فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب قول المحدث: حدثنا، وأخبرنا، وأنبأنا

( بابُُ قَوْلِ المُحَدِّثِ: حدّثنا أوْ أخْبَرَنَا وأنْبأَنَا)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان قَول الْمُحدث: حَدثنَا وَأخْبرنَا وأنبأنا، هَل فِيهِ فرق أم الْكل وَاحِد؟ وَالْمرَاد بالمحدث اللّغَوِيّ، وَهُوَ الَّذِي يحدث غَيره، لَا الاصطلاحي، وَهُوَ الَّذِي يشْتَغل بِالْحَدِيثِ النَّبَوِيّ.
فَإِن قلت: مَا وَجه ذكر هَذَا الْبابُُ فِي كتاب الْعلم؟ وَمَا وَجه الْمُنَاسبَة بَينه وَبَين الْبابُُ الَّذِي قبله؟ قلت: أما ذكره مُطلقًا فللتنبيه على أَنه بنى كِتَابه على المسندات المروية عَن النَّبِي، صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَآله وَسلم.
وَأما ذكره فِي كتاب الْعلم فَظَاهر لِأَنَّهُ من جملَة مَا يحْتَاج إِلَيْهِ الْمُحدث فِي معرفَة الْفرق بَين الْأَلْفَاظ الْمَذْكُورَة لُغَة وَاصْطِلَاحا، وَأما وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبابَُُيْنِ فَهُوَ من حَيْثُ إِن الْمَذْكُور فِي الْبابُُ السَّابِق: رفع الْعَالم صَوته بِالْعلمِ ليتعلم الْحَاضِرُونَ ذَلِك، ويعلمون غَيرهم بالرواية عَنهُ، فَعِنْدَ الرِّوَايَة وَالنَّقْل عَنهُ لَا بُد من ذكر لَفْظَة من الْأَلْفَاظ الْمَذْكُورَة، فحينئذٍ ظهر الِاحْتِيَاج إِلَى مَعْرفَتهَا لُغَة وَاصْطِلَاحا.
وَمن حَيْثُ الْفرق بَينهَا وَعَدَمه، وَفِي بعض النّسخ: أخبرنَا وَحدثنَا وأنبأنا.

وَقَالَ لَنَا الحُمَيْدِيُّ كانَ عِنْدَ ابنِ عُيَيْنَةَ: حدّثنا وأخْبَرَنَا وأنْبَانَا، وسَمِعْتُ واحِداً.

الْحميدِي، بِضَم الْحَاء، هُوَ أَبُو بكر عبد اللَّه بن الزبير الْقرشِي الْأَسدي الْمَكِّيّ، أحد مَشَايِخ البُخَارِيّ، وَقد مر ذكره.
وتصدير الْبابُُ بقوله تَنْبِيه على أَنه اخْتَار هَذَا القَوْل فِي عدم الْفرق بَين هَذِه الْأَلْفَاظ الْأَرْبَعَة، نقل هَذَا عَن شَيْخه الْحميدِي، والْحميدِي أَيْضا نقل ذَلِك عَن شَيْخه سُفْيَان بن عَيْنِيَّة، وَهُوَ أَيْضا قد ذكر.
وَفِي بعض النّسخ:.

     وَقَالَ  لنا الْحميدِي، وَهِي رِوَايَة كَرِيمَة والأصيلي.
وَكَذَا ذكر أَبُو نعيم فِي ( الْمُسْتَخْرج) وَلَيْسَ فِي رِوَايَة كَرِيمَة: وانبأنا، وَالْكل فِي رِوَايَة أبي ذَر.
ثمَّ اعْلَم أَن قَوْله: قَالَ الْحميدِي، لَا يدل جزما على أَنه سَمعه مِنْهُ، فَيحْتَمل الْوَاسِطَة، وَهُوَ أحط مرتبَة من: حَدثنَا وَنَحْوه، سَوَاء كَانَ بِزِيَادَة: لنا، أَو لم يكن، لِأَنَّهُ يُقَال على سَبِيل المذاكرة، بِخِلَاف نَحْو: حَدثنَا، فَإِنَّهُ يُقَال على سَبِيل النَّقْل والتحمل.
.

     وَقَالَ  جَعْفَر بن حمدَان النَّيْسَابُورِي: كلما قَالَ البُخَارِيّ فِيهِ: قَالَ لي فلَان، فَهُوَ عرض ومناولة.
.

     وَقَالَ  القَاضِي عِيَاض: لَا خلاف أَنه يجوز فِي السماع من لفظ الشَّيْخ أَن يَقُول السَّامع فِيهِ: حَدثنَا، وَأخْبرنَا، وانبأنا، وسمعته يَقُول،.

     وَقَالَ  لنا فلَان، وَذكر لنا فلَان؛ وَإِلَيْهِ مَال الطَّحَاوِيّ.
وَصحح هَذَا الْمَذْهَب ابْن الْحَاجِب، وَنقل هُوَ وَغَيره عَن الْحَاكِم أَنه مَذْهَب الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة، وَهُوَ مَذْهَب جمَاعَة من الْمُحدثين مِنْهُم الزُّهْرِيّ وَيحيى الْقطَّان.
وَقيل: إِنَّه قَول مُعظم الْحِجَازِيِّينَ والكوفيين فَلذَلِك اخْتَارَهُ البُخَارِيّ بنقله عَن الْحميدِي عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة،.

     وَقَالَ  آخَرُونَ بِالْمَنْعِ فِي الْقِرَاءَة على الشَّيْخ إلاَّ مُقَيّدا مثل: حَدثنَا فلَان قِرَاءَة عَلَيْهِ، وَأخْبرنَا قِرَاءَة عَلَيْهِ، وَهُوَ مَذْهَب الْمُتَكَلِّمين.
.

     وَقَالَ  آخَرُونَ بِالْمَنْعِ فِي: حَدثنَا، وبالجواز فِي أخبرنَا، وَهُوَ مَذْهَب الشَّافِعِي وَأَصْحَابه، وَمُسلم بن الْحجَّاج وَجُمْهُور أهل الْمشرق، وَنقل عَن أَكثر الْمُحدثين مِنْهُم ابْن جريج وَالْأَوْزَاعِيّ وَالنَّسَائِيّ وَابْن وهب.
وَقيل: إِن عبد اللَّه ابْن وهب أول من أحدث هَذَا الْفرق بِمصْر، وَصَارَ هُوَ الشَّائِع الْغَالِب على أهل الحَدِيث، وَالْأَحْسَن أَن يُقَال فِيهِ: إِنَّه اصْطِلَاح مِنْهُم أَرَادوا بِهِ التَّمْيِيز بَين النَّوْعَيْنِ، وخصصوا قِرَاءَة الشَّيْخ: بحدثنا، لقُوَّة إشعاره بالنطق والمشافهة، وأحدث الْمُتَأَخّرُونَ تَفْصِيلًا آخر وَهُوَ أَنه مَتى سمع وَحده من لفظ الشَّيْخ أفرد، فَقَالَ: حَدثنِي أَو أَخْبرنِي أَو سَمِعت، وَمَتى سمع مَعَ غَيره جمع فَقَالَ: حَدثنَا أَو أخبرنَا، وَمَتى قَرَأَ بِنَفسِهِ على الشَّيْخ أفرد فَقَالَ: أَخْبرنِي.
وخصصوا الإنباء بِالْإِجَازَةِ الَّتِي يشافه بهَا الشَّيْخ من يُخبرهُ، وكل هَذَا مستحسن، وَلَيْسَ بِوَاجِب عِنْدهم، لِأَن هَذَا اصْطِلَاح وَلَا مُنَازعَة فِيهِ.
.

     وَقَالَ  بَعضهم: التحديث والإخبار والإنباء سَوَاء وَهَذَا لَا خلاف فِيهِ عِنْد أهل الْعلم بِالنِّسْبَةِ إِلَى اللُّغَة.
قلت: لَا نسلم ذَلِك، لِأَن الحَدِيث هُوَ القَوْل، وَالْخَبَر من الْخَبَر، بِضَم الْخَاء وَسُكُون الْبَاء، وَهُوَ الْعلم بالشَّيْء من خبرت الشَّيْء أخبرهُ خَبرا وخبرة، وَمن أَيْن خبرت هَذَا أَي: عَلمته، وَإِنَّمَا اسْتِوَاء هَذِه الْأَلْفَاظ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الِاصْطِلَاح، وكل مَا جَاءَ من لفظ الْخَبَر وَمَا يشتق مِنْهُ فِي الْقُرْآن والْحَدِيث وَغَيرهمَا فَمَعْنَاه الْأَصْلِيّ هُوَ الْعلم.
فَافْهَم.
وَقَالَ ابنُ مَسْعُودٍ: حدّثنا رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وهَوَ الصَّادِقُ المَصْدُوق،.

     وَقَالَ  شَقِيقُ عَنْ عَبْدِ اللَّه: سَمِعْتُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَلِمَةً،.

     وَقَالَ  حذَيْفَةُ: حدّثنا رسولُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَدِيثَيْنِ.

هَذِه ثَلَاث تعاليق أوردهَا تَنْبِيها على أَن الصَّحَابِيّ تَارَة كَانَ يَقُول: حَدثنَا، وَتارَة كَانَ يَقُول: سَمِعت، فَدلَّ ذَلِك على أَنه لَا فرق بَينهمَا.
التَّعْلِيق الأول: الَّذِي رَوَاهُ عبد اللَّه بن مَسْعُود طرف من الحَدِيث الْمَشْهُور، أوصله البُخَارِيّ فِي كتاب الْقدر، وَسَيَجِيءُ الْكَلَام عَلَيْهِ هُنَاكَ إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
الثَّانِي: رَوَاهُ أَبُو وَائِل شَقِيق عَن عبد اللَّه هُوَ ابْن مَسْعُود، أوصله البُخَارِيّ فِي كتاب الْجَنَائِز.
الثَّالِث: رَوَاهُ حُذَيْفَة ابْن الْيَمَان رَضِي الله عَنهُ، أوصله البُخَارِيّ فِي كتاب الرقَاق، وَسَيَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
وَاسم الْيَمَان: حسل، بِكَسْر الْحَاء وَسُكُون السِّين الْمُهْملَة، وَيُقَال: حسيل، بِالتَّصْغِيرِ ابْن جَابر بن عَمْرو بن ربيعَة بن جروة، بِالْجِيم الْمَكْسُورَة، ابْن الْحَارِث بن مَازِن بن قطيعة بن عبس بن بغيض، بِفَتْح الْمُوَحدَة وغين وضاد معجمتين، ابْن ريث، بِفَتْح الرَّاء وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَفِي آخِره ثاء مُثَلّثَة، بن غطفان بن سعد بن قيس بن غيلَان بن مُضر بن نزار بن معد بن عدنان الْعَبْسِي، حَلِيف بني عبد الْأَشْهَل من الْأَنْصَار.
قَالُوا: واليمان، لقب حسل.
.

     وَقَالَ  الْكَلْبِيّ وَابْن سعد: هُوَ لقب جروة، وَإِنَّمَا لقب الْيَمَان لِأَن جروة أصَاب دَمًا فِي قومه فهرب إِلَى الْمَدِينَة، فَخَالف بني عبد الْأَشْهَل من الْأَنْصَار، فَسَماهُ قومه: الْيَمَان، لِأَنَّهُ حَالف اليمانية، أسلم هُوَ وَأَبوهُ وشهدا أحدا، وَقتل أَبوهُ يَوْمئِذٍ، قَتله الْمُسلمُونَ خطأ، فوهب لَهُم دَمه، وَأسْلمت أم حُذَيْفَة وَهَاجَرت، وأرادا أَن يشهدَا بَدْرًا فَاسْتَحْلَفَهُمَا الْمُشْركُونَ أَن لَا يشهدَا مَعَ النَّبِي، صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسلم، فَحَلفا لَهُم ثمَّ سَأَلَا النَّبِي، عَلَيْهِ السَّلَام، فَقَالَ النَّبِي، عَلَيْهِ السَّلَام: ( نفي لَهُم بعهدهم ونستعين بِاللَّه عَلَيْهِم) .
وَكَانَ صَاحب سر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْمُنَافِقين، يعلمهُمْ وَحده.
وَسَأَلَهُ عمر، رَضِي الله عَنهُ: هَل فِي عمالهم أحد مِنْهُم؟ قَالَ: نعم، وَاحِد.
قَالَ: من هُوَ؟ قَالَ: لَا أذكرهُ، فَعَزله عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، كَأَنَّمَا دلّ عَلَيْهِ.
وَكَانَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، إِذا مَاتَ ميت، فَإِن حضر الصَّلَاة عَلَيْهِ حُذَيْفَة صلى عَلَيْهِ عمر، رَضِي الله عَنهُ، وإلاَّ فَلَا.
وَحَدِيثه لَيْلَة الْأَحْزَاب مَشْهُور فِيهِ معجزات، وَكَانَ فتح هَمدَان والري والدينور على يَده، ولاه عمر، رَضِي الله عَنهُ، الْمَدَائِن، وَكَانَ كثير السُّؤَال لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الْفِتَن وَالشَّر ليجتنبهما، ومناقبه كَثِيرَة، رُوِيَ لَهُ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عشرُون حَدِيثا.
قَالَه الْكرْمَانِي فِي شَرحه،.

     وَقَالَ  الشَّيْخ قطب الدّين فِي شَرحه: أخرجَا لَهُ اثْنَي عشر حَدِيثا اتفقَا عَلَيْهَا وَانْفَرَدَ البُخَارِيّ بِثمَانِيَة، وَمُسلم بسبعة عشر.
قلت: فَهَذَا يدل على سقط عدد من الْكرْمَانِي إِمَّا مِنْهُ وَإِمَّا من النساخ، توفّي حُذَيْفَة بِالْمَدَائِنِ سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ بعد قتل عُثْمَان، رَضِي الله عَنهُ، بِأَرْبَعِينَ لَيْلَة، روى لَهُ الْجَمَاعَة.

وقالَ أبُو العَالِيَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: عَنِ النَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ، وقالَ أنَسُ: عَنِ النَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وجَلَّ، وقالَ أبُو هُرَيْرَةَ: عَنِ النَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّكُمْ عَزَّ وجَلَّ.

هَذِه ثَلَاث تعاليق أُخْرَى أوردهَا تَنْبِيها على حكم العنعنة، وَأَن حكمهَا الْوَصْل عِنْد ثُبُوت اللقى، وَفِيه تَنْبِيه آخر وَهُوَ أَن رِوَايَة النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، إِنَّمَا هِيَ عَن ربه، سَوَاء صرح بذلك الصَّحَابِيّ أم لَا، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله عَنْهُمَا، روى عَنهُ حَدِيثه الْمَذْكُور فِي مَوضِع آخر، وَلم يذكر فِيهِ: عَن ربه، لَا يُقَال: ذكر العنعنة لَا تعلق لَهُ بالترجمة، وَكَذَا ذكر الرِّوَايَة، لأَنا نقُول: لفظ الرِّوَايَة شَامِل لجَمِيع الْأَقْسَام الْمَذْكُورَة، وَكَذَا لفظ العنعنة، لاحْتِمَاله كلاًّ من هَذِه الْأَلْفَاظ الثَّلَاثَة، وَهَذِه التَّعَالِيق وَصلهَا البُخَارِيّ فِي كتاب التَّوْحِيد، وَهَؤُلَاء الصَّحَابَة قد ذكرُوا فِيمَا مضى، وَأما أَبُو الْعَالِيَة فقد قَالَ الشَّيْخ قطب الدّين فِي شَرحه: هُوَ الْبَراء، بالراء الْمُشَدّدَة، واسْمه زِيَاد بن فَيْرُوز الْبَصْرِيّ الْقرشِي مَوْلَاهُم، وَقيل: اسْمه أذينة، وَقيل: كُلْثُوم، وَقيل: زِيَاد بن أذينة، سمع ابْن عَبَّاس وَابْن عمر وَابْن الزبير وَغَيرهم، قَالَ أَبُو زرْعَة: ثِقَة توفّي سنة تسعين، روى لَهُ البُخَارِيّ وَمُسلم، وَإِنَّمَا قيل لَهُ: الْبَراء، لِأَنَّهُ كَانَ يبري النبل، وَمثله: أَبُو معشر الْبَراء، واسْمه يُوسُف، وَكَانَ يبري النبل.
وَقيل يبري الْعود، وَمن عداهما الْبَراء مخفف، وَكله مَمْدُود،.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: أَبُو الْعَالِيَة، بِالْمُهْمَلَةِ والتحتانية، وَالظَّاهِر أَنه رفيع، بِضَم الرَّاء وَفتح الْفَاء، ابْن مهْرَان الريَاحي، أَعتَقته امْرَأَة من بني ريَاح، أدْرك الْجَاهِلِيَّة وَأسلم بعد موت رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِسنتَيْنِ، مَاتَ سنة تسعين.
ورياح، بِالْمُثَنَّاةِ التَّحْتَانِيَّة، حَيّ من بني تَمِيم،.

     وَقَالَ  بَعضهم: أَبُو الْعَالِيَة الْمَذْكُور هَهُنَا هُوَ الريَاحي، وَهُوَ رفيع، بِضَم الرَّاء، وَمن زعم أَنه: الْبَراء، بالراء المثقلة فقد وهم، فَإِن الحَدِيث الْمَذْكُور مَعْرُوف بِرِوَايَة الريَاحي دونه.
قلت: كل وَاحِد من أبي الْعَالِيَة الْبَراء، وَأبي الْعَالِيَة رفيع من الروَاة عَن ابْن عَبَّاس، وترجيح أَحدهمَا على الآخر فِي رِوَايَة هَذَا الحَدِيث عَن ابْن عَبَّاس يحْتَاج إِلَى دَلِيل.
وَقَوله: فَإِن الحَدِيث الْمَذْكُور مَعْرُوف بِرِوَايَة الريَاحي دونه، يحْتَاج إِلَى نقل عَن أحد مِمَّن يعْتَمد عَلَيْهِ.



[ قــ :61 ... غــ :61 ]
- حدّثنا قُتَيْبَةُ حدّثنا إسْماعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينارٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قالَ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِنّ مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةً لاَ يَسْقُطُ ورَقُهَا وإِنَّها مَثَلُ المُسْلِمِ فَحَدِّثونِي مَا هِيَ) فَوقَعَ النَّاسُ فِي شَجَرِ البَوْادِي، قَالَ عَبْدُ اللَّه: ووقَعَ فِي نَفْسِي أنَّهَا النَّخْلَةُ فاسْتَحْيَيْتُ، ثُمَّ قالُوا: حدّثنا مَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّه: ( قَالَ هِيَ النَّخْلَةُ) ..
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: ( ثمَّ قَالُوا: حَدثنَا مَا هِيَ يَا رَسُول الله) وَفِي قَوْله: ( فحدثوني مَا هِيَ) .
فَإِن قلت: التَّرْجَمَة بِثَلَاثَة أَلْفَاظ، وَهِي التحديث والإخبار والإنباء، وَلَيْسَ فِي الحَدِيث إِلَّا لفظ التحديث، قلت: أَلْفَاظ الحَدِيث مُخْتَلفَة، فَإِذا جمعت طرقه يُوجد ذَلِك كُله، فَفِي رِوَايَة عبد اللَّه بن دِينَار الْمَذْكُورَة هَهُنَا لفظ: حَدثُونِي مَا هِيَ، وَفِي رِوَايَة نَافِع عَنهُ فِي التَّفْسِير عِنْد البُخَارِيّ أَيْضا: اخبروني، وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ عَن نَافِع عَنهُ: انبؤني، فَاشْتَمَلَ الحَدِيث الْمَذْكُور على هَذَا الْأَلْفَاظ الثَّلَاثَة الَّتِي هِيَ التَّرْجَمَة.

بَيَان رِجَاله: وهم خَمْسَة، وَالْكل ذكرُوا.

بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ فِي كتاب الْعلم هَذَا فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع عَن قُتَيْبَة عَن إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر عَن ابْن دِينَار عَن ابْن عمر وَعَن خَالِد بن مخلد عَن سُلَيْمَان عَن ابْن دِينَار بِهِ، وَعَن عَليّ عَن سُفْيَان عَن ابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد، وَعَن إِسْمَاعِيل عَن مَالك عَن ابْن دِينَار بِهِ، وَفِيه: ( فَقَالُوا: يَا رَسُول الله أخبرنَا بهَا) .
واخرجه فِي الْبيُوع فِي: بابُُ بيع الْجمار وَأكله، عَن أبي عوَانَة عَن أبي بشر عَن مُجَاهِد عَن ابْن عمر، وَفِي الْأَطْعِمَة عَن عمر بن حَفْص عَن أَبِيه عَن الْأَعْمَش عَن مُجَاهِد عَن ابْن عمر، وَعَن أبي نعيم عَن مُحَمَّد ابْن طَلْحَة عَن زبيد عَن مُجَاهِد عَن ابْن عمر، وَلَفظ حَدِيث عمر بن حَفْص: ( بَينا نَحن عِنْد النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، جُلُوس، إِذْ أُتِي بجمار نَخْلَة، فَقَالَ: عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: إِن من الشّجر لما بركته كبركة الْمُسلم، فَظَنَنْت أَنه يَعْنِي النَّخْلَة، فَأَرَدْت أَن أَقُول: هِيَ النَّخْلَة يَا رَسُول الله! ثمَّ الْتفت فَإِذا أَنا عَاشر عشرَة أَنا أحدثهم، فَسكت، فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: هِيَ النَّخْلَة) .
وَفِي أول بعض طرقه: ( كنت عِنْد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ يَأْكُل الْجمار) ، وَأخرجه فِي الْأَدَب فِي: بابُُ لَا يستحي من الْحق، عَن آدم عَن شُعْبَة عَن محَارب عَن أبن عمر، قَالَ رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: ( مثل الْمُؤمن كَمثل شَجَرَة خضراء لَا يسْقط وَرقهَا وَلَا يتحات، فَقَالَ الْقَوْم: هِيَ شَجَرَة كَذَا، فَأَرَدْت أَن أَقُول: هِيَ النَّخْلَة، وَأَنا غُلَام شَاب فَاسْتَحْيَيْت، فَقَالَ: هِيَ النَّخْلَة) .
وَعَن شُعْبَة عَن خبيب عَن حَفْص عَن ابْن عمر مثله، وَزَاد: ( فَحدثت بِهِ عمر، فَقَالَ: لَو كنت قلتهَا لَكَانَ أحب إِلَيّ من كَذَا وَكَذَا) .
وَأخرجه مُسلم فِي تلو كتاب التَّوْبَة عَن مُحَمَّد بن عبيد عَن حَمَّاد عَن أَيُّوب عَن أبي الْجَلِيل، وَعَن أبي بكر وَابْن أبي عمر عَن سُفْيَان عَن أبي نجيح، وَعَن أبي نمير عَن أَبِيه عَن سيف بن سُلَيْمَان،.

     وَقَالَ  ابْن أبي سُلَيْمَان: كلهم عَن مُجَاهِد بِهِ، وَعَن قُتَيْبَة، وَأبي أَيُّوب، وَابْن حجر عَن إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر عَن ابْن دِينَار عَن ابْن عمر بِهِ، وَفِي بَعْضهَا قَالَ ابْن عمر: ( فَألْقى الله تَعَالَى فِي روعي أَنَّهَا النَّخْلَة) .
الحَدِيث.

بَيَان اللُّغَات: قَوْله: ( من الشّجر) ، قَالَ الصغاني فِي ( الْعبابُ) : الشّجر والشجرة مَا كَانَ على سَاق من نَبَات الأَرْض،.

     وَقَالَ  الدينَوَرِي: من الْعَرَب من يَقُول: شَجَرَة وشجرة، فيكسر الشين وبفتح الْجِيم، وَهِي لُغَة لبني سليم، وَأَرْض شجراء كَثِيرَة الْأَشْجَار، وَلَا يُقَال: وَاد شجر، وَوَاحِد الشجراء شَجَرَة، وَلم يَأْتِ على هَذَا الْمِثَال إلاَّ أحرف يسيرَة، وَهِي شَجَرَة وشجراء، وقصبة وقصباء، وطرفة وطرفاء، وحلفة وحلفاء.
.

     وَقَالَ  سيبوبه: الشجراء وَاحِد وَجمع، وَكَذَلِكَ: القصباء والطرفاء والحلفاء.
.

     وَقَالَ  الزَّمَخْشَرِيّ: الشَّجَرَة، بِكَسْر الشين، والشيرة، بِكَسْر الشين وَالْيَاء، وَعَن أبي عَمْرو أَنه كرهها،.

     وَقَالَ : يقْرَأ بهَا برابر مَكَّة وسودانها.
قَوْله: ( الْبَوَادِي) ، جمع بادية وَهِي خلاف الْحَاضِرَة، والبدو مثل الْبَادِيَة، وَالنِّسْبَة إِلَيْهِمَا بدوي، وَعَن أبي زيد: بداوي، وَأَصلهَا بَاء ودال وواو، من البدو، وَهُوَ الظُّهُور، وَهُوَ ظَاهر فِي معنى الْبَادِيَة، وَفِي بعض الرِّوَايَات البواد، بِحَذْف الْيَاء، وَهِي لُغَة.
قَوْله: ( النَّخْلَة) ، وَاحِدَة النّخل وَفِي ( الْعبابُ) : النّخل والنخيل بِمَعْنى وَاحِد، الْوَاحِدَة نَخْلَة.

بَيَان الْإِعْرَاب: قَوْله: ( شَجَرَة) نصب لِأَنَّهُ اسْم: إِن، وخبرها قَوْله: ( من الشَّجَرَة) ، وَكلمَة: من، للتَّبْعِيض، وَيجوز أَن يكون الْمَعْنى من جنس الشَّجَرَة.
قَوْله: ( لَا يسْقط وَرقهَا) ، جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل فِي مَحل النصب على أَنَّهَا صفة لشَجَرَة.
قَوْله: ( وَأَنَّهَا) ، بِالْكَسْرِ عطف على ( إِن) الأولى.
قَوْله ( مَا هِيَ) مُبْتَدأ وَخبر وَالْجُمْلَة سدت حسد المفعولين لفعل الحَدِيث.
قَوْله: ( إِنَّهَا النحلة) .
بِفَتْح: أَن لِأَنَّهَا فَاعل وَقع، والنخلة، مَرْفُوع لِأَنَّهَا خبر ان.
قَوْله: ( حَدثنَا مَا هِيَ) مُبْتَدأ وَهِي خَبره، وَالْجُمْلَة سدت مسد المفعولين أَيْضا، وَقَوله: ( هِيَ النَّخْلَة) مُبْتَدأ وَخبر وَقعت مقول القَوْل.

بَيَان الْمعَانِي: قَوْله: ( إِن من الشّجر شَجَرَة) ، مخرج على خلاف مُقْتَضى الظَّاهِر، لِأَن المخاطبين فِيهِ كَانُوا مستشرفين كاستشراف الطَّالِب المتردد، فَلذَلِك حسن تأكيده: بِأَن، وصوغه بِالْجُمْلَةِ الإسمية.
قَوْله: ( لَا يسْقط وَرقهَا) صفة سلبية تبين أَن موصوفها مُخْتَصّ بهَا دون غَيره.
قَوْله: ( وَإِنَّهَا مثل الْمُسلم) كَذَلِك مخرج على خلاف مُقْتَضى الظَّاهِر، كَمَا ذكرنَا.
قَوْله: ( فَوَقع النَّاس فِي شجر الْبَوَادِي) أَي: ذهبت أفكارهم إِلَى شجر الْبَوَادِي وذهلوا عَن النَّخْلَة، فَجعل كل مِنْهُم يُفَسِّرهَا بِنَوْع من الْأَنْوَاع، يُقَال: وَقع الطَّائِر على الشَّجَرَة.
إِذا نزل عَلَيْهَا.
قَوْله: ( قَالَ عبد اللَّه) أَي: عبد اللَّه بِهِ عمر، رَضِي الله عَنْهُمَا، قَوْله: ( فَاسْتَحْيَيْت) زَاد فِي رِوَايَة مُجَاهِد، فِي: بابُُ الْفَهم فِي الْعلم: ( فَأَرَدْت أَن أَقُول: هِيَ النَّخْلَة، فَإِذا أَنا أَصْغَر الْقَوْم) .
وَله فِي الْأَطْعِمَة: ( فَإِذا أَنا عَاشر عشرَة أَنا أحدثهم) .
وَفِي رِوَايَة نَافِع: ( وَرَأَيْت أَبَا بكر وَعمر لَا يتكلمان، فَكرِهت أَن أَتكَلّم) .
وَفِي رِوَايَة مَالك عَن عبد اللَّه بن دِينَار عِنْد البُخَارِيّ، فِي بابُُ الْحيَاء فِي الْعلم، قَالَ عبد اللَّه: ( فَحدثت أبي بِمَا وَقع ( نَفسِي) ، فَقَالَ: لِأَن كنت قلتهَا أحب إِلَيّ من أَن يكون لي كَذَا وَكَذَا) .
زَاد ابْن حبَان فِي ( صَحِيحه) : ( احسبه قَالَ: حمر النعم) .

بَيَان الْبَيَان: قَوْله: ( مثل الْمُسلم) ، بِفَتْح الْمِيم والثاء مَعًا فِي رِوَايَة الْأصيلِيّ وكريمة، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: مثل، بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون الثَّاء.
قَالَ الْجَوْهَرِي: مثل، كلمة تَسْوِيَة.
يُقَال: هَذَا مثله ومثيله.
كَمَا يُقَال: شبهه وشبيهه، بِمَعْنى.
.

     وَقَالَ  الزَّمَخْشَرِيّ: الْمثل، فِي أصل كَلَامهم بِمَعْنى الْمثل، يُقَال: مثل وَمثل ومثيل كشبه وَشبه وشبيه، ثمَّ قيل لِلْقَوْلِ السائر الممثل مضربه بمورده: مثل، وَلم يضْربُوا مثلا وَلَا رَأَوْهُ أَهلا للتسيير، وَلَا جَدِيرًا بالتداول وَالْقَبُول إلاَّ قولا فِيهِ غرابة من بعض الْوُجُوه.
قلت: لضرب الْمثل شَأْن فِي إبراز خبيئات الْمعَانِي، وَرفع الاستار عَن الْحَقَائِق، فَإِن الْأَمْثَال تري المخيل فِي صُورَة الْمُحَقق، والمتوهم فِي معرض الْمُتَيَقن، وَالْغَائِب كَأَنَّهُ مشَاهد، وَلَا يضْرب مثل إلاَّ قَول فِيهِ غرابة، فَإِن قلت: مَا المورد وَمَا المضرب؟ قلت: المورد: الصُّورَة الَّتِي ورد فِيهَا ذَلِك القَوْل، والمضرب هِيَ الصُّورَة الَّتِي شبهت بهَا.
ثمَّ اعْلَم أَن الْمثل لَهُ مَفْهُوم لغَوِيّ، وَهُوَ النظير.
وَمَفْهُوم عرفي، وَهُوَ القَوْل السائر، وَمعنى مجازي وَهُوَ الْحَال الغريبة، واستعير الْمثل هُنَا كاستعارة الْأسد للمقدام، للْحَال العجيبية أَو الصّفة الغريبة، كَأَنَّهُ قيل: حَال الْمُسلم العجيب الشَّأْن كَحال النَّخْلَة، أَو: صفة الْمُسلم الغريبة كصفة النَّخْلَة، فالمسلم هُوَ الْمُشبه، والنخلة هُوَ الْمُشبه بهَا، وَأما وَجه الشّبَه فقد اخْتلفُوا فِيهِ، فَقَالَ بَعضهم: هُوَ كَثْرَة خَيرهَا ودوام ظلها وَطيب ثَمَرهَا ووجودها على الدَّوَام، فَإِنَّهُ من حِين يطلع ثَمَرهَا لَا يزَال يُؤْكَل مِنْهُ حَتَّى ييبس، وَبعد أَن ييبس يتَّخذ مِنْهَا مَنَافِع كَثِيرَة، من خشبها وورقها وَأَغْصَانهَا، فيستعمل جذوعاً وحطباً وعصياً ومحاضر وحصراً وحبالاً وأواني، وَغير ذَلِك مِمَّا ينْتَفع بِهِ من أَجْزَائِهَا، ثمَّ آخرهَا نَوَاهَا ينْتَفع بِهِ، علفاً لِلْإِبِلِ وَغَيره، ثمَّ جمال نباتها وَحسن ثَمَرَتهَا وَهِي كلهَا مَنَافِع، وَخير وجمال، وَكَذَلِكَ الْمُؤمن خير كُله من كَثْرَة طاعاته وَمَكَارِم أخلاقه ومواظبته على صلَاته وصيامه وَذكره وَالصَّدَََقَة وَسَائِر الطَّاعَات، هَذَا هُوَ الصَّحِيح فِي وَجه الشّبَه.
.

     وَقَالَ  بَعضهم: وَجه التَّشْبِيه أَن النَّخْلَة إِذا قطعت رَأسهَا مَاتَت بِخِلَاف بَاقِي الشّجر،.

     وَقَالَ  بَعضهم: لِأَنَّهَا لَا تحمل حَتَّى تلقح،.

     وَقَالَ  بَعضهم: لِأَنَّهَا تَمُوت إِذا مزقت أَو فسد مَا هُوَ كالقلب لَهَا.
.

     وَقَالَ  بَعضهم: لِأَن لطلعها رَائِحَة الْمَنِيّ،.

     وَقَالَ  بَعضهم: لِأَنَّهَا تعشق كالإنسان، وَهَذِه الْأَقْوَال كلهَا ضَعِيفَة من حَيْثُ إِن التَّشْبِيه إِنَّمَا وَقع بِالْمُسلمِ، وَهَذِه الْمعَانِي تَشْمَل الْمُسلم وَالْكَافِر.
قَوْله: ( حَدثنَا) صُورَة أَمر وَلَكِن المُرَاد مِنْهُ الطّلب وَالسُّؤَال، وَقد علم أَن الْأَمر إِذا كَانَ بالعلو والاستعلاء، يكون حَقِيقَة فِي بابُُه، وَإِذا كَانَ لمساويه يكون التماساً، وَإِذا كَانَ لأعلى مِنْهُ يكون طلبا وسؤالاً.
فَافْهَم.

بَيَان استنباط الْأَحْكَام: الأول: فِيهِ اسْتِحْبابُُ إِلْقَاء الْعَالم الْمَسْأَلَة على أَصْحَابه ليختبر أفهامهم، ويرغبهم فِي الْفِكر.
الثَّانِي: فِيهِ توقير الْكِبَار وَترك التَّكَلُّم عِنْدهم، وَقد بوب عَلَيْهِ البُخَارِيّ بابُُا، كَمَا سَيَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
الثَّالِث: فِيهِ اسْتِحْبابُُ الْحيَاء مَا لم يؤد إِلَى تَفْوِيت مصلحَة، وَلِهَذَا تمنى عمر، رَضِي الله عَنهُ، أَن يكون ابْنه لم يسكت.
الرَّابِع: فِيهِ جَوَاز اللغز مَعَ بَيَانه.
فَإِن قلت: روى أَبُو دَاوُد من حَدِيث مُعَاوِيَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ( أَنه نهى عَن الأغلوطات) ، قَالَ الْأَوْزَاعِيّ، أحد رُوَاته: هِيَ صعاب الْمسَائِل.
قلت: هُوَ مَحْمُول على مَا إِذا أخرج على سَبِيل تعنيت المسؤول أَو تعجيزه أَو تخجيله وَنَحْو ذَلِك.
الْخَامِس: فِيهِ جَوَاز ضرب الْأَمْثَال والأشباه لزِيَادَة الأفهام، وتصوير الْمعَانِي فِي الذِّهْن، وتحديد الْفِكر، وَالنَّظَر فِي حكم الْحَادِثَة.
السَّادِس: فِيهِ تلويح إِلَى أَن التَّشْبِيه لَا عُمُوم لَهُ، وَلَا يلْزم أَن يكون الْمُشبه مثل الْمُشبه بِهِ فِي جَمِيع الْوُجُوه.
السَّابِع: فِيهِ أَن الْعَالم الْكَبِير قد يخفى عَلَيْهِ بعض مَا يُدْرِكهُ من هُوَ دونه، لِأَن الْعلم منح إلهية ومواهب رحمانية، وَأَن الْفضل بيد الله يؤتيه من يَشَاء.
الثَّامِن: فِيهِ دلَالَة على فَضِيلَة النّخل.
قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: { ضرب الله مثلا كلمة طيبَة} ( إِبْرَاهِيم: 24) لَا إلاه إِلَّا الله، { كشجرة طيبَة} ( إِبْرَاهِيم: 24) هِيَ: النَّخْلَة { أَصْلهَا ثَابت} ( إِبْرَاهِيم: 24) فِي الأَرْض، { وفرعها فِي السَّمَاء} ( إِبْرَاهِيم: 24) أَي: رَأسهَا { تؤتي أكلهَا كل} ( إِبْرَاهِيم: 25) وَقت.
شبه الله الْإِيمَان بالنخلة لثبات الْإِيمَان فِي قلب الْمُؤمن، كثبات النَّخْلَة فِي منبتها، وَشبه ارْتِفَاع عمله إِلَى السَّمَاء بارتفاع فروع النَّخْلَة، وَمَا يكتسبه الْمُؤمن من بركَة الْإِيمَان وثوابه فِي كل وَقت وزمان بِمَا ينَال من ثَمَر النَّخْلَة فِي أَوْقَات السّنة كلهَا من الرطب وَالتَّمْر، وَقد ورد ذَلِك صَرِيحًا فِيمَا رَوَاهُ الْبَزَّار من طَرِيق مُوسَى بن عقبَة عَن نَافِع عَن ابْن عمر قَالَ: ( قَرَأَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ... فَذكر هَذِه الْآيَة فَقَالَ: أَتَدْرُونَ مَا هِيَ؟ قَالَ ابْن عمر: لم يخف عَليّ أَنَّهَا النَّخْلَة، فَمَنَعَنِي أَن أَتكَلّم لمَكَان سني، فَقَالَ رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام: هِيَ النَّخْلَة) .
وروى ابْن حبَان من رِوَايَة عبد الْعَزِيز بن مُسلم عَن عبد اللَّه بن دِينَار عَن عبد اللَّه بن عمر، رَضِي الله عَنْهُمَا، أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: ( من يُخْبِرنِي عَن شَجَرَة مثلهَا مثل الْمُؤمن { أَصْلهَا ثَابت وفرعها فِي السَّمَاء} ( إِبْرَاهِيم: 24) ؟ فَذكر الحَدِيث، وروى الْبَزَّار أَيْضا من طَرِيق سُفْيَان بن حُسَيْن عَن أبي بشر عَن مُجَاهِد عَن ابْن عمر قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ( مثل الْمُؤمن مثل النَّخْلَة، فَمَا أَتَاك مِنْهَا نفعك) .
هَكَذَا أوردهُ مُخْتَصرا، وَإِسْنَاده صَحِيح،.

     وَقَالَ  قَالَ الْبَزَّار: لم يرو هَذَا الحَدِيث عَن النَّبِي، عَلَيْهِ السَّلَام، بِهَذَا السِّيَاق إلاَّ ابْن عمر وَحده، وَلما ذكره التِّرْمِذِيّ قَالَ: وَفِي الْبابُُ عَن أبي هُرَيْرَة.
قلت: أخرجه عبد بن حميد فِي تَفْسِيره بِلَفْظ: مثل الْمُؤمن مثل النَّخْلَة، وروى التِّرْمِذِيّ أَيْضا، وَالنَّسَائِيّ، وَابْن حبَان من حَدِيث أنس، رَضِي الله عَنهُ، أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ( قَرَأَ: { مثلا كلمة طيبَة كشجرة طيبَة} ( إِبْرَاهِيم: 24) ، قَالَ: هِيَ النَّخْلَة) .
تفرد بِرَفْعِهِ حَمَّاد بن سَلمَة.
.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: قيل: إِن النَّخْلَة خلقت من بَقِيَّة طِينَة آدم، عَلَيْهِ السَّلَام، فَهِيَ كالعمة للأناسي.
قلت: رُوِيَ فِيهِ حَدِيث مَرْفُوع، وَلكنه لم يثبت.