فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب حرم المدينة

( كتاب فَضَائِل الْمَدِينَة)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان فَضَائِل مَدِينَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَن الْمَدِينَة إِذا أطلقت يتَبَادَر إِلَى الْفَهم أَنَّهَا الْمَدِينَة الَّتِي هَاجر إِلَيْهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَدفن بهَا، وَإِذا أُرِيد غَيرهَا فَلَا بُد من قيد للتمييز، وَذَلِكَ كالبيت إِذا أطلق يُرَاد بِهِ الْكَعْبَة، والنجم إِذا أطلق يُرَاد بِهِ الثريا، واشتقاقها من مَدَنَ بِالْمَكَانِ إِذا أَقَامَ بِهِ، وَهِي فِي مستوٍ من الأَرْض لَهَا نخيل كثير وَالْغَالِب على أرْضهَا السباخ، وَعَلَيْهَا سور من لبن وَكَانَ اسْمهَا قبل ذَلِك: يثرب، قَالَ الله تَعَالَى: { وَإِذ قَالَت طَائِفَة مِنْهُم يَا أهل يثرب} ( الْأَحْزَاب: 31) .
ويثرب اسْم لموْضِع مِنْهَا سميت كلهَا بِهِ، وَقيل: سميت بِيَثْرِب بن قانية من ولد إرم بن سَام بن نوح، لِأَنَّهُ أول من نزلها، حَكَاهُ أَبُو عبيد الْبكْرِيّ،.

     وَقَالَ  هِشَام بن الْكَلْبِيّ: لما أهلك الله قوم عَاد تَفَرَّقت الْقَبَائِل، فَنزل قوم بِمَكَّة وَقوم بِالطَّائِف وَسَار يثرب بن هُذَيْل بن إرم وَقَومه فنزلوا مَوضِع الْمَدِينَة، فَاسْتَخْرَجُوا الْعُيُون وغرسوا النخيل وَأَقَامُوا زَمَانا فأفسدوا فأهلكهم الله تَعَالَى، ويبست النخيل وَغَارَتْ الْعُيُون حَتَّى مر بهَا تبع فبناها، وَاخْتلفُوا فِيهَا، فَمنهمْ من يَقُول: إِنَّهَا من بِلَاد الْيمن، وَمِنْهُم من يَقُول: إِنَّهَا من بِلَاد الشَّام، وَقيل: إِنَّهَا عراقية، وَبَينهَا وَبَين الْعرَاق أَرْبَعُونَ يَوْمًا، وَالأَصَح أَنَّهَا من بِلَاد الْيمن، وَذَلِكَ لِأَنَّهَا بناها تبع الْأَكْبَر حِين بشر بمبعث النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأخْبر أَنه إِنَّمَا يكون فِي مَدِينَة يثرب، وَكَانَت يثرب يَوْمئِذٍ صحراء فبناها لأجل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكتب بذلك عهدا.
.

     وَقَالَ  ابْن إِسْحَاق: لما نزل تبع الْمَدِينَة نزل بوادي قناة وحفر فِيهِ بِئْرا فَهِيَ إِلَى الْيَوْم تدعى ببئر الْملك، وَذكر أَيْضا أَن الدَّار الَّتِي نزلها رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هِيَ الدَّار الَّتِي بناها تبع لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،.

     وَقَالَ : وَمن يَوْم مَاتَ تبع إِلَى مولد نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ألف سنة،.

     وَقَالَ  الثَّعْلَبِيّ بِإِسْنَادِهِ إِلَى سهل بن سعد، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: سَمِعت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: لَا تسبوا تبعا فَإِنَّهُ كَانَ قد أسلم، وَيُقَال: كَانَ سكان الْمَدِينَة العماليق، ثمَّ نزلها طَائِفَة من بني إِسْرَائِيل قيل: أرسلهم مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَام، كَمَا ذكره الزبير بن بكار، ثمَّ نزلها الْأَوْس والخزرج لما تفرق أهل سبأ بِسَبَب سيل العرم، والأوس والخزرج أَخَوان، وأمهما: قيلة بنت الأرقم بن عَمْرو بن جَفْنَة، وهما الْأَنْصَار، مِنْهُم الأوسيون وَمِنْهُم الخزرجيون، وَقد ذكرنَا أَن اسْم الْمَدِينَة كَانَ يثرب، فسماها النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: طيبَة وطابة، وَمن أسمائها: الْعَذْرَاء، وجابرة، ومجبورة، والمحبة، والمحبوبة، والقاصمة، قصمت الْجَبَابِرَة.
وَلم تزل عزيزة فِي الْجَاهِلِيَّة، وأعمها الله بمهاجرة رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فمنعت على الْمُلُوك من التبابعة وَغَيرهم.


( بابُُ حَرَمِ المَدِينَةِ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان فضل حرم الْمَدِينَة، وَفِي بعض النّسخ: بابُُ مَا جَاءَ فِي حرم الْمَدِينَة، وَهُوَ رِوَايَة أبي عَليّ الشبوي، وَلم يذكر فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين إلاَّ بابُُ حرم الْمَدِينَة لَيْسَ إلاَّ، وَوَقع فِي رِوَايَة أبي ذَر: بابُُ فَضَائِل الْمَدِينَة، ثمَّ: بابُُ حرم الْمَدِينَة، وَالْحرم وَالْحرَام وَاحِد، كزمن وزمان، وَالْحرَام: الْمَمْنُوع مِنْهُ إِمَّا بتسخير إلاهي، إو بِمَنْع شَرْعِي.
أَو بِمَنْع من جِهَة الْعقل، أَو من جِهَة من يرتسم أمره، وَسمي الْحرم حرما لتَحْرِيم كثير فِيهِ مِمَّا لَيْسَ بِمحرم فِي غَيره من الْمَوَاضِع، وَمِنْه الشَّهْر الْحَرَام وَهُوَ مَأْخُوذ من الْحُرْمَة، وَهُوَ مَا لَا يحل انتهاكه.



[ قــ :1781 ... غــ :1867 ]
- حدَّثنا أبُو النُّعْمَانِ قَالَ حدَّثنا ثابِتُ بنُ يَزِيدَ قَالَ حَدثنَا عاصمٌ أبُو عَبدِ الرَّحْمانِ الأحْوَلُ عنْ أنَسٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ المَدِينَةُ حَرَمٌ مِنْ كَذَا إلَى كَذَا لاَ يُقْطَعُ شَجَرُهَا ولاَ يُحْدَثُ فِيها حَدَثٌ مَنْ أحْدَثَ فِيهَا حَدثا فعَلَيْهِ لَعْنَةُ الله والمَلاَئِكَةِ والنَّاسِ أجْمَعِينَ.

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: ( الْمَدِينَة حرم من كَذَا إِلَى كَذَا) .

ذكر رِجَاله: وهم أَرْبَعَة: الأول: أَبُو النُّعْمَان مُحَمَّد بن الْفضل السدُوسِي.
الثَّانِي: ثَابت، بالثاء الْمُثَلَّثَة فِي أَوله: ابْن يزِيد من الزِّيَادَة مر فِي: بابُُ ميمنة الْمَسْجِد.
الثَّالِث: عَاصِم بن سُلَيْمَان الْأَحول، أَبُو عبد الله، وَيُقَال: أَبُو عبد الرَّحْمَن، وَقد مر فِي: بابُُ الْأَذَان.
الرَّابِع: أنس بن مَالك، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.

ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع.
وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين.
وَفِيه: أَن رُوَاته كلهم بصريون.
وَفِيه: أَن ثَابتا يُقَال لَهُ الْأَحول، وَكَذَلِكَ عَاصِم بن سُلَيْمَان الْأَحول.
وَفِيه: عَن أنس وَفِي رِوَايَة عبد الْوَاحِد عَن عَاصِم: قلت لأنس، وَفِي الِاعْتِصَام: سَأَلت أنسا، وَكَذَلِكَ فِي رِوَايَة مُسلم.
وَفِيه: أَنه من الرباعيات.

والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الِاعْتِصَام عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل عَن عبد الْوَاحِد بن زِيَاد، وَأخرجه مُسلم فِي الْمَنَاسِك عَن عَامر بن عمر وَعَن زُهَيْر بن حَرْب.

ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: ( الْمَدِينَة حرم) ، أَي: مُحرمَة لَا تنتهك حرمتهَا.
قَوْله: ( من كَذَا إِلَى كَذَا) ، هَكَذَا جَاءَ من غير بَيَان، وَسَيَأْتِي فِي هَذَا الْبابُُ عَن عَليّ: مَا بَين عائر إِلَى كَذَا، وَذكره فِي الْجِزْيَة وَغَيرهَا بِلَفْظ: عير وَهُوَ جبل بِالْمَدِينَةِ.
.

     وَقَالَ  ابْن الْمُنِير: قَوْله: من غير إِلَى كَذَا، سكت عَن النِّهَايَة، وَقد جَاءَ فِي طَرِيق آخر: ( مَا بَين عير إِلَى ثَوْر) .
.

     وَقَالَ : وَالظَّاهِر أَن البُخَارِيّ أسقطها عمدا لِأَن أهل الْمَدِينَة يُنكرُونَ أَن يكون بهَا جبل يُسمى ثورا، وَإِنَّمَا ثَوْر بِمَكَّة، فَلَمَّا تحقق عِنْد البُخَارِيّ أَنه وهم أسْقطه، وَذكر بَقِيَّة الحَدِيث، وَهُوَ مُقَيّد يَعْنِي بقوله: ( من عير إِلَى كَذَا) ، إِذْ الْبدَاءَة يتَعَلَّق بهَا حكم فَلَا يتْرك لإشكال سنح فِي حكم النِّهَايَة.
انْتهى.
وَقد أنكر مُصعب الزُّهْرِيّ وَغَيره هَاتين الْكَلِمَتَيْنِ أَعنِي: عيرًا وثورا، وَقَالُوا: لَيْسَ بِالْمَدِينَةِ عير وَلَا ثَوْر،.

     وَقَالَ  مُصعب: عير بِمَكَّة، وَمِنْهُم من ترك مَكَانَهُ بَيَاضًا إِذا اعتقدوا الْخَطَأ فِي ذكره،.

     وَقَالَ  أَبُو عبيد: كَانَ الحَدِيث: من غير إِلَى أحد.
قلت: اتّفقت رِوَايَات البُخَارِيّ كلهَا على إِبْهَام الثَّانِي، وَوَقع عِنْد مُسلم: إِلَى ثَوْر،.

     وَقَالَ  أَبُو عبيد.
قَوْله: ( مَا بَين عير إِلَى ثَوْر) ، هَذِه رِوَايَة أهل الْعرَاق، وَأما أهل الْمَدِينَة فَلَا يعْرفُونَ جبلا عِنْدهم يُقَال لَهُ ثَوْر، وَإِنَّمَا ثَوْر بِمَكَّة، ونرى أَن أصل الحَدِيث: مَا بَين عير إِلَى أحد، وَقد وَقع ذَلِك فِي حَدِيث عبد الله بن سَلام عِنْد أَحْمد وَالطَّبَرَانِيّ،.

     وَقَالَ  عِيَاض: لَا معنى لإنكار عير بِالْمَدِينَةِ، فَإِنَّهُ مَعْرُوف.
وَفِي ( الْمُحكم) و ( المثلث) : عير إسم جبل بِقرب الْمَدِينَة مَعْرُوف،.

     وَقَالَ  الْمُحب الطَّبَرِيّ فِي ( الْأَحْكَام) .
بعد حِكَايَة كَلَام أبي عبيد وَمن تبعه: قد أَخْبرنِي الثِّقَة الْعَالم أَبُو مُحَمَّد عبد السَّلَام الْبَصْرِيّ أَن حذاء أحد عَن يسَاره جانحا إِلَى وَرَائه جبل صَغِير يُقَال لَهُ ثَوْر، وَأخْبر أَنه تكَرر سُؤَاله عَنهُ لطوائف من الْعَرَب العارفين بِتِلْكَ الأَرْض وَمَا فِيهَا من الْجبَال، فَكل أخبر أَن ذَلِك الْجَبَل اسْمه ثَوْر، وتواردوا على ذَلِك، قَالَ: فَعلمنَا أَن ذكر ثَوْر فِي الحَدِيث صَحِيح، وَأَن عدم علم أكَابِر الْعلمَاء بِهِ لعدم شهرته وَعدم بحثهم عَنهُ، وَذكر الشَّيْخ قطب الدّين الْحلَبِي، رَحمَه الله، فِي ( شَرحه) : حكى لنا شَيخنَا الإِمَام أَبُو مُحَمَّد عبد السَّلَام بن مزروع الْبَصْرِيّ، أَنه خرج رَسُولا إِلَى الْعرَاق، فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَة كَانَ مَعَه دَلِيل فَكَانَ يذكر لَهُ الْأَمَاكِن وَالْجِبَال، قَالَ: فَلَمَّا وصلنا إِلَى أحد إِذا بِقُرْبِهِ جبيل صَغِير، فَسَأَلته عَنهُ، فَقَالَ: هَذَا يُسمى ثورا.
قَالَ: فَعلمت صِحَة الرِّوَايَة،.

     وَقَالَ  ابْن قدامَة: يحْتَمل أَن يكون مُرَاد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِقْدَار مَا بَين عير وثور، لَا أَنَّهُمَا بعينهما فِي الْمَدِينَة، أَو سمى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الجبلين اللَّذين نظر فِي الْمَدِينَة عيرًا وثورا تحوزا وارتجالاً.
قلت: العير، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف.
وثور، بِفَتْح الثَّاء الْمُثَلَّثَة وَسُكُون الْوَاو، ويروى مَا بَين: عائر إِلَى كَذَا، بِأَلف بعد الْعين.
قَوْله: ( لَا يقطع شَجَرهَا) ، وَفِي رِوَايَة يزِيد بن هَارُون: ( لَا يخْتَلى خَلاهَا) ، وَفِي حَدِيث جَابر عِنْد مُسلم: ( لَا يقطع عضاهها وَلَا يصاد صيدها) .
قَوْله: ( وَلَا يحدث) بِلَفْظ الْمَعْلُوم والمجهول: أَي: لَا يعْمل فِيهَا عمل مُخَالف للْكتاب وَالسّنة، وَزَاد شُعْبَة فِيهِ عَن عَاصِم عِنْد أبي عوَانَة: ( أَو آوى مُحدثا) .
وَهَذِه الزِّيَادَة صَحِيحَة إلاَّ أَن عَاصِمًا لم يسْمعهَا من أنس.
قَوْله: ( حَدثا) هُوَ الْأَمر الْحَادِث الْمُنكر الَّذِي لَيْسَ بمعتاد وَلَا مَعْرُوف فِي السّنة، والمحدث يرْوى بِكَسْر الدَّال وَفتحهَا على الْفَاعِل وَالْمَفْعُول، فَمَعْنَى الْكسر من: نصر جانيا وآوه وَأَجَارَهُ من خَصمه وَحَال بَينه وَبَين أَن يقْتَصّ مِنْهُ، وَالْفَتْح هُوَ الْأَمر المبتدع نَفسه.
قَوْله: ( فَعَلَيهِ لعنة الله.
.
)
إِلَى آخِره، هَذَا وَعِيد شَدِيد لمن ارْتكب هَذَا، قَالُوا: المُرَاد باللعن هُنَا الْعَذَاب الَّذِي يسْتَحقّهُ على ذَنبه والطرد عَن الْجنَّة، لِأَن اللَّعْن فِي اللُّغَة هُوَ الطّرق والإبعاد، وَلَيْسَ هِيَ كلعنة الْكفَّار الَّذين يبعدون من رَحْمَة الله تَعَالَى كل الإبعاد.

ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: احْتج بِهَذَا الحَدِيث مُحَمَّد بن أبي ذِئْب وَالزهْرِيّ وَالشَّافِعِيّ وَمَالك وَأحمد وَإِسْحَاق، وَقَالُوا: الْمَدِينَة لَهَا حرم فَلَا يجوز قطع شَجَرهَا وَلَا أَخذ صيدها، وَلكنه لَا يجب الْجَزَاء فِيهِ عِنْدهم، خلافًا لِابْنِ أبي ذِئْب، فَإِنَّهُ قَالَ: يجب الْجَزَاء، وَكَذَلِكَ لَا يحل سلب من يفعل ذَلِك عِنْدهم إلاَّ الشَّافِعِي،.

     وَقَالَ  فِي الْقَدِيم: من اصطاد فِي الْمَدِينَة صيدا أَخذ سلب، ويروي فِيهِ أثرا عَن سعيد،.

     وَقَالَ  فِي الْجَدِيد بِخِلَافِهِ،.

     وَقَالَ  ابْن نَافِع: سُئِلَ مَالك عَن قطع سدر الْمَدِينَة وَمَا جَاءَ فِيهِ من النَّهْي؟ فَقَالَ: إِنَّمَا نهى عَن قطع سدر الْمَدِينَة لِئَلَّا توحش وليبقى فِيهَا شَجَرهَا ويستأنس بذلك ويستظل بِهِ من هَاجر إِلَيْهَا.
.

     وَقَالَ  ابْن حزم: من احتطب فِي حرم الْمَدِينَة فحلال سلبه كل مَا مَعَه فِي حَاله تِلْكَ، وتجريده إلاَّ مَا يستر عَوْرَته فَقَط، لما روى مُسلم: حَدثنَا إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَعبد بن حميد جَمِيعًا عَن الْعَقدي قَالَ عبد: أخبرنَا عبد الْملك بن عمر،.

     وَقَالَ : حَدثنَا عبد الله بن جَعْفَر عَن إِسْمَاعِيل بن مُحَمَّد عَن عَامر بن سعد أَن سَعْدا ركب إِلَى قصره بالعقيق، فَوجدَ عبدا يقطع شَجرا ويخبطه، فسلبه، فَلَمَّا رَجَعَ سعد جَاءَهُ أهل العَبْد فكلموه أَن يرد على غلامهم أَو عَلَيْهِم مَا أَخذ من غلامهم، فَقَالَ: معَاذ الله أَن أرد شَيْئا نفلنيه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وأبى أَن يردهُ عَلَيْهِم،.

     وَقَالَ  الثَّوْريّ وَعبد الله بن الْمُبَارك وَأَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمّد: لَيْسَ للمدينة حرم كَمَا كَانَ لمَكَّة، فَلَا يمْنَع أحد من أَخذ صيدها وَقطع شَجَرهَا، وَأَجَابُوا عَن الحَدِيث الْمَذْكُور بِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّمَا قَالَ ذَلِك لَا لِأَنَّهُ لما ذَكرُوهُ من تَحْرِيم صيد الْمَدِينَة وشجرها، بل إِنَّمَا أَرَادَ بذلك بَقَاء زِينَة الْمَدِينَة ليستطيبوها ويألفوها، كَمَا ذكرنَا عَن قريب عَن ابْن نَافِع: سُئِلَ مَالك عَن قطع سدر الْمَدِينَة إِلَى آخِره، وَذَلِكَ كمنعه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من هدم آطام الْمَدِينَة.
.

     وَقَالَ : إِنَّهَا زِينَة الْمَدِينَة على مَا رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ، عَن عَليّ بن عبد الرَّحْمَن، قَالَ: حَدثنَا يحيى بن معِين، قَالَ: حَدثنَا وهب بن جرير عَن الْعمريّ عَن نَافِع عَن ابْن عمر، قَالَ: ( نهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن آطام الْمَدِينَة أَن تهدم) .
وَفِي رِوَايَة: ( لَا تهدموا الْآطَام فَإِنَّهَا زِينَة الْمَدِينَة) .
وَهَذَا إِسْنَاد صَحِيح، وَرَوَاهُ الْبَزَّار فِي ( مُسْنده) والآطام جمع أَطَم، بِضَم الْهمزَة والطاء، وَهُوَ بِنَاء مُرْتَفع، وَأَرَادَ بآطام الْمَدِينَة أبنيتها المرتفعة كالحصون، ثمَّ ذكر الطَّحَاوِيّ دَلِيلا على ذَلِك من حَدِيث حميد الطَّوِيل عَن أنس، قَالَ: ( كَانَ لآل أبي طَلْحَة ابْن من أم سليم يُقَال لَهُ: أَبُو عُمَيْر، وَكَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يضاحكه إِذا دخل، وَكَانَ لَهُ نغير، فَدخل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَرَأى أَبَا عُمَيْر حَزينًا فَقَالَ: مَا شَأْن أبي عُمَيْر؟ فَقيل: يَا رَسُول الله { مَاتَ نغيره.
فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: يَا أَبَا عُمَيْر}
مَا فعل النغير؟)
.
وَأخرجه من أَربع طرق.
وَأخرجه مُسلم أَيْضا: حَدثنَا شَيبَان بن فروخ، قَالَ: حَدثنَا عبد الْوَارِث عَن أبي التياح ( عَن أنس بن مَالك قَالَ: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أحسن النَّاس خلقا، وَكَانَ لي أَخ يُقَال لَهُ أَبُو عُمَيْر، قَالَ: وَأَحْسبهُ قَالَ: فطيما، قَالَ: فَكَانَ إِذا جَاءَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَرَآهُ قَالَ: أَبَا عُمَيْر مَا فعل النغير؟ قَالَ: فَكَانَ يلْعَب بِهِ) .
وَأخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا فِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة، وَالْبَزَّار فِي ( مُسْنده) .
وَاسم أبي طَلْحَة زيد بن أبي سهل الْأنْصَارِيّ وَأم سليم بنت ملْحَان أم أنس بن مَالك، وَاسْمهَا سهلة أَو رميلة أَو مليكَة.
ونغير، بِضَم النُّون وَفتح الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره رَاء: مصغر نغر، وَهُوَ طَائِر يشبه العصفور أَحْمَر المنقار، وَيجمع على: نغران، قَالَ الطَّحَاوِيّ: فَهَذَا قد كَانَ بِالْمَدِينَةِ وَلَو كَانَ حكم صيدها كَحكم صيد مَكَّة إِذا لما أطلق لَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حبس النغير وَلَا اللّعب بِهِ كَمَا لَا يُطلق ذَلِك بِمَكَّة،.

     وَقَالَ  بَعضهم: احْتج الطَّحَاوِيّ بِحَدِيث أنس فِي قصَّة أبي عُمَيْر.
وَنقل عَنهُ مَا ذَكرْنَاهُ، ثمَّ قَالَ: وَأجِيب: بِاحْتِمَال أَن يكون من صيد الْحل، انْتهى.

قلت: لَا تقوم الْحجَّة بِالِاحْتِمَالِ الَّذِي لَا ينشأ عَن دَلِيل، واعترضوا أَيْضا بِأَنَّهُ يجوز أَن يكون من صيد الْحل ثمَّ أدخلهُ الْمَدِينَة، وردَّ بِأَن صيد الْحل إِذا أَدخل الْحرم يجب عَلَيْهِ إرْسَاله فَلَا يرد علينا، ثمَّ قَالَ الطَّحَاوِيّ، فَقَالَ قَائِل: فقد يجوز أَن يكون هَذَا الحَدِيث بقناة، وَذَلِكَ الْموضع غير مَوضِع الْحرم فَلَا حجَّة لكم فِي هَذَا الحَدِيث، فَنَظَرْنَا هَل نجد مِمَّا سوى هَذَا الحَدِيث مَا يدل على شَيْء من حكم صيد الْمَدِينَة؟ فَإِذا عبد الرَّحْمَن بن عَمْرو الدِّمَشْقِي وفهد قد حدثانا، قَالَا: حَدثنَا أَبُو نعيم، قَالَ: حَدثنَا يُونُس بن أبي إِسْحَاق ( عَن مُجَاهِد، قَالَ: قَالَت عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا: كَانَ لآل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَحش فَإِذا خرج لعب وَاشْتَدَّ وَأَقْبل وَأدبر، فَإِذا أحس برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد دخل ربض فَلم يترمرم كَرَاهَة أَن يُؤْذِيه) .
فَهَذَا بِالْمَدِينَةِ فِي مَوضِع قد دخل فِيمَا حرم مِنْهَا، وَقد كَانُوا يؤوون فِيهِ الوحوش ويتخذونها ويغلقون دونهَا الْأَبْوَاب، وَقد دلّ هَذَا أَيْضا على أَن حكم الْمَدِينَة فِي ذَلِك بِخِلَاف حكم صلَة قلت: وَإِسْنَاده صَحِيح وَأخرجه أَحْمد أَيْضا فِي مُسْند والوحش أحد الوحوش وَهِي حَيَوَان الْبر.
قَوْله ( ربض) من الربوض وربوض الْغنم وَالْبَقر وَالْفرس وَالْكَلب كبروك الْجمل وحشوم الطير.
قَوْله: ( لم يترمرم) ، من ترمرم إِذا حرك فَاه للْكَلَام، وَهِي بالراءين الْمُهْمَلَتَيْنِ.

وروى الطَّحَاوِيّ أَيْضا من حَدِيث أبي سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن ( عَن سَلمَة بن الْأَكْوَع أَنه كَانَ يصيد وَيَأْتِي النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، من صَيْده فَأَبْطَأَ عَلَيْهِ ثمَّ جَاءَ، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: مَا الَّذِي حَبسك؟ فَقَالَ: يَا رَسُول الله انْتَفَى عَنَّا الصَّيْد فصرنا نصيد مَا بَين تيت إِلَى قناة، فَقَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أما أَنَّك لَو كنت تصيد بالعقيق لشيَّعتُك، إِذا ذهبت.
وتلقَيْتُك إِذا جِئْت، فَإِنِّي أحب العقيق)
.
وَأخرجه من ثَلَاث طرق وَأخرجه من ثَلَاث طرق وَأخرجه الطَّبَرَانِيّ أَيْضا، ثمَّ قَالَ الطَّحَاوِيّ: فَفِي هَذَا الحَدِيث مَا يدل على إِبَاحَة صيد الْمَدِينَة، أَلا ترى أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد دلّ سَلمَة وهوبها على مَوضِع الصَّيْد وَذَلِكَ لَا يحل بِمَكَّة، فَثَبت أَن حكم صيد الْمَدِينَة خلاف حكم صيد مَكَّة.
قَوْله: ( تيت) ، بِكَسْر التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره تَاء مثناة أُخْرَى، وَيُقَال: تيَّت، على وزن سيد،.

     وَقَالَ  الصَّاغَانِي: هُوَ جبل قرب الْمَدِينَة على بريد مِنْهَا.

وَأما الْجَواب عَن حَدِيث سعد بن أبي وَقاص فِي أَمر السَّلب فَهُوَ أَنه كَانَ فِي وَقت مَا كَانَت الْعُقُوبَات الَّتِي تجب بِالْمَعَاصِي فِي الْأَمْوَال، فَمن ذَلِك مَا رُوِيَ عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي الزَّكَاة أَنه قَالَ: من أَدَّاهَا طَائِعا لَهُ أجرهَا وَمن لَا، أخذناها مِنْهُ وَشطر مَاله، ثمَّ نسخ ذَلِك فِي وَقت نسخ الرِّبا،.

     وَقَالَ  ابْن بطال: حَدِيث سعد بن أبي وَقاص فِي السَّلب لم يَصح عِنْد مَالك، وَلَا رأى الْعَمَل عَلَيْهِ بِالْمَدِينَةِ.

وَمن فَوَائِد الحَدِيث مَا قَالَه القَاضِي عِيَاض فَإِنَّهُم استدلوا بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ( لعنة الله) ، على أَن ذَلِك من الْكَبَائِر، لِأَن اللَّعْنَة لَا تكون إلاَّ فِي كَبِيرَة.
وَفِيه: أَن الْمُحدث والمروي لَهُ فِي الْإِثْم سَوَاء.





[ قــ :178 ... غــ :1868 ]
- حدَّثنا أبُو مَعْمَرٍ قَالَ حدَّثنا عَبْدُ الوَارِثِ عنْ أبي التَّيَّاحِ عنْ أنَسٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ قَدِمَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم المَدِينَةَ وأمَرَ بِبِنَاءِ المَسْجِدِ فَقَالَ يَا بِنِي النَّجَّارِ ثامِنُونِي فقالُوا لاَ نَطْلُبُ ثَمَنَهُ ألاَّ إِلَى الله فأمرَ بِقُبُورِ الْمُشْرِكينَ فَنُبِشَتْ ثُمَّ بالخِرَبِ فَسُوِّيَتْ وبالنَّخْلِ فقُطِعَ فصَفُّوا النَّخْلَ قِبْلَةَ الْمَسْجِدِ..
قيل: لَا مُنَاسبَة فِي إِيرَاد هَذَا الحَدِيث فِي هَذَا الْبابُُ.
قلت: لَهُ مُنَاسبَة جَيِّدَة ومطابقته وَاضِحَة بَينه وَبَين التَّرْجَمَة، بَيَانه أَن فِي الحَدِيث السَّابِق: لَا يقطع شَجَرهَا.
وَفِي هَذَا الحَدِيث وبالنخل، فَقطع، فَدلَّ على أَن شجر الْمَدِينَة لم يكن مثل شجر مَكَّة، إِذْ لَو كَانَ مثلهَا لمنع من قطعهَا، فَدلَّ على أَن الْمَدِينَة لَيْسَ لَهَا حرم كَمَا لمَكَّة.
فَإِن قلت: شجر الْمَدِينَة كَانَت ملكا لأربابُها وَلِهَذَا طلبَهَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالشِّرَاءِ بِثمنِهَا، فَلَا دلَالَة فِيهِ على عدم كَون الْحرم للمدينة.
قلت: يحْتَمل أَن لَا يعرف غارسها لقدمها وَبَنُو النجار كَانُوا قد وضعُوا أَيْديهم عَلَيْهَا لعدم الْعلم بأربابُها، فَإِذا كَانَ كَذَلِك فقطعها يدل على الْمُدَّعِي وَهُوَ نفي كَون الْحرم للمدينة.
فَإِن قلت: وَلَئِن سلمنَا ذَلِك فَنَقُول: إِن الْقطع كَانَ فِي الْمَدِينَة للْبِنَاء وَفِيه مصلحَة للْمُسلمين.
قلت: يلزمك أَن تَقول بِهِ فِي مَكَّة أَيْضا وَلَا قَائِل بِهِ، وَهَذَا الحَدِيث قد تقدم بأتم مِنْهُ فِي كتاب الصَّلَاة فِي: بابُُ هَل تنبش قُبُور مُشْركي الْجَاهِلِيَّة، وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى.

وَأَبُو معمر، بِفَتْح الميمين: إسمه عبد الله بن عَمْرو بن أبي الْحجَّاج الْمنْقري المقعد، وَعبد الْوَارِث بن سعيد الْعَنْبَري الْبَصْرِيّ، وَأَبُو التياح، بِفَتْح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره حاء مُهْملَة: واسْمه يزِيد بن حميد الضبعِي.

قَوْله: ( ثامنوني) ، أَي: بايعوني بِالثّمن.
قَوْله: ( بالخرب) ، بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَكسر الرَّاء: جمع الخربة، وَفِي بعض الرِّوَايَة بِكَسْر الْخَاء وَفتح الرَّاء.





[ قــ :1783 ... غــ :1869 ]
- حدَّثنا إسْمَاعِيلُ بنُ عَبْدِ الله قَالَ حدَّثني أخِي عنْ سُلَيْمانَ عَنْ عُبَيْدِ الله عنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِي عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ حُرِّمَ مَا بَيْنَ لاَبَتَي المَدِينَةِ عَلَى لِسَانِي قَالَ وأتَي النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَنِي حارِثَةَ فَقَالَ أرَاكُمْ يَا بَنِي حارِثَةَ قَدْ خَرَجْتُمْ مِنَ الحَرَمِ ثُمَّ الْتَفَتَ فَقَالَ بَلْ أنْتُمْ فِيهِ.

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: ( حُرِّم بَين لابتي الْمَدِينَة) ، وَفِيه بَيَان لإبهام التَّرْجَمَة.

ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: إِسْمَاعِيل بن عبد الله بن أبي أويس.
الثَّانِي: أَخُوهُ عبد الحميد بن عبد الله بن أبي أويس.
الثَّالِث: سُلَيْمَان بن بِلَال أَبُو أَيُّوب.
الرَّابِع: عبيد الله بن عمر الْعمريّ.
الْخَامِس: سعيد بن أبي سعيد المَقْبُري وَاسم أبي سعيد كيسَان.
السَّادِس: أَبُو هُرَيْرَة.

ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع.
وَفِيه: العنعنة فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع.
وَفِيه: القَوْل فِي مَوضِع.
وَفِيه: أَن رُوَاته كلهم مدنيون.
وَفِيه: رِوَايَة الرَّاوِي عَن أَخِيه.
وَفِيه: عَن سعيد المَقْبُري عَن أبي هُرَيْرَة.
قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ، رَوَاهُ جمَاعَة عَن عبيد الله هَكَذَا،.

     وَقَالَ  عَبدة بن سُلَيْمَان عَن عبيد الله عَن سعيد عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَزَاد فِيهِ: عَن أَبِيه.

ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: ( حُرِّمَ) ، على صِيغَة الْمَجْهُول من التَّحْرِيم، وَهُوَ رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي: ( حرَم) .
بِفتْحَتَيْنِ فارتفاعه على أَنه خبر عَن مُبْتَدأ مُؤخر، وَهُوَ قَوْله: ( مَا بَين لابتي الْمَدِينَة) ، وَفِي رِوَايَة أَحْمد من حَدِيث ابْن عمر: ( إِن الله تَعَالَى حرم على لساني مَا بَين لابتي الْمَدِينَة) ، وللبخاري عَن أبي هُرَيْرَة: ( مَا بَين لابتيها حرَام) ، وَسَيَأْتِي، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
وَفِي الْبابُُ عَن جمَاعَة عَن الصَّحَابَة.
فَعَن جَابر رَوَاهُ مُسلم قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ( إِن إِبْرَاهِيم حرم مَكَّة وَإِنِّي حرمت الْمَدِينَة مَا بَين لابتيها لَا يقطع عضاهها وَلَا يصاد صيدها) .
وعنرافع بن خديج أخرجه مُسلم قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ( إِن إِبْرَاهِيم حرم مَكَّة وَأَنا أحرم مَا بَين لابتيها) .
يُرِيد الْمَدِينَة.
وَعَن سعد بن أبي وَقاص أخرجه مُسلم أَيْضا قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ( إِنِّي أحرم مَا بَين لابتي الْمَدِينَة أَن يقطع عضاهها وَيقتل صيدها) الحَدِيث.
وَعَن أنس بن مَالك أخرجه مُسلم أَيْضا فِي حَدِيث طَوِيل وَفِيه أَنِّي أحوم مِائَتَيْنِ لَا بَيتهَا وَعَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ أخرجه الطَّحَاوِيّ قَالَ: ( إِن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، حرم مَا بَين لابتي الْمَدِينَة) وَأخرجه أَحْمد فِي مُسْنده عَن كَعْب بن مَالك، أخرجه الطَّبَرَانِيّ فِي ( الْأَوْسَط) عَن خَارِجَة بن عبد الله بن كَعْب عَن أَبِيه عَن جده ( أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، حرم مَا بَين لابتي الْمَدِينَة أَن يصاد وحشها) .
وَعَن عبَادَة أخرجه الْبَيْهَقِيّ عَنهُ قَالَ: إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حرم مَا بَين لابتيها كَمَا حرم إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام.
وَعَن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف أخرجه الطَّحَاوِيّ عَن صَالح بن إِبْرَاهِيم عَن أَبِيه، وَفِيه قَالَ، يَعْنِي عبد الرَّحْمَن بن عَوْف: ( حرم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صيد مَا بَين لابتيها) ، وَأخرجه الْبَيْهَقِيّ أَيْضا.
وَعَن زيد بن ثَابت، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أخرجه الطَّحَاوِيّ من حَدِيث شُرَحْبِيل بن سعد، قَالَ: ( أَتَانَا زيد بن ثَابت وَنحن ننصب فخا خَالنَا بِالْمَدِينَةِ، فَرمى بهَا،.

     وَقَالَ : ألم تعلمُوا أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حرم صيدها؟ وَأخرجه الطَّبَرَانِيّ أَيْضا فِي ( الْكَبِير) .
وَعَن سهل بن حنيف أخرجه الطَّحَاوِيّ عَنهُ، قَالَ: ( سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وأهوى بِيَدِهِ إِلَى الْمَدِينَة، يَقُول: إِنَّه حرَام آمن) .
وَأخرجه مُسلم أَيْضا.
وَعَن أبي أَيُّوب الْأنْصَارِيّ أخرجه الطَّحَاوِيّ من حَدِيث مَالك عَنهُ أَنه وجد غلمانا ألجأوا ثعلبا إِلَى زَاوِيَة، فطردهم.
قَالَ مَالك: لَا أعلم إلاَّ أَنه قَالَ: أَفِي حرم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يصنع هَذَا؟)
وَأخرجه مَالك رَحمَه الله فِي ( موطئِهِ) .
وَعَن عَليّ بن أبي طَالب وَسَيَجِيءُ عَن قريب.
وَعَن عدي بن زيد أخرجه أَبُو دَاوُد عَنهُ.
قَالَ: ( حمى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كل نَاحيَة من الْمَدِينَة بريدا بريدا لَا يخبط شَجَره وَلَا يعضد إلاَّ مَا يساق بِهِ الْحمل) .
وَفِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة أخرجه مُسلم وَجعل اثْنَي عشر ميلًا حول الْمَدِينَة حمى.
وَعَن عبد الله بن زيد بن عَاصِم الْمَازِني الْأنْصَارِيّ أخرجه البُخَارِيّ وَمُسلم: أَن إِبْرَاهِيم حرم مَكَّة ودعا لَهَا، وَإِنِّي حرمت الْمَدِينَة، وَسَيَجِيءُ فِي الْبيُوع إِن شَاءَ الله تَعَالَى.

قَوْله: ( لابتي الْمَدِينَة) اللبتان تَثْنِيَة: لابة، واللابة، الْحرَّة، ذكره الْأَزْهَرِي عَن الْأَصْمَعِي وَجَمعهَا: لاب ولوب، وَفِي ( الْجَامِع) : اللابة الْحرَّة السَّوْدَاء، وَالْجمع لابات.
وَفِي ( الْمُحكم) : اللابة واللوبة: الْحرَّة.
.

     وَقَالَ  الْجَوْهَرِي: اللابة أَرض ألبستها حِجَارَة سود، وَالْمَدينَة بَين حرتين يكتنفانها إِحْدَاهمَا شرقية وَالْأُخْرَى غربية، وَقيل: المُرَاد بِهِ أَنه حرم الْمَدِينَة ولابتيها جَمِيعًا.
قَوْله: ( وأتى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بني حَارِثَة) ، وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ ( ثمَّ جَاءَ بني حَارِثَة وهم فِي سَنَد الْحرَّة) .
أَي: فِي الْجَانِب الْمُرْتَفع مِنْهَا، وَبَنُو حَارِثَة بِالْحَاء الْمُهْملَة وبالثاء الْمُثَلَّثَة بطن مَشْهُور من الْأَوْس وَهُوَ حَارِثَة بن الْحَارِث بن الْخَزْرَج بن عَمْرو بن مَالك بن الْأَوْس، وَكَانَ بَنو حَارِثَة فِي الْجَاهِلِيَّة وَبَنُو عبد الْأَشْهَل فِي دَار وَاحِدَة، ثمَّ وَقعت بَينهم الْحَرْب فانهزمت بَنو حَارِثَة إِلَى خَيْبَر فسكنوها، ثمَّ اصْطَلحُوا فَرجع بَنو حَارِثَة فَلم ينزلُوا فِي دَار بني عبد الْأَشْهَل وَسَكنُوا فِي دَارهم هَذِه، وَهِي غربية مشْهد حَمْزَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَكَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ظن أَنهم خارجون من الْحرم، فَلَمَّا تَأمل مواضعهم رَآهُمْ داخلين فِيهِ، وَهَذَا معنى قَوْله: ( ثمَّ الْتفت فَقَالَ بل أَنْتُم فِيهِ) أَي: فِي الْحرم، وَزَاد الْإِسْمَاعِيلِيّ: ( بل أَنْتُم فِيهِ) أَعَادَهَا تَأْكِيدًا.

وَفِيه من الْفَائِدَة: جَوَاز الْجَزْم بِمَا يغلب على الظَّن وَإِذا تبين أَن الْيَقِين على خِلَافه رَجَعَ عَنهُ.





[ قــ :1784 ... غــ :1870 ]
- حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ بَشَّارٍ قَالَ حَدَّثنا عَبْدُ الرَّحْمانِ قَالَ حدَّثنا سُفْيَانُ عنِ الأعْمَشِ عنْ إبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ عنْ أبِيهِ عنْ عَلِيٍّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ مَا عِنْدَنَا شَيء إلاَّ كِتابُ الله وهَذِهِ الصَّحِيفَةُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم المَدِينَةُ حَرَمٌ مَا بَيْنَ عائِرٍ إلَى كَذا منْ أحْدَثَ فِيها حدَثا أوْ آوَى مُحْدِثا فعَلَيْهِ لَعْنَةُ الله والمَلائِكَةِ والنَّاسِ أجْمَعِينَ لاَ يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ ولاَ عَدْلٌ.

     وَقَالَ  ذِمَّةُ المُسْلِمِينَ واحِدَةٌ فَمَنْ أخْفَرَ مُسْلِما فَعَلَيْهِ لَعْنَة الله والمَلائِكَةِ والنَّاسِ أجْمَعِينَ لاَ يَقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ ولاَ عَدْلٌ ومَنْ تَوَلَّى قَوْما بِغَيْرِ إذْنِ مَوَالِيهِ فعلَيْهِ لَعْنَةُ الله والملاَئِكَةِ والنَّاسِ أجْمَعِينَ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ صرْفٌ ولاَ عَدْلٌ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (الْمَدِينَة حرم مَا بَين عائر إِلَى كَذَا) .

ذكر رِجَاله: وهم سَبْعَة: الأول: مُحَمَّد بن بشار، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَتَشْديد الشين الْمُعْجَمَة، وَقد تكَرر ذكره.
الثَّانِي: عبد الرَّحْمَن بن مهْدي بن حسان الْعَنْبَري.
الثَّالِث: سُفْيَان الثَّوْريّ.
الرَّابِع: سُلَيْمَان الْأَعْمَش.
الْخَامِس: إِبْرَاهِيم بن يزِيد بن شريك التَّيْمِيّ.
السَّادِس: أَبوهُ يزِيد.
السَّابِع: عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.

ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع.
وَفِيه: العنعنة فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع.
وَفِيه: أَن شَيْخه بَصرِي ويلقب ببندار، وَكَذَلِكَ شيخ شَيْخه بَصرِي، والبقية كوفيون.
وَفِيه: ثَلَاثَة من التَّابِعين فِي نسق وَاحِد، وهم: الْأَعْمَش وَإِبْرَاهِيم وَأَبوهُ يزِيد، وَهَذِه رِوَايَة أَكثر أَصْحَاب الْأَعْمَش عَنهُ، وَخَالفهُم شُعْبَة فَرَوَاهُ عَن الْأَعْمَش عَن إِبْرَاهِيم التَّيْمِيّ عَن الْحَارِث بن سُوَيْد عَن عَليّ.

أخرجه النَّسَائِيّ قَالَ: أخبرنَا بشر بن خَالِد العسكري، قَالَ: أخبرنَا غنْدر عَن شُعْبَة عَن سُلَيْمَان عَن إِبْرَاهِيم التَّيْمِيّ (عَن الْحَارِث بن سُوَيْد، قَالَ: قيل لعَلي، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خصكم بِشَيْء دون النَّاس عَامَّة، قَالَ: مَا خصنا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِشَيْء لم يخص النَّاس لَيْسَ شَيْئا فِي قرَاب سَيفي هَذَا، فَأخذ صحيفَة فِيهَا شَيْء من أَسْنَان الْإِبِل وفيهَا، أَن الْمَدِينَة حرم مَا بَين ثَوْر إِلَى عير، فَمن أحدث فِيهَا حَدثا وَأَوَى مُحدثا فَإِن عَلَيْهِ لعنة الله، وَالْمَلَائِكَة وَالنَّاس أَجْمَعِينَ لَا يقبل مِنْهُ يَوْم الْقِيَامَة صرف وَلَا عدل وَذمَّة الْمُسلمين وَاحِدَة فَمن أَخْفَر مُسلما فَعَلَيهِ لعنة الله وَالْمَلَائِكَة وَالنَّاس أَجْمَعِينَ لَا يقبل مِنْهُ صرف وَلَا عدل، انْتهى.
.

     وَقَالَ  الدَّارَقُطْنِيّ فِي (الْعِلَل) : وَالصَّوَاب رِوَايَة الثَّوْريّ وَمن تبعه.

ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (مَا عندنَا شَيْء) ، أَي: شَيْء مَكْتُوب من أَحْكَام الشَّرِيعَة، وإلاَّ فَكَانَ عِنْدهم أَشْيَاء من السّنة سوى الْكتاب، لِأَن السّنَن لم تكن مَكْتُوبَة فِي الْكتب فِي ذَلِك الْوَقْت، وَلَا مدونة فِي الدَّوَاوِين.
.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: تقدم فِي بابُُ فِي كتاب الْعلم أَنه كَانَ فِي الصَّحِيفَة الْعقل وفكاك الْأَسير، وَهَهُنَا قَالَ: الْمَدِينَة حرم ... إِلَى آخِره؟ قلت: لَا مُنَافَاة بَينهمَا لجَوَاز كَون الْكل فِيهَا.
فَإِن قلت: مَا سَبَب قولعلي، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
هَذَا؟ قلت: يظْهر ذَلِك بِمَا رَوَاهُ أَحْمد من طَرِيق قَتَادَة (عَن أبي حسان الْأَعْرَج أَن عليا، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، كَانَ يَأْمر بِالْأَمر فَيُقَال لَهُ: قد فعلنَا، فَيَقُول: صدق الله وَرَسُوله.
فَقَالَ لَهُ الأشتر: هَذَا الَّذِي تَقول شَيْء عَهده إِلَيْك رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ قَالَ: مَا عهد إليَّ شَيْئا خَاصّا دون النَّاس إلاَّ شَيْئا سمعته مِنْهُ، فَهُوَ فِي صحيفَة فِي قرَاب سَيفي فَلم يزَالُوا بِهِ حَتَّى أخرج الصَّحِيفَة فَإِذا فِيهَا) فَذكر الحَدِيث وَزَاد فِيهِ: (الْمُؤْمِنُونَ تَتَكَافَأ دِمَاؤُهُمْ وَيسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُم وهم يَد على من سواهُم، ألاَّ لَا يقتل مُؤمن بكافرٍ، وَلَا ذُو عهد فِي عَهده،.

     وَقَالَ  فِيهِ: إِن إِبْرَاهِيم حرَّم، وَإِنِّي أحرم مَا بَين حرتيها، وحماها كُله لَا يخْتَلى خَلاهَا، وَلَا ينفر صيدها وَلَا تلْتَقط لقطتهَا، وَلَا تقطع مِنْهَا شَجَرَة إلاَّ أَن يعلف رجل بعيره، وَلَا يحمل فِيهَا السِّلَاح لقِتَال) .
وَالْبَاقِي نَحوه.
وَأخرجه الدَّارَقُطْنِيّ من وَجه آخر عَن قَتَادَة عَن أبي حسان عَن الأشتر عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَفِي رِوَايَة أَحْمد وَأبي دَاوُد وَالنَّسَائِيّ من طَرِيق سعيد بن أبي عرُوبَة عَن قَتَادَة عَن الْحسن (عَن قيس بن عباد، قَالَ: انْطَلَقت أَنا وَالْأَشْتَر إِلَى عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَقُلْنَا: هَل عهد إِلَيْك رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شَيْئا لم يعهده إِلَى النَّاس عَامَّة؟ قَالَ: لَا، إلاَّ مَا فِي كتابي هَذَا.
قَالَ: وَكتاب فِي قرَاب سَيْفه، فَإِذا فِيهِ: الْمُؤْمِنُونَ تَتَكَافَأ دِمَاؤُهُمْ) ، فَذكر مثل مَا تقدم إِلَى قَوْله: (فِي عَهده: من أحدث حَدثا) إِلَى قَوْله: (أَجْمَعِينَ) ، وَلم يذكر بَقِيَّة الحَدِيث، وروى مُسلم من طَرِيق أبي الطُّفَيْل: (كنت عِنْد عَليّ فَأَتَاهُ رجل، فَقَالَ: مَا كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يسر إِلَيْك؟ فَغَضب، ثمَّ قَالَ: مَا كَانَ يسر إليَّ شَيْئا يَكْتُمهُ عَن النَّاس، غير أَنه حَدثنِي بِكَلِمَات أَربع) وَفِي رِوَايَة لَهُ: (مَا خصنا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِشَيْء لم يعم بِهِ النَّاس كَافَّة، إلاَّ مَا كَانَ فِي قرَاب سَيفي هَذَا، فَأخْرج صحيفَة مَكْتُوب فِيهَا: لعن الله من ذبح لغير الله، وَلعن الله من سرق منار الأَرْض، وَلعن الله من لعن وَالِده، وَلعن الله من آوى مُحدثا) .
وَقد تقدم فِي كتاب الْعلم من طَرِيق أبي جُحَيْفَة.
(قلت لعَلي، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: هَل عنْدكُمْ كتاب؟ قَالَ: لَا، إلاَّ كتاب الله.
.
) الحَدِيث.
فَإِن قلت: كَيفَ وَجه الْجمع بَين هَذِه الْأَخْبَار؟ قلت: وَجه ذَلِك أَن الصَّحِيفَة الْمَذْكُورَة كَانَت مُشْتَمِلَة على مَجْمُوع مَا ذكر، فَنقل كل من الروَاة بَعْضهَا، وأتمها سياقا طَرِيق أبي حسان كَمَا ترى.
وَالله أعلم.
قَوْله: (الْمَدِينَة حرم) ، بِفتْحَتَيْنِ أَي: مُحرمَة لَا تنتهك حرمتهَا.
قَوْله: (مَا بَين عائر إِلَى كَذَا) ، وعائر بِالْعينِ الْمُهْملَة وَالْألف والهمزة وَالرَّاء، وَهُوَ جبل بِالْمَدِينَةِ، ويروى: (مَا بَين عير) ، بِدُونِ الْألف.
.

     وَقَالَ  القَاضِي عِيَاض أَكثر رُوَاة البُخَارِيّ ذكرُوا (عيرًا) ، وَأما ثَوْر فَمنهمْ من كنى عَنهُ بِلَفْظ كَذَا، وَمِنْهُم من ترك مَكَانَهُ بَيَاضًا.
وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مستقصىً فِي أول: بابُُ حرم الْمَدِينَة.
قَوْله: (من أحدث فِيهَا) ، أَي: فِي الْمَدِينَة، وَرِوَايَة قيس بن عباد الَّتِي تقدّمت تفِيد بِهَذَا لِأَن ذَلِك مُخْتَصّ بِالْمَدِينَةِ لفضلها وشرفها.
قَوْله: (أَو آوى) بِالْقصرِ وَالْمدّ فِي الْفِعْل اللَّازِم والمتعدي جَمِيعًا، لَكِن الْقصر فِي اللَّازِم وَالْمدّ فِي الْمُتَعَدِّي أشهر.
قَوْله: (مُحدثا) قد ذكرنَا أَن فِيهِ فتح الدَّال وَكسرهَا، فَالْمَعْنى بِالْفَتْح أَي: الْمُحدث فِي أَمر الدّين وَالسّنة، وَمعنى الْكسر صَاحبه الَّذِي أحدثه أَو جَاءَ ببدعة فِي الدّين أَو بدل سنة.
.

     وَقَالَ  التَّيْمِيّ: يَعْنِي من ظلم فِيهَا أَو أعَان ظَالِما.
قَوْله: (صرف) أَي: فَرِيضَة.
(وَعدل) أَي: نَافِلَة.
.

     وَقَالَ  الْحسن: الصّرْف النَّافِلَة، وَالْعدْل الْفَرِيضَة، عكس قَول الْجُمْهُور.
.

     وَقَالَ  الْأَصْمَعِي: الصّرْف التَّوْبَة وَالْعدْل الْفِدْيَة.
قَالُوا: مَعْنَاهُ لَا تقبل قبُول رضى، وَإِن قبلت قبُول جَزَاء، وَعَن أبي عُبَيْدَة الصّرْف الِاكْتِسَاب وَالْعدْل الْحِيلَة، وَقيل: الصّرْف الدِّيَة وَالْعدْل الزِّيَادَة عَلَيْهَا، وَقيل بِالْعَكْسِ، وَفِي (الْمُحكم) : الصّرْف الْوَزْن وَالْعدْل الْكَيْل، وَقيل: الصّرْف الْقيمَة وَالْعدْل الاسْتقَامَة، وَقيل: الصّرْف الشَّفَاعَة وَالْعدْل الْفِدْيَة، وَبِه جزم الْبَيْضَاوِيّ، وَقيل: الْقبُول بِمَعْنى تَكْفِير الذَّنب بهما،.

     وَقَالَ  عِيَاض: وَقد يكون معنى الْفِدْيَة هُنَا لِأَنَّهُ لَا يجد فِي الْقِيَامَة فدَاء يفتدى بِهِ، بِخِلَاف غَيره من المذنبين الَّذين يتفضل الله عز وَجل على من يَشَاء مِنْهُم بِأَنَّهُ يفْدِيه من النَّار بِيَهُودِيٍّ أَو نَصْرَانِيّ كَمَا ثَبت فِي (الصَّحِيح) .
قَوْله: (ذمَّة الْمُسلمين) أَي: عَهدهم وأمانهم صَحِيح، فَإِذا آمن الْكَافِر وَاحِد من الْمُسلمين حرم على غَيره التَّعَرُّض لَهُ، وَنقض ذمَّته، وللأمان شُرُوط مَذْكُورَة فِي كتب الْفِقْه.
قَوْله: (فَمن أَخْفَر مُسلما) أَي: نقض عَهده، يُقَال: خفرت الرجل بِغَيْر ألف إِذا آمنته، وأخفرته إِذا نقضت عَهده، فالهمزة للإزالة، وَقد علم فِي علم الصّرْف أَن الْهمزَة فِي: أفعل تَأتي لمعان: مِنْهَا: أَنَّهَا تَأتي للسلب، يَعْنِي لسلب الْفَاعِل من الْمَفْعُول أصل الْفِعْل نَحْو أشكيته؟ أَي: أزالت شكايته، والهمزة فِي: أَخْفَر، من هَذَا الْقَبِيل.
قَوْله: (وَمن تولى قوما) أَي: من اتخذهم أَوْلِيَاء.
قَوْله: (بِغَيْر إِذن موَالِيه) ، لَيْسَ بِشَرْط، لتقييد الحكم بِعَدَمِ الْإِذْن وقصره عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا هُوَ إِيرَاد الْكَلَام على مَا هُوَ الْغَالِب،.

     وَقَالَ  الْخطابِيّ: لم يَجْعَل إِذن الموَالِي شرطا فِي ادِّعَاء نسب أَو وَلَاء، لَيْسَ هُوَ مِنْهُ، وَإِلَيْهِ، وَإِنَّمَا ذكر الْإِذْن فِي هَذَا تَأْكِيدًا للتَّحْرِيم لِأَنَّهُ إِذا استأذنهم فِي ذَلِك منعُوهُ وحالوا بَينه وَبَين مَا يفعل من ذَلِك، وَفِي رِوَايَة مُسلم: (وَذمَّة الْمُسلمين وَاحِدَة يسْعَى بهَا أَدْنَاهُم، وَمن ادّعى إِلَى غير أَبِيه أَو انْتَمَى إِلَى غير موَالِيه فَعَلَيهِ لعنة الله) .
الحَدِيث.
قَوْله: (يسْعَى بهَا) يَعْنِي: أَن ذمَّة الْمُسلمين سَوَاء صدرت من وَاحِد أَو أَكثر شرِيف أَو وضيع، فَإِذا آمن أحد من الْمُسلمين كَافِرًا وَأَعْطَاهُ ذمَّته لم يكن لأحد نقضه، فيستوي فِي ذَلِك الرجل وَالْمَرْأَة، وَالْحر وَالْعَبْد، لِأَن الْمُسلمين كَنَفس وَاحِدَة.
وَالله أعلم.

ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: رد على الشِّيعَة فِيمَا يَدعُونَهُ من أَن عليا، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، عِنْده وَصِيَّة من سيدنَا رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لَهُ بِأُمُور كَثِيرَة من أسرار الْعلم وقواعد الدّين.
وَفِيه: جَوَاز كِتَابَة الْعلم.
وَفِيه: الْمُحدث والمروي لَهُ فِي الْإِثْم سَوَاء.
وَفِيه: حجَّة لمن أجَاز أَمَان الْمَرْأَة وَالْعَبْد، وَهُوَ مَذْهَب مَالك وَالشَّافِعِيّ، وَعند أبي حنيفَة: لَا يجوز إلاَّ إِذا أذن الْمولى لعَبْدِهِ بِالْقِتَالِ.
وَفِيه: أَن نقض الْعَهْد حرَام.
وَفِيه: ذمّ انتماء الْإِنْسَان إِلَى غير أَبِيه، أَو انتماء الْعَتِيق إِلَى غير مُعْتقه لما فِيهِ من كفر النِّعْمَة وتضييع الْحُقُوق وَالْوَلَاء وَالْعقل، وَغير ذَلِك، مَعَ مَا فِيهِ من قطيعة الرَّحِم والعقوق.

قَالَ أبُو عَبْدِ الله عَدْلٌ فِدَاءٌ
أَبُو عبد الله هُوَ البُخَارِيّ نَفسه، وَأَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَن تَفْسِير الْعدْل عِنْده بِمَعْنى الْفِدَاء، وَهَذَا مُوَافق لتفسير الْأَصْمَعِي، وَقد ذَكرْنَاهُ عَن قريب، وَهَذَا: أَعنِي قَوْله: قَالَ عبد الله ... إِلَى آخِره، وَقع فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي.