فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب جزاء الصيد ونحوه وقول الله تعالى: (

(كتاب جَزَاء الصَّيْد)
وقَوْلِ الله تعَالى { لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وأنْتُمْ حُرُمٌ} هَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة أبي ذَر بالبسملة أَولا، ثمَّ بِالْبَابِ الْمَذْكُور، ثمَّ بقوله تَعَالَى: { وَلَا تقتلُوا الصَّيْد} (الْمَائِدَة: 59) .
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان جَزَاء الصَّيْد إِذا بَاشر الْمحرم قَتله، وَأَشَارَ بقوله: وَنَحْوه، أَي: وَنَحْو جَزَاء الصَّيْد إِلَى: تنفير صيد الْحرم، وَإِلَى عضد شَجَره، وَغير ذَلِك مِمَّا يُبينهُ بَابا بَابا، ولغير أبي ذَر هَكَذَا.


(بابُ قَوْلِ الله تَعَالَى: { لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وأنْتُمْ حُرُمٌ ومٍ نْ قتَلَهُ مِنْكْمْ مُتَعَمِّدا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النِّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيا بالِغَ الكَعْبَةِ أوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَسَاكِينَ أوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاما لِيَذُوقَ وبالَ أمْرِهِ عَفَا الله عَمَّا سَلَفَ ومنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ وَالله عَزِيزٌ ذِو انْتِقَامٍ أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ البَحْرِ وطَعَامُهُ مَتاعا لَكُمْ ولِلسَّيَّارَةِ وحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ البَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُما واتَّقُوا الله الَّذِي إلَيْهِ تُحْشَرُونَ} )
سرد البُخَارِيّ من سُورَة الْمَائِدَة من قَوْله تَعَالَى: { وَلَا تقتلُوا الصَّيْد وَأَنْتُم حرم} (الْمَائِدَة: 59) .
إِلَى قَوْله: { إِلَيْهِ تحشرون} (الْمَائِدَة: 59) .
وَلم يذكر فِيهِ حَدِيثا إِمَّا اكْتِفَاء بِمَا فِي الَّذِي ذكره، وَإِمَّا أَنه لم يظفر بِحَدِيث مَرْفُوع فِي جَزَاء الصَّيْد على شَرطه.
ثمَّ الْكَلَام هَهُنَا على أَنْوَاع: الأول فِي سَبَب النُّزُول: قَالَ مقَاتل فِي (تَفْسِيره) : كَانَ أَبُو الْيُسْر، واسْمه عَمْرو بن مَالك الْأنْصَارِيّ، محرما فِي عَام الْحُدَيْبِيَة بِعُمْرَة فَقتل حمَار وَحش، فَنزلت فِيهِ: { لَا تقتلُوا الصَّيْد وَأَنْتُم حرم} (الْمَائِدَة: 59) .
.

     وَقَالَ  ابْن إِسْحَاق ومُوسَى بن عقبَة والواقدي، وَآخَرُونَ: نزلت فِي كَعْب بن عَمْرو وَكَانَ محرما فِي عَام الْحُدَيْبِيَة، فَقتل حمَار وَحش.
النَّوْع الثَّانِي: فِي الْمَعْنى وَالْإِعْرَاب: قَوْله: { وَأَنْتُم حرم} (الْمَائِدَة: 59) .
جملَة إسمية وَقعت حَالا، وَالْحرم جمع حرَام كردح جمع رداح، يُقَال رجل حرَام وَامْرَأَة حرَام.
{ مُتَعَمدا} نصب على الْحَال، والتعمد أَن يقْتله وَهُوَ ذَاكر لإحرامه، وعالم بِأَن مَا يقْتله مِمَّا حرم عَلَيْهِ قَتله.
قَوْله: { فجزاء مثل مَا قتل} بِرَفْع: جَزَاء، وَمثل، جَمِيعًا بِمَعْنى: فعيله جَزَاء يماثل مَا قتل من الصَّيْد، وَقَرَأَ بَعضهم بِالْإِضَافَة أَعنِي بِإِضَافَة جَزَاء إِلَى قَوْله: { مثل} وَحكى ابْن جرير عَن ابْن مَسْعُود أَنه قَرَأَهَا: { فَجَزَاؤُهُ مثل مَا قتل} .

     وَقَالَ  الزَّمَخْشَرِيّ: وقرىء على الْإِضَافَة، وَأَصله: فجزاء مثل مَا قتل، بِنصب: مثلى، بِمَعْنى: فَعَلَيهِ أَن يجزىء مثل مَا قتل، ثمَّ أضيف كَمَا تَقول: عجبت من ضرب زيد، أَثم من ضرب زيد؟ وَقَرَأَ السّلمِيّ على الأَصْل، وَقَرَأَ مُحَمَّد بن مقَاتل، فجزاء مثل مَا قتل بنصبهما بِمَعْنى فليجز جَزَاء مثل مَا قتل.
قَوْله: { من النعم} ، وَهِي الْإِبِل وَالْبَقر وَالْغنم، فَإِن انْفَرَدت الْإِبِل وَحدهَا قيل لَهَا: نعم، قَالَ الْفراء:: هُوَ ذكر لَا يؤنث.
وَقَرَأَ الْحسن: { من النعم} بِسُكُون الْعين استثقل الْحَرَكَة على حرف الْحلق فسكنه.
قَوْله: يحكم بِهِ أَي بِالْمثلِ قَوْله ذُو عدل يَعْنِي حكمان عادلان من الْمُسلمين وذوا تَشْبِيه ذومعنى صَاحب قَوْله { هَديا} ، حَال عَن جَزَاء فِيمَن وَصفه بِمثل، لِأَن الصّفة خصصته فقربته من الْمعرفَة، أَو بدل عَن مثل فِيمَن نَصبه، أَو عَن مجله فِيمَن جَرّه، وَيجوز أَن ينْتَصب حَالا من الضَّمِير فِي: بِهِ، وَالْهَدْي: مَا يهدي إِلَى الْحرم من النعم.
قَوْله: { بَالغ الْكَعْبَة} صفة لهديا، وَلَا يمْنَع من ذَلِك، لِأَن إِضَافَته غير حَقِيقِيَّة، وَمعنى: بُلُوغه الْكَعْبَة أَن يذبح بِالْحرم.
قَوْله: { أَو كَفَّارَة} ، عطف على: { فجزاء} أَي: فَعَلَيهِ كَفَّارَة، وارتفاعه فِي الأَصْل على الِابْتِدَاء وَخَبره مقدما مُقَدّر، قَوْله: { طَعَام مَسَاكِين} مَرْفُوع على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف، أَي: هِيَ طَعَام مَسَاكِين، وَيجوز أَن يكون بَدَلا من كَفَّارَة، أَو عطف بَيَان وقرىء: { كَفَّارَة طَعَام مَسَاكِين} بِالْإِضَافَة كَأَنَّهُ قيل: أَو كَفَّارَة من طَعَام مَسَاكِين، كَقَوْلِك: خَاتم فضَّة، وَقَرَأَ الْأَعْرَج: { أَو كَفَّارَة طَعَام مَسَاكِين} بِالْإِضَافَة كَأَنَّهُ قيل: أَو كَفَّارَة من طَعَام مَسَاكِين، كَقَوْلِك: خَاتم فضَّة، وَقَرَأَ الْأَعْرَج: { أَو كَفَّارَة طَعَام مِسْكين} ، بِالْإِفْرَادِ لِأَنَّهُ وَاحِد، دَال على الْجِنْس.
قَوْله: { أَو عدل ذَلِك} عطف على مَا قبله، وقرىء (أَو عدل ذَلِك) ، بِكَسْر الْعين، وَالْفرق بَينهمَا أَن عدل الشَّيْء بِالْفَتْح مَا عادله من غير جنسه: كَالصَّوْمِ وَالْإِطْعَام، وعدله بِالْكَسْرِ مَا عدل بِهِ فِي الْمِقْدَار، وَمِنْه: عدلا الْحمل لِأَن كل وَاحِد مِنْهُمَا عدل بِالْآخرِ حَتَّى اعتدلا، كَأَن المفتوح تَسْمِيَة بِالْمَصْدَرِ والمكسور بِمَعْنى الْمَفْعُول بِهِ، كالذبح، وَنَحْوهمَا الْحمل وَالْحمل.
قَوْله: { ذَلِك} إِشَارَة إِلَى الطَّعَام.
قَوْله: { صياما} نصب على التَّمْيِيز للعدل، كَقَوْلِك: لي مثله رجلا، قَوْله: { ليذوق وبال أمره} اللَّام تتَعَلَّق بقوله: { فجزاء} أَي: فَعَلَيهِ أَن يجازي أَو يكفر ليذوق سوق عَاقِبَة هتكه لحُرْمَة الْإِحْرَام، والوبال الضَّرَر وَالْمَكْرُوه الَّذِي ينَال فِي الْعَاقِبَة من عمل سوء لثقله عَلَيْهِ، قَوْله: { عَفا الله عَمَّا سلف} أَي عَمَّا سلف لكم من الصَّيْد فِي حَال الْإِحْرَام قبل أَن تراجعوا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وتسألوه عَن جَوَازه وَقيل: { عَفا الله عَمَّا سلف} فِي زمَان الْجَاهِلِيَّة لمن أحسن فِي الْإِسْلَام وَاتبع شرع الله وَلم يرتكب الْمعْصِيَة.
قَوْله: { وَمن عَاد} أَي: إِلَى قتل الصَّيْد وَهُوَ محرم بعد نزُول النَّهْي عَنهُ، فينتقم الله مِنْهُ.
قَوْله: { فينتقم} خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف تَقْدِيره: فَهُوَ ينْتَقم الله مِنْهُ، فَلذَلِك دخلت الْفَاء، وَنَحْوه: { فَمن يُؤمن بربه فَلَا يخَاف} (الْجِنّ: 31) .
يَعْنِي: ينْتَقم مِنْهُ فِي الْآخِرَة.
.

     وَقَالَ  ابْن جريج: (قلت لعطاء: مَا عَفا الله عَمَّا سلف؟ قَالَ: عَمَّا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّة.
قَالَ: قلت: وَمن عَاد فينتقم الله مِنْهُ؟ قَالَ: وَمن عَاد فِي الْإِسْلَام فينتقم مِنْهُ، وَعَلِيهِ مَعَ ذَلِك الْكَفَّارَة، قَالَ: قلت: فَهَل للعود من حد تعلمه؟ قَالَ: لَا، قلت: ترى حَقًا على الإِمَام أَن يُعَاقِبهُ؟ قَالَ: لَا، هُوَ ذَنْب أذنبه فِيمَا بَينه وَبَين الله عز وَجل، وَلَكِن يفتدي) رَوَاهُ ابْن جرير، وَقيل: مَعْنَاهُ.
فينتقم الله مِنْهُ بِالْكَفَّارَةِ،.

     وَقَالَ  سعيد بن جُبَير وَعَطَاء قَوْله: { وَالله عَزِيز ذُو انتقام} يَعْنِي) ذُو معاقبة لمن عَصَاهُ، على مَعْصِيَته إِيَّاه.
قَوْله: { أحل لكم} أَي: أحل الْمَأْكُول مِنْهُ وَهُوَ السّمك.
وَحده عِنْد أبي حنيفَة وَعند ابْن أبي ليلى: جَمِيع مَا يصاد فِيهِ، وَعَن ابْن عَبَّاس فِي رِوَايَة، وَسَعِيد بن الْمسيب وَسَعِيد بن جُبَير فِي قَوْله: { أحل لكم صيد الْبَحْر} مَا يصاد مِنْهُ طريا، وَطَعَامه مَا يتزود مِنْهُ ملحا يَابسا.
وَعَن ابْن عَبَّاس فِي الْمَشْهُور عَنهُ: صَيْده: مَا أَخذ مِنْهُ حَيا، و: طَعَامه: مَا لَفظه مَيتا.
وَهَكَذَا رُوِيَ عَن أبي بكر الصّديق، وَزيد بن ثَابت وَعبد الله بن عمر وَأبي أَيُّوب الْأنْصَارِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَعِكْرِمَة وَأبي سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن، وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَالْحسن الْبَصْرِيّ،.

     وَقَالَ  سُفْيَان ابْن عُيَيْنَة: عَن عَمْرو بن دِينَار، عَن عِكْرِمَة عَن أبي بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه قَالَ: طَعَامه كل مَا فِيهِ، رَوَاهُ ابْن جرير وَابْن أبي حَاتِم،.

     وَقَالَ  سعيد بن الْمسيب: طَعَامه مَا لَفظه حَيا أَو حسر عَنهُ فَمَاتَ، رَوَاهُ ابْن أبي حَاتِم،.

     وَقَالَ  ابْن جرير: وَقد ورد فِي ذَلِك خبر وَبَعْضهمْ يرويهِ مَوْقُوفا.
حَدثنَا هناد بن السّري، قَالَ: حَدثنَا عَبدة بن سُلَيْمَان عَن مُحَمَّد ابْن عَمْرو حَدثنَا أَبُو سَلمَة (عَن أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، { أحل لكم صيد الْبَحْر وَطَعَامه مَتَاعا لكم} (الْمَائِدَة: 69) .
قَالَ: طَعَامه مَا لَفظه مَيتا) .
ثمَّ قَالَ: وَقد وَقفه بَعضهم على أبي هُرَيْرَة.
قَوْله: { مَتَاعا لكم} (الْمَائِدَة: 69) .
نصب على أَنه مفعول لَهُ، أَي: أحل لكم لأجل التَّمَتُّع لكم تَأْكُلُونَ طريا ولسيارتكم يتزودونه قديدا كَمَا تزَود مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، الْحُوت فِي مسيره إِلَى الْخضر، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، والسيارة: جمع سيار، وهم المسافرون، وَكَانَ بَنو مُدْلِج ينزلون سيف الْبَحْر فَسَأَلُوهُ عَمَّا نضب عَنهُ المَاء من السّمك، فَنزلت قَوْله: { وَحرم عَلَيْكُم صيد الْبر} (الْمَائِدَة: 69) .
صيد الْبر مَا يفرح فِيهِ وَإِن كَانَ يعِيش فِي المَاء فِي بعض الْأَوْقَات كطير المَاء.
قَوْله: { مَا دمتم حرما} (الْمَائِدَة: 69) .
أَي: مَا دمتم محرمين أَي: حَال أحرامكم يحرم عَلَيْكُم الإصطياد وَقَرَأَ ابْن عَبَّاس وَحرم عَلَيْكُم صيد الْبر على بِنَاء الْفَاعِل وَنصب الصَّيْد حرم الله عَلَيْكُم، وقرىء: مَا دمتم، بِكَسْر الدَّال من: دَامَ يدام.
قَوْله: { وَاتَّقوا الله الَّذِي إِلَيْهِ تحشرون} (الْمَائِدَة: 69) .
أَي: خَافُوا الله الَّذِي إِلَيْهِ تجمعون يَوْم الْقِيَامَة فيجازيكم بِحَسب أَعمالكُم.
النَّوْع الثَّالِث: فِي استنباط الْأَحْكَام وَبَيَان مَذَاهِب الْأَئِمَّة فِي هَذَا الْبَاب، وَهُوَ على وُجُوه: الأول: فِي قتل الصَّيْد فِي حَالَة الْإِحْرَام، وَهُوَ حرَام بِلَا خلاف، وَيجب الْجَزَاء بقتْله لقَوْله تَعَالَى: { لَا تقتلُوا الصَّيْد وَأَنْتُم حرم} (الْمَائِدَة: 59) .
وَسَوَاء فِي ذَلِك كَانَ الْقَاتِل نَاسِيا أَو عَامِدًا أَو مبتدئا فِي الْقَتْل أَو عَائِدًا إِلَيْهِ لِأَن الصَّيْد مَضْمُون بِالْإِتْلَافِ كغرامة الْأَمْوَال، فيستوي فِيهِ الْأَحْوَال وَقيد العمدية فِي الْآيَة الْمَذْكُورَة، أما لِأَن مورد النَّص فِيمَن تعمد، أَو لِأَن الأَصْل فعل الْمُتَعَمد، وَالْخَطَأ مُلْحق بِهِ للتغليظ.
قَالَ الزُّهْرِيّ: نزل الْكتاب بالعمد وَجَاءَت السّنة بالْخَطَأ.
.

     وَقَالَ  ابْن أبي حَاتِم: حَدثنَا أَبُو سعيد الْأَشَج حَدثنَا ابْن علية (عَن أَيُّوب، قَالَ: نبئت عَن طَاوُوس قَالَ: لَا يحكم على من أصَاب صيدا خطأ، إِنَّمَا يحكم على من أَصَابَهُ متعمدر) ، وَهَذَا مَذْهَب غَرِيب وَهُوَ متمسك بِظَاهِر الْآيَة، وَبِه قَالَ أهل الظَّاهِر وَأَبُو ثَوْر وَابْن الْمُنْذر وَأحمد فِي رِوَايَة،.

     وَقَالَ  مُجَاهِد: المُرَاد بالمتعمد القاصد إِلَى قتل الصَّيْد النَّاسِي لإحرامه، فَأَما الْمُتَعَمد لقتل الصَّيْد مَعَ ذكره لإحرامه فَذَاك أمره أعظم من أَن يكفر وَقد بَطل إِحْرَامه، رَوَاهُ ابْن جرير عَنهُ من طَرِيق ابْن أبي نجيح وَلَيْث بن أبي سليم وَغَيرهمَا عَنهُ، وَهُوَ قَول غَرِيب أَيْضا.
.

     وَقَالَ  الزُّهْرِيّ: إِن قَتله مُتَعَمدا قيل لَهُ: هَل قتلت قبله شَيْئا من الصَّيْد؟ فَإِن قَالَ: نعم، لم يحكم عَلَيْهِ، وَقيل لَهُ: إذهب فينتقم الله مِنْك.
وَإِن قَالَ: لم أقتل حكم عَلَيْهِ، وَإِن قتل بعد ذَلِك لم يحكم عَلَيْهِ، ويملأ ظَهره وبطنه ضربا وجيعا، وَبِذَلِك حكم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي صيدوج، وادٍ بِالطَّائِف، وَالَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُور مَا ذَكرْنَاهُ.
الْوَجْه الثَّانِي: فِي وجوب الْجَزَاء فِي قَوْله: { فجزاء مثل مَا قتل من النعم} (الْمَائِدَة: 59) .
فَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ وَمُحَمّد بن الْحسن: المُرَاد بِالْآيَةِ إِخْرَاج مثل الصَّيْد الْمَقْتُول من النعم إِن كَانَ لَهُ مثل، فَفِي النعامة بَدَنَة، وَفِي بقرة الْوَحْش وَحِمَاره بقرة، وَفِي الغزال عنزة وَفِي الأرنب عنَاق، وَفِي اليربوع جفرة،.

     وَقَالَ  أَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف: الْوَاجِب الْقيمَة فَإِن كَانَ لَهُ مثل ثمَّة يُشترى بِتِلْكَ الْقيمَة هذي أَو طَعَام أَو يُتَصَدَّق بِقِيمَتِه،.

     وَقَالَ  ابْن كثير فِي (تَفْسِيره) محتجا للشَّافِعِيّ وَمن مَعَه فِي قَوْله تَعَالَى: { فجزاء مثل مَا قتل من النعم} (الْمَائِدَة: 59) .
على كل من الْقِرَاءَتَيْن دَلِيل لما ذهب إِلَيْهِ مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَالْجُمْهُور من وجوب الْجَزَاء من مثل مَا قَتله الْمحرم إِذا كَانَ لَهُ مثل من الْحَيَوَان الأنسي، خلافًا لأبي حنيفَة حَيْثُ أوجب الْقيمَة سَوَاء كَانَ الصَّيْد الْمَقْتُول مِثْلَمَا أَو غير مثلي، وَهُوَ مُخَيّر، إِن شَاءَ تصدق بِثمنِهِ، وَإِن شَاءَ اشْترى بِهِ هَديا، وَالَّذِي حكم بِهِ الصَّحَابَة فِي الْمثْلِيّ أولى بالاتباع، فَإِنَّهُم حكمُوا فِي النعامة ببدنة، وَفِي بقر الْوَحْش ببقرة، وَفِي الغزال بعنز، وَأما إِذا لم يكن الصَّيْد مثلِيا فقد حكم ابْن عَبَّاس فِيهِ بِثمنِهِ يحمل إِلَى مَكَّة، رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ، وروى مَالك فِي (الْمُوَطَّأ) : أخبرنَا أَبُو الزبير عَن جَابر أَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قضى فِي الضبع بكبش، وَفِي الغزال بعنز، وَفِي الأرنب بعناق، وَفِي اليربوع بجفرة.
انْتهى.
وَعَن مَالك، رَوَاهُ الشَّافِعِي فِي (مُسْنده) وَعبد الرَّزَّاق فِي (مُصَنفه) ، وَأخر رَوَاهُ الشَّافِعِي، وَمن جِهَته الْبَيْهَقِيّ فِي (سنَنه) : عَن سعيد بن سَالم عَن ابْن جريج عَن عَطاء الْخُرَاسَانِي: أَن عمر وَعُثْمَان وعليا وَزيد بن ثَابت وَابْن عَبَّاس وَمُعَاوِيَة قَالُوا فِي النعامة: يَقْتُلهَا الْمحرم بَدَنَة من الْإِبِل، وروى الشَّافِعِي فِي (مُسْنده) وَعبد الرَّزَّاق فِي (مُصَنفه) قَالَا: أخبرنَا ابْن عُيَيْنَة عَن عبد الْكَرِيم الْجَزرِي عَن أبي عُبَيْدَة عَن أَبِيه عبد الله بن مَسْعُود أَنه قضى فِي اليربوع بحفرة وروى عبد الرَّزَّاق فِي مُصَنفه أخبرنَا إِسْرَائِيل وَغَيره عَن أبي إِسْحَاق عَن الضَّحَّاك بن مُزَاحم عَن ابْن مَسْعُود، قَالَ: (فِي الْبَقَرَة الوحشية بقرة) .
وروى عبد الرَّزَّاق أَيْضا: أخبرنَا هشيم عَن مَنْصُور عَن ابْن سِيرِين أَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، (أَمر محرما مَا أصَاب ظَبْيًا يذبح شَاة عفراء) .
وروى إِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ فِي كتاب (غَرِيب الحَدِيث) : حَدثنَا عبد الله بن صَالح أخبرنَا أَبُو الْأَحْوَص عَن أبي إِسْحَاق عَن سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: فِي اليربوع حمل، ثمَّ نقل عَن الْأَصْمَعِي: أَن الْحمل ولد الضَّأْن الذّكر، وروى الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، فِي حمامة الْحرم شَاة، وَفِي بيضتين دِرْهَم، وَفِي النعامة جزور، وَفِي الْبَقَرَة بقرة وَفِي الْحمار بقرة.
وَاحْتج أَبُو حنيفَة، رَحمَه الله تَعَالَى، فِيمَا ذهب إِلَيْهِ بالمعقول والأثر أَيْضا.
أما الْمَعْقُول: فَهُوَ أَن الْحَيَوَان غير مَضْمُون بِالْمثلِ فَيكون مَضْمُونا بِالْقيمَةِ، كالمملوك، وَمثل الْحَيَوَان قِيمَته، لِأَن الْمثل الْمُطلق هُوَ الْمثل صُورَة وَمعنى، فَإِذا تعذر ذَلِك حمل على الْمثل الْمَعْنَوِيّ وَهُوَ الْقيمَة.
وَأما الْأَثر: فَهُوَ مَا رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَنه فسر الْمثل بِالْقيمَةِ، فَحمل على الْمثل معنى لكَونه معهودا فِي الشَّرْع، يُوضحهُ أَن الْمُمَاثلَة بَين الشَّيْئَيْنِ عِنْد اتِّحَاد الْجِنْس أبلغ مِنْهُ عِنْد اخْتِلَاف الْجِنْس، فَإِذا لم تكن النعامة مثلا للنعامة كَيفَ تكون الْبَدنَة مثلا للنعامة؟ والمثل من الْأَسْمَاء الْمُشْتَركَة، فَمن ضَرُورَة كَون الشَّيْء مثلا لغيره أَن يكون ذَلِك الْغَيْر مثلا لَهُ، ثمَّ لَا تكون النعامة مثلا للبدنة عِنْد الْإِتْلَاف فَكَذَلِك لَا تكون الْبَدنَة مثلا للنعامة، وَإِذا تعذر اعْتِبَار الْمُمَاثلَة صُورَة وَجب اعْتِبَارهَا بِالْمَعْنَى، وَهُوَ الْقيمَة، وَلِأَن الْقيمَة أريدت بِهَذَا النَّص فِي الَّذِي لَا مثل لَهُ بِالْإِجْمَاع، فَلَا يبْقى غَيره مرَادا، لِأَن الْمثل مُشْتَرك والمشترك لَا عُمُوم لَهُ فَافْهَم فَإِنَّهُ دَقِيق.
وَأما الَّذِي رَوَاهُ الشَّافِعِي وَمن جِهَته الْبَيْهَقِيّ، فضعيف ومنقطع لِأَن عَطاء الْخُرَاسَانِي فِيهِ مقَال وَلم يدْرك عمر وَلَا عُثْمَان وَلَا عليا وَلَا زيد بن ثَابت وَابْن عَبَّاس وَمُعَاوِيَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، لِأَن عَطاء الْخُرَاسَانِي ولد سنة خمسين، قَالَه ابْن معِين وَغَيره، وَكَانَ فِي زمن مُعَاوِيَة صَبيا، وَلم يثبت لَهُ سَماع من ابْن عَبَّاس مَعَ احْتِمَاله، فَإِن ابْن عَبَّاس توفّي سنة ثَمَان وَسِتِّينَ، وَأما الَّذِي رَوَاهُ أَبُو عُبَيْدَة عَن أَبِيه عبد الله بن مَسْعُود فَإِنَّهُ لم يسمع من أَبِيه شَيْئا.
فَإِن قلت: قَالَ ابْن جرير: حَدثنَا هناد وَأَبُو هَاشم الرِّفَاعِي، قَالَا: حَدثنَا وَكِيع بن الْجراح عَن المَسْعُودِيّ عَن عبد الْملك بن عُمَيْر: (عَن قبيصَة بن جَابر، قَالَ: خرجنَا حجاجا، فَكُنَّا إِذا صلينَا الْغَدَاة افتدنا رواحلنا نتماشى نتحدث، قَالَ: فَبَيْنَمَا نَحن ذَات غداء إِذْ سنح لنا ظَبْي، أَو برح، فَرَمَاهُ رجل كَانَ مَعنا بِحجر، فَمَا أَخطَأ حشاه، فَركب ردعه مَيتا، قَالَ: فمعظمنا عَلَيْهِ، فَلَمَّا قدمنَا مَكَّة خرجت مَعَه حَتَّى أَتَيْنَا عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: فَقص عَلَيْهِ الْقِصَّة، قَالَ: وَإِذا إِلَى جَانِبه رجل كَانَ وَجهه قلت فضَّة، يَعْنِي: عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، فَالْتَفت إِلَى صَاحبه فَكَلمهُ، ثمَّ أقبل على الرجل فَقَالَ: أعمدا قتلته أم خطا، قَالَ الرجل: لقد تَعَمّدت رميه وَمَا أردْت قَتله، فَقَالَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: مَا أَرَاك إلاَّ قد أشركت بَين الْعمد وَالْخَطَأ، إعمد إِلَى شَاة فاذبحها فَتصدق بلحمها واستق إهابها.
قَالَ: فقمنا من عِنْده، فَقلت لصاحبي: أَيهَا الرجل، عظِّم شَعَائِر الله فَمَا درى أَمِير الْمُؤمنِينَ مَا يفتيك حَتَّى سَأَلَ صَاحبه إعمد إِلَى نَاقَتك فانحرها فَلَعَلَّ ذَاك.
قَالَ: فتبعته، وَلَا أذكر الْآيَة من سُورَة الْمَائِدَة: { يحكم بِهِ ذَوا عدل مِنْكُم} (الْمَائِدَة: 59) .
قَالَ: فَبلغ عمر مَقَالَتي فَلم يفجأ مِنْهُ إلاَّ وَمَعَهُ الدرة، قَالَ صَاحِبي: ضربا بِالدرةِ أقتلت فِي الْحرم، وسفهت الحكم؟ ثمَّ أقبل عَليّ، فَقلت: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ لَا أحل الْيَوْم شَيْئا يحرم عَلَيْك مني، قَالَ: يَا قبيصَة بن جَابر إِنِّي لَا أَرَاك شَاب السن فسيح الصَّدْر بَين اللِّسَان، وَإِن الشَّاب يكون فِيهِ تِسْعَة أَخْلَاق حَسَنَة وَخلق سيء فَيفْسد الْخلق السيء الْأَخْلَاق الْحَسَنَة، فإياك وعثرات الشَّبَاب) .
قلت: روى هشيم هَذِه الْقِصَّة عَن عبد الْملك بن عُمَيْر عَن قبيصَة بِنَحْوِهِ وَذكرهَا مُرْسلَة عَن عمر بن بكر بن عبد الله الْمُزنِيّ وَمُحَمّد بن سِيرِين، وَرَوَاهُ مَالك فِي (الْمُوَطَّأ) من حَدِيث ابْن سِيرِين مُخْتَصرا.
الْوَجْه الثَّالِث: فِي حكم الحَكَمَيْنِ فِيهِ، قَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَمُحَمّد بن الْحسن: الْخِيَار فِي تعْيين الْهَدْي أَو الْإِطْعَام أَو الصّيام إِلَى الْحكمَيْنِ العدلين، فَإِذا حكما بِالْهَدْي فَالْمُعْتَبر فِيمَا لَهُ مثل وَنَظِيره من حَيْثُ الْخلقَة مَا هُوَ مثل، كَمَا ذَكرْنَاهُ: وَالْمُعْتَبر فِيمَا لَا مثل لَهُ الْقيمَة لقَوْله تَعَالَى: { يحكم بِهِ ذَوا عدل مِنْكُم هَديا} (الْمَائِدَة: 59) .
نصب هَديا لوُقُوع الحكم عَلَيْهِ، وَفِي وجوب الْمثل فِيمَا لَهُ مثل قَوْله تَعَالَى: { فجزاء مثل مَا قتل من النعم} (الْمَائِدَة: 59) .
أوجب الْمثل من النعم.
.

     وَقَالَ  أَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف: الْخِيَار للْقَاتِل فِي أَن يَشْتَرِي بهَا، يَعْنِي بِقِيمَة الْمَقْتُول لِأَن الْوُجُوب عَلَيْهِ، كَمَا فِي الْيَمين، فَالْخِيَار إِلَيْهِ وَحكم الْحكمَيْنِ لتقدير الْقيمَة، وهديا نصب على الْحَال، أَي: فِي حَال الإهداء فَإِن قلت: إِذا كَانَ الْقَاتِل أحد الْحكمَيْنِ هَل يجوز؟ قلت: يجوز عِنْد الشَّافِعِي وَأحمد، وَعند مَالك: لَا يجوز، لِأَن الْحَاكِم لَا يكون مَحْكُومًا عَلَيْهِ فِي صُورَة وَاحِدَة.
قَالَ ابْن أبي حَاتِم: حَدثنَا أَبُو نعيم الْفضل بن دُكَيْن حَدثنَا جَعْفَر هُوَ ابْن برْقَان (عَن مَيْمُون بن مهْرَان: أَن أَعْرَابِيًا أُتِي أَبَا بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: قتلت صيدا وَأَنا محرم، فَمَا ترى عَليّ من الْجَزَاء؟ فَقَالَ أَبُو بكر لأبي بن كَعْب، وَهُوَ جَالس عِنْده: مَا ترى فِيهَا؟ قَالَ: فَقَالَ الْأَعرَابِي: أَتَيْتُك وَأَنت خَليفَة رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَسأَلك، فَإِذا أَنْت تسْأَل غَيْرك؟ فَقَالَ أَبُو بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: وَمَا تنكر بقول الله تَعَالَى: { فجزاء مثل مَا قتل من النعم يحكم بِهِ ذَوا عدل} (الْمَائِدَة: 59) .
فشاورت صَاحِبي حَتَّى إِذا اتفقنا على أَمر أمرناك بِهِ) .
وَهَذَا إِسْنَاد جيد لكنه مُنْقَطع بَين مَيْمُون وَبَين الصّديق، وَمثله يحْتَمل هَهُنَا.
.

     وَقَالَ  ابْن جرير: حَدثنَا وَكِيع ابْن عُيَيْنَة عَن مُخَارق عَن طَارق قَالَ أرطأ: أُرِيد ظَبْيًا، فَقتله وَهُوَ محرم، فَأتى عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، ليحكم عَلَيْهِ، فَقَالَ عمر: احكم معي، فحكما فِيهِ جديا قد جمع المَاء وَالشَّجر) .
قلت: مُخَارق هُوَ ابْن خَليفَة الأحمسي الْكُوفِي، من رجال البُخَارِيّ، وَالْأَرْبَعَة، وطارق هُوَ ابْن شهَاب الأحمسي أَبُو عبد الله الْكُوفِي، رأى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأدْركَ الْجَاهِلِيَّة، وروى عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وغزا فِي خلَافَة أبي بكر وَعمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ أَو ثَلَاثًا وَأَرْبَعين من غَزْوَة إِلَى سَرِيَّة، مَاتَ سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ من الْهِجْرَة،.

     وَقَالَ  يحيى بن معِين: مَاتَ سنة ثَلَاث وَعشْرين وَمِائَة، وَهُوَ وهم، روى لَهُ الْجَمَاعَة.
الْوَجْه الرَّابِع: فِي بَيَان الْكَفَّارَة إِذا لم يجد الْمحرم مثل مَا قتل من النعم، أَو لم يكن الصَّيْد الْمَقْتُول من ذَوَات الْأَمْثَال، أَو قُلْنَا بالتخيير فِي هَذَا الْمقَام من الْجَزَاء وَالْإِطْعَام وَالصِّيَام، كَمَا هُوَ قَول مَالك وَأبي حنيفَة وَأبي يُوسُف وَمُحَمّد، وَأحد قولي الشَّافِعِي، وَالْمَشْهُور عَن أَحْمد لظَاهِر، أَو بِأَنَّهَا للتَّخْيِير، وَالْقَوْل الآخر، أَنَّهَا على التَّرْتِيب، فصورة ذَلِك أَن يعدل إِلَى الْقيمَة فَيقوم الصَّيْد الْمَقْتُول عِنْد مَالك وَأبي حنيفَة وَأَصْحَابه وَحَمَّاد وَإِبْرَاهِيم.
.

     وَقَالَ  الشَّافِعِي: يقوم مثله من النعم لَو كَانَ مَوْجُودا ثمَّ يَشْتَرِي بِهِ طَعَاما وَيتَصَدَّق بِهِ فَيصدق لكل مِسْكين مد مِنْهُ عِنْد الشَّافِعِي وَمَالك وفقهاء الْحجاز، وَاخْتَارَهُ ابْن جرير.
.

     وَقَالَ  أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه: يطعم لكل مِسْكين مَدين، وَهُوَ قَول مُجَاهِد.
.

     وَقَالَ  أَحْمد: مد من حِنْطَة ومدان من غَيره، فَإِن لم يجد قُلْنَا بالتخيير، صَامَ عَن إطْعَام كل مِسْكين يَوْمًا.
.

     وَقَالَ  ابْن جرير.
.

     وَقَالَ  آخَرُونَ: يَصُوم مَكَان كل صَاع يَوْمًا، كَمَا فِي جَزَاء المترفة بِالْحلقِ وَنَحْوه، وَاخْتلفُوا فِي مَكَان هَذَا الْإِطْعَام، فَقَالَ الشَّافِعِي: مَحَله الْحرم وَهُوَ قَول عَطاء،.

     وَقَالَ  مَالك: يطعم فِي الْمَكَان الَّذِي أصَاب فِيهِ الصَّيْد أَو أقرب الْأَمَاكِن إِلَيْهِ،.

     وَقَالَ  أَبُو حنيفَة: إِن شَاءَ أطْعم فِي الْحرم وَإِن شَاءَ فِي غَيره.
الْوَجْه الْخَامِس: فِي صيد الْبَحْر، وَقد ذكرنَا فِي فصل الْمَعْنى وَالْإِعْرَاب شَيْئا من ذَلِك، وَقد اسْتدلَّ جُمْهُور الْعلمَاء على حل ميتَة الْبَحْر بِالْآيَةِ الْمَذْكُورَة، وَبِحَدِيث العنبر على مَا يَجِيء، إِن شَاءَ الله تَعَالَى، وَقد احْتج بِهَذِهِ الْآيَة الْكَرِيمَة من ذهب من الْفُقَهَاء إِلَى أَنه يُؤْكَل كل دَوَاب الْبَحْر، وَلم يسْتَثْن من ذَلِك شَيْئا.
وَقد تقدم عَن الصّديق أَنه قَالَ: طَعَامه كل مَا فِيهِ، وَقد اسْتثْنى بَعضهم الضفادع، وأباح مَا سواهَا لما رَوَاهُ الإِمَام أَحْمد وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ من رِوَايَة ابْن أبي ذِئْب: عَن سعيد بن خَالِد عَن سعيد بن الْمسيب (عَن عبد الرَّحْمَن بن عُثْمَان التَّيْمِيّ: أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، نهى عَن قتل الضفدع) .
وَفِي رِوَايَة للنسائي (عَن عبيد الله بن عمر،.

     وَقَالَ : نهى رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عَن قتل الضفدع.
.

     وَقَالَ : نقيقها تَسْبِيح).

     وَقَالَ  آخَرُونَ: يُؤْكَل من صيد الْبَحْر السّمك، وَلَا يُؤْكَل الضفدع.
وَاخْتلفُوا فِيمَا سواهُمَا، فَقيل: يُؤْكَل كل سَائِر ذَلِك.
وَقيل: لَا يُؤْكَل، وَهَذِه كلهَا وُجُوه فِي مَذْهَب الشَّافِعِي.
.

     وَقَالَ  أَبُو حنيفَة: لَا يُؤْكَل مَا مَاتَ فِي الْبَحْر كَمَا لَا يُؤْكَل مَا مَاتَ فِي الْبر لعُمُوم قَوْله: { حرمت عَلَيْكُم الْميتَة} (الْمَائِدَة: 3) .
قلت: اسْتثْنى مِنْهُ الْجَرَاد، لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أحلّت لنا ميتَتَانِ وَدَمَانِ، فَأَما الْمَيتَتَانِ فَالْحُوت وَالْجَرَاد،.
وَأما الدمَان فَالْكَبِد وَالطحَال) .
.

     وَقَالَ  التِّرْمِذِيّ: بَاب مَا جَاءَ فِي صيد الْبَحْر للْمحرمِ، حَدثنَا أَبُو كريب قَالَ: حَدثنَا وَكِيع عَن حَمَّاد بن سَلمَة عَن أبي المهزم (عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ: خرجنَا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حج أَو عمْرَة، فَاسْتقْبلنَا رجل من جَراد، فَجعلنَا نضربه بأسياطنا وعصينا.
فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: كلوا فَإِنَّهُ من صيد الْبَحْر) قَالَ: هَذَا حَدِيث غَرِيب.
وَأَبُو المهزم، بِضَم الْمِيم وَفتح الْهَاء وَكسر الزَّاي الْمُشَدّدَة اسْمه يزِيد بن سُفْيَان، وَقد تكلم فِيهِ شُعْبَة.
.

     وَقَالَ  التِّرْمِذِيّ: وَقد رخص قوم من أهل الْعلم للْمحرمِ أَن يصيد الْجَرَاد فيأكله، وَقد رأى بَعضهم عَلَيْهِ صَدَقَة إِذا اصطاده أَو أكله، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه أَيْضا.
وَقَوله: (من صيد الْبَحْر) ظَاهر أَنه من الْبَحْر.
وللعلماء فِيهِ ثَلَاثَة أَقْوَال: الأول: أَنه من صيد الْبَحْر، هُوَ قَول كَعْب الْأَحْبَار، وَقد روى مَالك فِي (الْمُوَطَّأ) عَن زيد بن أسلم (عَن عَطاء بن يسَار: أَن كَعْب الْأَحْبَار أمره عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، على ركب محرمين، فَمَضَوْا حَتَّى إِذا كَانُوا بِبَعْض طَرِيق مَكَّة مر رجل من جَراد، فأفتاهم كَعْب أَن يأخذوه فيأكلوه، فَلَمَّا قدمُوا على عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، ذكرُوا لَهُ ذَلِك، فَقَالَ لَهُ: مَا حملك على أَن أفتيتهم بِهَذَا؟ قَالَ: هُوَ من صيد الْبَحْر.
قَالَ: وَمَا يدْريك؟ .
قَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ { وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ إِن هُوَ إلاَّ نثرة حوت نثره فِي كل عَام مرَّتَيْنِ) .
وَاخْتلف فِي قَوْله: (نثرة حوت) ، فَقيل: عطسته، وَقيل: هُوَ من تَحْرِيك النثرة، وَهُوَ طرف الْأنف، قَالَ شَيخنَا زين الدّين: فعلى هَذَا يكون بِالْمُثَلثَةِ، وَهُوَ الْمَشْهُور، وَعَلِيهِ اقْتصر صَاحب (الْمَشَارِق) وَغَيره، وَأَنه من الرَّمْي بعنف من قَوْلهم فِي الِاسْتِنْجَاء: ينثر ذكره إِذا اسْتَبْرَأَ من الْبَوْل بِشدَّة وعنف، وَأَن الْجَرَاد يطرحه من أَنفه أَو من دبره بعنف وَشدَّة، وَقيل متولد من رَوْث السّمك.
القَوْل الثَّانِي: أَنه من صيد الْبر يجب الْجَزَاء بقتْله، وَهُوَ قَول عمر وَابْن عَبَّاس وَعَطَاء بن أبي رَبَاح، وَبِه قَالَ أَبُو حنيفَة وَمَالك وَالشَّافِعِيّ فِي قَوْله الصَّحِيح الْمَشْهُور.
القَوْل الثَّالِث: أَنه من صيد الْبر وَالْبَحْر، رَوَاهُ سعيد بن مَنْصُور فِي (سنَنه) عَن هشيم عَن مَنْصُور عَن الْحسن.
وَاخْتلف الْقَائِلُونَ بِأَن الْجَرَاد من صيد الْبر وَفِيه الْجَزَاء فِي مِقْدَار الْجَزَاء على أَقْوَال: أَحدهَا: فِي كل جَرَادَة تَمْرَة، وَهُوَ قَول عَمْرو وَابْن عمر رَوَاهُ سعيد بن الْمَنْصُور فِي (سنَنه) بِسَنَدِهِ إِلَيْهِمَا، وَبِه قَالَ أَبُو حنيفَة وَاخْتَارَهُ ابْن الْعَرَبِيّ.
الثَّانِي: أَن فِي الجرادة الْوَاحِدَة قَبْضَة من طَعَام، وَهُوَ قَول ابْن عَبَّاس: رَوَاهُ سعيد بن مَنْصُور بِسَنَدِهِ إِلَيْهِ، وَبِه قَالَ مَالك.
الثَّالِث: أَن فِي الْوَاحِدَة درهما.
وَهُوَ قَول كَعْب الْأَحْبَار.
قيل: وَمن الدَّلِيل أَن الْجَرَاد نثرة الْحُوت مَا رَوَاهُ ابْن مَاجَه: حَدثنِي هَارُون بن عبد الله الْجمال حَدثنَا هَاشم بن الْقَاسِم حَدثنَا زِيَاد بن عبد الله عَن مُوسَى بن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم عَن أَبِيه (عَن جَابر وَأنس بن مَالك: أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَانَ إِذا دَعَا على الْجَرَاد، قَالَ: أللهم أهلك كباره واقتل صغاره وأفسد بيضه واقطع دابره وَخذ بأفواهه عَن معائشنا وارزقنا إِنَّك سميع الدُّعَاء.
فَقَالَ خَالِد: يَا رَسُول الله}
كَيفَ تَدْعُو على جند من أجناد الله بِقطع دابره؟ فَقَالَ: إِن الْجَرَاد نثرة الْحُوت فِي الْبَحْر، قَالَ هَاشم: قَالَ زِيَاد: فَحَدثني من رأى الْحُوت يَنْثُرهُ) .
تفرد بِهِ ابْن مَاجَه.
الْوَجْه السَّادِس: فِي صيد الْبر وَهُوَ حرَام على الْمحرم لِأَنَّهُ فِي حَقه كالميتة وَكَذَا فِي حق غَيره من المحرمين والمحلين عِنْد مَالك وَالشَّافِعِيّ فِي قَول، وَهُوَ قَول عَطاء وَالقَاسِم وَسَالم، وَبِه قَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد، فَإِن أكله أَو شَيْئا مِنْهُ فَهَل يلْزمه جَزَاء ثَان؟ فِيهِ قَولَانِ للْعُلَمَاء: أَحدهمَا: نعم، وَإِلَيْهِ ذهبت طَائِفَة.
وَالثَّانِي: لَا جَزَاء عَلَيْهِ بِأَكْلِهِ، نَص عَلَيْهِ مَالك.
.

     وَقَالَ  أَبُو عمر: وعَلى هَذَا مَذَاهِب فُقَهَاء الْأَمْصَار وَجُمْهُور الْعلمَاء.
.

     وَقَالَ  أَبُو حنيفَة: عَلَيْهِ قيمَة مَا أكل.
.

     وَقَالَ  أَبُو ثَوْر: إِذا قتل الْمحرم الصَّيْد فَعَلَيهِ جَزَاؤُهُ وحلال أكل ذَلِك الصَّيْد، إلاَّ أَنِّي أكرهه للَّذي قَتله، وَإِذا اصطاد حَلَال صيدا فأهداه إِلَى محرم فقد ذهبت جمَاعَة إِلَى إِبَاحَته مُطلقًا، وَلم يفصلوا بَين أَن يكون قد صَاده من أَجله أم لَا حكى أَبُو عمر هَذَا القَوْل عَن عمر بن الْخطاب وَأبي هُرَيْرَة وَالزُّبَيْر بن الْعَوام وَكَعب الْأَحْبَار وَمُجاهد وَعَطَاء فِي رِوَايَة، وَسَعِيد بن جُبَير قَالَ: وَبِه قَالَ الْكُوفِيُّونَ، قَالَ ابْن جرير: حَدثنَا مُحَمَّد بن عبد الله بن بزيغ حَدثنَا بشر بن الْمفضل حَدثنَا سعيد عَن عبَادَة أَن سعيد بن الْمسيب حَدثهُ (عَن أبي هُرَيْرَة أَنه سُئِلَ عَن لحم صيد صَاده حَلَال أيأكله الْمحرم؟ قَالَ: فأفتاهم بِأَكْلِهِ، ثمَّ لَقِي عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَأخْبرهُ بِمَا كَانَ من أمره، فَقَالَ: لَو أفتيتهم بِغَيْر هَذَا لأوجعت لَك رَأسك) .
.

     وَقَالَ  آخَرُونَ: لَا يجوز أكل الصَّيْد للْمحرمِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَمنعُوا من ذَلِك مُطلقًا لعُمُوم الْآيَة الْكَرِيمَة.
.

     وَقَالَ  عبد الرَّزَّاق: عَن معمر عَن ابْن طَاوُوس وَعبد الْكَرِيم ابْن أبي أُميَّة عَن طَاوُوس عَن ابْن عَبَّاس أَنه كره أكل لحم الصَّيْد للْمحرمِ، قَالَ: وَأَخْبرنِي معمر عَن الزُّهْرِيّ عَن ابْن عمر أَنه كَانَ يكره أَن يَأْكُل لحم الصَّيْد على كل حَال، قَالَه أَبُو عمر، وَبِه قَالَ طَاوُوس وَجَابِر بن زيد، وَإِلَيْهِ ذهب الثَّوْريّ وَإِسْحَاق بن رَاهَوَيْه.
وَقد رُوِيَ نَحوه عَن عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ،.

     وَقَالَ  مَالك وَالشَّافِعِيّ، وَأحمد وَإِسْحَاق فِي رِوَايَة، وَالْجُمْهُور: إِن كَانَ الْحَلَال قد قصد للْمحرمِ بذلك الصَّيْد لم يجز للْمحرمِ أكله لحَدِيث الصعب بن جثامة، على مَا يَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى، وَإِذا لم يَقْصِدهُ بالاصطياد يجوز لَهُ الْأكل مِنْهُ لحَدِيث أبي قَتَادَة على مَا يَأْتِي، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.


(بابٌُ إذَا صَادَ الحَلاَلُ فأهْدَى لِلْمُحْرِمِ الصَّيْدَ أكَلَهُ)

هَذِه التَّرْجَمَة هَكَذَا ثبتَتْ فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَسَقَطت فِي رِوَايَة غَيره، وَجعلُوا مَا ذكر فِي هَذَا الْبابُُ من جملَة الَّذِي قبله.
قَوْله: (بابُُ) منون، تَقْدِيره: هَذَا بابُُ يذكر فِيهِ إِذا صَاد الْحَلَال صيدا فأهداه للْمحرمِ أكله الْمحرم، وَفِيه خلاف قد ذَكرْنَاهُ عَن قريب فِي آخر الْبابُُ الَّذِي قبله.

ولمْ يَرَ ابنُ عَبَّاسٍ وأنَسٌ بالذَّبْحِ بَأسا

لَا يُطَابق ذكر هَذَا التَّعْلِيق فِي هَذِه التَّرْجَمَة، وَإِنَّمَا تتأتى الْمُطَابقَة بالتعسف فِي التَّرْجَمَة الَّتِي قبل هَذَا الْبابُُ على رِوَايَة غير أبي ذَر.
قَوْله: (بِالذبْحِ) ، أَي: بِذبح الْمحرم، وَظَاهر الْعُمُوم يتَنَاوَل ذبح الصَّيْد وَغَيره، وَلَكِن مُرَاده الذّبْح فِي غير الصَّيْد، أَشَارَ بقوله: (وَهُوَ فِي غير الصَّيْد) على مَا يَجِيء الْآن، وَوصل أثر ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، عبد الرَّزَّاق من طَرِيق عِكْرِمَة أَن ابْن عَبَّاس أمره أَن يذبح جزورا وَهُوَ محرم، وَأثر أنس وَصله ابْن أبي شيبَة من طَرِيق الصَّباح البَجلِيّ: سَأَلت أنس بن مَالك عَن الْمحرم يذبح؟ قَالَ: نعم.

وهْوَ غَيْرُ الصَّيْدِ نحوُ الإِبِلِ والْغَنَمِ والْبَقَرِ والدَّجَاجِ والخَيْلِ
هَذَا من كَلَام البُخَارِيّ، وَأَشَارَ بِهِ إِلَى تَخْصِيص الْعُمُوم الَّذِي يفهم من قَوْله: (بِالذبْحِ) ، قَوْله: (وَهُوَ) أَي: الذّبْح، أَي المُرَاد من الذّبْح الْمَذْكُور فِي أثر ابْن عَبَّاس وَأنس هُوَ الذّبْح فِي الْحَيَوَان الأهلي، وَهُوَ الَّذِي ذكره بقوله: (نَحْو الْإِبِل) إِلَى آخِره.
وَهَذَا كُله مُتَّفق عَلَيْهِ غير ذبح الْخَيل، فَإِن فِيهِ خلافًا مَعْرُوفا.
وَذكر أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن إِسْحَاق الْحَرْبِيّ فِي (كتاب الْمَنَاسِك) : يذبح الْمحرم الدَّجَاج الأهلي وَلَا يذبح الدَّجَاج السندي، ويذبح الْحمام المستأنس وَلَا يذبح الطيارة، ويذبح الأوز وَلَا يذبح البط الْبري، ويذبح الْغنم وَالْبَقر الْأَهْلِيَّة، وَيحمل السِّلَاح وَيُقَاتل اللُّصُوص وَيضْرب مَمْلُوكه، وَلَا يختضب بِالْحِنَّاءِ، ويصيد السّمك، وكل مَا كَانَ فِي الْبَحْر، ويجتنب صيد الضفادع.

يُقَالُ عَدْلُ ذَلِكَ مِثْلُ فإذَا كُسِرَتْ عِدْلٌ فَهْوَ زِنَةُ ذَلِكَ
أَشَارَ بِهَذَا إِلَى الْفرق بَين الْعدْل بِفَتْح الْعين، وَالْعدْل بِكَسْرِهَا، وَذَلِكَ لكَون لفظ الْعدْل مَذْكُورا فِي الْآيَة الْمَذْكُورَة، قَوْله: (يُقَال) ، يَعْنِي: فِي لُغَة الْعَرَب: (عدل ذَلِك) بِفَتْح الْعين، أَي: هَذَا الشَّيْء عدل ذَلِك الشَّيْء أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله: (مثل) أَي: مثل ذَلِك الشَّيْء.
قَوْله: (فَإِذا كسرت) ، أَي: الْعين، تَقول: هَذَا عدل ذَاك، بِكَسْر الْعين، قَوْله: (فَهُوَ زنة ذَلِك) أَي: موازنة، أَرَادَ بِهِ فِي الْقدر، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مستقصىً فِي الْبابُُ الَّذِي قبله.

قَيَاما قِوَاما
أَشَارَ بِهِ إِلَى الْمَذْكُور فِي قَوْله تَعَالَى عقيب الْآيَة الْمَذْكُورَة: { جعل الله الْكَعْبَة الْبَيْت الْحَرَام قيَاما للنَّاس} (الْمَائِدَة: 79) .
أَي: قواما، بِكَسْر الْقَاف.
وَهُوَ نظام الشَّيْء وعماده، يُقَال: فلَان قيام أهل الْبَيْت وقوامه، أَي: الَّذِي يُقيم شَأْنهمْ.
.

     وَقَالَ  الطَّبَرِيّ فِي تَفْسِير: قيَاما، فِي الْآيَة: أَي: جعل الله الْكَعْبَة بِمَنْزِلَة الرَّأْس الَّذِي يقوم بِهِ أَمر أَتْبَاعه،.

     وَقَالَ  بَعضهم: قيَاما قواما، هُوَ قَول أبي عُبَيْدَة قلت: هَذَا لَيْسَ بمخصوص بِأبي عُبَيْدَة، وَإِنَّمَا هُوَ قَول جَمِيع أهل اللُّغَة وَأهل التصريف بِأَن أصل: قيام، قوام لِأَن مادته من قَامَ يقوم قواما وَهُوَ أجوف واوي، قلبت الْوَاو فِي قواما، يَاء كَمَا قلبت فِي صِيَام، وَأَصله: صوام، لِأَنَّهُ من صَامَ يَصُوم صوما، وَهُوَ أَيْضا أجوف واوي، وَالَّذِي لَيْسَ لَهُ يَد فِي التصريف يتَصَرَّف هَكَذَا حَتَّى قَالَ: قَالَ الطَّبَرِيّ: أَصله الْوَاو، فَكَأَنَّهُ رأى أَن هَذَا أَمر عَظِيم حَتَّى نسبه إِلَى الطَّبَرِيّ.

يَعْدِلُونَ: يَجْعَلُونَ عَدْلاً

أَشَارَ بِهَذَا إِلَى الْمَذْكُور فِي سُورَة الْأَنْعَام { ثمَّ الَّذين كفرُوا برَبهمْ يعدلُونَ} (الْأَنْعَام: 1) .
أَي: يجْعَلُونَ لَهُ عدلا، أَي: مثلا تَعَالَى الله عَن ذَلِك، ومناسبة ذكر هَذَا هَهُنَا كَونه من مَادَّة قَوْله تَعَالَى: { أَو عدل ذَلِك} (الْمَائِدَة: 59) .
بِالْفَتْح، يَعْنِي مثله، وَهَذَا الَّذِي ذكره كُله من أول الْبابُُ إِلَى هَهُنَا يُطَابق تَرْجَمَة الْبابُُ السَّابِق، وَلَا يُنَاسب هَذِه التَّرْجَمَة الَّتِي ثبتَتْ فِي رِوَايَة أبي ذَر، كَمَا ذكرنَا.



[ قــ :1739 ... غــ :1821 ]
- حدَّثنا مُعَاذُ بنُ فَضَالَةَ قَالَ حدَّثنا هِشَامٌ عنْ يَحْيَى عنْ عَبْدِ الله بنِ أبِي قَتَادَةَ قَالَ انْطَلَقَ أبِي عامَ الحُدَيْبِيَّةِ فأحْرَمَ أصْحَابُهُ ولَمْ يحْرِمْ وحُدِّثَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنَّ عَدُوَّا يَغْزُوهُ فانْطَلَقَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَبَيْنَما أَنا مَعَ أصْحَابِهِ تضَحَّكَ بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ فنَظَرْتُ فإذَا أنَا بِحِمَارِ وَحْشٍ فحَمَلْتُ عَلَيْهِ فَطَعَنْتُهُ فأثْبَتُّهُ واسْتَعَنْتُ بِهِمْ فأبَوْا أنْ يُعِينُونِي فأكَلْنَا منْ لَحْمِهِ وخَشِينَا أنْ تُقْتَطَعَ فطَلبْتُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أرْفَعُ فَرَسِي شاوا وأسِيرُ شأوا فَلَقِيتُ رَجُلاً منْ بَنِي غِفَارٍ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ.

قُلْتُ أيْنَ تَرَكْتَ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ تَرَكْتُهُ بِتَعْهُنَ وهُوَ قَايِلٌ السُّقْيَا فَقُلْتُ يَا رَسُولَ الله أنَّ أهْلَكَ يَقْرَؤنَ عَلَيْكَ السَّلامَ ورَحْمَةَ الله إنهُمْ قَدْ خَشُوا أنُ يُقْتَطَعُوا دُونَكَ فانْتَطِرْهُمْ.

قُلْتُ يَا رَسُولَ الله أصَبْتُ حِمَارَ وَحْشٍ وعِنْدِي مِنْهُ فاضِلَةٌ فَقالَ لِلْقَوْمِ كُلُوا وهُمْ مُحْرِمُونَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (كلوا، وهم محرمون) .
فَإِن الَّذِي صَاد الْحمار الْمَذْكُور كَانَ حَلَالا، وأهداه إِلَى النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وأباح النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أكله لأَصْحَابه الَّذين مَعَه وهم محرمون، فَدلَّ على أَن الَّذِي اصطاده الْحَلَال يجوز للْمحرمِ أَن يَأْكُل مِنْهُ، على خلاف فِيهِ، قد ذَكرْنَاهُ.

ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: معَاذ بن فضَالة أَبُو زيد الزهْرَانِي.
الثَّانِي: هِشَام الدستوَائي.
الثَّالِث: يحيى بن أبي كثير.
الرَّابِع: عبد الله بن أبي قَتَادَة.
الْخَامِس: أَبوهُ أَبُو قَتَادَة بِفَتْح الْقَاف، واسْمه الْحَارِث بن ربيع الْأنْصَارِيّ.

ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين.
وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين.
وَهَذَا الْإِسْنَاد بِعَيْنِه قد مر فِي: بابُُ النَّهْي عَن الِاسْتِنْجَاء بِالْيَمِينِ فِي كتاب الْوضُوء.
وَفِيه: أَن شَيْخه من أَفْرَاده وَأَنه بَصرِي، وَهِشَام ينْسب إِلَى دستوا من نواحي الأهواز، كَانَ يَبِيع الثِّيَاب الَّتِي تجلب مِنْهَا فنسب إِلَيْهَا، وَلَكِن أَصله بَصرِي، وَيحيى طائي يمامي.
قَوْله: (عَن عبد الله بن أبي قَتَادَة) ، وَفِي رِوَايَة مُسلم عَن يحيى: أَخْبرنِي عبد الله ابْن أبي قَتَادَة، وسَاق عبد الله هَذَا الْإِسْنَاد مُرْسلا حَيْثُ قَالَ: انْطلق أبي عَام الْحُدَيْبِيَة، وَهَكَذَا أخرجه مُسلم من طَرِيق معَاذ بن هِشَام عَن أَبِيه، وَأخرجه أَحْمد عَن ابْن علية عَنهُ.
وَأخرجه أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ عَن هِشَام عَن يحيى فَقَالَ: عَن عبد الله بن أبي قَتَادَة عَن أَبِيه أَنه انْطلق مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهَذَا مُسْند، وَكَذَلِكَ فِي رِوَايَة عَليّ بن الْمُبَارك عَن يحيى عَن عبد الله بن أبي قَتَادَة أَن أَبَاهُ حَدثهُ قَالَ: انطلقنا مَعَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، على مَا يَأْتِي فِي الْبابُُ الَّذِي يَلِي هَذَا الْبابُُ.

ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْمَغَازِي عَن سعيد بن الرّبيع عَن عَليّ بن الْمُبَارك، وَأخرجه فِي الْجِهَاد عَن عبد الله بن يُوسُف، وَفِي الذَّبَائِح عَن إِسْمَاعِيل، كِلَاهُمَا عَن مَالك، وَفِي الْحَج أَيْضا عَن سعيد بن الرّبيع وَعَن عبد الله بن مُحَمَّد ومُوسَى بن إِسْمَاعِيل وَعبد الله بن يُوسُف أَيْضا، وَفِي الْهِبَة عَن عبد الْعَزِيز بن عبد الله، وَفِي الْأَطْعِمَة أَيْضا عَن عبد الْعَزِيز بن عبيد الله، وَأخرجه مُسلم فِي الْحَج عَن صَالح بن مِسْمَار عَن معَاذ بن هِشَام عَن أَبِيه وَعَن عبد الله بن عبد الرَّحْمَن عَن يحيى بن حسان عَن مُعَاوِيَة بن سَلام، الْكل عَن يحيى بن أبي كثير بِهِ، وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْحَج عَن القعْنبِي عَن مَالك.
وَأخرجه التِّرْمِذِيّ عَن قُتَيْبَة بن مَالك.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن عبد الْأَعْلَى عَن خَالِد بن الْحَارِث عَن هِشَام بِهِ وَعَن عبيد الله بن فضَالة.
وَأخرجه ابْن مَاجَه عَن مُحَمَّد بن يحيى عَن عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن يحيى بن أبي كثير بِهِ.

ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (عَام الْحُدَيْبِيَة) ، قيل، وَفِي رِوَايَة الْوَاقِدِيّ من وَجه آخر عَن عبد الله بن أبي قَتَادَة أَن ذَلِك كَانَ فِي عمْرَة الْقَضِيَّة قلت: رَوَاهُ عَن ابْن أبي سُبْرَة عَن مُوسَى بن ميسرَة عَن عبد الله بن أبي قَتَادَة عَن أَبِيه، قَالَ: سلكنا فِي عمْرَة الْقَضِيَّة على الْفَرْع، وَقد أحرم أَصْحَابِي غَيْرِي فَرَأَيْت حمارا ... الحَدِيث،.

     وَقَالَ  أَبُو عمر: كَانَ ذَلِك عَام الْحُدَيْبِيَة أَو بعده بعام، عَام الْقَضِيَّة.
قَوْله: (فَأحْرم أَصْحَابه) أَي: أَصْحَاب أبي قَتَادَة، وَفِي رِوَايَة مُسلم: (أحرم أَصْحَابِي وَلم أحرم).

     وَقَالَ  الْأَثْرَم: كنت أسمع أَصْحَاب الحَدِيث يتعجبون من حَدِيث أبي قَتَادَة، وَيَقُولُونَ: كَيفَ جَازَ لأبي قَتَادَة أَن يُجَاوز الْمِيقَات غير محرم، وَلَا يَدْرُونَ مَا وَجهه حَتَّى رَأَيْته مُفَسرًا فِي رِوَايَة عِيَاض بن عبد الله عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ قلت: روى الطَّحَاوِيّ، رَحمَه الله، حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ فَقَالَ: حَدثنَا ابْن أبي دَاوُد حَدثنَا عَيَّاش بن الْوَلِيد الرقام حَدثنَا عبد الْأَعْلَى عَن عبيد الله عَن عِيَاض بن عبد الله (عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ، قَالَ: بعث النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَبَا قَتَادَة الْأنْصَارِيّ على الصَّدَقَة، وَخرج رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأَصْحَابه وهم محرمون حَتَّى نزلُوا عسفان، فَإِذا هم بِحِمَار وَحش، قَالَ: وَجَاء أَبُو قَتَادَة وَهُوَ حل، فنكسوا رؤوسهم كَرَاهَة أَن يحدوا أَبْصَارهم، فتفطن، فَرَآهُ فَركب فرسه وَأخذ الرمْح، فَسقط مِنْهُ فَقَالَ: ناولونيه، فَقَالُوا: مَا نَحن بمعينك عَلَيْهِ بِشَيْء، فَحمل عَلَيْهِ فعقره، فَجعلُوا يشوون مِنْهُ، ثمَّ قَالُوا: رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بَين أظهرنَا.
قَالَ: وَكَانَ يتقدمهم فلحقوه فَسَأَلُوهُ، فَلم ير بذلك بَأْسا) .
وَأخرجه الْبَزَّار أَيْضا.
قَوْله: (على الصَّدَقَة) أَي: على أَخذ الزكوات،.

     وَقَالَ  الْقشيرِي فِي الْجَواب عَن عدم إِحْرَام أبي قَتَادَة، يحْتَمل أَنه لم يكن مرِيدا لِلْحَجِّ، أَو أَن ذَلِك قبل تَوْقِيت الْمَوَاقِيت، وَزعم الْمُنْذِرِيّ أَن أهل الْمَدِينَة أَرْسلُوهُ إِلَى سيدنَا رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يعلمونه أَن بعض الْعَرَب يَنْوِي غَزْو الْمَدِينَة.
.

     وَقَالَ  ابْن التِّين: يحْتَمل أَنه لم ينْو الدُّخُول إِلَى مَكَّة، وَإِنَّمَا صحب النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ليكْثر جمعه،.

     وَقَالَ  أَبُو عمر: يُقَال: إِن أَبَا قَتَادَة كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَجهه على طَرِيق الْبَحْر مَخَافَة الْعَدو، فَلذَلِك لم يكن محرما إِذا اجْتمع مَعَ أَصْحَابه، لِأَن مخرجهم لم يكن وَاحِدًا.
انْتهى.
قلت: أحسن الْأَجْوِبَة مَا ذكر فِي حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
قَوْله: (وَحدث) ، على صِيغَة الْمَجْهُول.
قَوْله: (يغزوه) أَي: يقصدوه.
قَوْله: (فَبينا) ويروى: (فَبَيْنَمَا) .
قَوْله: (يضْحك بَعضهم إِلَى بعض) ، جملَة حَالية، وَوَقع فِي رِوَايَة العذري فِي مُسلم: (فَجعل بَعضهم يضْحك إِلَيّ) بتَشْديد الْيَاء فِي: إِلَيّ، قَالَ عِيَاض: هُوَ خطأ وتصحيف وَإِنَّمَا سَقَطت عَلَيْهِ لَفْظَة: بعض، وَاحْتج لِضعْفِهَا بِأَنَّهُم لَو ضحكوا إِلَيْهِ لَكَانَ أكبر إِشَارَة مِنْهُم، وَقد صرح فِي الحَدِيث أَنهم لم يشيروا إِلَيْهِ،.

     وَقَالَ  النَّوَوِيّ: لَا يُمكن رد هَذِه الرِّوَايَة، فقد صحت هِيَ وَالرِّوَايَة الْأُخْرَى، وَلَيْسَ فِي وَاحِدَة مِنْهُم دلَالَة وَلَا إِشَارَة إِلَى الصَّيْد، وَأَن مُجَرّد الضحك لَيْسَ فِيهِ إِشَارَة مِنْهُم، وَإِنَّمَا كَانَ ضحكهم من عرُوض الصَّيْد وَلَا قدرَة لَهُم عَلَيْهِ ومنعهم مِنْهُ، وَكَذَا قَالَ ابْن التِّين، يُرِيد أَنهم لم يخبروه بمَكَان الصَّيْد وَلَا أشاروا إِلَيْهِ.
وَفِي الحَدِيث مَا يَقْتَضِي أَن ضحكهم لَيْسَ بِدلَالَة وَلَا إِشَارَة، بيَّن ذَلِك فِي حَدِيث عُثْمَان بن موهب، فَقَالَ: (أمنكم أحد أَشَارَ إِلَيْهِ؟ قَالُوا: لَا) .
فَإِن قلت: مَا معنى: إِلَى، فِي قَوْله: (إِلَى بعض) ؟ قلت: مَعْنَاهُ منتهيا أَو نَاظرا إِلَيْهِ.
قَوْله: (فَنَظَرت) ، فِيهِ الْتِفَات، فَإِن الأَصْل أَن يُقَال: فَنظر، لقَوْله: (فَبينا أبي مَعَ أَصْحَابه) ، فالتقدير: قَالَ أبي: فَنَظَرت، فَإِذا أَنا بِحِمَار وَحش، وَهَذِه الرِّوَايَة تَقْتَضِي أَن رُؤْيَته إِيَّاه مُتَقَدّمَة، وَرِوَايَة أبي حَازِم عَن عبد الله بن أبي قَتَادَة تَقْتَضِي أَن رُؤْيَتهمْ إِيَّاه قبل رُؤْيَته، فَإِن فِيهَا: (فَأَبْصرُوا حمارا وحشيا وَأَنا مَشْغُول أخصف نَعْلي، فَلم يؤذنوني بِهِ، وأحبوا لَو أَنِّي أبصرته، والتفت فأبصرته) .
قَوْله: (فَحملت عَلَيْهِ) ، وَفِي رِوَايَة مُحَمَّد بن جَعْفَر: (فَقُمْت إِلَى الْفرس فأسرجته ثمَّ ركبت ونسيت السَّوْط وَالرمْح، فَقلت لَهُم: ناولوني السَّوْط وَالرمْح، فَقَالُوا: لَا وَالله لَا نعينك عَلَيْهِ بِشَيْء، فَغضِبت فَنزلت فأخذتهما، ثمَّ ركبت) .
وَفِي رِوَايَة فُضَيْل ابْن سُلَيْمَان: (فَركب فرسا لَهُ يُقَال لَهُ الجرادة، فَسَأَلَهُمْ أَن يناولوه سَوْطه فَأَبَوا) .
وَفِي رِوَايَة أبي النَّضر: (وَكنت نسيت سَوْطِي، فَقلت لَهُم: ناولوني بسوطي، فَقَالُوا: لَا نعينك عَلَيْهِ، فَنزلت فَأَخَذته) .
قَوْله: (فأثبته) ، أَي: تركته ثَابتا فِي مَكَانَهُ لَا يُفَارِقهُ وَلَا حراك بِهِ، وَفِي رِوَايَة أبي حَازِم: (فشددت على الْحمار فعقرته، ثمَّ جِئْت بِهِ وَقد مَاتَ) .
وَفِي رِوَايَة أبي النَّضر: (حَتَّى عقرته فَأتيت إِلَيْهِم فَقلت لَهُم، قومُوا فاحتملوا، فَقَالُوا: لَا نمسه، فَحَملته حَتَّى جئتهم بِهِ) .
(فأكلنا من لَحْمه) ، وَفِي رِوَايَة فُضَيْل عَن أبي حَازِم: (فَأَكَلُوا فَنَدِمُوا) ، وَفِي رِوَايَة مُحَمَّد بن جَعْفَر عَن أبي حَازِم: (فوقعوا يَأْكُلُون مِنْهُ، ثمَّ إِنَّهُم شكوا فِي أكلهم إِيَّاه وهم حرم، فرحنا وخبؤت الْعَضُد معي) ، وَفِي رِوَايَة مَالك عَن أبي النَّضر: (فَأكل مِنْهُ بَعضهم وأبى بَعضهم) .
وَفِي حَدِيث أبي سعيد: (فَجعلُوا يشوون مِنْهُ) ، وَفِي رِوَايَة الْمطلب عَن أبي قَتَادَة عِنْد سعيد بن مَنْصُور: (فظللنا نَأْكُل مِنْهُ مَا شِئْنَا طبيخا وشواء ثمَّ تزودنا مِنْهُ.

وَأخرج الطَّحَاوِيّ حَدِيث أبي قَتَادَة من خمس طرق صِحَاح.

الأول: عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ، قَالَ: بعث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَبَا قَتَادَة ... الحَدِيث، وَقد ذَكرْنَاهُ عَن قريب.

الثَّانِي: عَن عباد بن تَمِيم (عَن أبي قَتَادَة أَنه كَانَ على فرس وَهُوَ حَلَال، وَرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابه محرمون، فَبَصر بِحِمَار وَحش، فَنهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يعينوه، فَحمل عَلَيْهِ فصرع أَتَانَا فَأَكَلُوا مِنْهُ) .

الثَّالِث: عَن عُثْمَان بن عبد الله بن موهب (عَن عبد الله بن أبي قَتَادَة عَن أَبِيه أَنه كَانَ فِي قوم محرمين وَلَيْسَ هُوَ بِمحرم، وهم يَسِيرُونَ، فَرَأَوْا حمارا فَركب فرسه فصرعه، فَأتوا النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَسَأَلُوهُ عَن ذَلِك، فَقَالَ أشرتم أوصدتم أَو قتلتم؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: فَكُلُوا) .

الرَّابِع: عَن نَافِع مولى أبي قَتَادَة (عَن أبي قَتَادَة أَنه كَانَ مَعَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، حَتَّى إِذا كَانَ بِبَعْض طرق مَكَّة تخلف مَعَ أَصْحَاب لَهُ محرمين وَهُوَ غير محرم، فَرَأى حمارا وحشيا فَاسْتَوَى على فرسه، ثمَّ سَأَلَ أَصْحَابه أَن يناولوه سَوْطه، فَأَبَوا، فَسَأَلَهُمْ رمحه فَأَبَوا، فَأَخذه ثمَّ شدّ على الْحمار فَقتله، فَأكل مِنْهُ بعض أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأبي بَعضهم، فَلَمَّا أدركوا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سَأَلُوهُ عَن ذَلِك، فَقَالَ: إِنَّمَا هِيَ طعمة أطعمكموها الله) .

الْخَامِس: عَن عَطاء بن يسَار عَن أبي قَتَادَة مثله، وَزَاد: (أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: هَل مَعكُمْ من لَحْمه شَيْء؟ فقد علمنَا أَن أَبَا قَتَادَة لم يصده فِي وَقت مَا صَاده إِرَادَة مِنْهُ أَن يكون لَهُ خَاصَّة، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَن يكون لَهُ ولأصحابه الَّذين كَانُوا مَعَه) .

قَوْله: (وخشينا أَن نقتطع) أَي: نصير مقطوعين عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم منفصلين عَنهُ لكَونه سبقهمْ، وَعند أبي عوَانَة عَن عَليّ بن الْمُبَارك عَن يحيى بِلَفْظ: (وخشينا أَن يقتطعنا الْعَدو) ، وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ: (وَأَنَّهُمْ خَشوا أَن يقتطعهم الْعَدو دُونك) .
.

     وَقَالَ  ابْن قرقول: أَي يحوذنا الْعَدو عَنْك، وَمن حَملتك.
.

     وَقَالَ  الْقُرْطُبِيّ: أَي: خفنا أَن يُحَال بَيْننَا وَبينهمْ ويقتطع بِنَا عَنْهُم.
قَوْله: (ارْفَعْ) بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيد أَي: أرفعه فِي سيره وأجربه.
قَوْله: (شأوا) بالشين الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْهمزَة: وَهُوَ الطلق والغاية، وَمَعْنَاهُ: أركضه شَدِيدا تَارَة وأسهل سيره تَارَة.
قَوْله: (من بني غفار) ، بِكَسْر الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَتَخْفِيف الْفَاء وَفِي آخِره رَاء، منصرف وَغير منصرف.
قَوْله: (بتعهن) ، بِكَسْر الْمُثَنَّاة من فَوق وَفتحهَا وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة وَكسر الْهَاء وبالنون، وَفِي رِوَايَة الْأَكْثَرين بِالْكَسْرِ، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني بِكَسْر أَوله وثالثه، وَفِي رِوَايَة غَيره بفتحهما، وَحكى أَبُو ذَر الْهَرَوِيّ أَنه سَمعهَا من الْعَرَب بذلك الْمَكَان بِفَتْح الْهَاء، وَمِنْهُم من يضم التَّاء وَيفتح الْعين وَيكسر الْهَاء، وَضَبطه أَبُو مُوسَى الْمَدِينِيّ بِضَم أَوله وثانيه وبتشديد الْهَاء، قَالَ: وَمِنْهُم من يكسر التَّاء، وَأَصْحَاب الحَدِيث يسكنون الْعين، وَوَقع فِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ: (بدعهن) ، بِالدَّال الْمُهْملَة مَوضِع التَّاء.
قلت: يُمكن أَن يكون ذَلِك من تصرف اللافظين لقرب مخرج التَّاء من الدَّال، وَهُوَ، عين مَاء على ثَلَاثَة أَمْيَال من السقيا، بِضَم السِّين الْمُهْملَة وَسُكُون الْقَاف وَتَخْفِيف الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَالْقصر، هِيَ قَرْيَة بَين مَكَّة وَالْمَدينَة من أَعمال الْفَرْع، بِضَم الْفَاء وَسُكُون الرَّاء وبالعين الْمُهْملَة.
.

     وَقَالَ  الْبكْرِيّ: الْفَرْع من أَعمال الْمَدِينَة الواسعة والصفراء وأعمالها من الْفَرْض ومنضافة إِلَيْهَا.
قَوْله: (وَهُوَ قَائِل) جملَة إسمية،.

     وَقَالَ  النَّوَوِيّ: قَائِل رُوِيَ بِوَجْهَيْنِ: أصَحهمَا: وأشهرهما من القيلولة يَعْنِي: تركته بتعهن، وَفِي عزمه أَن يقيل بالسقيا.
الثَّانِي: بِالْبَاء الْمُوَحدَة، وَهُوَ ضَعِيف غَرِيب، وَكَأَنَّهُ تَصْحِيف فَإِن صَحَّ فَمَعْنَاه أَن تعهن مَوضِع مُقَابل السقيا، فعلى الْوَجْه الأول الضَّمِير فِي قَوْله: (وَهُوَ) يرجع إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وعَلى الْوَجْه الثَّانِي يرجع إِلَى قَوْله: (تعهن) .
.

     وَقَالَ  الْقُرْطُبِيّ قَوْله: (قَائِل) ، من القَوْل وَمن القائلة وَالْأول هُوَ المُرَاد هُنَا، والسقيا مفعول بِفعل مُضْمر، وَالضَّمِير: كَانَ بتعهن وَهُوَ يَقُول لأَصْحَابه اقصدوا السقيا، وَوَقع فِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ من طَرِيق ابْن علية عَن هِشَام: (وَهُوَ قَائِم بالسقيا) ، يَعْنِي من الْقيام، وَلكنه قَالَ: الصَّحِيح: قَائِل، بِاللَّامِ.
قَوْله: (فَقلت) ، فِيهِ حذف تَقْدِيره: فسرت فَأَدْرَكته فَقلت: يَا رَسُول الله! وتوضحه رِوَايَة عَليّ بن الْمُبَارك فِي الْبابُُ الَّذِي يَلِيهِ بِلَفْظ: (فلحقت برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى أَتَيْته فَقلت: يَا رَسُول الله) .
قَوْله: (أَن أهلك) أَرَادَ إِن أَصْحَابك، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ رِوَايَة أَحْمد وَمُسلم وَغَيرهمَا رِوَايَة أَحْمد وَمُسلم من هَذَا الْوَجْه بِلَفْظ: (إِن أَصْحَابك) .
قَوْله: (فانتظرهم) ، بِصِيغَة الْأَمر من الِانْتِظَار، أَي: انْتظر أَصْحَابك.
وَفِي رِوَايَة مُسلم بِهَذَا الْوَجْه: فانتظرهم، بِصِيغَة الْمَاضِي أَي: انتظرهم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَفِي رِوَايَة عَليّ بن الْمُبَارك: (فانتظرهم فَفعل) .
قَوْله: (فاضلة) ، بِمَعْنى: فضلَة.
.

     وَقَالَ  الْخطابِيّ: أَي قِطْعَة قد فضلت مِنْهُ فَهِيَ فاضلة أَي: بَاقِيَة معي.
قَوْله: (فَقَالَ للْقَوْم: كلوا) ، هَذَا أَمر إِبَاحَة لَا أَمر إِيجَاب، قَالَ بَعضهم: لِأَنَّهَا وَقعت جَوَابا عَن سُؤَالهمْ عَن الْجَوَاز لَا عَن الْوُجُوب، فَوَقَعت الصِّيغَة على مُقْتَضى السُّؤَال.
قلت: الْأَوْجه أَن يُقَال: إِن هَذَا الْأَمر إِنَّمَا كَانَ لمَنْفَعَة لَهُم، فَلَو كَانَ للْوُجُوب لصار عَلَيْهِم، فَكَانَ يعود إِلَى مَوْضُوعه بِالنَّقْضِ.

وَفِيه من الْفَوَائِد: أَن لحم الصَّيْد مُبَاح للْمحرمِ إِذا لم يعن عَلَيْهِ.

     وَقَالَ  الْقشيرِي اخْتلف النَّاس فِي أكل الْمحرم لحم الصَّيْد على مَذَاهِب.

أَحدهَا: أَنه مَمْنُوع مُطلقًا صيد لأَجله أَو لَا، وَهَذَا مَذْكُور عَن بعض السّلف، دَلِيله حَدِيث الصعب بن جثامة.

الثَّانِي: مَمْنُوع إِن صَاده أَو صيد لأَجله، سَوَاء كَانَ بِإِذْنِهِ أَو بِغَيْر إِذْنه، وَهُوَ مَذْهَب مَالك وَالشَّافِعِيّ.

الثَّالِث: إِن كَانَ باصطياده أَو بِإِذْنِهِ أَو بدلالته حرم عَلَيْهِ، وَإِن كَانَ على غير ذَلِك لم يحرم، وَإِلَيْهِ ذهب أَبُو حنيفَة.

وَقَالَ ابْن الْعَرَبِيّ: يَأْكُل مَا صيد وَهُوَ حَلَال، وَلَا يَأْكُل مَا صيد بعد.
وَحَدِيث أبي قَتَادَة هَذَا يدل على جَوَاز أكله فِي الْجُمْلَة، وعزى صَاحب (الإِمَام) إِلَى النَّسَائِيّ من حَدِيث أبي حنيفَة عَن هِشَام عَن أَبِيه عَن جده الزبير، قَالَ: (كُنَّا نحمل الصَّيْد صفيفا ونتزوده وَنحن محرمون مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، رَوَاهُ الْحَافِظ أَبُو عبد الله الْبَلْخِي فِي (مُسْند أبي حنيفَة) من هَذَا الْوَجْه عَن هِشَام، وَمن جِهَة إِسْمَاعِيل بن يزِيد عَن مُحَمَّد بن الْحسن عَن أبي حنيفَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وروى أَبُو يعلى الْموصِلِي فِي (مُسْنده) من حَدِيث مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر: حَدثنَا شيخ لنا (عَن طَلْحَة بن عبد الله أَن رجلا سَأَلَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن مَحل آثَار الصَّيْد أيأكله الْمحرم؟ قَالَ: نعم) .
وَفِي رِوَايَة مُسلم: (أهْدى لطلْحَة طَائِر وَهُوَ محرم فَقَالَ: أكلنَا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) .
وَعند الدَّارَقُطْنِيّ: أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أعطَاهُ حمَار وَحش وَأمره أَن يفرقه فِي الرقَاق) .
قَالَ: ويروى عَن طَلْحَة وَالزُّبَيْر وَعمر وَأبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، فِيهِ رخصَة.
ثمَّ قَالَ: عَائِشَة تكرههُ وَغير وَاحِد، وروى الْحَاكِم على شَرطهمَا من حَدِيث جَابر يرفعهُ: (لحم صيد الْبر لكم حَلَال وَأَنْتُم حرم مَا لم تصيدوه أَو يصاد لَكِن) .
قَالَ مهنىء: ذكر أَبُو عبد الله، يَعْنِي: أَحْمد بن حَنْبَل، هَذَا الحَدِيث فَقَالَ: إِلَيْهِ أذهب، وَلما ذكر لَهُ حَدِيث عبد الرَّزَّاق عَن الثَّوْريّ عَن قيس عَن الْحسن بن مُحَمَّد عَن عَائِشَة: (أهْدى النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وشيقة لحم وَهُوَ محرم فَأَكله) ، فَجعل أَبُو عبد الله يُنكره إنكارا شَدِيدا،.

     وَقَالَ : سَماع مثلا، هَكَذَا ذكره صَاحب التَّلْوِيح بِخَطِّهِ، وَفِيه: فَأَكله.
قلت: روى الطَّحَاوِيّ هَذَا الحَدِيث، فَقَالَ: حَدثنَا يُونُس، قَالَ، حَدثنَا سُفْيَان عَن عبد الْكَرِيم عَن قيس بن مُسلم الجدلي عَن الْحسن بن مُحَمَّد بن عَليّ عَن عَائِشَة: (أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أهْدى لَهُ وشيقة ظَبْي وَهُوَ محرم فَرده) ، وَرَوَاهُ أَيْضا أَحْمد فِي (مُسْنده) : حَدثنَا عبد الرَّزَّاق أخبرنَا الثَّوْريّ عَن قيس بن مُسلم عَن الْحسن بن مُحَمَّد (عَن عَائِشَة قَالَت: أهدي لرَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ظَبْيَة فِيهَا وشيقة صيد، وَهُوَ حرَام فَأبى أَن يَأْكُلهُ) .
انْتهى.
وَهَذَا يُخَالف مَا ذكره صَاحب (التَّلْوِيح) فَإِن فِي لَفظه: (فَأَكله) ، والطَّحَاوِي لم يذكر هَذَا الحَدِيث إلاَّ فِي صدد الِاحْتِجَاج لمن قَالَ: لَا يحل للْمحرمِ أَن يَأْكُل لحم صيد ذبحه حَلَال، لِأَن الصَّيْد نَفسه حرَام عَلَيْهِ، فلحمه أَيْضا حرَام عَلَيْهِ، فَإِذا كَانَ الحَدِيث على مَا ذكره صَاحب (التَّلْوِيح) : لَا يكون حجَّة لَهُم، بل إِنَّمَا يكون حجَّة لمن قَالَ بِجَوَاز أكل الْمحرم صيد الْمحل، وَالَّذين منعُوا من ذَلِك للْمحرمِ هُوَ الشّعبِيّ وطاووس وَمُجاهد وَجَابِر بن زيد وَالثَّوْري وَاللَّيْث بن سعد وَمَالك فِي رِوَايَة، وَإِسْحَاق فِي رِوَايَة.
قَوْله: (وشيقة ظَبْي) .
الوشيقة: أَن يُؤْخَذ اللَّحْم فيغلى قَلِيلا وَلَا ينضج وَيحمل فِي الْأَسْفَار، وَقيل: هِيَ القديد، وَقد وَشقت اللَّحْم أشقه وشقا، وَيجمع على وشق ووشائق.

وَذكر الطَّحَاوِيّ أَيْضا أَحَادِيث أخر لهَؤُلَاء المانعين.
مِنْهَا: مَا قَالَه: حَدثنَا ربيع الْمُؤَذّن قَالَ: حَدثنَا أَسد (ح) وَحدثنَا مُحَمَّد بن خُزَيْمَة، قَالَ: حَدثنَا حجاج، قَالَا: حَدثنَا حَمَّاد بن سَلمَة عَن عَليّ بن زيد عَن عبد الله ابْن الْحَارِث بن نَوْفَل: أَن عُثْمَان بن عَفَّان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، نزل قديدا، فَأتي بالحجل فِي الجفان شَائِلَة بأرجلها، فَأرْسل إِلَيّ عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَهُوَ يضفز بَعِيرًا لَهُ، فَجَاءَهُ وَالْخَيْط يتحات من يَدَيْهِ، فَأمْسك عَليّ وَأمْسك النَّاس، فَقَالَ عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: من هَهُنَا من أَشْجَع؟ هَل علمْتُم أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جَاءَهُ أَعْرَابِي ببيضات نعام وتتمير وَحش، فَقَالَ: أطعمهن أهلك فَإنَّا حرم؟ قَالُوا: نعم) .
وَأخرج أَبُو دَاوُد حَدثنَا مُحَمَّد بن كثير.
قَالَ: أخبرنَا سُلَيْمَان بن كثير عَن حميد الطَّوِيل (عَن إِسْحَاق ابْن عبد الله بن الْحَارِث عَن أَبِيه، وَكَانَ الْحَارِث خَليفَة عُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، على الطَّائِف، فَصنعَ لعُثْمَان طَعَاما وصنع فِيهِ من الحجل واليعاقيب وَلُحُوم الْوَحْش، قَالَ: فبعص إِلَى عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَجَاءَهُ الرَّسُول وَهُوَ يخيط الأباعر لَهُ وَهُوَ ينفض الْخَيط من يَده، فَقَالُوا لَهُ: كل.
قَالَ: أطعموا قوما حَلَالا فَإنَّا حرم، قَالَ عَليّ: أنْشد الله من كَانَ هَهُنَا من أَشْجَع أتشهدون أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أهدي إِلَيْهِ رجل حمَار وَحش وَهُوَ محرم فَأبى أَن يَأْكُلهُ؟ قَالُوا: نعم) .
قَوْله: يضفز بالضاد وَالزَّاي المعجمتين بَينهمَا فَاء، يُقَال: ضفزت الْبَعِير إِذا أعلفته الضفائز، وَهِي اللقم الْكِبَار، واحدتها ضفيزة والضفيز شعير يجرش وتعلفه الْإِبِل.

وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ أَيْضا الطَّحَاوِيّ: حَدثنَا فَهد قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن عمرَان، قَالَ: حَدثنَا أبي قَالَ: حَدثنَا ابْن أبي ليلى عَن عبد الْكَرِيم عَن عبد الله بن الْحَارِث بن نَوْفَل عَن ابْن عَبَّاس (عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أُتِي بِلَحْم صيد وَهُوَ محرم، فَلم يَأْكُلهُ) .
قَالَ الطَّحَاوِيّ: وَلَيْسَ فِي هَذَا الحَدِيث ذكر عِلّة رده لحم الصَّيْد مَا هِيَ، فقد يحْتَمل ذَلِك لعِلَّة الْإِحْرَام، وَيحْتَمل أَن يكون لغير ذَلِك، فَلَا دلَالَة فِي هَذَا الحَدِيث لأحد.

وَقَالَ أبُو عَبْدِ الله شأوا مَرَّةً

أَبُو عبد الله هُوَ البُخَارِيّ نَفسه، وَأَشَارَ بِهَذَا إِلَى تَفْسِير شأوا فِي قَوْله: (أرفع فرسي شأوا وأسير شأوا) ، وَهُوَ بِمَعْنى مرّة.
كَمَا ذَكرْنَاهُ، وانتصابه فِي الْمَوْضِعَيْنِ على أَنه صفة لمصدر مَحْذُوف تَقْدِيره: رفعر شأوا أَو أَسِيرًا شأوا، وَلَيْسَ هَذَا التَّفْسِير بموجود فِي كثير من النّسخ.