقد اخْتلف السّلف فِي حكم الْمحصر على ثَلَاثَة أنحاء، رُوِيَ عَن ابْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس: الْعَدو وَالْمَرَض سَوَاء، يبْعَث دَمًا، وَيحل بِهِ إِذا أنحر فِي الْحرم، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وَأَصْحَابه.
وَالثَّانِي: قَول ابْن عمر إِن الْمَرِيض لَا يحل وَلَا يكون محصورا إِلَّا بالعدو، وَهُوَ قَول مَالك وَالشَّافِعِيّ.
وَالثَّالِث: قَول ابْن الزبير وَعُرْوَة بن الزبير: إِن الْمَرَض والعدو سَوَاء لَا يحل إِلَّا بِالطّوافِ، وَلَا نعلم لَهما مُوَافقا من فُقَهَاء الْأَمْصَار.
وَفِي (شرح الْمُوَطَّأ) : مَذْهَب مَالك وَالشَّافِعِيّ أَن الْمحصر بِالْمرضِ لَا يحل دون الْبَيْت، وَسَوَاء عِنْد مَالك شَرط عِنْد إِحْرَامه التَّحَلُّل للمرض أَو لم يشْتَرط.
.

     وَقَالَ  الشَّافِعِي: لَهُ شَرطه.
.

     وَقَالَ  أَبُو عمر: الْإِحْصَار عِنْد أهل الْعلم على وُجُوه: مِنْهَا: الْمحصر بالعدو.
وَمِنْهَا: بالسلطان الجائر.
وَمِنْهَا: الْمَرَض وَشبهه.
فَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ وأصحابهما: من أحصره الْمَرَض فَلَا يحله إِلَّا الطّواف بِالْبَيْتِ، وَمن حصر بعدو فَإِنَّهُ ينْحَر هَدْيه حَيْثُ حصر ويتحلل وينصرف وَلَا قَضَاء عَلَيْهِ إلاَّ أَن تكون ضَرُورَة فيحج الْفَرِيضَة، وَلَا خلاف بَين الشَّافِعِي وَمَالك وأصحابهما فِي ذَلِك.
.

     وَقَالَ  ابْن وهب وَغَيره: كل من حبس عَن الْحَج بَعْدَمَا يحرم بِمَرَض أَو حِصَار من الْعَدو أَو خَافَ عَلَيْهِ الْهَلَاك فَهُوَ محصر، فَعَلَيهِ مَا على الْمحصر، وَلَا يحل دون الْبَيْت، وَكَذَلِكَ من أَصَابَهُ كسر وبطن متحرق.
.

     وَقَالَ  مَالك: أهل مَكَّة فِي ذَلِك كَأَهل الْآفَاق، لِأَن الْإِحْصَار عِنْده فِي الْمَكِّيّ الْحَبْس عَن عَرَفَة خَاصَّة، قَالَ: فَإِن احْتَاجَ الْمَرِيض إِلَى دَوَاء تداوى بِهِ وافتدى، وَهُوَ على إِحْرَامه لَا يحل من شَيْء مِنْهُ حَتَّى يبرأ من مَرضه، فَإِذا برىء من مَرضه مضى إِلَى الْبَيْت فَطَافَ بِهِ سبعا وسعى بَين الصَّفَا والمروة وَحل من حجه أَو عمرته.
.

     وَقَالَ  أَبُو عمر: هَذَا كُله قَول الشَّافِعِي أَيْضا.
.

     وَقَالَ  الطَّحَاوِيّ، رَحمَه الله: إِذا نحر الْمحصر هَدْيه هَل يحلق رَأسه أم لَا؟ فَقَالَ قوم: لَيْسَ عَلَيْهِ أَن يحلق لِأَنَّهُ قد ذهب عَنهُ النّسك كُله، وَهَذَا قَول أبي حنيفَة وَمُحَمّد.
.

     وَقَالَ  آخَرُونَ: بل يحلق فَإِن لم يحلق فَلَا شَيْء عَلَيْهِ، وَهَذَا قَول أبي يُوسُف.
.

     وَقَالَ  آخَرُونَ: يحلق وَيجب عَلَيْهِ مَا يجب على الْحَاج والمعتمر، وَهُوَ قَول مَالك.
النَّوْع الْخَامِس فِي الاحتجاجات فِي هَذَا الْبَاب: احْتج الشَّافِعِي وَمن تَابعه فِي هَذَا الْبَاب بِمَا رَوَاهُ ابْن أبي حَاتِم: حَدثنَا مُحَمَّد بن عبد الله بن يزِيد حَدثنَا سُفْيَان عَن عَمْرو بن دِينَار عَن ابْن عَبَّاس وَابْن طَاوُوس عَن أَبِيه عَن ابْن عَبَّاس وَابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد عَن ابْن عَبَّاس: لَا حصر إلاَّ حصر الْعَدو، وَرَوَاهُ الشَّافِعِي فِي (مُسْنده) عَن ابْن عَبَّاس: لَا حصر إلاَّ حصر الْعَدو.
فَأَما من أَصَابَهُ مرض أَو وجع أَو ضلال فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْء.
قَالَ: وَرُوِيَ عَن ابْن عمر وطاووس وَالزهْرِيّ وَزيد بن أسلم نَحْو ذَلِك، وَاحْتج أَبُو حنيفَة وَمن تَابعه فِي ذَلِك بِمَا رَوَاهُ الإِمَام أَحْمد: حَدثنَا يحيى بن سعيد حَدثنَا حجاج الصَّواف عَن يحيى بن أبي كثير عَن عِكْرِمَة عَن الْحجَّاج بن عَمْرو الْأنْصَارِيّ، قَالَ: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: (من كسر أَو عرج فقد حل وَعَلِيهِ حجَّة أُخْرَى، قَالَ: فَذكرت ذَلِك لِابْنِ عَبَّاس وَأبي هُرَيْرَة، فَقَالَا: صدق) .
فقد أخرجه الْأَرْبَعَة من حَدِيث يحيى بن أبي كثير بِهِ.
وَفِي رِوَايَة لأبي دَاوُد وَابْن مَاجَه: (من عرج أَو كسر أَو مرض) ، فَذكر مَعْنَاهُ، وَرَوَاهُ عبد بن حميد فِي (تَفْسِيره) ، ثمَّ قَالَ: وَرُوِيَ عَن ابْن مَسْعُود وَابْن الزبير وعلقمة وَسَعِيد بن الْمسيب وَعُرْوَة بن الزبير وَمُجاهد وَالنَّخَعِيّ وَعَطَاء وَمُقَاتِل بن حبَان أَنهم قَالُوا: بالإحصار من عَدو أَو مرض أَو كسر.
.

     وَقَالَ  النَّوَوِيّ: الْإِحْصَار من كل شَيْء آذاه قلت: وَفِي الْمَسْأَلَة قَول ثَالِث حَكَاهُ ابْن جرير وَغَيره، وَهُوَ أَنه: لَا حصر بعد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
النَّوْع السَّادِس: فِي حكم الْهَدْي: فَقَالَ ابْن عَبَّاس: من الْأزْوَاج الثَّمَانِية من الْإِبِل وَالْبَقر والمعز والضأن.
.

     وَقَالَ  الثَّوْريّ عَن حبيب عَن سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى: {فَمَا اسْتَيْسَرَ من الْهَدْي} (الْبَقَرَة: 691) .
قَالَ شَاة، وَكَذَا قَالَ عَطاء وَمُجاهد وطاووس وَأَبُو الْعَالِيَة وَمُحَمّد بن الْحُسَيْن وَعبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم وَالشعْبِيّ وَالنَّخَعِيّ وَالْحسن وَقَتَادَة وَالضَّحَّاك وَمُقَاتِل بن حبَان مثل ذَلِك، وَهُوَ مَذْهَب الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة.
.

     وَقَالَ  ابْن أبي حَاتِم: حَدثنَا أَبُو سعيد الْأَشَج حَدثنَا أَبُو خَالِد الْأَحْمَر عَن يحيى بن سعيد عَن الْقَاسِم عَن عَائِشَة وَابْن عمر أَنَّهُمَا كَانَا لَا يريان مَا اسْتَيْسَرَ من الْهَدْي إلاَّ من الْإِبِل وَالْبَقر وَقد رُوِيَ عَن سَالم وَالقَاسِم وَعُرْوَة بن الزبير وَسَعِيد بن جُبَير نَحْو ذَلِك، وَقيل: الظَّاهِر أَن مُسْتَند هَؤُلَاءِ فِيمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ قصَّة الْحُدَيْبِيَة، فَإِنَّهُ لم ينْقل عَن أحد مِنْهُم إِنَّه ذبح فِي تحلله ذَاك شَاة، وَإِنَّمَا ذَبَحُوا الْإِبِل وَالْبَقر.
فَفِي (الصَّحِيحَيْنِ) : (عَن جَابر، قَالَ: أمرنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن نشترك فِي الْإِبِل وَالْبَقر، كل سَبْعَة منَّا فِي بقرة) .
.

     وَقَالَ  عبد الرَّزَّاق: أخبرنَا معمر عَن ابْن طَاوُوس عَن أَبِيه عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى: {فَمَا اسْتَيْسَرَ من الْهَدْي} (الْبَقَرَة: 691) .
قَالَ: بِقدر يسارته.
.

     وَقَالَ  الْعَوْفِيّ عَن ابْن عَبَّاس: إِن كَانَ مُوسِرًا فَمن الْإِبِل، وإلاَّ فَمن الْبَقر، وإلاَّ فَمن الْغنم.
وَقَالَ عطَاءٌ الإحْصَارُ مِنْ كُلِّ شَيءٍ بِحَسَبِهِ هَذَا التَّعْلِيق عَن عَطاء بن أبي رَبَاح، وَصله ابْن أبي شيبَة حَدثنَا يحيى بن سعيد عَن ابْن جريج عَن عَطاء، قَالَ: لَا إحصار إلاَّ من مرض أَو عَدو أَو أَمر حَابِس.
قالَ أبُو عَبْدِ الله حَصُورا لاَ يَأتِي النِّسَاءَ أَبُو عبد الله هُوَ البُخَارِيّ نَفسه.
وَكَانَ دأبه أَنه إِذا ذكر: لفظا جَاءَ فِي الْقُرْآن من مَادَّة ذكر مَا هُوَ بصدده، وَكَانَ الْمَذْكُور هُوَ لفظ الْمحصر فِي التَّرْجَمَة، وَفِي الْآيَة لفظ: أحصرتم، وَذكر: حصورا، الَّذِي جَاءَ فِي الْقُرْآن أَيْضا.
وَهُوَ فِي قَوْله عز وَجل: {إِن الله يبشرك بِيَحْيَى مُصدقا بِكَلِمَة من الله وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا من الصَّالِحين} (آل عمرَان: 93) .
ثمَّ إِنَّه فسر الحصور بقوله: {لَا يَأْتِي النِّسَاء} (آل عمرَان: 83) .
وروى هَذَا التَّفْسِير ابْن مَسْعُود.
وَعَن ابْن عَبَّاس وَمُجاهد وَعِكْرِمَة وَسَعِيد وَأبي الشعْثَاء وعطية الْعَوْفِيّ، وَعَن أبي الْعَالِيَة وَالربيع بن أنس: هُوَ الَّذِي لَا يُولد لَهُ.
.

     وَقَالَ  الضَّحَّاك: هُوَ الَّذِي لَا يُولد لَهُ وَلَا مَال لَهُ.
.

     وَقَالَ  ابْن أبي حَاتِم: حَدثنَا أبي حَدثنَا يحيى بن الْمُغيرَة أخبرنَا جرير عَن قَابُوس عَن أَبِيه عَن ابْن عَبَّاس فِي الحصور الَّذِي لَا ينزل المَاء، وَقد روى ابْن أبي حَاتِم فِي هَذَا حَدِيثا غَرِيبا.
فَقَالَ: حَدثنَا أَبُو جَعْفَر بن غَالب الْبَغْدَادِيّ حَدثنِي سعيد بن سُلَيْمَان حَدثنَا عباد يَعْنِي ابْن الْعَوام عَن يحيى بن سعيد عَن سعيد بن الْمسيب عَن ابْن الْعَاصِ لَا يدْرِي عبد الله أَو عَمْرو عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي قَوْله: {وَسَيِّدًا وَحَصُورًا} (آل عمرَان: 93) .
قَالَ: ثمَّ تنَاول شَيْئا من الأَرْض، فَقَالَ: كَانَ ذكره مثل هَذَا، وَرَوَاهُ ابْن الْمُنْذر فِي (تَفْسِيره) : حَدثنَا أَحْمد بن دَاوُد السجسْتانِي حَدثنَا سُوَيْد بن سعيد حَدثنَا عَليّ بن مسْهر عَن يحيى بن سعيد عَن سعيد بن الْمسيب، قَالَ: سَمِعت عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (مَا من عبد يلقى الله أَلا ذَا ذَنْب إِلَّا يحيى بن زَكَرِيَّا فَإِن الله يَقُول: {وَسَيِّدًا وَحَصُورًا} (آل عمرَان: 93) .
) قَالَ: وَإِنَّمَا كَانَ ذكره مثل هدبة الثَّوْب، وَأَشَارَ بأنمله وَذبح ذبحا) .
وروى ابْن أبي حَاتِم أَيْضا بِإِسْنَادِهِ إِلَى أبي هُرَيْرَة أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (كل ابْن آدم يلقى الله بذنب قد أذنبه يعذبه عَلَيْهِ إِن شَاءَ أَو يرحمه إلاَّ يحيى بن زَكَرِيَّا، عَلَيْهِمَا السَّلَام، فَإِنَّهُ كَانَ {سيدا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا من الصَّالِحين} (آل عمرَان: 93) .
ثمَّ أَهْوى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى قذاة من الأَرْض فَأَخذهَا،.

     وَقَالَ : كَانَ ذكره مثل هَذِه القذاة) .
.

     وَقَالَ  القَاضِي عِيَاض: إعلم أَن ثَنَاء الله تَعَالَى على يحيى بِأَنَّهُ حصور لَيْسَ كَمَا قَالَه بَعضهم: إِنَّه كَانَ هيوبا أَو لَا ذكر لَهُ، بل أنكر حذاق الْمُفَسّرين ونقاد الْعلمَاء، وَقَالُوا: هَذَا نقيصة وعيب، وَلَا يَلِيق بالأنبياء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ أَنه مَعْصُوم من الذُّنُوب، أَي: لَا يَأْتِيهَا كَأَنَّهُ حصر عَنْهَا.
وَقيل: مَانِعا نَفسه عَن الشَّهَوَات، وَقيل: لَيست لَهُ شَهْوَة فِي النِّسَاء، وَالْمَقْصُود أَنه مدح يحيى بِأَنَّهُ حصور لَيْسَ أَنه لَا يَأْتِي النِّسَاء كَمَا قَالَه بَعضهم، بل مَعْنَاهُ: أَنه مَعْصُوم عَن الْفَوَاحِش والقاذورات، وَلَا يمْنَع ذَلِك من تَزْوِيجه بِالنسَاء الْحَلَال وغشيانهن وإيلادهن، بل قد يفهم وجود النَّسْل من دُعَاء زَكَرِيَّا، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، حَيْثُ قَالَ: {هَب لي من لَدُنْك ذُرِّيَّة طيبَة} (آل عمرَان: 83) .
كَأَنَّهُ سَأَلَ ولدا لَهُ ذُرِّيَّة ونسل وعقب، وَالله تَعَالَى أعلم.


(بابٌُ إذَا أُحْصِرَ الْمُعْتَمِرُ)

أَي: هَذَا بابُُ يذكر فِيهِ إِذا أحْصر الْمُعْتَمِر، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَة إِلَى الرَّد على من قَالَ: إِن التَّحَلُّل بالإحصار يخْتَص بالحاج بِخِلَاف الْمُعْتَمِر فَإِنَّهُ لَا يتَحَلَّل بذلك، بل يسْتَمر على إِحْرَامه حَتَّى يطوف بِالْبَيْتِ، لِأَن السّنة كلهَا وَقت للْعُمْرَة فَلَا يخْشَى فَوَاتهَا بِخِلَاف الْحَج.
رُوِيَ ذَلِك عَن مَالك، وَهُوَ محكي عَن مُحَمَّد بن سِيرِين وَبَعض الظَّاهِرِيَّة، وَاحْتج لَهُم إِسْمَاعِيل القَاضِي بِمَا أخرجه بِإِسْنَاد صَحِيح عَن أبي قلَابَة، قَالَ: خرجت مُعْتَمِرًا فَوَقَعت عَن رَاحِلَتي فَانْكَسَرت، فَأرْسلت إِلَى ابْن عَبَّاس وَابْن عمر، فَقَالَا: لَيْسَ لَهَا وَقت كَالْحَجِّ، يكون على إِحْرَامه حَتَّى يصل إِلَى الْبَيْت، وَقَضِيَّة الْحُدَيْبِيَة حجَّة تقضي عَلَيْهِم، وَالله أعلم.


[ قــ :1726 ... غــ :1806 ]
- (حَدثنَا عبد الله بن يُوسُف أخبرنَا مَالك عَن نَافِع أَن عبد الله بن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا حِين خرج إِلَى مَكَّة مُعْتَمِرًا فِي الْفِتْنَة قَالَ إِن صددت عَن الْبَيْت صنعت كَمَا صنعنَا مَعَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأهل بِعُمْرَة من أجل أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ أهل بِعُمْرَة عَام الْحُدَيْبِيَة) مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ أَن ابْن عمر صنع فِي عمرته كَمَا صنع رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَام الْحُدَيْبِيَة وَهِي سنة سِتّ حِين صده الْمُشْركُونَ عَن إيصاله إِلَى الْبَيْت فَإِنَّهُ تحلل وَنحر وَحلق كَمَا ذكرنَا.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا عَن إِسْمَاعِيل بن عبد الله وفرقه وَأخرجه أَيْضا فِي الْمَغَازِي عَن قُتَيْبَة وَأخرجه مُسلم فِي الْحَج عَن يحيى بن يحيى قَوْله " عَن نَافِع أَن عبد الله ابْن عمر " الحَدِيث فِيهِ اخْتِلَاف لِأَن هَذَا يدل على أَن نَافِعًا روى عَن عبد الله بِغَيْر وَاسِطَة وَإسْنَاد الْحَدِيثين الْمَذْكُورين فِي هَذَا الْبابُُ عقيب هَذَا الْإِسْنَاد أَولهمَا يدل على أَن نَافِعًا روى عَن سَالم وَعبيد الله ابْني عبد الله بن عمر عَن أَبِيهِمَا فَذكر الحَدِيث وَالثَّانِي يدل على أَن نَافِعًا روى عَن بعض بني عبد الله فلأجل هَذَا الِاخْتِلَاف ذكر البُخَارِيّ الإسنادين الْمَذْكُورين عقيب الْإِسْنَاد الأول على مَا يَأْتِي بَيَانه إِن شَاءَ الله تَعَالَى قَوْله " مُعْتَمِرًا " وَذكر فِي الْمُوَطَّأ من هَذَا الْوَجْه خرج إِلَى مَكَّة يُرِيد الْحَج فَقَالَ إِن صددت فَذكره وَلَا اخْتِلَاف فِيهِ فَإِنَّهُ خرج أَولا يُرِيد الْحَج فَلَمَّا ذكرُوا لَهُ أَمر الْفِتْنَة أحرم بِالْعُمْرَةِ ثمَّ قَالَ مَا شَأْنهمَا إِلَّا وَاحِد فأضاف إِلَيْهَا الْحَج فَصَارَ قَارنا قَوْله " فِي الْفِتْنَة " أَرَادَ بهَا فتْنَة الْحجَّاج حِين نزل ابْن الزبير لقتاله وَقد مر فِي بابُُ طواف الْقَارِن من طَرِيق اللَّيْث عَن نَافِع بِلَفْظ " حِين نزل الْحجَّاج بِابْن الزبير " وَفِي لفظ مُسلم " حِين نزل الْحجَّاج لقِتَال ابْن الزبير " قَوْله " إِن صددت " أَي منعت وَهُوَ على صِيغَة الْمَجْهُول.

     وَقَالَ  هَذَا الْكَلَام جَوَابا لقَوْل من قَالَه لَهُ أَنا نَخَاف أَن يُحَال بَيْنك وَبَين الْبَيْت كَمَا أوضحته الرِّوَايَة الَّتِي بعد هَذِه قَوْله " كَمَا صنعنَا مَعَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " وَفِي رِوَايَة مُوسَى بن عقبَة فَقَالَ " لقد كَانَ لكم فِي رَسُول الله أُسْوَة حَسَنَة إِذا أصنع كَمَا صنع " وَزَاد فِي رِوَايَة اللَّيْث عَن نَافِع فِي بابُُ طواف الْقَارِن كَمَا صنع رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " قَوْله " فَأهل " أَي ابْن عمر وَالْمرَاد أَنه رفع صَوته بالإهلال والتلبية قَوْله " من أجل أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " إِلَى آخِره ويروى " من أجل أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " قَالَ النَّوَوِيّ مَعْنَاهُ أَنه أَرَادَ إِن صددت عَن الْبَيْت وأحصرت تحللت من الْعمرَة كَمَا تحلل النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من الْعمرَة.

     وَقَالَ  القَاضِي عِيَاض يحْتَمل أَن المُرَاد أهل بِعُمْرَة كَمَا أهل النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِعُمْرَة وَيحْتَمل أَنه أَرَادَ الْأَمريْنِ أَي من الإهلال والإحلال وَهُوَ الْأَظْهر قَوْله " بِعُمْرَة " زَاد فِي رِوَايَة جوَيْرِية " من ذِي الحليفة " وَفِي رِوَايَة أَيُّوب الْمَاضِيَة " فَأهل بِعُمْرَة من الدَّار " وَالْمرَاد بِالدَّار الْمنزل الَّذِي نزله بِذِي الحليفة قيل يحْتَمل أَن يحمل على الدَّار الَّتِي بِالْمَدِينَةِ (قلت) فعلى هَذَا التَّوْفِيق بَينهمَا بِأَن يُقَال أَنه أهل بِالْعُمْرَةِ من دَاخل بَيته ثمَّ أظهرها بعد أَن اسْتَقر بِذِي الحليفة -



[ قــ :177 ... غــ :1807 ]
- حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مُحَمَّدِ بنِ أسْمَاءَ قَالَ حدَّثنا جُوَيْرِيَةُ عنْ نافِعٍ أنَّ عُبَيْدَ الله بنَ عَبْدِ الله وسَالِمَ بنَ عَبْدِ الله قالَ أخْبَرَاهُ أنَّهُمَا كَلَّما عَبْدَ الله بنَ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا لَيَالِيَ نَزَلَ الْجَيْشَ بِابْنِ الزُّبَيْرِ فَقالاَ لاَ يَضُرُّكَ أنْ لاَ تَحُجَّ الْعَامَ وإنَّا نَخَافُ أنْ يُحَالَ بَيْنَكَ وبَيْنَ الْبَيْتِ فَقَالَ خَرَجْنَا مَعَ رسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَحَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ دُونَ الْبَيْتِ فَنَحَرَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَدْيَهُ وحَلَقَ رَأسَهُ واشْهِدُكُمْ أنِّي قَدْ أوْجَبْتُ الْعُمْرَةَ إنْ شَاَءَ الله أنْطَلِقُ فإنْ خُلِّيَ بَيْنِي وبَيْنَ البَيْتِ طُفْتُ وإنْ حِيلَ بَيْنِي وبَيْنَهُ فَعَلْتُ كَمَا فَعَلَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وأنَا معَهُ فأهَلَّ بِالعُمْرَةِ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ ثُمَّ سارَ ساعَةً ثُمَّ قالَ إنَّمَا شَأنُهُمَا وَاحِدٌ أُشْهِدُكُمْ أنِّي قَدْ أوْجَبْتُ حَجَّةً مَعَ عُمْرَتِي فَلَمْ يَحِلَّ مِنْهُمَا حَتَّى حَلَّ يَوْمَ النَّحْرِ وأهْدَى وكانَ يَقُولُ لاَ يَحِلُّ حَتَّى يَطُوفَ طَوافا واحِدا يَوْمَ يَدْخُلُ مَكَّةَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: ( وَإِن حيل بيني وَبَينه فعلت كَمَا فعل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، وَرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حل من عمرته حَتَّى أَنه نحر هَدْيه وَحلق، فَدلَّ أَن الْمُعْتَمِر إِذا أحْصر بِحل كَمَا يحل الْحَاج إِذا أحْصر، وَهَذَا الحَدِيث قد مر فِي: بابُُ طواف الْقَارِن بأوضح مِنْهُ، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ مُسْتَوفى.

وَعبد الله بن مُحَمَّد بن أَسمَاء بن عبيد الضبعِي الْبَصْرِيّ ابْن أخي جوَيْرِية بن أَسمَاء، وَجُوَيْرِية تَصْغِير جَارِيَة بِالْجِيم، وَهُوَ من الْأَلْفَاظ الْمُشْتَركَة بَين الرِّجَال وَالنِّسَاء.

قَوْله: ( أخبراه) أَي: عبيد الله وَسَالم ابْنا عبد الله بن عمر،.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: وَفِي بَعْضهَا بدل عبيد الله: عبد الله مكبرا، وَهُوَ الْمُوَافق للرواية الَّتِي بعده فِي بابُُ النَّحْر قبل الْحلق وهما أَخَوان، والمصغر أكبر مِنْهُ.
قَوْله: ( الْجَيْش) هُوَ جَيش الْحجَّاج بن يُوسُف الثَّقَفِيّ، كَانَ نَائِب عبد الْملك بن مَرْوَان.
قَوْله: ( أشهدكم أَنِّي قد أوجبت) ، أَي: ألزمت نَفسِي ذَلِك، وَكَانَ أَرَادَ تَعْلِيم من يُرِيد الِاقْتِدَاء بِهِ، وإلاَّ فالتلفظ لَيْسَ بِشَرْط.
قَوْله: ( إِن شَاءَ الله) ، هَذَا تبرك وَلَيْسَ بتعليق، لِأَنَّهُ كَانَ جازكا بِالْإِحْرَامِ بِقَرِينَة: ( أشهدكم) ، وَيحْتَمل أَن يكون مُنْقَطِعًا عَمَّا قبله، وَيكون ابْتِدَاء لشرط وَالْجَزَاء: انْطلق.
قَوْله: ( إِن شَأْنهمَا وَاحِد) أَي: أَن أَمر الْعمرَة وَالْحج وَاحِد فِي جَوَاز التَّحَلُّل مِنْهُمَا بالإحصار.
قَوْله: ( طَوافا وَاحِدًا) .
قَالَ الْكرْمَانِي: أَي: لَا يحْتَاج الْقَارِن إِلَى طوافين، بل يحل بِطواف وَاحِد.
قلت: هَذَا التَّفْسِير لأجل نصْرَة مذْهبه، وَقد قَامَت دَلَائِل أُخْرَى أَن الْقَارِن يحْتَاج إِلَى طوافين وسعيين وتكلمنا فِي هَذَا الْبابُُ فِي ( شرحنا لمعاني الْآثَار) بِمَا فِيهِ الْكِفَايَة، فَلْينْظر فِيهِ هُنَاكَ.

وَفِي هَذَا الحَدِيث من الْفَوَائِد: أَن الصَّحَابَة كَانُوا يستعملون الْقيَاس ويحتجون بِهِ، وَأَن الْمحصر بالعدو جَازَ لَهُ التَّحَلُّل سَوَاء كَانَ عَن حجَّة أَو عمْرَة، وَأَنه ينْحَر هَدْيه ويحلق رَأسه أَو يقصر مِنْهُ.
وَفِيه: جَوَاز إِدْخَال الْحَج على الْعمرَة، لَكِن شَرطه عِنْد الْجُمْهُور أَن يكون قبل الشُّرُوع فِي طواف الْعمرَة، وَعند الْحَنَفِيَّة إِن كَانَ قبل مُضِيّ أَرْبَعَة أَشْوَاط صَحَّ، وَعند الْمَالِكِيَّة بعد تَمام الطّواف.
وَنقل ابْن عبد الْبر أَن أَبَا ثَوْر شَذَّ فَمنع إِدْخَال الْحَج على الْعمرَة، قِيَاسا على منع إِدْخَال الْعمرَة على الْحَج.
وَفِيه: أَن الْقَارِن يهدي،.

     وَقَالَ  ابْن حزم: لَا هدي على الْقَارِن.
وَفِيه: جَوَاز الْخُرُوج إِلَى النّسك فِي الطَّرِيق المظنون خَوفه إِذا رجى السَّلامَة، قَالَه أَبُو عمر بن عبد الْبر، رَحمَه الله.





[ قــ :177 ... غــ :1808 ]
- حدَّثني مُوسَى بنُ إسْمَاعِيلَ قالَ حَدثنَا جُوَيْرِيَّةُ عنْ نافِعٍ أنَّ بَعْضَ بَنِي عَبْدِ الله قَالَ لَهُ لَوْ أقَمْتَ بِهاذا..
هَذَا وَجه آخر فِي الحَدِيث السَّابِق أخرجه عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل الْمنْقري التَّبُوذَكِي عَن جوَيْرِية بن أَسمَاء عَن نَافِع أَن بعض بني عبد الله، وَهُوَ إِمَّا سَالم أَو عبد الله أَو عبيد الله أَبنَاء عبد الله بن عمر بن الْخطاب.

قَوْله: ( قَالَ لَهُ) ، أَي: قَالَ بعض بني عبد الله لعبد الله بن عمر.
قَوْله: ( لَو أَقمت بِهَذَا) ، أَي: لَو أَقمت بِهَذَا الْمَكَان أَو فِي هَذَا الْعَام، وَإِنَّمَا قَالَ لَهُ ذَلِك حِين أَرَادَ عبد الله أَن يعْتَمر، فَقَالُوا لَهُ: نَخَاف أَن يُحَال بَيْنك وَبَين الْبَيْت، لِأَنَّهُ كَانَ فِي تِلْكَ السّنة نزُول الْحجَّاج بالجيش على ابْن الزبير، كَمَا ذَكرْنَاهُ.
فَإِن قلت: أَيْن جَوَاب لَو؟ قلت: مَحْذُوف تَقْدِيره: لَو أَقمت فِي هَذِه السّنة لَكَانَ خيرا، أَو نَحْو ذَلِك، وَيجوز أَن تكون: لَو، لِلتَّمَنِّي فَلَا تحْتَاج إِلَى جَوَاب.





[ قــ :178 ... غــ :1809 ]
- حدَّثنا مُحَمَّدٌ قَالَ حَدثنَا يَحْيَى بنُ صالِحٍ قَالَ حَدثنَا مُعَاوِيَةُ بنُ سَلاَّمٍ قَالَ حدَّثنا يَحْيَى بنُ أبِي كَثيرٍ عنْ عِكْرِمَةَ قَالَ قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما قدْ أُحْصِرَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فحَلَقَ رَأسَهُ وجامَعَ نِسَاءَهُ ونَحَرَ هَدْيَهُ حَتَّى اعْتَمَرَ عَاما قابِلاً.

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، لِأَنَّهُ يدل على أَن الْمُعْتَمِر يحصره، ذكر مُحَمَّد هَذَا غير مَنْسُوب فِي جَمِيع الرِّوَايَات، وَاخْتلفُوا فِيهِ، فَقَالَ الْحَاكِم: هُوَ مُحَمَّد بن يحيى الذهلي، وَفِي بعض النّسخ: حَدثنَا مُحَمَّد هُوَ الذهلي، فَلذَلِك جزم الْحَاكِم بِهِ،.

     وَقَالَ  أَبُو مَسْعُود، هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم بن واره، وَذكر الكلاباذي عَن ابْن أبي سعيد أَنه أَبُو حَاتِم مُحَمَّد بن إِدْرِيس الرَّازِيّ، وَذكر أَنه رَآهُ فِي أصل عَتيق، وَقيل: يحْتَمل أَن يكون هُوَ مُحَمَّد بن إِسْحَاق الصغاني.
وَيحيى بن صَالح أَبُو زَكَرِيَّاء الْحِمصِي، وَمُعَاوِيَة ابْن سَلام، بتَشْديد: الحبشي، مر فِي أَوَائِل الْكُسُوف.
وَهَذَا الحَدِيث فِيهِ حذف يدل عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ ابْن السكن فِي (كتاب الصَّحَابَة) ، قَالَ: حَدثنِي هَارُون بن عِيسَى وَحدثنَا الصغاني هُوَ مُحَمَّد بن إِسْحَاق أحد شُيُوخ مُسلم حَدثنَا يحيى بن صَالح حَدثنَا مُعَاوِيَة بن سَلام عَن يحيى ابْن أبي كثير قَالَ سَأَلت عِكْرِمَة فَقَالَ: قَالَ عبد الله بن رَافع مولى أم سَلمَة: أَنا سَأَلت الْحجَّاج بن عَمْرو الْأنْصَارِيّ عَمَّن حبس وَهُوَ محرم، فَقَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من عرج أَو كسر أَو حبس فليجزىء مثلهَا، وَهُوَ فِي حل، قَالَ: فَحدثت بِهِ أَبَا هُرَيْرَة فَقَالَ: صدق، وحدثته ابْن عَبَّاس، فَقَالَ: قد حصر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فحلق وَنحر هَدْيه وجامع نِسَاءَهُ حَتَّى اعْتَمر قَابلا) ، فَعرف بِهَذَا الْمِقْدَار الَّذِي حذفه البُخَارِيّ من هَذَا الحَدِيث، وَإِنَّمَا حذفه لِأَن هَذَا الزَّائِد لَيْسَ على شَرطه، لِأَنَّهُ قد اخْتلف فِي حَدِيث الْحجَّاج بن عَمْرو على يحيى بن أبي كثير عَن عِكْرِمَة مَعَ كَون عبد الله بن رَافع لَيْسَ من شَرط البُخَارِيّ، مَعَ أَن الَّذِي حذفه لَيْسَ بَعيدا عَن الصِّحَّة، لِأَن عبد الله بن رَافع ثِقَة، وَإِن لم يخرج لَهُ البُخَارِيّ.
وَحَدِيث الْحجَّاج بن عَمْرو هَذَا أخرجه الْأَرْبَعَة أَيْضا، فَقَالَ أَبُو دَاوُد: حَدثنَا مُسَدّد، قَالَ: حَدثنَا يحيى عَن حجاج الصَّواف، قَالَ لي يحيى بن أبي كثير عَن عِكْرِمَة، قَالَ: سَمِعت الْحجَّاج بن عَمْرو الْأنْصَارِيّ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من كسر أَو عرج فقد حل وَعَلِيهِ الْحَج من قَابل، فَسَأَلت ابْن عَبَّاس وَأَبا هُرَيْرَة عَن ذَلِك؟ فَقَالَا: صدق) .
وَفِي لفظ لَهُ: (من عرج أَو كسر أَو مرض) .
.

     وَقَالَ  التِّرْمِذِيّ: حَدثنَا إِسْحَاق بن مَنْصُور أخبرنَا روح بن عبَادَة أخبرنَا حجاج الصَّواف حَدثنَا يحيى بن أبي كثير عَن عِكْرِمَة، قَالَ: حَدثنِي الْحجَّاج بن عَمْرو قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من كسر أَو عرج فَقل حل وَعَلِيهِ حجَّة أُخْرَى، فَذكرت ذَلِك لأبي هُرَيْرَة وَابْن عَبَّاس، فَقَالَا: صدق) .
وَفِي لفظ: (من عرج أَو كسر أَو مرض) .
.

     وَقَالَ  التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن،.

     وَقَالَ  النَّسَائِيّ: أخبرنَا أَحْمد بن مسْعدَة، قَالَ: حَدثنَا سُفْيَان عَن الْحجَّاج الصَّواف عَن يحيى بن أبي كثير عَن عِكْرِمَة عَن الْحجَّاج بن عَمْرو الْأنْصَارِيّ أَنه سمع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: (من عرج أَو كسر فقد حل وَعَلِيهِ حجَّة أُخْرَى.
فَسَأَلت ابْن عَبَّاس وَأَبا هُرَيْرَة عَن ذَلِك؟ فَقَالَا: صدق.
وَأخْبرنَا شُعَيْب بن يُوسُف النَّسَائِيّ وَأخْبرنَا مُحَمَّد بن الْمثنى، قَالَا: حَدثنَا يحيى بن سعيد عَن حجاج الصَّواف عَن يحيى بن أبي كثير عَن عِكْرِمَة عَن الْحجَّاج بن عَمْرو قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: (من كسر أَو عرج فقد حل وَعَلِيهِ الْحَج من قَابل) .
وَسَأَلنَا ابْن عَبَّاس وَأَبا هُرَيْرَة فَقَالَا: صدق.

     وَقَالَ  ابْن مَاجَه: حَدثنَا أَبُو بكر بن أبي شيبَة، قَالَ: حَدثنَا يحيى بن سعيد وَابْن علية عَن حجاج بن أبي عُثْمَان، قَالَ: حَدثنِي يحيى بن كثير.
قَالَ: حَدثنِي عِكْرِمَة، قَالَ: حَدثنِي الْحجَّاج بن عَمْرو الْأنْصَارِيّ، قَالَ: سَمِعت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: (من كسر أَو عرج فقد حل وَعَلِيهِ حجَّة أُخْرَى فَحدث بِهِ ابْن عَبَّاس وَأَبا هُرَيْرَة، فَقَالَا: صدق.

قَوْله: (قَالَ: قَالَ ابْن عَبَّاس) ، ويروى: (فَقَالَ ابْن عَبَّاس) .
بفاء الْعَطف وَوَجهه أَن يكون عطفا على مُقَدّر تَقْدِيره سَأَلته عَنهُ، فَقَالَ: قَوْله: (حَتَّى اعْتَمر) ويروى: (ثمَّ اعْتَمر.
قَوْله: (عَاما) نصب على الظّرْف، (وقابلاً) صفته.