فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب من قال: ليس على المحصر بدل

( بابُُ منْ قَالَ لَيْسَ عَلىَ الْمُحْصَرِ بَدَلٌ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان قَول من قَالَ: لَيْسَ على الْمحصر، بدل، أَي: عوض، أَي: قَضَاء لما أحْصر فِيهِ من حج أَو عمْرَة.

وَقَالَ رَوْحٌ عنِ ابنِ نَجِيحٍ عنْ مُجَاهِدٍ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا إنَّما الْبَدَلُ عَلَى منْ نَقَضَ حَجَّهُ بِالتَّلَذُّذِ فأمَّا منْ حَبَسَهُ عُذْرٌ أوْ غيْرُ ذَلِكَ فإنَّهُ يَحِلُّ ولاَ يَرْجِعُ وإنْ كانَ معَهُ هِدْيٌ وهُوَ مُحْصَرٌ نَحَرَهُ إنْ كانَ لاَ يَسْتَطيعُ أنْ يَبعَثَ بِهِ لَمْ يَحِلَّ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: ( إِنَّمَا الْبَدَل على من نقص حجه) ، وروح، بِفَتْح الرَّاء وَسُكُون الْوَاو: ابْن عبَادَة، بِضَم الْعين وَتَخْفِيف الْبَاء الْمُوَحدَة، وشبل، بِكَسْر الشين الْمُعْجَمَة: ابْن عباد، بِفَتْح الْعين: الْمَكِّيّ تلميذ ابْن كثير فِي الْقِرَاءَة، وَكَانَ قدريا، وَابْن أبي نجيح هُوَ عبد الله بن أبي نجيح، بِفَتْح النُّون، وَقد مر غير مرّة.

وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه فِي ( تَفْسِيره) عَن روح بِهَذَا الْإِسْنَاد، وَهُوَ مَوْقُوف على ابْن عَبَّاس.

قَوْله: ( بالتلذذ) أَي: بِالْجِمَاعِ.
قَوْله: ( عذر) ، بِضَم الْعين وَسُكُون الذَّال الْمُعْجَمَة، هَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: عَدو من الْعَدَاوَة، قَالَ الْكرْمَانِي: الْعذر الْوَصْف الطارىء على الْمُكَلف الْمُنَاسب للتسهيل عَلَيْهِ، وَلَعَلَّه أَرَادَ بِهِ هَهُنَا نوعا مِنْهُ كالمرض ليَصِح عطف ( أَو غير ذَلِك) ، عَلَيْهِ نَحْو نفاد نَفَقَته أَو سرقتها.
قَوْله: ( وَلَا يرجع) أَي: وَلَا يقْضِي، وَهَذَا فِي النَّفْل، إِذْ الْفَرِيضَة بَاقِيَة فِي ذمَّته كَمَا كَانَت، وَعَلِيهِ أَن يرجع لأَجلهَا فِي سنة أُخْرَى، وَقد رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس نَحْو هَذَا، رَوَاهُ ابْن جرير من طَرِيق عَليّ بن أبي طَلْحَة عَنهُ، وَفِيه: ( فَإِن كَانَت حجَّة الْإِسْلَام فَعَلَيهِ قَضَاؤُهَا، وَإِن كَانَت غير الْفَرِيضَة فَلَا قَضَاء عَلَيْهِ) .
قَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: مَا الْفرق بَين حج النَّفْل الَّذِي يفْسد بِالْجِمَاعِ، فَإِنَّهُ يجب قَضَاؤُهُ، وَالنَّفْل الَّذِي يفوت عَنهُ بِسَبَب الْإِحْصَار؟ قلت: ذَلِك بتقصير، وَهَذَا بِدُونِ تَقْصِيره، وَعند أبي حنيفَة: إِذا تحلل الْمحصر لزمَه الْقَضَاء سَوَاء كَانَ نفلا أَو فرضا، وَهَذِه مَسْأَلَة اخْتِلَاف بَين الصَّحَابَة وَمن بعدهمْ.
فَقَالَ الْجُمْهُور: يذبح الْمحصر الْهَدْي حَيْثُ يحل، سَوَاء كَانَ فِي الْحل أَو الْحرم.
.

     وَقَالَ  أَبُو حنيفَة: لَا يذبحه إِلَّا فِي الْحرم، وَفصل الْآخرُونَ كَمَا قَالَه ابْن عَبَّاس هُنَا.
فَإِن قلت: مَا سَبَب الِاخْتِلَاف فِي ذَلِك؟ قلت: منشأ الِاخْتِلَاف فِيهِ هَل نحر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْهَدْي بِالْحُدَيْبِية فِي الْحل أَو فِي الْحرم؟ وَكَانَ عَطاء يَقُول: لم ينْحَر يَوْم الْحُدَيْبِيَة إلاَّ فِي الْحرم، وَوَافَقَهُ ابْن إِسْحَاق،.

     وَقَالَ  غَيره من أهل الْمَغَازِي: إِنَّمَا نحر فِي الْحل وَأَبُو حنيفَة أَخذ بقول عَطاء، وَفِي ( الاستذكار) : قَالَ عَطاء وَابْن إِسْحَاق: لم ينْحَر صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَدْيه يَوْم الْحُدَيْبِيَة إلاَّ فِي الْحرم.

وَقَالَ مالِكٌ وغَيْرَهُ يَنْحَرُ هَدْيَهُ ويَحْلِقُ فِي أيِّ مَوْضِعٍ كانَ ولاَ قَضاءَ عَلَيْهِ لأنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وأصْحَابَهُ بالْحُدَيْبِيَّةِ نَحَرُوا وحلَقُوا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ قَبْلَ الطَّوَافِ وقَبْلَ أنْ يَصِلَ الْهَدْيُ إِلَى الْبَيْتِ ثُمَّ لَمْ يُذْكَرْ أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أمَرَ أحَدا أنْ يَقْضُوا شَيْئا ولاَ يَعُودُوا لَهُ والْحُدَيْبِيَّةُ خارِجُ الحَرَمِ

الَّذِي قَالَ مَالك مَذْكُور فِي ( موطئِهِ) وَلَفظه: ( أَنه بلغه أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، حل هُوَ وَأَصْحَابه بِالْحُدَيْبِية فنحروا الْهَدْي وحلقوا رؤوسهم وحلوا من كل شَيْء قبل أَن يطوفوا بِالْبَيْتِ، وَقبل أَن يصل إِلَيْهِ الْهَدْي) .
ثمَّ لم نعلم أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر أحدا من أَصْحَابه وَلَا مِمَّن كَانَ مَعَه أَن يقضوا شَيْئا، وَلَا أَن يعودوا لشَيْء.
قَوْله: ( وَغَيره) أَي غير مَالك، قَالَ بَعضهم: الَّذِي يظْهر لي أَنه عَنى بِهِ الشَّافِعِي لِأَن قَوْله فِي آخِره: ( وَالْحُدَيْبِيَة خَارج الْحرم) هُوَ كَلَام الشَّافِعِي فِي ( الام) .
انْتهى.
قلت: قَوْله: ( وَالْحُدَيْبِيَة خَارج الْحرم) لَا يدل على أَن المُرَاد من الْغَيْر هُوَ الشَّافِعِي، لِأَن الشَّافِعِي نقل عَنهُ أَيْضا أَن بعض الْحُدَيْبِيَة فِي الْحل وَبَعضهَا فِي الْحرم، فَإِذا كَانَ كَذَلِك كَيفَ يجوز أَن يتْرك الْموضع الَّذِي من الْحرم من الْحُدَيْبِيَة وينحر فِي الْحل، وَالْحَال أَن بُلُوغ الْكَعْبَة صفة للهدي فِي قَوْله تَعَالَى: { هَديا بَالغ الْكَعْبَة} ( الْمَائِدَة: 59) .
وَقد قَالَ ابْن أبي شيبَة فِي ( مُصَنفه) : حَدثنَا أَبُو أُسَامَة عَن أبي عُمَيْس عَن عَطاء قَالَ: كَانَ منزل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم الْحُدَيْبِيَة فِي الْحرم، فَإِذا كَانَ منزل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْحرم كَيفَ ينْحَر هَدْيه فِي الْحل؟ وَهَذَا محَال.
قَوْله: ( فِي أَي مَوضِع كَانَ) ، ويروى: ( فِي أَي الْمَوَاضِع) .
.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: كَانَ أَي: الْحصْر لَا الْحلق؟ قلت: إِنَّمَا فسر بِهَذَا لأجل مذْهبه وَلَيْسَ كَذَلِك، بل الضَّمِير فِي: كَانَ، يرجع إِلَى الْحلق الَّذِي يدل عَلَيْهِ.
قَوْله: ( ويحلق) .
قَوْله: ( وَلَا يعودوا لَهُ) كلمة: لَا، زَائِدَة كَقَوْلِه تَعَالَى: { مَا مَنعك أَن لَا تسْجد} ( الْأَعْرَاف: 21) .
قَوْله: ( وَالْحُدَيْبِيَة خَارج الْحرم) ، قَالَ الْكرْمَانِي: هَذِه الْجُمْلَة يحْتَمل أَن تكون من تَتِمَّة كَلَام مَالك، وَأَن تكون من كَلَام البُخَارِيّ، وغرضه الرَّد على من قَالَ؛ لَا يجوز النَّحْر حَيْثُ أحْصر، بل يجب الْبَعْث إِلَى الْحرم، فَلَمَّا ألزموا بنحر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أجابوا بِأَن الْحُدَيْبِيَة إِنَّمَا هِيَ من الْحرم، فَرد ذَلِك عَلَيْهِم.
انْتهى.
قلت: هَذِه الْجُمْلَة، سَوَاء كَانَت من كَلَام مَالك أَو من كَلَام البُخَارِيّ، لَا تدل على غَرَضه، لِأَن كَون الْحُدَيْبِيَة خَارج الْحرم لَيْسَ مجمعا عَلَيْهِ، وَقد روى الطَّحَاوِيّ من حَدِيث الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة ( عَن الْمسور: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ بِالْحُدَيْبِية خباؤه فِي الْحل وَمُصَلَّاهُ فِي الْحرم) .
وَلَا يجوز فِي قَول أحد من الْعلمَاء لمن قدر على دُخُول شَيْء من الْحرم أَن ينْحَر هَدْيه دون الْحرم، وروى الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث يُونُس عَن الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة بن الزبير عَن مَرْوَان والمسور بن مخرمَة، قَالَا: ( خرج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم زمن الْحُدَيْبِيَة فِي بضع عشرَة مائَة من أَصْحَابه) الحَدِيث بِطُولِهِ، وَفِيه: ( وَكَانَ مضطربه فِي الْحل وَكَانَ يُصَلِّي فِي الْحرم) .
انْتهى.
قلت: المضطرب هُوَ الْبناء الَّذِي يضْرب ويقام على أوتاد مَضْرُوبَة فِي الأَرْض، والخباء بِكَسْر الْخَاء: بَيت من صوف أَو وبر، وَالْجمع: أخبية، وَإِذا كَانَ من شعر يُسمى: بَيْتا.



[ قــ :1732 ... غــ :1813 ]
- حدَّثنا إسْمَاعِيلُ قَالَ حدَّثني مالِكٌ عنْ نافًعٍ أنَّ عَبْدَ الله بنَ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ حِينَ خَرَجَ إِلَى مَكَّةَ مُعْتَمِرا فِي الفِتْنَةِ إنْ صُدِدْتُ عنِ الْبَيْتِ صنَعْنا كَما صَنَعْنَا معَ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأهَلَّ بِعُمْرَةٍ مِنْ أجْلِ أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كانَ أهَلَّ بِعُمْرَة عامَ الحُدَيْبِيَّةِ ثُمَّ أنَّ عَبْدَ الله ابنَ عُمَرَ نظَرَ فِي أمْرِهِ فَقَالَ مَا أمْرُهُمَا إلاَّ وَاحدٌ فالْتَفَتَ إلَى أصْحَابِهِ فَقَالَ مَا أمْرُهُمَا إلاَّ وَاحِدٌ أشْهِدُكُمْ أنَّي قَدْ أوْجَبْتُ الحَجُ مَعَ الْعُمْرَةِ ثُمَّ طافَ لَهُمَا طَوافا واحِدا ورَأى أنَّ ذَلِكَ مُجْزِيا عَنْهُ وأهْدَى..
قيل: مطابقته للتَّرْجَمَة غير ظَاهِرَة، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي لَفظه مَا يدل على التَّرْجَمَة.
قلت: لما كَانَت قصَّة صده، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِالْحُدَيْبِية مَشْهُورَة وَأَنَّهُمْ لم يؤمروا بِالْقضَاءِ فِي ذَلِك علم من ذَلِك أَن الْبَدَل لَا يلْزم الْمحصر، وَهَذَا الْقدر كَاف فِي الْمُطَابقَة.
وَهَذَا الحَدِيث وَمَا فِيهِ من المباحث قد مرا فِي: بابُُ إِذا أحْصر الْمُعْتَمِر.

قَوْله: ( ثمَّ طَاف لَهما) أَي: لِلْحَجِّ وَالْعمْرَة.
قَوْله: ( مجزئا عَنهُ) ، بِضَم الْمِيم: من الْإِجْزَاء وَهُوَ الْأَدَاء الْكَافِي لسُقُوط التَّعَبُّد، ومجزئا بِالنّصب رِوَايَة كَرِيمَة، وَوَجهه أَن يكون خبر كَانَ محذوفا، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر وَغَيره: ( مجزىء) ، بِالرَّفْع على أَنه خبر: أَن،.

     وَقَالَ  بَعضهم: وَالَّذِي عِنْدِي أَن النصب من خطأ الْكَاتِب، فَإِن أَصْحَاب ( الْمُوَطَّأ) اتَّفقُوا على رِوَايَته بِالرَّفْع على الصَّوَاب.
قلت: نِسْبَة الْكَاتِب إِلَى الْخَطَأ خطأ، وَإِنَّمَا يكون خطأ لَو لم يكن لَهُ وَجه فِي الْعَرَبيَّة، واتفاق أَصْحَاب ( الْمُوَطَّأ) على الرّفْع لَا يسْتَلْزم كَون النصب خطأ، على أَن دَعْوَى اتِّفَاقهم على الرّفْع لَا دَلِيل لَهَا.