فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب: لا يحل القتال بمكة

( بابُُ لَا يَحِلُّ الْقِتَالُ بِمَكَّةَ)

أَي: هَذَا بابُُ يذكر فِيهِ لَا يحل الْقِتَال بِمَكَّة أَي فِي مَكَّة.
قَوْله: ( الْقِتَال) ، هَكَذَا وَقع فِي لفظ الحَدِيث، وَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة مُسلم، وَوَقع فِي رِوَايَة أُخْرَى بِلَفْظ: ( الْقَتْل) ، وَالْفرق بَين الْقَتْل والقتال ظَاهر، أما الْقَتْل فَنقل بَعضهم الِاتِّفَاق على جَوَاز إِقَامَة حد الْقَتْل فِيهَا على من أوقعه فِيهَا، وَخص الْخلاف بِمن قتل فِي الْحل، ثمَّ لَجأ إِلَى الْحرم.
وَمِمَّنْ نقل الْإِجْمَاع على ذَلِك ابْن الْجَوْزِيّ، وَأما الْقِتَال فَقَالَ الْمَاوَرْدِيّ: من خَصَائِص مَكَّة أَن لَا يحارب أَهلهَا، فَلَو بغوا على أهل الْعدْل فَإِن أمكن ردهم بِغَيْر قتال لم يجز، وَإِن لم يُمكن إلاَّ بِالْقِتَالِ.
فَقَالَ الْجُمْهُور: يُقَاتلُون لِأَن قتال الْبُغَاة من حُقُوق الله تَعَالَى فَلَا يجوز إضاعتها،.

     وَقَالَ  آخَرُونَ: لَا يجوز قِتَالهمْ بل يضيق عَلَيْهِم إِلَى أَن يرجِعوا إِلَى الطَّاعَة.

وَقَالَ أبُو شُرَيْحٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لاَ يُسْفَكُ بِهَا دَما

أَبُو شُرَيْح: هُوَ الصَّحَابِيّ الْمَذْكُور فِي الْبابُُ الَّذِي قبل الْبابُُ السَّابِق، وَقد مضى فِيهِ هَذَا التَّعْلِيق مَوْصُولا.



[ قــ :1750 ... غــ :1834 ]
- حدَّثنا عُثْمَانُ بنُ أبِي شَيْبَةَ قَالَ حدَّثنا جَرِيرٌ عنْ مَنْصُورٍ عنْ مُجَاهِدٍ عنْ طَاوُوس عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْمَ افْتَتَحَ مَكَّةَ لاَ هِجْرَةَ ولَكنْ جِهَادً ونِيَّةٌ وإذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فانْفُرُوا فإنَّ هذَا بَلَدٌ حَرَّمَ الله يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ وهْوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ الله إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وإنَّهُ لَمْ يَحِلَّ القِتَالُ فِيهِ لأِحَدٍ قَبْلِي ولَمْ يَحِلَّ لِي إلاَّ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمةِ الله إلَى يَوْمِ القِيَامَةِ لاَ يُعْضَدُ شَوْكُهُ ولاَ يُنَفَّرُ صَيْدُهُ ولاَ يَلْتَقِطُ لُقَطَتَهُ إلاَّ مَنْ عَرَّفَهَا ولاَ يُخْتَلَى خَلاهَا.
قَالَ الْعَبَّاسُ يَا رسولَ الله إلاَّ الإذْخِرُ فإنَّهُ لِقَيُنِهِم ولِبُيُوتِهِمْ قَالَ إلاَّ الإذْخِرَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: ( فَهُوَ حرَام بِحرْمَة الله تَعَالَى إِلَى يَوْم الْقِيَامَة) وَعُثْمَان بن أبي شيبَة هُوَ عُثْمَان بن مُحَمَّد ابْن أبي شيبَة، واسْمه إِبْرَاهِيم بن عُثْمَان أَبُو الْحسن الْعَبْسِي الْكُوفِي وَهُوَ أَخُو أبي بكر عبد الله بن أبي شيبَة، مَاتَ فِي الْمحرم سنة تسع وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَهُوَ أكبر من أبي بكر بِثَلَاث سِنِين، وروى عَنهُ مُسلم أَيْضا.
وَجَرِير هُوَ ابْن عبد الحميد، وَمَنْصُور هُوَ ابْن الْمُعْتَمِر يروي عَن مُجَاهِد عَن طَاوُوس، كَذَا يرويهِ مَوْصُولا، وَخَالفهُ الْأَعْمَش فَرَوَاهُ عَن مُجَاهِد عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مُرْسلا، أخرجه سعيد بن مَنْصُور عَن أبي معمر عَنهُ، وَمَنْصُور ثِقَة حَافظ فَالْحكم لوصله.
.

والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْحَج وَفِي الْجِزْيَة: عَن عَليّ بن عبد الله، وَفِي الْجِهَاد: عَن آدم عَن شَيبَان وَعَن عَليّ بن عبد الله وَعَمْرو بن عَليّ، كِلَاهُمَا عَن يحيى.
وَأخرجه مُسلم فِي الْجِهَاد عَن يحيى بن يحيى وَفِيه وَفِي الْحَج عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم، وَفِيهِمَا أَيْضا عَن مُحَمَّد بن رَافع وَفِي الْجِهَاد أَيْضا عَن أبي بكر وَأبي كريب وَعَن عبد بن حميد.
وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْحَج وَالْجهَاد عَن عُثْمَان بِهِ مُنْقَطِعًا.
وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي السّير عَن أَحْمد بن عَبدة وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ وَفِي الْبيعَة عَن إِسْحَاق بن مَنْصُور فِي الْحَج عَن مُحَمَّد بن قدامَة وَعَن مُحَمَّد بن رَافع.

قَوْله: ( يَوْم افْتتح مَكَّة) مَنْصُوب لِأَنَّهُ ظرف: لقَالَ.
قَوْله: ( لَا هِجْرَة) ، أَي: بعد الْفَتْح، وَكَذَا جَاءَ عَن عَليّ بن الْمَدِينِيّ فِي رِوَايَته عَن جرير فِي كتاب الْجِهَاد وَالْهجْرَة من دَار الْحَرْب إِلَى دَار الْإِسْلَام: بَاقِيَة إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، وَلم تبقَ هِجْرَة من مَكَّة بعد أَن صَارَت دَار الْإِسْلَام، وَهَذَا يتَضَمَّن معْجزَة لرَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِأَنَّهَا تبقى دَار الْإِسْلَام لَا يتَصَوَّر مِنْهَا الْهِجْرَة.
قَوْله: ( وَلَكِن جِهَاد) ، أَي: لَكِن لكم طَرِيق إِلَى تحصل الْفَضَائِل الَّتِي فِي معنى الْهِجْرَة، وَذَلِكَ بِالْجِهَادِ وَنِيَّة الْخَيْر فِي كل شَيْء من لِقَاء رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَنَحْوه.
وارتفاع: جِهَاد، على الِابْتِدَاء وَخَبره مَحْذُوف مقدما، تَقْدِيره: لكم جِهَاد.
قَوْله: ( وَإِذا استنفرتم) أَي: إِذا دعَاكُمْ الإِمَام إِلَى الْخُرُوج إِلَى الْغَزْو فاخرجوا إِلَيْهِ،.

     وَقَالَ  الطَّيِّبِيّ: ( وَلَكِن جِهَاد) ، عطف على مَحل مَدْخُول: ( وَلَا هِجْرَة) أَي: الْهِجْرَة من الأوطان إِمَّا هِجْرَة الْفِرَار من الْكفَّار، وَإِمَّا إِلَى الْجِهَاد، وَإِمَّا إِلَى غير ذَلِك كَطَلَب الْعلم، وانقطعت الأولى وَبقيت الأخريان فاغتنموهما وَلَا تقاعدوا عَنْهُمَا، وَإِذا استنفرتم فانفروا.
قَوْله: ( فَإِن هَذَا بلد) الْفَاء فِيهِ جَوَاب شَرط مَحْذُوف تَقْدِيره: إِذا علمْتُم ذَلِك فاعلموا أَن هَذَا بلد حرَام.
قَوْله: ( حرم الله) كَذَا هُوَ فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: ( حرمه الله) بِالْهَاءِ، قَوْله: ( بِحرْمَة الله) ، أَي: بِتَحْرِيمِهِ، وَهَذَا تَأْكِيد للتَّحْرِيم.
قَوْله: ( وَإنَّهُ) أَي: إِن الشَّأْن ( لم يحل الْقِتَال فِيهِ) هَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة الْكشميهني بِلَفْظ: ( لم يحل) ، وَفِي رِوَايَة غَيره: ( لَا يحل) ، بِلَفْظ: لَا، وَالْأول أشبه.
لقَوْله: ( قبلي) .
قَوْله: ( وَلَا يلتقط) ، على صِيغَة الْمَعْلُوم وفاعله هُوَ قَوْله: ( من عرفهَا) .
قَوْله: ( خَلاهَا) بِالْقصرِ كَمَا ذكرنَا، وَذكر ابْن التِّين أَنه وَقع فِي رِوَايَة الْقَابِسِيّ بِالْمدِّ، وَهُوَ: الرطب من النَّبَات، واختلاؤه وقطعه واحتشاشه، وَتَخْصِيص التَّحْرِيم بالرطب إِشَارَة إِلَى جَوَاز رعي الْيَابِس واختلائه، وَهُوَ أصح الْوَجْهَيْنِ للشَّافِعِيَّة، لِأَن النبت الْيَابِس كالصيد الْمَيِّت.
.

     وَقَالَ  ابْن قدامَة: لَكِن فِي اسْتثِْنَاء الْإِذْخر إِشَارَة إِلَى تَحْرِيم الْيَابِس من الْحَشِيش، وَيدل عَلَيْهِ أَن فِي بعض طرق حَدِيث أبي هُرَيْرَة: ( وَلَا يحتش حشيشها) .
قَوْله: ( قَالَ الْعَبَّاس) ، هُوَ ابْن عبد الْمطلب، كَمَا وَقع كَذَلِك فِي المغاوي من وَجه آخر.
قَوْله: ( إلاَّ الْإِذْخر) ، قد ذكرنَا أَنه اسْتثِْنَاء تلقيني وَالِاسْتِثْنَاء التلقيني هُوَ أَن الْعَبَّاس لم يرد بِهِ أَن يَسْتَثْنِي هُوَ بِنَفسِهِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ أَن يلقن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِالِاسْتِثْنَاءِ، وَاسْتدلَّ بِهِ بَعضهم على جَوَاز الْفَصْل بَين الْمُسْتَثْنى والمستثنى مِنْهُ، وَمذهب الْجُمْهُور اشْتِرَاط الِاتِّصَال إِمَّا لفظا وَإِمَّا حكما كجواز الْفَصْل بالتنفس مثلا، وَقد اشْتهر عَن ابْن عَبَّاس الْجَوَاز مُطلقًا، وَاحْتج لَهُ بِظَاهِر هَذِه القة.
وَأجَاب الْجُمْهُور عَنهُ بِأَن هَذَا الِاسْتِثْنَاء فِي حكم الْمُتَّصِل لاحْتِمَال أَن يكون النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَرَادَ أَن يَقُول: إلاَّ الْإِذْخر، فَشَغلهُ الْعَبَّاس بِكَلَامِهِ، فوصل كَلَامه بِكَلَام نَفسه، فَقَالَ: إلاَّ الْإِذْخر، وَقد قَالَ مَالك: يجوز الْفَصْل مَعَ إِضْمَار الِاسْتِثْنَاء مُتَّصِلا بالمستثنى مِنْهُ.
فَإِن قلت: هَل كَانَ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ( إلاَّ الْإِذْخر؟) بِاجْتِهَاد أَو وَحي؟ قلت: اخْتلفُوا فِيهِ فَقيل: أوحى الله قبل ذَلِك أَنه إِن طلب أحد اسْتثِْنَاء شَيْء من ذَلِك فأجب سُؤَاله، وَقيل: كَانَ الله تَعَالَى فوض لَهُ الحكم فِي هَذِه الْمَسْأَلَة مُطلقًا.
وَحكى ابْن بطال عَن الْمُهلب: أَن الِاسْتِثْنَاء هُنَا للضَّرُورَة كتحليل أكل الْميتَة عِنْد الضَّرُورَة، وَقد بَين الْعَبَّاس ذَلِك بِأَن الْإِذْخر لَا غنى لأهل مَكَّة عَنهُ، ورد عَلَيْهِ بِأَن الَّذِي يُبَاح للضَّرُورَة يشْتَرط حُصُولهَا فِيهِ، فَلَو كَانَ الْإِذْخر مثل الْميتَة لامتنع اسْتِعْمَاله إلاَّ فِيمَن تحققت ضَرُورَته فِيهِ، وَالْإِجْمَاع على أَنه مُبَاح مُطلقًا بِغَيْر قيد الضَّرُورَة، وَقيل: الْحق أَن سُؤال الْعَبَّاس كَانَ على معنى الضراعة وترخيص النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ تبليغا عَن الله تَعَالَى، إِمَّا بطرِيق الإلهام أَو بطرِيق الْوَحْي، وَمن ادّعى أَن نزُول الْوَحْي يحْتَاج إِلَى أمد متسع فقد وهم، وَيجوز فِي الْإِذْخر الرّفْع على أَنه بدل مِمَّا قبله، وَيجوز النصب لكَونه اسْتثِْنَاء وَقع بعد النَّهْي،.

     وَقَالَ  ابْن مَالك: وَالْمُخْتَار النصب لكَون الِاسْتِثْنَاء وَقع متراخيا عَن الْمُسْتَثْنى مِنْهُ، فبعدت المشاكلة بالبدلية، لكَون الِاسْتِثْنَاء أَيْضا عرض فِي آخر الْكَلَام، وَلم يكن مَقْصُودا.
قَوْله: ( فَإِنَّهُ) أَي: فَإِن الْإِذْخر.
قَوْله: ( لِقَيْنِهِم) ، بِفَتْح الْقَاف وَسُكُون الْيَاء فِي آخر الْحُرُوف بعْدهَا نون، وَهُوَ الْحداد.
.

     وَقَالَ  الطَّبَرِيّ: الْقَيْن عِنْد الْعَرَب كل ذِي صناعَة يعالجها بِنَفسِهِ.
قَوْله: ( ولبيوتهم) يَعْنِي: لسقوف بُيُوتهم حَيْثُ يجعلونه فَوق الْخشب،.

     وَقَالَ  التَّيْمِيّ: مَعْنَاهُ يوقدونه فِي بُيُوتهم، وَفِي رِوَايَة الْمَغَازِي: ( فَإِنَّهُ لَا بُد مِنْهُ للقين والبيوت) ، وَفِي الرِّوَايَة الْمَاضِيَة: ( فَإِنَّهُ لصاغتنا وَقُبُورنَا) .
وَوَقع فِي مُرْسل مُجَاهِد عِنْد عمر بن شبة الْجمع بَين الثَّلَاثَة، وَوَقع عِنْده أَيْضا، ( فَقَالَ الْعَبَّاس: يَا رَسُول الله! إِن أهل مَكَّة لَا صَبر لَهُم عَن الْإِذْخر لِقَيْنِهِم وَبُيُوتهمْ) .

وَمن فَوَائِد هَذَا الحَدِيث: جَوَاز مُرَاجعَة الْعَالم فِي الْمصَالح الشَّرْعِيَّة والمبادرة إِلَى ذَلِك فِي المجامع والمشاهد.
وَمِنْهَا: عظم منزلَة الْعَبَّاس عِنْد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
وَمِنْهَا عنايته بِأَمْر مَكَّة لكَونه كَانَ مِنْهَا أَصله ومنشؤه.
وَمِنْهَا: رفع وجوب الْهِجْرَة عَن مَكَّة إِلَى الْمَدِينَة وإبقاء حكمهَا من بِلَاد الْكفْر إِلَى يَوْم الْقِيَامَة.
وَمِنْهَا: أَنه يشْتَرط الْإِخْلَاص للْجِهَاد وَلكُل نِيَّة فِيهَا خير، وَالله أعلم.