فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: «رب مبلغ أوعى من سامع»

( بابُُ قَولِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رُبَّ مُبَلَّغٍ أوْعَى مِنْ سامِعٍ)

الْكَلَام فِيهِ على وُجُوه: الأول: التَّقْدِير: هَذَا بابُُ فِي بَيَان قَوْله النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ( رب مبلغ اوعى من سامع) ، وَالْبابُُ مَرْفُوع على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف مُضَاف إِلَى مَا بعده.
الثَّانِي: وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبابَُُيْنِ من حَيْثُ إِن الْمَذْكُور فِي هَذَا الْبابُُ حَال الْمبلغ، بِفَتْح اللَّام، وَمن جملَة الْمَذْكُور فِي الْبابُُ السَّابِق الْجَالِس فِي الْحلقَة، وَهُوَ أَيْضا من جملَة المبلغين، لِأَن حَلقَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَت مُشْتَمِلَة على الْعُلُوم، وَالْأَمر بتعلمها والتبليغ إِلَى الغائبين،.

     وَقَالَ  الشَّيْخ قطب الدّين: أَرَادَ البُخَارِيّ بِهَذَا التَّبْوِيب الِاسْتِدْلَال على جَوَاز الْحمل على من لَيْسَ بفقيه من الشُّيُوخ الَّذين لَا علم عِنْدهم وَلَا فقه، إِذا ضبط مَا يحدث بِهِ.
قلت: هَذَا بَيَان وَجه وضع هَذَا الْبابُُ وَلَيْسَ فِيهِ تعرض إِلَى وَجه الْمُنَاسبَة بَين هَذَا الْبابُُ وَبَين الْبابُُ الَّذِي قبله، وَلم أر أحدا من الشُّرَّاح تعرض لهَذَا الَّذِي ذَكرْنَاهُ.
الثَّالِث: قَالَ الْكرْمَانِي: وَهَذَا الحَدِيث رَوَاهُ مُعَلّقا، وَهُوَ إِمَّا بِمَعْنى الحَدِيث الَّذِي ذكره بعده بِالْإِسْنَادِ، فَهُوَ من بابُُ نقل الحَدِيث بِالْمَعْنَى، وَإِمَّا أَنه ثَبت عِنْده بِهَذَا اللَّفْظ من طَرِيق آخر.
.

     وَقَالَ  الشَّيْخ قطب الدّين: وَقد جَاءَت لَفْظَة التَّرْجَمَة فِي التِّرْمِذِيّ من رِوَايَة عبد الرحمان بن عبد اللَّه بن مَسْعُود عَن أَبِيه، قَالَ: سَمِعت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: ( نضر الله أمرأ سمع منَّا شَيْئا فَبَلغهُ كَمَا سمع، فَرب مبلغ اوعى من سامع) .
قَالَ التِّرْمِذِيّ: حَدِيث حسن صَحِيح.
قلت: كل مِنْهُمَا قد أبعد وتعسف، وَالَّذِي يَنْبَغِي أَن يُقَال هُوَ: إِن هَذَا حَدِيث مُعَلّق، أورد البُخَارِيّ مَعْنَاهُ فِي هَذَا الْبابُُ، وَأما لَفظه: فَهُوَ مَوْصُول عِنْده فِي: بابُُ الْخطْبَة بمنى، من كتاب الْحَج، أخرجه من طَرِيق قُرَّة بن خَالِد عَن مُحَمَّد بن سِيرِين، قَالَ: أَخْبرنِي عبد الرَّحْمَن بن أبي بكرَة، وَرجل آخر أفضل فِي نَفسِي من عبد الرَّحْمَن بن حميد بن عبد الرَّحْمَن، كِلَاهُمَا عَن أبي بكرَة، قَالَ: ( خَطَبنَا رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَوْم النَّحْر، قَالَ: أَتَدْرُونَ أَي يَوْم هَذَا؟) وَفِي آخِره هَذَا اللَّفْظ.
وَقد أخرج التِّرْمِذِيّ.
فِي ( جَامعه) وَابْن حبابُ وَالْحَاكِم فِي ( صَحِيحَيْهِمَا) من حَدِيث زيد بن ثَابت، رَضِي الله عَنهُ، قَالَ: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: ( نصر الله أمرأ سمع مَقَالَتي فحفظها ووعاها فأداها إِلَى من لم يسْمعهَا، فَرب حَامِل فقه غير فَقِيه، وَرب حَامِل فقه إِلَى من هُوَ أفقه مِنْهُ) .
قَالَ التِّرْمِذِيّ: حسن.
.

     وَقَالَ  الْحَاكِم: صَحِيح على شَرط الشَّيْخَيْنِ.
قَوْله: ( نضر) بِالتَّشْدِيدِ أَكثر من التَّخْفِيف، أَي: حسن، وَيُقَال: نضر الله وَجهه، ونضر، بِالضَّمِّ وَالْكَسْر، حَكَاهُمَا الْجَوْهَرِي.
قلت: وَجَاء: نضر، بِالْفَتْح أَيْضا، حَكَاهُ أَبُو عبيد.
والمصدر: نضارة ونضرة أَيْضا، وَهُوَ: الْحسن والرونق.
فَإِن قلت: كَيفَ قَالَ التِّرْمِذِيّ لحَدِيث ابْن مَسْعُود: وَهُوَ حَدِيث حسن صَحِيح، وَقد تكلم النَّاس فِي سَماع عبد الرحمان عَن أَبِيه، فَقَالُوا: كَانَ صَغِيرا؟.

     وَقَالَ  يحيى بن معِين: عبد الرَّحْمَن وَأَبُو عُبَيْدَة ابْنا عبد اللَّه ابْن مَسْعُود لم يسمعا من أَبِيهِمَا.
.

     وَقَالَ  أَحْمد: مَاتَ عبد اللَّه ولعَبْد الرَّحْمَن ابْنه سِتّ سِنِين أَو نَحْوهَا؟ قلت: كَأَنَّهُ لم يعبأ بِمَا قيل فِي عدم سَماع عبد الرَّحْمَن من أَبِيه لصغره،.

     وَقَالَ  الشَّيْخ قطب الدّين: لم يخرج البُخَارِيّ لأبي عُبَيْدَة شَيْئا، وَأخرج هُوَ وَمُسلم لعبد الرَّحْمَن عَن مَسْرُوق، فَلَمَّا كَانَ الحَدِيث لَيْسَ من شَرطه جعله فِي التَّرْجَمَة.
قلت: هَذَا بِنَاء على تعسفه فِيمَا ذَكرْنَاهُ، وَالَّذِي جعله فِي التَّرْجَمَة قد ذكره فِي كتاب الْحَج على مَا ذكرنَا.
الرَّابِع: قَوْله: ( رب) هُوَ للتقليل، لكنه كثر فِي الِاسْتِعْمَال للتكثير بِحَيْثُ غلب حَتَّى صَارَت كَأَنَّهَا حَقِيقَة فِيهِ، وَهِي حرف خلافًا للكوفيين فِي دَعْوَى إسميته، وَقَالُوا: قد أخبر عَنهُ الشَّاعِر فِي قَوْله.

( وَرب قتل عَار)

وَأجِيب: بِأَن عَار، خبر لمبتدأ مَحْذُوف، وَالْجُمْلَة صفة للمجرور، أَو خبر للمجرور، إِذْ هُوَ فِي مَوضِع مُبْتَدأ، وينفرد: رب، بِوُجُوب تصديرها وتنكير مجرورها ونعته إِن كَانَ ظَاهرا، وإفراده وتذكيره وتمييزه بِمَا يُطَابق الْمَعْنى إِن كَانَ ضميراً، وَغَلَبَة حذف معداها ومضيه، وَوُجُوب كَون فعلهَا مَاضِيا لفظا أَو معنى.
.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: وفيهَا لُغَات عشر، ثمَّ عدهَا.
قلت: فِيهَا سِتّ عشرَة لُغَة: ضم الرَّاء، وَفتحهَا، وَكِلَاهُمَا مَعَ التَّشْدِيد وَالتَّخْفِيف، وَالْأَوْجه الْأَرْبَعَة مَعَ تَاء التَّأْنِيث الساكنة أَو المتحركة، أَو مَعَ التجرد مِنْهَا، فَهَذِهِ اثْنَتَيْ عشرَة، وَالضَّم وَالْفَتْح مَعَ إسكان الْبَاء، وَضم الحرفين مَعَ التَّشْدِيد وَمَعَ التَّخْفِيف.
قَوْله: ( مبلغ) ، بِفَتْح اللَّام أَي: مبلغ إِلَيْهِ، فَحذف الْجَار وَالْمَجْرُور كَمَا يُقَال الْمُشْتَرك وَيُرَاد بِهِ الْمُشْتَرك فِيهِ.
قَوْله: ( أوعى) أفعل التَّفْضِيل من الوعي، وَهُوَ الْحِفْظ.
فَإِن قلت: كَيفَ إِعْرَاب هَذَا الْكَلَام؟ قلت: إعرابه على مَذْهَب الْكُوفِيّين: أَن ( رب مبلغ) ، كَلَام إضافي مُبْتَدأ، وَقَوله ( أوعى من سامع) خَبره، وَالْمعْنَى: رب مبلغ إِلَيْهِ عني أفهم وأضبط لما أَقُول من سامع مني، وَلَا بُد من هَذَا الْقَيْد لِأَن الْمَقْصُود ذَلِك، وَقد صرح بذلك ابْن مَنْدَه فِي رِوَايَته من طَرِيق هودة عَن ابْن عون، وَلَفظه: ( فَإِنَّهُ عَسى أَن يكون بعض من لم يشْهد أوعى لما أَقُول من بعض من شهد) .
وَأما على مَذْهَب الْبَصرِيين، فَإِن قَوْله: ( مبلغ) ، وَإِن كَانَ مجروراً بِالْإِضَافَة، وَلكنه مَرْفُوع على الِابْتِدَاء محلا.
وَقَوله: ( أوعى) صفة لَهُ، وَالْخَبَر مَحْذُوف وَتَقْدِيره: يكون أَو يُوجد، أَو نَحْوهمَا.
.

     وَقَالَ  النُّحَاة فِي نَحْو: رب رجل صَالح عِنْدِي، مَحل مجرورها رفع على الابتدائية وَفِي نَحْو: رب رجل لَقيته، نصب على المفعولية، وَفِي نَحْو: رب رجل صَالح لَقيته، رفع أَو نصب كَمَا فِي قَوْلك: هَذَا لَقيته.



[ قــ :67 ... غــ :67 ]
- حدّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ: حدّثنا بِشْرُ قَالَ: حدّثنا ابنُ عَوْنٍ عَن ابنِ سِيرِينَ عَن عبدِ الرَّحْمَنِ بن أبي بَكْرَةَ عَن أبِيهِ، ذَكَرَ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قعَدَ على بَعِيرِهِ وأمْسَك إنسانٌ بِخِطامِهِ أوْ بِزِمامِهِ قَالَ: ( أيُّ يَوْمٍ هَذَا؟) فَسَكَتْنا حتَّى ظَنَنَّا أنَّهُ سَيُسَمِيهِ سِوَى اسمِهِ؟ قَالَ: ( ألَيْسَ يَوْمَ النَّحْرِ) قُلْنا: بَلَى.
قَالَ: ( فأَيّ شَهُرٍ هَذَا) فَسَكتنا حتَّى ظَنَنَّا أنهُ سَيُسَميِّهِ بِغَيْرِ اسمِهِ، فَقَالَ: ( ألَيْسَ بِذِى الحِجةِ؟) قُلْنا: بَلَى.
قَالَ: ( فإنّ دِماءَكُمْ وَأَمُوالَكُمْ وأعْراضَكُمْ بَيْنَكُمْ حَرامُ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، لِيُبَلِّغِ الشاهِدُ الغائِبَ فإنّ الشاهدَ عَسَى أَن يُبَلِّغَ مَن هُو أوْعَى لهُ مِنهُ) ..
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة من حَيْثُ الْمَعْنى كَمَا ذَكرْنَاهُ.

بَيَان رِجَاله: وهم سِتَّة.
الأول: مُسَدّد بن مسرهد.
الثَّانِي: بشر، بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة، ابْن الْمفضل بن لَاحق الرقاشِي أَبُو إِسْمَاعِيل الْبَصْرِيّ، سمع ابْن الْمُنْكَدر وَعبد اللَّه بن عون وَغَيرهمَا، روى عَنهُ أَحْمد،.

     وَقَالَ : إِلَيْهِ الْمُنْتَهى فِي التثبت بِالْبَصْرَةِ.
قَالَ أَبُو زرْعَة وَأَبُو حَاتِم: ثِقَة،.

     وَقَالَ  مُحَمَّد بن سعد: كَانَ ثِقَة كثير الحَدِيث عثمانياً، توفّي سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وَمِائَة،.

     وَقَالَ : إِنَّه كَانَ يُصَلِّي كل يَوْم أَرْبَعمِائَة رَكْعَة.
يَصُوم يَوْمًا وَيفْطر يَوْمًا، روى لَهُ الْجَمَاعَة.
الثَّالِث: عبد اللَّه بن عون بن أرطبان الْبَصْرِيّ، وأرطبان مولى عبد اللَّه بن مُغفل الصَّحَابِيّ، رأى أنس بن مَالك وَلم يثبت لَهُ مِنْهُ سَماع، وَسمع الْقَاسِم بن مُحَمَّد وَالْحسن وَمُحَمّد بن سِيرِين وَغَيرهم، روى عَنهُ شُعْبَة وَالثَّوْري وَابْن الْمُبَارك وَآخَرُونَ، وَعَن خَارِجَة قَالَ: صَحِبت ابْن عون أَرْبعا وَعشْرين سنة فَمَا أعلم أَن الْمَلَائِكَة كتبت عَلَيْهِ خَطِيئَة.
.

     وَقَالَ  أَبُو حَاتِم: هُوَ ثِقَة.
.

     وَقَالَ  عَمْرو بن عَليّ: ولد سنة سِتّ وَسِتِّينَ، وَمَات وَهُوَ ابْن خمس وَثَمَانِينَ، وَيُقَال: توفّي سنة إِحْدَى وَخمسين وَمِائَة، روى لَهُ الْجَمَاعَة.
الرَّابِع: مُحَمَّد بن سِيرِين.
الْخَامِس: عبد الرَّحْمَن بن أبي بكرَة نفيع بن الْحَارِث أَبُو عمر الثَّقَفِيّ الْبَصْرِيّ، أَخُو عبيد اللَّه وَمُسلم ووراد، وَهُوَ أول مَوْلُود ولد فِي الْإِسْلَام بِالْبَصْرَةِ سنة أَربع عشرَة، سمع أَبَاهُ وعلياً وَغَيرهمَا، أخرج لَهُ البُخَارِيّ هُنَا، وَفِي غير مَوضِع عَن ابْن سِيرِين وَعبد الْملك بن عُمَيْر وخَالِد الْحذاء، وَعنهُ عَن أَبِيه قَالَ ابْن معِين: توفّي سنة تسع وَتِسْعين، روى لَهُ الْجَمَاعَة.
السَّادِس: أَبوهُ أَبُو بكرَة، واسْمه نفيع، بِضَم النُّون وَفتح الْفَاء، ابْن الْحَارِث وَقد تقدم.

بَيَان لطائف إِسْنَاده: مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث والعنعنة.
وَمِنْهَا: أَن رُوَاته كلهم بصريون.
وَمِنْهَا: أَن فِي رُوَاته ثَلَاثَة من التَّابِعين يروي بَعضهم عَن بعض، وهم: عبد اللَّه ابْن عون، وَابْن سِيرِين، وَعبد الرَّحْمَن بن أبي بكرَة.

بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْفِتَن عَن مُسَدّد عَن يحيى بن سعيد عَن قُرَّة بن خَالِد عَن مُحَمَّد بن سِيرِين عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي بكرَة وَرجل آخر أفضل فِي نَفسِي من عبد الرَّحْمَن كِلَاهُمَا عَن أبي بكرَة، وَزَاد فِي آخِره: قَالَ عبد الرَّحْمَن: حَدَّثتنِي أُمِّي عَن أبي بكرَة أَنه قَالَ: لَو دخلُوا عَليّ مَا نهشت لَهُم بقصبة، وَفِي الْحَج عَن عبد اللَّه بن مُحَمَّد عَليّ أبي عَامر الْعَقدي عَن قُرَّة بن خَالِد بِإِسْنَادِهِ نَحوه، وسمى الرجل حميد بن عبد الرَّحْمَن وَلم يذكر حَدِيث عبد الرَّحْمَن عَن أمه، وَفِي التَّفْسِير، وَفِي بَدْء الْخلق عَن أبي مُوسَى، وَفِي الْأَضَاحِي عَن مُحَمَّد بن سَلام كِلَاهُمَا عَن عبد الْوَهَّاب الثَّقَفِيّ، وَفِي الْعلم وَالتَّفْسِير أَيْضا عَن عبد اللَّه بن عبد الْوَهَّاب الحَجبي عَن حَمَّاد بن زيد، كِلَاهُمَا عَن أَيُّوب، وَأخرجه مُسلم فِي الدِّيات عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَيحيى بن حبيب ابْن عَرَبِيّ، كِلَاهُمَا عَن عبد الْوَهَّاب الثَّقَفِيّ بِهِ، وَعَن نصر بن عَليّ عَن يزِيد بن زُرَيْع، وَعَن أبي مُوسَى عَن حَمَّاد بن مسْعدَة، كِلَاهُمَا عَن ابْن عون بِهِ، وَزَاد فِي آخِره: ثمَّ انكفأ إِلَى كبشين أملحين فذبحهما إِلَى جريعة من الْغنم، فَقَسمهَا بَيْننَا.
وَعَن مُحَمَّد بن حَاتِم عَن يحيى بن سعيد نَحوه، وَلم يذكر حَدِيث عبد الرَّحْمَن عَن أمه، وَعَن مُحَمَّد ابْن عَمْرو بن جبلة، وَأحمد بن الْحسن بن خرَاش، كِلَاهُمَا عَن أبي عَامر الْعَقدي نَحوه، وسمى حميد بن عبد الرحمان.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْحَج عَن إِسْمَاعِيل بن مَسْعُود بن بشر بن الْمفضل نَحوه، وَعَن يحيى بن مسْعدَة عَن يزِيد بن زُرَيْع نَحوه، وَفِيه وَفِي الْعلم عَن أبي قدامَة السَّرخسِيّ عَن أبي عَامر الْعَقدي نَحوه، وَذكر حميد بن عبد الرَّحْمَن، وَعَن سُلَيْمَان بن مُسلم عَن النَّضر بن شُمَيْل عَن أبي عون.
واخرجه البُخَارِيّ من حَدِيث ابْن عَبَّاس وَابْن عمر، رَضِي الله عَنْهُم، بِنَحْوِهِ، وَله طرق تَأتي إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
وَذكره ابْن مَنْدَه فِي ( مستخرجه) من حَدِيث سَبْعَة عشر صحابياً.

بَيَان اللُّغَات: قَوْله: ( على بعيره) الْبَعِير الْجمل الْبَاذِل، وَقيل: الْجذع، وَقد يكون للْأُنْثَى.
وَحكي عَن بعض الْعَرَب: شربت من لبن بَعِيري وصرعتني بَعِيري.
وَفِي ( الْجَامِع) : الْبَعِير بِمَنْزِلَة الْإِنْسَان، يجمع الْمُذكر والمؤنث من النَّاس، إِذا رَأَيْت جملا على الْبعد.
قلت: هَذَا بعير فَإِذا استثبته قلت: جمل أَو نَاقَة، وَيجمع على: أَبْعِرَة وأباعر وأباعير وبعر وبعران.
وَفِي ( الْعبابُ) : يُقَال للجمل بعير وللناقة بعير، وَبَنُو تَمِيم يَقُولُونَ: بعير وشعير، بِكَسْر الْبَاء والشين وَالْفَتْح هُوَ الصَّحِيح، وَإِنَّمَا يُقَال لَهُ: بعير إِذا جذع، وَالْجمع أَبْعِرَة فِي أدنى الْعدَد، وأباعر فِي الْكثير، وأباعير وبعران هَذِه عَن الْفراء.
قَوْله: ( أمسك إِنْسَان بخطامه) أَي: تمسك بِهِ، ومسكت بِهِ مثل أَمْسَكت بِهِ.
قَالَ الله تَعَالَى: { وَالَّذين يمسكون بِالْكتاب} ( الْأَعْرَاف: 170) أَي: يتمسكون بِهِ، وَقَرَأَ البصريون: { وَلَا تمسكوا بعصم الكوافر} ( الممتحنه: 10) بِالتَّشْدِيدِ، والخطام، بِكَسْر الْخَاء: الزِّمَام الَّذِي يشد فِيهِ الْبرة، بِضَم الْبَاء وَفتح الرَّاء؛ حَلقَة من صفر تجْعَل فِي لحم أنف الْبَعِير.
.

     وَقَالَ  الْأَصْمَعِي: تجْعَل فِي إِحْدَى جَانِبي المنخرين.
قَوْله: ( بِذِي الْحجَّة) بِكَسْر الْحَاء وَفتحهَا وَالْكَسْر افصح، وَيجمع على: ذَوَات الْحجَّة، وَذي الْقعدَة، بِكَسْر الْقَاف، وَيجمع على ذَوَات الْعقْدَة.
قَوْله: ( وَأَعْرَاضكُمْ) جمع عرض، بِكَسْر الْعين، وَهُوَ مَوضِع الْمَدْح والذم من الْإِنْسَان، سَوَاء كَانَ فِي نَفسه أَو فِي سلفه.
وَقيل: الْعرض الْحسب، وَقيل: الْخلق، وَقيل: النَّفس.
وَقد مر تَحْقِيق الْكَلَام فِيهِ.
قَوْله: ( الشَّاهِد) أَي الْحَاضِر، من: شهد إِذا حضر.
قَوْله: ( أوعى) أَي: أحفظ، من الوعي وَهُوَ: الْحِفْظ والفهم.

بَيَان الْإِعْرَاب: قَوْله: ( ذكر النَّبِي) ، بِنصب: النَّبِي، لِأَنَّهُ مفعول: ذكر، وَالضَّمِير فِي ذكر يرجع إِلَى الرَّاوِي.
الْمَعْنى عَن أبي بكرَة أَنه كَانَ يُحَدِّثهُمْ، فَذكر النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَقَالَ: ( قعد على بعيره) ، وَوَقع فِي رِوَايَة ابْن عَسَاكِر عَن أبي بكرَة أَن النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، ( قعد) .
وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ، عَن أبي بكرَة، قَالَ وَذكر النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فالواو: وَاو الْحَال، وَيجوز أَن تكون وَاو الْعَطف، على أَن يكون الْمَعْطُوف عَلَيْهِ محذوفاً.
فَافْهَم.
قَوْله: ( قعد على بعيره) جملَة وَقعت مقول قَالَ الْمُقدر.
قَوْله: ( وَأمْسك) يجوز أَن تكون الْوَاو، فِيهِ للْحَال.
وَقد علم أَن الْمَاضِي إِذا وَقع حَالا تجوز فِيهِ الْوَاو وَتركهَا، وَلَكِن لَا بُد من قد، ظَاهِرَة أَو مقدرَة، وَيجوز أَن تكون للْعَطْف على قعد.
قَوْله: ( أَي يَوْم هَذَا؟) جملَة وَقعت مقول القَوْل.
قَوْله: ( فسكتنا) عطف على: قَالَ.
قَوْله: ( حَتَّى) للغاية بِمَعْنى: إِلَى.
قَوْله: ( أَنه) ، بِفَتْح الْهمزَة فِي مَحل النصب على المفعولية.
قَوْله: ( سيسميه) : السِّين فِيهِ تفِيد توكيد النِّسْبَة.
.

     وَقَالَ  الزَّمَخْشَرِيّ فِي قَوْله تَعَالَى { أُولَئِكَ سيرحمهم الله} ( التَّوْبَة: 71) السِّين مفيدة وجود الرَّحْمَة لَا محَالة، فَهِيَ تؤكد الْوَعْد كَمَا تؤكد الْوَعيد إِذا قلت: سأنتقم مِنْك.
قَوْله: ( أَلَيْسَ يَوْم النَّحْر؟) الْهمزَة فِيهِ لَيست للاستفهام الْحَقِيقِيّ، وَإِنَّمَا هِيَ تفِيد نفي مَا بعْدهَا، وَمَا بعْدهَا هَهُنَا منفي، فَتكون إِثْبَاتًا.
لِأَن نفي النَّفْي إِثْبَات، فَيكون الْمَعْنى: هُوَ يَوْم النَّحْر.
كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: { أَلَيْسَ الله بكاف عَبده} ( الزمر: 39) أَي: الله كَاف عَبده، وَكَذَلِكَ قَوْله: { ألم نشرح لَك صدرك} ( الإنشراح: 1) فَمَعْنَاه: شرحنا صدرك، وَلِهَذَا عطف عَلَيْهِ قَوْله: { ووضعنا} ( الإنشراح: 2) .
قَوْله: ( فَقُلْنَا) عطف على قَوْله: قَالَ.
قَوْله: ( بلَى) مقول القَوْل أقيم مقَام الْجُمْلَة الَّتِي هِيَ مقول القَوْل، وَهِي حرف يخْتَص بِالنَّفْيِ ويفيد إِبْطَاله سَوَاء كَانَ مُجَردا نَحْو: { زعم الَّذين كفرُوا أَن لن يبعثوا قل بلَى وربي} ( التغابن: 7) أَو مَقْرُونا بالاستفهام حَقِيقِيًّا كَانَ نَحْو: أَلَيْسَ زيد بقائم، فَتَقول: بلَى، أَو توبيخاً نَحْو: { أم يحسبون أَنا لَا نسْمع سرهم ونجواهم بلَى} ( الزخرف: 80) .
{ أيحسب الْإِنْسَان أَن لن نجمع عِظَامه بلَى} ( الْقِيَامَة: 3) .
أَو تقريراً نَحْو: { ألم يأتكم نَذِير قَالُوا بلَى} ( الْملك: 8 9) .
{ أَلَسْت بربكم قَالُوا بلَى} ( الْأَعْرَاف: 172) .
أجروا النَّفْي مَعَ التَّقْدِير مجْرى النَّفْي الْمُجَرّد فِي رده ببلى، وَلذَلِك قَالَ ابْن عَبَّاس: لَو قَالُوا: نعم كفرُوا، لِأَن: نعم، تَصْدِيق للْخَبَر بِنَفْي أَو إِيجَاب، وَلذَلِك قَالَت جمَاعَة من الْفُقَهَاء: لَو قَالَ: أَلَيْسَ لي عَلَيْك ألف؟ فَقَالَ: بلَى، لَزِمته.
وَلَو قَالَ: نعم، لم تلْزمهُ.
.

     وَقَالَ  آخَرُونَ: تلْزمهُ فيهمَا، وجروا فِي ذَلِك على مُقْتَضى الْعرف لَا اللُّغَة.
قَوْله: ( حرَام) خبر: إِن، قَوْله: ( ليبلغ) ، بِكَسْر الْغَيْن، لِأَنَّهُ أَمر، وَلكنه لما وصل بِمَا بعده حرك بِالْكَسْرِ، لِأَن الأَصْل فِي السَّاكِن إِذا حرك أَن يُحَرك بِالْكَسْرِ.
قَوْله: ( عَسى أَن يبلغ) ، فِي مَحل الرّفْع على أَنه خبر: إِن، وَقد علم أَن لعسى استعمالان: أَحدهمَا: أَن يكون فَاعله إسماً نَحْو: عَسى زيد أَن يخرج، فزيد مَرْفُوع بالفاعلية، و: أَن يخرج، فِي مَوضِع نصب لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَة: قَارب زيد الْخُرُوج.
وَالْآخر: أَن تكون أَن مَعَ صلتها فِي مَوضِع الرّفْع نَحْو: عَسى أَن يخرج زيد، فَيكون إِذْ ذَاك بِمَنْزِلَة: قرب أَن يخرج، أَي: خُرُوجه.
وَمَا فِي الحَدِيث من هَذَا الْقَبِيل.
قَوْله: ( مِنْهُ) ، صلَة لأَفْعَل التَّفْضِيل، أَعنِي قَوْله: ( أوعى) .
فَإِن قلت: صلته كالمضاف إِلَيْهِ، فَكيف جَازَ الْفَصْل بَينهمَا بِلَفْظَة: لَهُ؟ قلت: جَازَ، لِأَن فِي الظّرْف سَعَة كَمَا جَازَ الْفَصْل بَين الْمُضَاف والمضاف إِلَيْهِ بِهِ، قَالَ.

( فرشني بِخَير لأكونن ومدحتي ... كناحت يَوْمًا صَخْرَة بعسيل)

فَإِن قَوْله: يَوْمًا، فصل بَين: ناحت، الَّذِي هُوَ مُضَاف، وَبَين صَخْرَة، الَّذِي هُوَ مُضَاف إِلَيْهِ.
وَقَوله: ( فرشني) أَمر من راش يريش، يُقَال: رَشَّتْ فلَانا إِذا أصلحت حَاله، والعسيل، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَكسر السِّين الْمُهْملَة، مكنسة الْعَطَّار الَّذِي يجمع بِهِ الْعطر.

بَيَان الْمعَانِي قَوْله: ( قعد على بعيره) ، وَذَلِكَ كَانَ بمنى فِي يَوْم النَّحْر فِي حجَّة الْوَدَاع.
قَوْله: ( وَأمْسك إِنْسَان بخطامه) قيل: هَذَا الممسك كَانَ بِلَالًا، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَاسْتدلَّ عَلَيْهِ بِمَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ من طَرِيق أم الْحصين، قَالَت: حججْت فَرَأَيْت بِلَالًا يَقُود بِخِطَام رَاحِلَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
وَيُقَال: كَانَ الممسك عَمْرو بن خَارِجَة، فَإِنَّهُ وَقع فِي السّنَن من حَدِيثه، قَالَ: كنت آخذ بزمام نَاقَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ... فَذكر الْخطْبَة.
قيل: هُوَ أولى أَن يُفَسر بِهِ الْمُبْهم، لِأَنَّهُ أخبر عَن نَفسه أَنه كَانَ ممسكاً بزمام نَاقَته، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَيُقَال: كَانَ الممسك هُوَ أَبَا بكرَة الرَّاوِي، لما روى الْإِسْمَاعِيلِيّ عَن الْحُسَيْن عَن سُفْيَان عَن حبَان عَن ابْن الْمُبَارك عَن أبي عون بِسَنَدِهِ إِلَى أبي بكرَة.
قَالَ: ( خطب رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، على رَاحِلَته يَوْم النَّحْر، وَأَمْسَكت، إِمَّا قَالَ: بخطامها أَو بزمامها) .
قَوْله: ( أَي يَوْم) ، هَذَا؟ لَيْسَ فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي والأصيلي والحموي السُّؤَال عَن الشَّهْر، وَالْجَوَاب الَّذِي قبله وَلَفْظهمَا: ( أَي يَوْم هَذَا؟ فسكتنا حَتَّى ظننا أَنه سيسميه سوى اسْمه، قَالَ: أَلَيْسَ بِذِي الْحجَّة؟) وَفِي رِوَايَة الْكشميهني وكريمة بالسؤال عَن الشَّهْر وَالْجَوَاب الَّذِي قبله، وَهِي أَيْضا كَذَلِك فِي مُسلم وَغَيره، وَكَذَا وَقع فِي مُسلم وَغَيره السُّؤَال عَن الْبَلَد، فَهَذِهِ ثَلَاثَة اسئلة عَن الْيَوْم والشهر والبلد، وَهِي ثَابِتَة عِنْد البُخَارِيّ فِي الْأَضَاحِي من رِوَايَة أَيُّوب، وَفِي الْحَج أَيْضا من رِوَايَة قُرَّة، كِلَاهُمَا عَن ابْن سِيرِين.
وَذكر فِي أول حَدِيثه: ( خَطَبنَا رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، يَوْم النَّحْر، فَقَالَ: أَتَدْرُونَ أَي يَوْم هَذَا؟ قُلْنَا: الله وَرَسُوله أعلم، فَسكت حَتَّى ظننا أَنه سيسميه بِغَيْر اسْمه) .
وَذكر قَوْله: الله وَرَسُوله أعلم فِي الْجَواب عَن الأسئلة الثَّلَاثَة، وَكَذَلِكَ أوردهُ من رِوَايَة ابْن عمر، وَجَاء من رِوَايَة ابْن عَبَّاس، رَضِي الله عَنْهُمَا: ( خَطَبنَا رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، يَوْم النَّحْر، فَقَالَ: أَيهَا النَّاس! أَي يَوْم هَذَا؟ قَالُوا: هَذَا يَوْم حرَام.
قَالَ: فَأَي بلد هَذَا؟ قَالُوا: بلد حرَام.
قَالَ: فَأَي شهر هَذَا؟ قَالُوا: شهر حرَام)
.
فَإِن قلت: حَدِيث ابْن عَبَّاس يشْعر بِأَنَّهُم أجابوه بقَوْلهمْ: هَذَا يَوْم حرَام وبلد حرَام وَشهر حرَام، وَهُوَ مُخَالف للمذكور هُنَا من حَدِيث أبي بكرَة، وَمن حَدِيث ابْن عمر أَيْضا أَنهم سكتوا حَتَّى ظنُّوا أَنه سيسميه بِغَيْر اسْمه، الْجَواب أَنه يحْتَمل أَن تكون الْخطْبَة مُتعَدِّدَة، فَأجَاب فِي الثَّانِيَة من علم فِي الأولى، وَلم يجب من لم يعلم فَنقل كل من الروَاة مَا سمع، وَيُقَال: إِن حَدِيث أبي بكرَة من رِوَايَة مُسَدّد وَقع نَاقِصا مخروماً لنسيان وَقع من بعض الروَاة.
قَوْله: ( فَإِن دماءكم) ، فِيهِ حذف تَقْدِيره: سفك دمائكم، وَكَذَا فِي: أَمْوَالكُم، التَّقْدِير: أَخذ أَمْوَالكُم، وَكَذَا فِي: أعراضكم، التَّقْدِير: سلب أعراضكم.
قَوْله: ( ليبلغ الشَّاهِد) ، أَي الْحَاضِر فِي الْمجْلس الْغَائِب عَنهُ، وَالْمرَاد مِنْهُ إِمَّا تَبْلِيغ القَوْل الْمَذْكُور، أَو تَبْلِيغ جَمِيع الْأَحْكَام.
فَافْهَم.

بَيَان استنباط الْأَحْكَام: هُوَ على وُجُوه.
الأول: فِيهِ أَن الْعَالم يجب عَلَيْهِ تَبْلِيغ الْعلم لمن لم يبلغهُ، وتبيينه لمن لَا يفهمهُ، وَهُوَ الْمِيثَاق الَّذِي أَخذه الله تَعَالَى على الْعلمَاء.
{ ليبيننه للنَّاس وَلَا يكتمونه} ( آل عمرَان: 187) .
الثَّانِي: فِيهِ أَنه يَأْتِي فِي آخر الزَّمَان من يكون لَهُ من الْفَهم فِي الْعلم من لَيْسَ لمن تقدمه، وَأَن ذَلِك يكون فِي الْأَقَل، لِأَن: رب، مَوْضُوعَة للتقليل، و: عَسى، موضعهَا الإطماع، وَلَيْسَت لتحقيق الشَّيْء.
الثَّالِث: فِيهِ أَن حَامِل الحَدِيث يجوز أَن يُؤْخَذ عَنهُ، وَإِن كَانَ جَاهِلا بِمَعْنَاهُ، وَهُوَ مَأْخُوذ من تبليغه، مَحْسُوب فِي زمرة أهل الْعلم.
الرَّابِع: فِيهِ أَن مَا كَانَ حَرَامًا يجب على الْعَالم أَن يُؤَكد حرمته، ويغلظ عَلَيْهِ بأبلغ مَا يُوجد، كَمَا فعل النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فِي المتشابهات.
الْخَامِس: فِيهِ جَوَاز الْقعُود على ظهر الدَّوَابّ إِذا احْتِيجَ إِلَى ذَلِك، لَا للأشر والبطر، وَالنَّهْي فِي قَوْله، عَلَيْهِ السَّلَام: ( لَا تَتَّخِذُوا ظُهُور الدَّوَابّ مجَالِس) ، مَخْصُوص بِغَيْر الْحَاجة.
السَّادِس: فِيهِ الْخطْبَة على مَوضِع عَال ليَكُون أبلغ فِي سماعهَا للنَّاس، ورؤيتهم إِيَّاه.
السَّابِع: فِيهِ مُسَاوَاة المَال وَالدَّم وَالْعرض فِي الْحُرْمَة.
الثَّامِن: فِيهِ تَشْبِيه الدِّمَاء وَالْأَمْوَال والأعراض بِالْيَوْمِ وبالشهر وبالبلد فِي الْحُرْمَة دَلِيل على اسْتِحْبابُُ ضرب الْأَمْثَال، وإلحاق النظير بالنظير قِيَاسا، قَالَه النَّوَوِيّ.

الأسئلة والأجوبة: مِنْهَا مَا قيل: لِمَ شبه الدِّمَاء وَالْأَمْوَال والأعراض فِي الْحُرْمَة بِالْيَوْمِ والشهر والبلد فِي غير هَذِه الرِّوَايَة؟ أُجِيب: بِأَنَّهُم كَانُوا لَا يرَوْنَ اسْتِبَاحَة هَذِه الْأَشْيَاء وانتهاك حرمتهَا بِحَال، وَكَانَ تَحْرِيمهَا ثَابتا فِي نُفُوسهم مقرراً عِنْدهم بِخِلَاف الدِّمَاء وَالْأَمْوَال والأعراض، فَإِنَّهُم فِي الْجَاهِلِيَّة كَانُوا يستبيحونها.
.

     وَقَالَ  بَعضهم: أعلمهم الشَّارِع بِأَن تَحْرِيم دم الْمُسلم وَمَاله وَعرضه أعظم من تَحْرِيم الْبَلَد والشهر وَالْيَوْم، فَلَا يرد كَون الْمُشبه بِهِ أَخفض رُتْبَة من الْمُشبه لِأَن الْخطاب إِنَّمَا وَقع بِالنِّسْبَةِ لما اعتاده المخاطبون قبل تَقْرِير الشَّرْع.
قلت: لَا نسلم أَن الشَّارِع قَالَ: حُرْمَة هَذِه الْأَشْيَاء أعظم من حُرْمَة تِلْكَ الْأَشْيَاء حَتَّى يرد السُّؤَال بِكَوْن الْمُشبه بِهِ أَخفض رُتْبَة من الْمُشبه، وَإِنَّمَا الشَّارِع شبه حُرْمَة تِلْكَ بِحرْمَة هَذِه، لما ذكرنَا من وَجه التَّشْبِيه من غير تعرض إِلَى غير ذَلِك.
وَمِنْهَا مَا قيل: لمَ سَأَلَ، عَلَيْهِ السَّلَام، عَن هَذِه الْأَشْيَاء الثَّلَاثَة وَسكت بعد كل سُؤال مِنْهَا؟ أُجِيب: لاستحضار فهومهم وليقبلوا عَلَيْهِ بكليتهم وليعلموا عَظمَة مَا يُخْبِرهُمْ عَنهُ، وَلذَلِك قَالَ بعد هَذَا: ( فَإِن دماكم)
إِلَى آخِره، مُبَالغَة فِي تَحْرِيم الْأَشْيَاء الْمَذْكُورَة.
وَمِنْهَا مَا قيل: لِمَ كَانَ جوابهم عَن كل سُؤال بقَوْلهمْ: الله وَرَسُوله أعلم، على مَا ثَبت فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى للْبُخَارِيّ وَغَيره؟ أُجِيب: إِنَّمَا كَانَ ذَلِك لحسن أدبهم.
لأَنهم كَانُوا يعلمُونَ أَنه لَا يخفى عَلَيْهِ مَا يعرفونه من الْجَواب، وَأَنه لَيْسَ مُرَاد مُطلق الْإِخْبَار بِمَا يعرفونه، وَلِهَذَا قَالَ فِي رِوَايَة الْبابُُ: ( حَتَّى ظننا أَنه سيسميه سوى اسْمه) وَفِيه إِشَارَة إِلَى تَفْوِيض الْأُمُور بِالْكُلِّيَّةِ إِلَى الشَّارِع، والانعزال عَمَّا ألفوه من الْمُتَعَارف الْمَشْهُور.
وَمِنْهَا مَا قيل: لم أمسك الممسك بِخِطَام نَاقَته؟ أُجِيب: لصونه الْبَعِير عَن الِاضْطِرَاب والتشويش على رَاكِبه.




( بابٌُ يحْرُسُ بَعْضُهُمْ بَعْضا فِي صَلاةِ الخَوْفِ)

أَي: هَذَا بابُُ تَرْجَمته: يحرس بعض الْمُصَلِّين بَعْضًا فِي صَلَاة الْخَوْف.
قَالَ ابْن بطال: وَمحل هَذِه الصُّورَة إِذا كَانَ الْعَدو فِي جِهَة الْقبْلَة فَلَا يفترقون بِخِلَاف الصُّورَة الْمَاضِيَة فِي حَدِيث ابْن عمر، قَالَ الطَّحَاوِيّ: لَيْسَ بِخِلَاف الْقُرْآن لجَوَاز إِن يكون قَوْله تَعَالَى: { ولتأت طَائِفَة أُخْرَى} ( النِّسَاء: 10) .
إِذا كَانَ الْعَدو فِي غير الْقبْلَة، وَذَلِكَ ببيانه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ثمَّ بيّن كَيْفيَّة الصَّلَاة إِذا كَانَ الْعَدو فِي جِهَة الْقبْلَة.


[ قــ :67 ... غــ :67 ]
- ( حَدثنَا حَيْوَة بن شُرَيْح قَالَ حَدثنَا مُحَمَّد بن حَرْب عَن الزبيدِيّ عَن الزُّهْرِيّ عَن عبيد الله بن عبد الله بن عتبَة عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ قَامَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَامَ النَّاس مَعَه فَكبر وَكَبرُوا مَعَه وَركع وَركع نَاس مِنْهُم ثمَّ سجد وسجدوا مَعَه ثمَّ قَامَ للثَّانِيَة فَقَامَ الَّذين سجدوا وحرسوا إخْوَانهمْ وَأَتَتْ الطَّائِفَة الْأُخْرَى فركعوا وسجدوا مَعَ وَالنَّاس كلهم فِي صَلَاة وَلَكِن يحرس بَعضهم بَعْضًا) مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله " حرسوا إخْوَانهمْ ".
( ذكر رِجَاله) وهم سِتَّة.
الأول حَيْوَة بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح الْوَاو وَفِي آخِره هَاء ابْن شُرَيْح بِضَم الشين الْمُعْجَمَة وَفتح الرَّاء وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره حاء مُهْملَة أَبُو الْعَبَّاس الْحِمصِي الْحَضْرَمِيّ وَهُوَ حَيْوَة الْأَصْغَر مَاتَ سنة أَربع وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ.
الثَّانِي مُحَمَّد بن حَرْب ضد الصُّلْح الْخَولَانِيّ الْحِمصِي الْمَعْرُوف بالأبرش مَاتَ سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وَمِائَة.
الثَّالِث مُحَمَّد بن الْوَلِيد الزبيدِيّ يكنى أَبَا الْهُذيْل الشَّامي الْحِمصِي والزبيدي بِضَم الزَّاي وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَكسر الدَّال الْمُهْملَة نِسْبَة إِلَى زبيد وَهُوَ مُنَبّه بن صَعب وَهَذَا هُوَ زبيد الْأَكْبَر.
الرَّابِع مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ.
الْخَامِس عبيد الله بِضَم الْعين ابْن عبد الله بِالتَّكْبِيرِ ابْن عتبَة بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة ابْن مَسْعُود الهزلي أَبُو عبد الله الْمدنِي الْفَقِيه الْأَعْمَى أحد الْفُقَهَاء السَّبْعَة بِالْمَدِينَةِ مَاتَ سنة تسع وَتِسْعين.
السَّادِس عبد الله بن عَبَّاس ( ذكر لطائف إِسْنَاده) فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين وَفِيه العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع وَفِيه القَوْل فِي موضِعين وَفِيه عَن الزبيدِيّ وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ حَدثنَا الزبيدِيّ وَفِيه أَن الثَّلَاثَة الأول من الروَاة حمصيون والاثنان بعدهمْ مدنيان وَفِيه الِاثْنَان مِنْهُم مذكوران بِالنِّسْبَةِ وَفِيه أحدهم اسْمه مصغر.
والْحَدِيث أخرجه النَّسَائِيّ فِي الصَّلَاة أَيْضا عَن عَمْرو بن عُثْمَان عَن مُحَمَّد بن حَرْب عَن الزبيدِيّ عَنهُ بِهِ.
( ذكر مَعْنَاهُ) قَوْله " وَركع نَاس مِنْهُم " زَاد الْكشميهني " مَعَه " قَوْله " ثمَّ قَامَ للثَّانِيَة " أَي للركعة الثَّانِيَة وَكَذَا فِي رِوَايَة النَّسَائِيّ والإسماعيلي " ثمَّ قَامَ إِلَى الرَّكْعَة الثَّانِيَة فَتَأَخر الَّذين سجدوا مَعَه " قَوْله " وَأَتَتْ الطَّائِفَة الْأُخْرَى " أَي الَّذين لم يركعوا وَلم يسجدوا مَعَه فِي الرَّكْعَة الأولى قَوْله " فركعوا وسجدوا " وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ والإسماعيلي " فركعوا مَعَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " قَوْله " كلهم فِي صَلَاة " زَاد الْإِسْمَاعِيلِيّ " يكبرُونَ " وَلم يَقع فِي رِوَايَة الزُّهْرِيّ هَذِه هَل أكملوا الرَّكْعَة الثَّانِيَة أم لَا وَقد رَوَاهُ النَّسَائِيّ من طَرِيق أبي بكر بن أبي الجهم عَن شَيْخه عبيد الله بن عبد الله بن عتبَة فَزَاد فِي آخِره وَلم يقضوا وَهَذَا كَالصَّرِيحِ فِي اقتصارهم على كل رَكْعَة رَكْعَة ( ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ) هَذَا الحَدِيث فِي صُورَة مَا إِذا كَانَ الْعَدو بَينه وَبَين الْقبْلَة فيصف النَّاس صفّين فيركع بالصف الَّذِي يَلِيهِ وَيسْجد مَعَه والصف الثَّانِي قَائِم يحرس فَإِذا قَامَ من سُجُوده إِلَى الرَّكْعَة الثَّانِيَة تقدم الصَّفّ الثَّانِي وَتَأَخر الأول فَرَكَعَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بهم وأكمل الرَّكْعَة وهم كلهم فِي صَلَاة وَقد رُوِيَ الحَدِيث من طَرِيق آخر " عَن ابْن عَبَّاس أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صلى بهم صَلَاة الْخَوْف بِذِي قرد وَالْمُشْرِكُونَ بَينه وَبَين الْقبْلَة " وَقد روى نَحوه أَبُو عَيَّاش الزرقي وَجَابِر بن عبد الله مَرْفُوعا وَبِه قَالَ ابْن عَبَّاس إِذا كَانَ الْعَدو فِي الْقبْلَة أَن يُصَلِّي على هَذِه الصّفة وَهُوَ مَذْهَب ابْن أبي ليلى وَحكى ابْن الْقصار عَن الشَّافِعِي نَحوه.

     وَقَالَ  الطَّحَاوِيّ ذهب أَبُو يُوسُف إِلَى أَن الْعَدو إِذا كَانَ فِي الْقبْلَة فَالصَّلَاة هَكَذَا وَإِذا فِي غَيرهَا فَالصَّلَاة كَمَا روى ابْن عمر وَغَيره قَالَ وَبِهَذَا تتفق الْأَحَادِيث قَالَ وَلَيْسَ هَذَا بِخِلَاف التَّنْزِيل لِأَنَّهُ يجوز أَن يكون قَوْله ( ولتأت طَائِفَة أُخْرَى لم يصلوا فليصلوا مَعَك) إِذا كَانَ الْعَدو فِي غير الْقبْلَة ثمَّ أُوحِي إِلَيْهِ بعد ذَلِك كَيفَ حكم الصَّلَاة إِذا كَانُوا فِي الْقبْلَة فَفعل الْفِعْلَيْنِ جَمِيعًا كَمَا جَاءَ الخبران وَترك مَالك وَأَبُو حنيفَة الْعَمَل بِهَذَا الحَدِيث لمُخَالفَته لِلْقُرْآنِ وَهُوَ قَوْله { ولتأت طَائِفَة أُخْرَى} الْآيَة وَالْقُرْآن يدل على مَا جَاءَت بِهِ الرِّوَايَات فِي صَلَاة الْخَوْف عَن ابْن عمر وَغَيره من دُخُول الطَّائِفَة الثَّانِيَة فِي الرَّكْعَة الثَّانِيَة وَلم يَكُونُوا صلوا قبل ذَلِك.

     وَقَالَ  أَشهب وَسَحْنُون إِذا كَانَ الْعَدو فِي الْقبْلَة لَا أحب أَن يصلى بالجيش أجمع لِأَنَّهُ يتَعَرَّض أَن يفتنه الْعَدو ويشغلوه وَيصلى بطائفتين شبه صَلَاة الْخَوْف وَالله تَعَالَى أعلم -