فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب إثم من كاد أهل المدينة

(بابُُ إثْمِ منْ كادَ أهْلَ المَدِينَةِ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان إصم من كَاد أهل الْمَدِينَة أَي: أَرَادَ بهم سوءا، وَكَاد فعل ماضٍ من الكيد، وَهُوَ الْمَكْر.
تَقول: كاده يكيده كيدا ومكيدة.
وَكَذَلِكَ المكايدة.



[ قــ :1791 ... غــ :1877 ]
- حدَّثنا حُسَيْنُ بنُ حُرَيْثٍ قَالَ أخبرنَا الْفَضْلُ عنْ جُعَيْدٍ عنْ عائِشَةَ قالَتْ سَمِعْتُ سَعْدا رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ سَمِعْتُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ لاَ يَكِيدُ أهْلَ المَدِينَةِ أحَدٌ إلاَّ انْمَاعَ كَمَا يَنْماعُ الْمِلْحُ فِي المَاءِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، بَيَانه أَن الَّذِي يكيد أهل الْمَدِينَة يذيبه الله تَعَالَى فِي النَّار ذوب الرصاصد وَلَا يسْتَحق هَذَا ذَاك الْعَذَاب إلاَّ عَن ارتكابه إِثْمًا عَظِيما، وَهَذَا مَأْخُوذ من حَدِيث مُسلم من طَرِيق عَامر بن سعد عَن أَبِيه فِي أثْنَاء حَدِيث: (وَلَا يُرِيد أحد أهل الْمَدِينَة بِسوء إلاَّ أذابه الله فِي النَّار ذوب الرصاص، أَو ذوب الْملح فِي المَاء) .
وحسين بن حُرَيْث بن الْحسن ابْن ثَابت بن قُطْبَة أَبُو عمار الْمروزِي مولى عمرَان بن الْحصين الْخُزَاعِيّ، قَالَ السراج: مَاتَ بقصر اللُّصُوص مُنْصَرفه عَن الْحَج سنة أَربع وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ، وَالْفضل هُوَ ابْن مُوسَى اليناني، بِكَسْر السِّين الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالنونين، وَقد مر فِي: بابُُ من تَوَضَّأ من الْجَنَابَة، وجعيد، بِضَم الْجِيم وَفتح الْعين الْمُهْملَة مُصَغرًا ومكبرا.
ابْن عبد الرَّحْمَن، وَقد مر فِي الْوضُوء، وَعَائِشَة بنت سعد بن أبي وَقاص، مَاتَت بِالْمَدِينَةِ سنة سبع عشرَة وَمِائَة.

وَهَذَا الحَدِيث من أَفْرَاد البُخَارِيّ بِهَذَا الطَّرِيق، وَأخرجه مُسلم من طرق.
مِنْهَا: من حَدِيث أبي عبد الله الْقَرَّاظ أَنه قَالَ: أشهد على أبي هُرَيْرَة أَنه قَالَ: قَالَ أَبُو الْقَاسِم، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: زمن أَرَادَ أهل هَذِه الْبَلدة بِسوء يَعْنِي الْمَدِينَة أذابه الله كَمَا يذوب الْملح فِي المَاء) .
وَمِنْهَا: من حَدِيث عَمْرو بن يحيى بن عمَارَة أَنه سمع الْقَرَّاظ، وَكَانَ من أَصْحَاب أبي هُرَيْرَة، يزْعم أَنه سمع أَبَا هُرَيْرَة يَقُول: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من أَرَادَ أَهلهَا بالسوء) ، يُرِيد: الْمَدِينَة، (أذابه الله كَمَا يذوب الْملح فِي المَاء) .
وَمِنْهَا: من حَدِيث عمر بن نبيه قَالَ: أَخْبرنِي دِينَار الْقَرَّاظ، قَالَ: سَمِعت سعد بن أبي وَقاص، يَقُول: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من أَرَادَ أهل الْمَدِينَة بِسوء أذابه الله كَمَا يذوب الْملح فِي المَاء) .
وَمِنْهَا: من حَدِيث عمر بن نبيه الكعبي عَن أبي عبد الله الْقَرَّاظ، أَنه سمع سعد بن مَالك يَقُول: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِمثلِهِ، غير أَنه قَالَ: بدهم أَو بِسوء.
وَمِنْهَا: من حَدِيث أُسَامَة بن زيد عَن أبي عبد الله الْقَرَّاظ، قَالَ: سمعته يَقُول: سَمِعت أَبَا هُرَيْرَة وسعدا يَقُولَانِ: (قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أللهم بَارك لأهل الْمَدِينَة فِي مدهم.
.
) وسَاق الحَدِيث، وَفِيه: (من أَرَادَ أَهلهَا بِسوء أذابه الله كَمَا يذوب الْملح فِي المَاء.
.
) وروى النَّسَائِيّ من حَدِيث السَّائِب بن خلان رَفعه: (من أَخَاف أهل الْمَدِينَة ظَالِما لَهُم، أخافه الله وَكَانَت عَلَيْهِ لعنة الله) الحَدِيث، وروى ابْن حبَان نَحوه من حَدِيث جَابر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.

قَوْله: (سَمِعت سَعْدا) يَعْنِي: أَبَاهَا سعد بن أبي وَقاص، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
قَوْله: (إلاَّ انماع) : أَي: ذاب، وعَلى وزن انفعل من الميعان، يُقَال: ماع الشَّيْء يميع وانماع ينماع إِذا ذاب، وَيجوز بادغام النُّون فِي الْمِيم، قَالَ الْكرْمَانِي: ذاب وَجرى على وَجه الأَرْض مثلا شَيْئا.
.

     وَقَالَ  النَّوَوِيّ: يَعْنِي أَرَادَ الله الْمَكْر بهم لَا يمهله الله وَلم يُمكن لَهُ كَمَا انْقَضى شَأْن من حاربها أَيَّام بني أُميَّة مثل مُسلم بن عقبَة، فَإِنَّهُ هلك فِي مُنْصَرفه عَنْهَا، ثمَّ هلك مرسله إِلَيْهَا يزِيد بن مُعَاوِيَة على إِثْر ذَلِك، وَغَيرهمَا مِمَّن صنع صنيعهما، وَقيل: المُرَاد من كادها اغتيالاً، وعَلى غَفلَة من أَهلهَا لَا يتم لَهُ أَمر، وَيحْتَمل أَن يكون المُرَاد من أرادها فِي حَيَاة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِسوء اضمحل أمره كَمَا يضمحل الرصاص فِي النَّار.
قَوْله: (كَمَا ينماع الْملح فِي المَاء) ، وَجه هَذَا التَّشْبِيه أَنه شبه أهل الْمَدِينَة مَعَ وفور علمهمْ وصفاء قرائحهم بِالْمَاءِ، وَشبه من يُرِيد الكيد بهم بالملح لِأَن نكاية كيدهم لما كَانَت رَاجِعَة إِلَيْهِ شبهوا بالملح الَّذِي يُرِيد إِفْسَاد المَاء فيذوب هُوَ بِنَفسِهِ.
فَإِن قلت: يلْزم على هَذَا كدورة أهل الْمَدِينَة بِسَبَب فنائهم؟ قلت: المُرَاد مُجَرّد الإفناء، وَلَا يلْزم فِي وَجه التَّشْبِيه أَن يكون شَامِلًا جَمِيع أَوْصَاف الْمُشبه بِهِ نَحْو قَوْلهم: النَّحْو فِي الْكَلَام كالملح للطعام.