فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب فضل من علم وعلم

( بابُُ فَضْل مَنْ عَلِمَ وعلَّمَ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان فضل من علم، بتَخْفِيف اللَّام الْمَكْسُورَة، أَي: صَار عَالما، وعلّم، بِفَتْح اللَّام الْمُشَدّدَة، من التَّعْلِيم؛ أَي: علم غَيره.

وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبابَُُيْنِ من حَيْثُ إِن الْمَذْكُور فِي الْبابُُ الأول هُوَ بَيَان حَال الْعَالم والمعلم، وَهَذَا الْبابُُ فِي بَيَان فضلهما.



[ قــ :79 ... غــ :79 ]
- حدّثنا مُحمَّدُ بنُ العَلاءِ قَالَ: حدّثنا حَمَّادُ بنُ أُسامةَ عنْ بُريْدِ بن عبد اللَّه عنْ أبي بُرْدَةَ عنْ أبي مُوسى عَن النَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: ( مَثَلُ مَا بَعثَنِي الله بِهِ مِنَ الهُدَى والعِلْمِ كَمَثَلِ الغَيْثِ الكَثِيرِ أصابَ أرْضاً، فَكانَ مِنْها نَقِيَّةٌ قَبِلَتِ الماءَ فَأنْبَتَتِ الكَلأ والعُشْبَ الكَثِيرَ، وكانَتْ مِنْها أجادبُ أمْسَكَتِ الماءَ فَنَفَعَ الله بِها النَّاسَ فَشَربُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا، وَأصابَتْ مِنْها طائِفَةٌ أخْرَى إِنَّما هِيَ قِيعانٌ لاَ تُمْسِكُ مَاء وَلَا تُنْبِتُ كَلأ، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دينِ الله ونَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي الله بِهِ فَعَلِمَ وعَلَّمَ.
وَمَثَلُ مَنْ لَم يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْساً وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى الله الَّذِي أُرْسِلْتُ بهِ)
.

مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، لِأَن الْبابُُ مَعْقُود على قَوْله فِي الحَدِيث: فَعلم وَعلم، وَفضل من بَاشر الْعلم والتعليم ظَاهر مِنْهُ، لِأَنَّهُ فِي معرض الْمَدْح على سَبِيل التَّمْثِيل على مَا نبينه عَن قريب، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.

بَيَان رِجَاله: وهم خسمة: الأول: مُحَمَّد بن الْعَلَاء، بِالْمُهْمَلَةِ وبالمد، ابْن كريب الْهَمدَانِي، بِسُكُون الْمِيم وَالدَّال الْمُهْملَة، المكنى بِأبي كريب، بِضَم الْكَاف، مصغر كرب، بِالْمُوَحَّدَةِ.
وشهرته بالكنية أَكثر.
روى عَنهُ الْجَمَاعَة وَآخَرُونَ، وَهُوَ صَدُوق لَا بَأْس بِهِ، وَهُوَ مكثر.
قَالَ أَبُو الْعَبَّاس بن سعيد: ظهر لَهُ بِالْكُوفَةِ ثَلَاثَة مائَة ألف حَدِيث، مَاتَ سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ.
الثَّانِي: أَبُو أُسَامَة حَمَّاد بن أُسَامَة بن زيد الْهَاشِمِي الْقرشِي الْكُوفِي، مولى الْحسن بن عَليّ أَو غَيره، وشهرته بكنيته أَكثر.
روى عَن بريد وَغَيره، وَأكْثر عَن هِشَام ابْن عُرْوَة، لَهُ عَنهُ سِتّمائَة حَدِيث، وَعنهُ الشَّافِعِي وَأحمد وَغَيرهمَا، وَكَانَ ثِقَة ثبتاً صَدُوقًا حَافِظًا حجَّة اخبارياً، رُوِيَ عَنهُ أَنه قَالَ: كتبت بإصبعي هَاتين مائَة ألف حَدِيث، مَاتَ سنة إِحْدَى وَمِائَتَيْنِ وَهُوَ ابْن ثَمَانِينَ سنة، فِيمَا قيل، وَلَيْسَ فِي ( الصَّحِيحَيْنِ) من هُوَ بِهَذِهِ الكنية سواهُ، وَفِي النَّسَائِيّ أَبُو أُسَامَة الرقي النَّخعِيّ زيد بن عَليّ بن دِينَار، صَدُوق، وَلَيْسَ فِي الْكتب السِّتَّة من اشْتهر بِهَذِهِ الكنية سواهُمَا، روى لَهُ الْجَمَاعَة.
الثَّالِث: بريد، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَفتح الرَّاء وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالدال الْمُهْملَة: ابْن عبد اللَّه بن أبي بردة ابْن أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ، والمكنى بِأبي بردة الْكُوفِي وَقد تقدم.
الرَّابِع: أَبُو بردة، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الرَّاء: عَامر بن أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ، وَقد تقدم.
الْخَامِس: أَبُو مُوسَى عبد اللَّه بن قيس الْأَشْعَرِيّ، وَقد تقدم.

بَيَان لطائف إِسْنَاده: مِنْهَا أَن فِيهِ التحديث والعنعنة.
وَمِنْهَا: أَن بريداً يروي عَن جده، وجده عَن أَبِيه، وَهَذِه لَطِيفَة.
وَمِنْهَا: أَن رُوَاته كلهم كوفيون.
وَمِنْهَا: أَن فِيهِ عَن أبي بردة عَن أبي مُوسَى، وَلم يقل: عَن أبي بردة عَن أَبِيه.
قَالَ بَعضهم: إِنَّمَا قَالَ ذَلِك تفنناً.
قلت: التفنن هُوَ التنوع فِي أَنْوَاع الْكَلَام وأساليبه من الْفَنّ وَاحِد الْفُنُون، وَهِي الْأَنْوَاع، وَلَا يكون ذَلِك إلاَّ باخْتلَاف الْعبارَات، وَلَيْسَ هَهُنَا إلاَّ عبارَة وَاحِدَة فَكيف يكون من هَذَا الْقَبِيل.

بَيَان من أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ هَهُنَا فَقَط.
وَأخرجه مُسلم فِي فَضَائِل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَعبد اللَّه بن براد وَأبي كريب، وَالنَّسَائِيّ فِي الْعلم عَن الْقَاسِم بن زَكَرِيَّا الْكُوفِي، ثَلَاثَتهمْ عَن أبي أُسَامَة عَنهُ بِهِ.

بَيَان اللُّغَات: قَوْله: ( مثل) ، بِفَتْح الْمِيم والثاء الْمُثَلَّثَة: المُرَاد بِهِ هَهُنَا الصّفة العجبية لَا القَوْل السائر.
قَوْله: ( من الْهدى) ، قَالَ الْجَوْهَرِي: الْهدى الرشاد، وَالدّلَالَة، يذكر وَيُؤَنث.
يُقَال: هداه الله للدّين هدى، وهديته الطَّرِيق وَالْبَيْت هِدَايَة، أَي: عَرفته، هَذِه لُغَة أهل الْحجاز وَغَيرهم.
تَقول: هديته إِلَى الطَّرِيق وَإِلَى الدَّار، حَكَاهَا الْأَخْفَش، وَهدى واهتدى بِمَعْنى، وَفِي الِاصْطِلَاح: الْهدى: هُوَ الدّلَالَة الموصلة إِلَى البغية.
قَوْله: ( وَالْعلم) هُوَ صفة توجب تمييزاً لَا يحْتَمل مُتَعَلّقه النقيض، وَالْمرَاد بِهِ هَهُنَا الْأَدِلَّة الشَّرْعِيَّة.
قَوْله: ( الْغَيْث) هُوَ الْمَطَر، وغيثت الأَرْض فَهِيَ مغيثة ومغيوثة.
يُقَال: غاث الْغَيْث الأَرْض إِذا أَصَابَهَا.
وغاث الله الْبِلَاد يغيثها غيثاً.
قَوْله: ( نقية) ، بِفَتْح النُّون وَكسر الْقَاف وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف: من النَّقَاء، هَكَذَا هُوَ عِنْد البُخَارِيّ فِي جَمِيع الرِّوَايَات، وَوَقع عِنْد الْخطابِيّ والْحميدِي، وَفِي حَاشِيَة أصل أبي ذَر: ثغبة، بِفَتْح الثَّاء الْمُثَلَّثَة وَكسر الْغَيْن الْمُعْجَمَة بعْدهَا بَاء مُوَحدَة خَفِيفَة مَفْتُوحَة، قَالَ الْخطابِيّ: هِيَ مستنقع المَاء فِي الْجبَال والصخور،.

     وَقَالَ  الصغاني: الثغب، بِالتَّحْرِيكِ: الغدير، يكون فِي ظلّ جبل لَا تصيبه الشَّمْس فيبرد مَاؤُهُ، وَالْجمع: ثغبان.
مثل: شبث وشبثان.
وَقد يسكن فَيُقَال: ثغب، وَيجمع على: ثغبان، مثل: ظهر وظهران.
وَيجمع على: ثغاب أَيْضا.
.

     وَقَالَ  صَاحب ( الْمطَالع) : هَذِه الرِّوَايَة غلط من الناقلين وتصحيف، وإحالة للمعنى لِأَنَّهُ إِنَّمَا جعلت هَذِه الطَّائِفَة الأولى مثلا لما تنْبت، والثغبة لَا تنْبت، ويروى: بقْعَة، ويروى: ( طيبَة) .
كَمَا فِي رِوَايَة مُسلم.
قَوْله: ( قبلت المَاء) : من الْقبُول، وَهِي بِفَتْح الْقَاف وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة، قَالَ الشَّيْخ قطب الدّين: وَهَذَا الْموضع لَا خلاف فِيهِ.
قلت: أَشَارَ بِهِ إِلَى أَن الْخلاف فِي قَوْله: قَالَ إِسْحَاق: وَكَانَ مِنْهَا طَائِفَة قبلت المَاء، يَعْنِي: هَل يُقَال فِيهِ بِالْبَاء الْمُوَحدَة، أَو بِالْيَاءِ آخر الْحُرُوف على مَا يَجِيء عَن قريب إِن شَاءَ الله تَعَالَى؟.

     وَقَالَ  بَعضهم: كَذَا هُوَ فِي مُعظم الرِّوَايَات.
وَوَقع عِنْد الْأصيلِيّ: قيلت، بتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف.
قلت: ذكر هَذَا هَهُنَا غير مُنَاسِب، لِأَن هَذَا الْموضع لَا خلاف فِيهِ، كَمَا قَالَه الشَّيْخ قطب الدّين، وَإِنَّمَا يذكر هَذَا عِنْد قَول إِسْحَاق.
قَوْله: ( الْكلأ) ، بِفَتْح الْكَاف وَاللَّام، وَفِي آخِره همزَة بِلَا مد.
قَالَ الصغاني: الْكلأ العشب، وَقد كلئت الأَرْض فَهِيَ كليئة، ثمَّ قَالَ فِي بابُُ العشب: العشب الْكلأ الرطب، وَلَا يُقَال لَهُ حشيش حَتَّى يهيج، وأعشبت الأَرْض إِذا أنبتت العشب.
.

     وَقَالَ  فِي بابُُ الْحَشِيش: الحشيس الْكلأ الْيَابِس، وَلَا يُقَال لَهُ: رطب حشيش.
قلت: علم من كَلَامه أَن الْكلأ يُطلق على الرطب من النَّبَات واليابس مِنْهُ، وَكَذَا صرح بِهِ ابْن فَارس والجوهري وَالْقَاضِي عِيَاض: الْكلأ يُطلق على الرطب واليابس من النَّبَات، وَفهم من قَول الصغاني أَيْضا أَن الْحَشِيش لَا يُطلق على الرطب، كَذَا صرح بِهِ الْجَوْهَرِي، وَهُوَ مَنْقُول عَن الْأَصْمَعِي ذكره البطليوسي فِي ( أدب الْكتاب) وَنقل عَن أبي حَاتِم إِطْلَاقه عَلَيْهِ.
.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: الْكلأ، بِالْهَمْزَةِ: هُوَ النَّبَات يَابسا ورطباً، وَأما العشب والخلاء مَقْصُورا فمختصان بالرطب، والحشيش مُخْتَصّ.
باليابس.
قلت: قَالَ الْجَوْهَرِي: الْخَلَاء، مَقْصُور: الْحَشِيش الْيَابِس، الْوَاحِدَة خلاءة.
وَالصَّوَاب مَعَ الْكرْمَانِي، فالجوهري سهى فِيهِ لِأَن الْخَلَاء الرطب، فَإِذا يبس فَهُوَ حشيش.
قَوْله: ( أجادب) ، بِالْجِيم وبالدال الْمُهْملَة: جمع جَدب على غير قِيَاس، كَمَا قَالُوا فِي: حسن، جمعه: محَاسِن.
وَالْقِيَاس أَنه جمع: محسن، أَو جمع: جديب.
وَهُوَ من الجدب الَّذِي هُوَ الْقَحْط، وَالْأَرْض الجدبة الَّتِي لم تمطر، وَالْمرَاد هَهُنَا الأَرْض الَّتِي لَا تشرب لصلابتها فَلَا تنْبت شَيْئا.
وَفِي ( الْعبابُ) : أَرض جدبة وجدوب أَيْضا، وارضون جدوب، وَمَكَان جَدب وجديب بَين الجدوبة، وعام جَدب، واجدب الْقَوْم أَصَابَهُم الجدب، وأجدبت أَرض كَذَا أَي: وَجدتهَا جدبة.
.

     وَقَالَ  ابْن السّكيت: جادبت الْإِبِل الْعَام إِذا كَانَ الْعَام محلا، فَصَارَت لَا تَأْكُل إلاَّ الدرين الْأسود ودرين الثمام، وَهَكَذَا هُوَ عَامَّة الرِّوَايَات فِي البُخَارِيّ، وَرِوَايَة مُسلم أَيْضا هَكَذَا، وَضَبطه الْمَازرِيّ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة، وَكَذَا ذكره الْخطابِيّ،.

     وَقَالَ : هِيَ صلاب الأَرْض الَّتِي تمسك المَاء.
.

     وَقَالَ  القَاضِي: هَذَا وهم.
قلت: إِن صَحَّ مَا قَالَه الْخطابِيّ يكون من الجذب، وَهُوَ انْقِطَاع الرِّيق، قَالَه أَبُو عَمْرو.
وَيُقَال للناقة إِذا قل لَبنهَا: قد جذبت فَهِيَ جاذب، وَالْجمع: جواذب، وجذاب أَيْضا، مثل: نَائِم ونيام، وَرَوَاهَا الْإِسْمَاعِيلِيّ عَن أبي يعلى عَن أبي كريب: أُحَارب، بحاء وَرَاء مهملتين.
قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ: لم يضبطه أَبُو يعلى،.

     وَقَالَ  الْخطابِيّ: لَيست هَذِه الرِّوَايَة بِشَيْء.
قلت: إِن صَحَّ هَذَا يكون من الحرباء، وَهِي النشز من الأَرْض، وَمثل هَذِه لَا تمسك المَاء لِأَنَّهُ ينحدر عَنْهَا.
.

     وَقَالَ  الْخطابِيّ: قَالَ بَعضهم: أجارد، بجيم وَرَاء ثمَّ دَال مُهْملَة: جمع جرداء، وَهِي البارزة الَّتِي لَا تنْبت شَيْئا.
قَالَ: وَهُوَ صَحِيح الْمَعْنى إِن ساعدته الرِّوَايَة.
.

     وَقَالَ  الْأَصْمَعِي: الأجارد من الأَرْض الَّتِي لَا تنْبت الْكلأ، مَعْنَاهُ: أَنَّهَا جرداء بارزة لَا يَسْتُرهَا النَّبَات.
وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: إخاذات، بِكَسْر الْهمزَة وَالْخَاء والذال المعجمتين وَفِي آخِره تَاء مثناة من فَوق، جمع.
، إخاذة: وَهِي الأَرْض الَّتِي تمسك المَاء، وَيُقَال: هِيَ الغدران الَّتِي تمسك المَاء.
.

     وَقَالَ  أَبُو الْحُسَيْن عبد الغافر الْفَارِسِي: هُوَ الصَّوَاب.
.

     وَقَالَ  الشَّيْخ مغلطاي: قَالَ بَعضهم: إِنَّمَا هِيَ أخذات سقط مِنْهَا الْألف، والأخذات مساكات المَاء، واحدتها اخذة.
قلت: على مَا قَالَه الْبَعْض يَنْبَغِي أَن تفتح الْهمزَة فِي الأخذات، وَفِي الأخذة أَيْضا الَّذِي هُوَ مفردها وَلَيْسَ كَذَلِك، بل هِيَ بِكَسْر الْهمزَة فِي الْجمع والمفرد.
وَفِي ( الْعبابُ) : الْأَخْذ جمع إخاذ وَهُوَ كالغدير مِثَال: كتاب وَكتب،.

     وَقَالَ  أَبُو عُبَيْدَة: الأخاذة والأخاذ، بِالْهَاءِ وَبِغير الْهَاء، صنع للْمَاء ليجتمع فِيهِ، وَسمي إخاذاً لِأَنَّهُ يَأْخُذ مَاء السَّمَاء، وَيُقَال لَهُ: المساكة لِأَنَّهُ تمسكه.
ونهيا ونهيا وتنهية: لِأَنَّهُ ينهاه ويحبسه ويمنعه من الجري، وَيُسمى حاجزاً لِأَنَّهُ يحجزه، حائراً لِأَنَّهُ يحار المَاء فِيهِ فَلَا يدْرِي كَيفَ يجْرِي.
.

     وَقَالَ  صَاحب ( الْمطَالع) : هَذِه كلهَا منقولة مروية.
قلت: وَلَيْسَ فِي ( الصَّحِيحَيْنِ) إلاَّ رِوَايَتَانِ.
.

     وَقَالَ  القَاضِي عِيَاض فِي ( شرح مُسلم) : لم يُرو هَذَا الْحَرْف فِي مُسلم وَغَيره إلاَّ بِالدَّال الْمُهْملَة، من الجدب الَّذِي ضد الخصب، وَعَلِيهِ شرح الشارحون.
قَوْله: ( وَسقوا) قَالَ أهل اللُّغَة: سقى واسقى بِمَعْنى لُغَتَانِ، وَقيل: سقَاهُ: نَاوَلَهُ ليشْرب، وأسقاه: جعل لَهُ سقيا.
قَوْله: ( طَائِفَة) أَي قِطْعَة أُخْرَى من الأَرْض.
قَوْله: ( قيعان) ، بِكَسْر الْقَاف: جمع القاع وَهِي الأَرْض المتسعة.
وَقيل: الملساء، وَقيل: الَّتِي لَا نَبَات فِيهَا وَهَذَا هُوَ المُرَاد فِي الحَدِيث.
قلت: أصل قيعان: قوعان، قلبت الْوَاو يَاء لسكونها وانكسار مَا قبلهَا، والقاع يجمع أَيْضا على: قوع وأقواع.
والقيعة بِكَسْر الْقَاف بِمَعْنى القاع.
قَوْله: ( من فقه) قَالَ النَّوَوِيّ: رُوِيَ هُنَا بِالْوَجْهَيْنِ، بِالضَّمِّ وَالْكَسْر وَالضَّم أشهر، قلت: الْفِقْه: الْفَهم، يُقَال فقه بِكَسْر الْقَاف كفرح يفرح، وَأما الْفِقْه الشَّرْعِيّ فَقَالُوا: يُقَال مِنْهُ فقه، بِضَم الْقَاف،.

     وَقَالَ  ابْن دُرَيْد بِكَسْرِهَا، وَالْمرَاد بِهِ هَهُنَا هُوَ الثَّانِي، فتضم الْقَاف على الْمَشْهُور، على قَول ابْن دُرَيْد تكسر، وَقد مر الْكَلَام مُسْتَوفى.

بَيَان الْإِعْرَاب: قَوْله: ( مثل مَا) كَلَام إضافي مُبْتَدأ وَخَبره، قَوْله: ( كَمثل الْغَيْث) و: مَا، مَوْصُولَة: ( وبعثني الله) جملَة صلتها، والعائد قَوْله: بِهِ.
قَوْله: ( من الْهدى) كلمة من، بَيَانِيَّة.
قَوْله: ( وَالْعلم) بِالْجَرِّ عطف عَلَيْهِ.
قَوْله: ( أصَاب أَرضًا) جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل وَالْمَفْعُول فِي مَحل النصب على الْحَال، بِتَقْدِير: قد.
قَوْله: ( فَكَانَ) الْفَاء للْعَطْف.
( ونقية) بِالرَّفْع اسْم كَانَ.
( وَمِنْهَا) مقدما خَبره، قَوْله: ( قبلت المَاء) جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل وَالْمَفْعُول فِي مَحل الرّفْع على أَنَّهَا صفة لنقية.
قَوْله: ( فانبتت) ، عطف على: قبلت، و: الْكلأ، مَنْصُوب بِهِ، و: العشب، عطف عَلَيْهِ، و: الْكثير، بِالنّصب صفة العشب.
قَوْله: ( وَكَانَت) عطف على قَوْله: ( فَكَانَ) ، و: ( أجادب) ، بِالرَّفْع اسْم: كَانَ وَخَبره قَوْله: ( مِنْهَا) مقدما.
قَوْله: ( أَمْسَكت المَاء) جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل وَالْمَفْعُول فِي مَحل الرّفْع على أَنَّهَا صفة: أجادب.
قَوْله: ( فنفع الله) جملَة معطوفة على الَّتِي قبلهَا، و: الْفَاء، التعقيبية.
يكون التعقيب فِيهَا بِحَسب الشَّيْء الَّذِي يدْخل فِيهِ.
قَوْله: ( فَشَرِبُوا وَسقوا وزرعوا) جمل عطف بَعْضهَا على بعض.
قَوْله: ( وَأصَاب) عطف على قَوْله: ( أصَاب أَرضًا) ، وَالضَّمِير فِيهِ يرجع إِلَى: الْغَيْث.
كَمَا فِي: أصَاب، الأول.
و: طَائِفَة، مَنْصُوب بِهِ لِأَنَّهُ مفعول، و: أُخْرَى، صفة طَائِفَة.
قَوْله: ( مِنْهَا) حَال مُتَقَدم من طَائِفَة، وَقد علم أَن الْحَال إِذا كَانَ عَن نكرَة تتقدم على صَاحبهَا.
وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ وكريمة: ( أَصَابَت) ، وَالتَّقْدِير: أَصَابَت طَائِفَة أُخْرَى.
وَوَقع كَذَلِك صَرِيحًا عِنْد النَّسَائِيّ.
قَوْله: ( إِنَّمَا هِيَ قيعان) أَي: مَا هِيَ إلاَّ قيعان لِأَن: إِنَّمَا، من أدوات الْحصْر، و: هِيَ، مُبْتَدأ، و: قيعان، خَبره.
قَوْله: ( لَا تمسك مَاء) فِي مَحل الرّفْع لِأَنَّهُ صفة: قيعان.
قَوْله: ( وَلَا تنْبت كلأ) عطف عَلَيْهِ، وَهُوَ أَيْضا صفته.
قَوْله: ( فَكَذَلِك) الْفَاء فِيهِ تفصيلية، وَذَلِكَ إِشَارَة إِلَى مَا ذكر من الْأَقْسَام الثَّلَاثَة، وَهُوَ فِي مَحل الرّفْع على الِابْتِدَاء.
وَقَوله: ( مثل من فقه) كَلَام إضافي خَبره.
قَوْله: ( ونفعه) ، جملَة من الْفِعْل وَالْمَفْعُول عطف على: ( من فقه) .
وَقَوله: ( مَا بَعَثَنِي الله) فِي مَحل الرّفْع على أَنه فَاعل لقَوْله: ونفعه، و: مَا، مَوْصُولَة، ( وبعثني الله بِهِ) جملَة صلتها.
قَوْله: ( فَعلم) عطف على قَوْله: ( فقه) ، و: علم، عطف على: علم، قَوْله: ( وَمثل من) كَلَام إضافي عطف على قَوْله: ( مثل من فقه) و: من، مَوْصُولَة و: لم يرفع بذلك رَأْسا، صلتها.
قَوْله: ( وَلم يقبل) عطف على: ( من لم يرفع) .
و: ( هدى الله) كَلَام إضافي مفعول: لم يقبل، وَقَوله: ( الَّذِي أرْسلت بِهِ) ، فِي مَحل النصب لِأَنَّهُ صفة هدى.
و: أرْسلت، مَجْهُول، وَالضَّمِير فِي: بِهِ، يرجع إِلَى: الَّذِي.
فَافْهَم.

بَيَان الْمعَانِي: فِيهِ عطف الْمَدْلُول على الدَّلِيل: لِأَن الْهدى هُوَ الدّلَالَة، وَالْعلم هُوَ الْمَدْلُول، وجهة الْجمع بَينهمَا هُوَ النّظر إِلَى أَن الْهدى بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْغَيْر أَي التَّكْمِيل، وَالْعلم بِالنِّسْبَةِ إِلَى الشَّخْص أَي الْكَمَال.
وَيُقَال: الْهدى الطَّرِيقَة، وَالْعلم هُوَ الْعَمَل، وَفِيه عطف الْخَاص على الْعَام: لِأَن العشب أَعم من الْكلأ، كَمَا ذَكرْنَاهُ.
والتخصيص بِالذكر لفائدة الاهتمام بِهِ لشرفه، وَنَحْوه.
وَفِيه حذف المفاعيل من قَوْله: ( فَشَرِبُوا وَسقوا وزرعوا) ، لكَونهَا مَعْلُومَة، وَلِأَنَّهَا فضلَة فِي الْكَلَام.
وَالتَّقْدِير: فَشَرِبُوا من المَاء وَسقوا دوابهم وزرعوا مَا يصلح للزَّرْع.
وَفِيه ضرب الْأَمْثَال.
.

     وَقَالَ  الْخطابِيّ: هَذَا مثل ضرب لمن قبل الْهدى وَعلم ثمَّ علم غَيره فنفعه الله ونفع بِهِ، وَمن لم يقبل الْهدى فَلم ينفع بِالْعلمِ وَلم ينْتَفع بِهِ.
قلت: فعلى هَذَا لم يَجْعَل النَّاس على ثَلَاثَة أَنْوَاع، بل على نَوْعَيْنِ.
.

     وَقَالَ  الطَّيِّبِيّ: الْقِسْمَة الثنائية هِيَ المتصورة، وَذَلِكَ أَن: ( أصَاب مِنْهَا طَائِفَة) ، مَعْطُوف على: أصَاب أَرضًا.
و: كَانَت، الثَّانِيَة معطوفة على: كَانَ، لَا على: أصَاب.
وَقسمت الأَرْض الأولى إِلَى النقية وَإِلَى الاجادب، وَالثَّانيَِة على عكسها، وَفِي: كَانَ، ضم وتر إِلَى وتر، وَفِي أصَاب، ضم شفع إِلَى شفع، وَهُوَ نَحْو قَوْله تَعَالَى: { إِن الْمُسلمين وَالْمُسلمَات وَالْمُؤمنِينَ وَالْمُؤْمِنَات} ( الْأَحْزَاب: 35) من جِهَة أَنه عطف الْإِنَاث على الذُّكُور أَولا، ثمَّ عطف الزَّوْجَيْنِ على الزَّوْجَيْنِ، وَكَذَا هَهُنَا عطف: كَانَت على كَانَت، ثمَّ عطف: أصَاب على أصَاب.
فَالْحَاصِل أَنه قد ذكر فِي الحَدِيث الطرفان العالي فِي الاهتداء والعالي فِي الضلال، فَعبر عَمَّن قبل هدى الله وَالْعلم بقوله: ( فقه) ، وَعَن أَبى قبُولهَا بقوله: ( لم يرفع بذلك رَأْسا) .
لِأَن مَا بعْدهَا وَهُوَ: نَفعه ... إِلَى آخِره، فِي الأول.
وَلم يقبل هدى الله ... إِلَى آخِره، فِي الثَّانِي عطف تفسيري لفقه، وَلقَوْله: ( لم يرفع) ، وَذَلِكَ لِأَن الْفَقِيه هُوَ الَّذِي علم وَعمل، ثمَّ علم غَيره وَترك الْوسط، وَهُوَ قِسْمَانِ: أَحدهمَا: الَّذِي انْتفع بِالْعلمِ فِي نَفسه فَحسب، وَالثَّانِي: الَّذِي لم ينْتَفع هُوَ بِنَفسِهِ، وَلَكِن نفع الْغَيْر.
.

     وَقَالَ  المظهري فِي ( شرح المصابيح) : إعلم أَنه ذكر فِي تَقْسِيم الأَرْض ثَلَاثَة أَقسَام، وَفِي تَقْسِيم النَّاس بِاعْتِبَار قبُول الْعلم قسمَيْنِ: أَحدهمَا من فقه ونفع الْغَيْر، وَالثَّانِي من لم يرفع بِهِ رَأْسا.
وَإِنَّمَا ذكره كَذَلِك لِأَن الْقسم الأول وَالثَّانِي من أَقسَام الأَرْض كقسم وَاحِد من حَيْثُ إِنَّه ينْتَفع بِهِ، وَالثَّانِي هُوَ مَا لَا ينْتَفع بِهِ، وَكَذَلِكَ النَّاس قِسْمَانِ: من يقبل وَمن لَا يقبل.
وَهَذَا يُوجب جعل النَّاس فِي الحَدِيث على قسمَيْنِ: من ينْتَفع بِهِ وَمن لَا ينْتَفع.
وَأما فِي الْحَقِيقَة فَالنَّاس على ثَلَاثَة أَقسَام: فَمنهمْ من يقبل من الْعلم بِقدر مَا يعْمل بِهِ وَلم يبلغ دَرَجَة الإفادة، وَمِنْهُم من يقبل ويبلغ، وَمِنْهُم من لَا يقبل.
.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: وَيحْتَمل لفظ الحَدِيث تثليث الْقِسْمَة فِي النَّاس أَيْضا، بِأَن يقدر قبل لَفْظَة: نَفعه، كلمة: من، بِقَرِينَة عطفه على: من فقه، كَمَا فِي قَوْله حسان، رَضِي الله عَنهُ.

( أَمن يهجو رَسُول الله مِنْكُم ... ويمدحه وينصره سَوَاء؟)

إِذْ تَقْدِيره: وَمن يمدحه، وحينئذٍ يكون الْفَقِيه بِمَعْنى الْعَالم بالفقه مثلا فِي مُقَابلَة الأجادب، والنافع فِي مُقَابلَة النقية على اللف والنشر غير الْمُرَتّب، وَمن لم يرفع فِي مُقَابلَة القيعان.
فَإِن قلت: لمَ حذف لَفْظَة: من؟ قلت: إشعاراً بِأَنَّهُمَا فِي حكم شَيْء وَاحِد، أَي: فِي كَونه ذَا انْتِفَاع فِي الْجُمْلَة كَمَا جعل للنقية والاجادب حكما وَاحِدًا، وَلِهَذَا لم يعْطف بِلَفْظ أصَاب فِي الأجادب.
انْتهى.
.

     وَقَالَ  النَّوَوِيّ: معنى هَذَا التَّمْثِيل أَن الأَرْض ثَلَاثَة أَنْوَاع، فَكَذَلِك النَّاس.
فالنوع الأول: من الأَرْض ينْتَفع بالمطر فتحيي بعد أَن كَانَت ميتَة، وتنبت الْكلأ فينتفع بِهِ النَّاس وَالدَّوَاب.
وَالنَّوْع الأول: من النَّاس يبلغهُ الْهدى وَالْعلم فيحفظه ويحيي قلبه وَيعْمل بِهِ ويعلمه غَيره فينتفع وينفع.
وَالنَّوْع الثَّانِي: من الأَرْض: مَا لَا يقبل الِانْتِفَاع فِي نَفسهَا، لَكِن فِيهَا فَائِدَة وَهِي إمْسَاك المَاء لغَيْرهَا، فينتفع بِهِ النَّاس وَالدَّوَاب.
وَكَذَا النَّوْع الثَّانِي: من النَّاس: لَهُم قُلُوب حافظة، لَكِن لَيست لَهُم أذهان ثاقبة وَلَا رسوخ لَهُم فِي الْعلم يستنبطون بِهِ الْمعَانِي وَالْأَحْكَام، وَلَيْسَ لَهُم اجْتِهَاد فِي الْعَمَل بِهِ، فهم يَحْفَظُونَهُ حَتَّى يَجِيء أهل الْعلم للنفع وَالِانْتِفَاع، فَيَأْخذهُ مِنْهُم فينتفع بِهِ، فَهَؤُلَاءِ نفعوا بِمَا بَلغهُمْ.
وَالثَّالِث: من الأَرْض: هُوَ السباخ الَّتِي لَا تنْبت، فَهِيَ لَا تنْتَفع بِالْمَاءِ وَلَا تمسكه لينْتَفع بِهِ غَيرهَا، وَكَذَلِكَ الثَّالِث من النَّاس: لَيست لَهُم قُلُوب حافظة، وَلَا أفهام وَاعِيَة، فَإِذا سمعُوا الْعلم لَا يَنْتَفِعُونَ بِهِ وَلَا يَحْفَظُونَهُ لنفع غَيرهم.
الأول: المنتفع النافع، وَالثَّانِي: النافع غير المنتفع.
وَالثَّالِث: غير النافع وَغير المنتفع.
فَالْأول: إِشَارَة إِلَى الْعلمَاء.
وَالثَّانِي إِلَى النقلَة.
وَالثَّالِث: إِلَى من لَا علم لَهُ وَلَا عقل.
قلت: الصَّوَاب مَعَ الطَّيِّبِيّ، لِأَن تَقْسِيم الأَرْض، وَإِن كَانَ ثَلَاثَة بِحَسب الظَّاهِر، وَلكنه فِي الْحَقِيقَة قِسْمَانِ، لِأَن النَّوْعَيْنِ محمودان وَالثَّالِث مَذْمُوم، وتقسيم النَّاس نَوْعَانِ: أَحدهمَا ممدوح، أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله: ( مثل من فقه فِي دين الله تَعَالَى) الخ وَالْآخر مَذْمُوم، أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله: ( وَمثل من لم يرفع بذلك رَأْسا) ، وَمَا ذكره الْكرْمَانِي تعسف، وَهَذَا التَّقْدِير الَّذِي ذكره غير سَائِغ فِي الِاخْتِيَار.
وَبابُُ الشّعْر وَاسع.
وَأَيْضًا يلْزمه أَن يكون تَقْسِيم النَّاس أَرْبَعَة: الأول: قَوْله: ( مثل من فقه فِي دين الله تَعَالَى) .
وَالثَّانِي: قَوْله: ( ونفعه مَا بَعَثَنِي الله بِهِ) على قَوْله: وَالثَّالِث: قَوْله: ( وَمثل من لم يرفع بذلك رَأْسا) .
وَالرَّابِع: ( وَلم يقبل هدى الله) .
قَوْله: ( فنفع الله بهَا) أَي: بأجادب، وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ: بِهِ، وتذكيره الضَّمِير بِاعْتِبَار المَاء.
قَوْله: ( وزرعوا) من الزَّرْع، كَذَا رِوَايَة البُخَارِيّ، وَلمُسلم وَالنَّسَائِيّ وَغَيرهمَا: ( ورعوا) ، من الرَّعْي.
قَالَ النَّوَوِيّ: كِلَاهُمَا صَحِيح، وَرجح القَاضِي عِيَاض رِوَايَة مُسلم.
.

     وَقَالَ : هُوَ رَاجع إِلَى الأولى، لِأَن الثَّانِيَة لم يحصل مِنْهَا نَبَات.
قلت: وَيُمكن أَن يرجع إِلَى الثَّانِيَة أَيْضا، بِمَعْنى أَن المَاء الَّذِي اسْتَقر بهَا سقيت مِنْهُ أَرض أُخْرَى فأنبتت.
.

     وَقَالَ  الشَّيْخ قطب الدّين: وَيحْتَمل أَن يُرِيد بقوله: ( ورعوا) ، النَّاس الَّذِي أخذُوا الْعلم عَن الَّذين حملوه على النَّاس، وهم غير الْأَصْنَاف الثَّلَاثَة على رَأْي جمَاعَة.
وَرُوِيَ: ووعوا، وَهُوَ تَصْحِيف.
قَوْله: ( من لم يرفع بذلك رَأْسا) يَعْنِي: تكبر، يُقَال ذَلِك وَيُرَاد بِهِ أَنه لم يلْتَفت إِلَيْهِ من غَايَة تكبره.

بَيَان الْبَيَان: فِيهِ تَشْبِيه مَا جَاءَ بِهِ النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، من الدّين بالغيث الْعَام الَّذِي يَأْتِي النَّاس فِي حَال حَاجتهم إِلَيْهِ، وتشبيه السامعين لَهُ بِالْأَرْضِ الْمُخْتَلفَة.
فَالْأول: تَشْبِيه الْمَعْقُول بالمحسوس، وَالثَّانِي: تَشْبِيه المحسوس بالمحسوس، وعَلى قَول من يَقُول بِتَثْلِيث الْقِسْمَة يكون ثَلَاث تشبيهات على مَا لَا يخفى، وَيحْتَمل أَن يكون تَشْبِيها وَاحِدًا من بابُُ التَّمْثِيل، أَي تَشْبِيه صفة الْعلم الْوَاصِل إِلَى أَنْوَاع النَّاس من جِهَة اعْتِبَار النَّفْع وَعَدَمه بِصفة الْمَطَر الْمُصِيب، إِلَى أَنْوَاع الأَرْض من تِلْكَ الْجِهَة.
قَوْله: ( فَذَلِك مثل من فقه) تَشْبِيه آخر ذكر كالنتيجة للْأولِ، ولبيان الْمَقْصُود مِنْهُ.
والتشبيه هُوَ الدّلَالَة على مُشَاركَة أَمر لأمر فِي وصف من أَوْصَاف أَحدهمَا فِي نَفسه: كالشجاعة فِي الْأسد، والنور فِي الشَّمْس.
وَلَا بُد فِيهِ من: الْمُشبه، والمشبه بِهِ، وأداة التَّشْبِيه، وَوجه الشّبَه.
أما الْمُشبه والمشبه بِهِ فظاهران، وَكَذَا أَدَاة التَّشْبِيه وَهِي الْكَاف، وَأما وَجه الشّبَه فَهُوَ الْجِهَة الجامعة بَين الْعلم والغيث، فَإِن الْغَيْث يحيي الْبَلَد الْمَيِّت، وَالْعلم يحيي الْقلب الْمَيِّت.
فَإِن قلت: لم اختير الْغَيْث من بَين سَائِر أَسمَاء الْمَطَر؟ قلت: ليؤذن باضطرار الْخلق إِلَيْهِ حينئذٍ، قَالَ تَعَالَى: { وَهُوَ الَّذِي ينزل الْغَيْث من بعد مَا قَنطُوا} ( الشورى: 28) .
وَقد كَانَ النَّاس قبل المبعث قد امتحنوا بِمَوْت الْقُلُوب، وتصوب الْعلم حَتَّى أَصَابَهُم الله برحمة من عِنْده: وَفِيه التَّفْصِيل بعد الْإِجْمَال، فَقَوله: ( أصَاب أَرضًا) مُجمل، وَقَوله: ( فَكَانَ مِنْهَا نقية) إِلَى آخِره ... تَفْصِيل، فَلذَلِك ذكره بِالْفَاءِ.
فَإِن قلت: لِمَ كرر لَفْظَة: مثل، فِي قَوْله: ( من لم يرفع) ؟ أُجِيب: بِأَنَّهُ نوع آخر مُقَابل لما تقدم، فَلذَلِك كَرَّرَه.

قَالَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ: قَالَ إِسْحاقُ: وكانَ مِنْها طائِفةٌ قَيَّلَتِ الماءَ
أَبُو عبد اللَّه هُوَ البُخَارِيّ، أَرَادَ أَن إِسْحَاق قَالَ: قيلت، بِالْيَاءِ آخر الْحُرُوف الْمُشَدّدَة، مَكَان قبلت بِالْبَاء الْمُوَحدَة،.

     وَقَالَ  الْأصيلِيّ: قيلت، تَصْحِيف من إِسْحَاق، وَإِنَّمَا هِيَ: قبلت، كَمَا ذكر فِي أول الحَدِيث،.

     وَقَالَ  غَيره: معنى قيلت: شربت القيل.
وَهُوَ شرب نصف النَّهَار، يُقَال: قيلت الْإِبِل إِذا شربت نصف النَّهَار.
وَقيل: معنى: قيلت: جمعت وحبست.
قَالَ القَاضِي: وَقد رَوَاهُ سَائِر الروَاة، غير الْأصيلِيّ: قبلت، يَعْنِي بِالْبَاء الْمُوَحدَة فِي الْمَوْضِعَيْنِ فِي أول الحَدِيث وَفِي قَول إِسْحَاق، فعلى هَذَا إِنَّمَا خَالف إِسْحَاق فِي لَفْظَة طَائِفَة جعلهَا مَكَان نقية، قَالَه الشَّيْخ قطب الدّين وبنحوه قَالَ الْكرْمَانِي.
قَالَ إِسْحَاق: وَفِي بعض النّسخ بعده: عَن أبي أُسَامَة، يَعْنِي حَمَّاد بن أُسَامَة، وَالْمَقْصُود مِنْهُ أَنه روى إِسْحَاق عَن حَمَّاد لفظ: طَائِفَة، بدل مَا روى مُحَمَّد بن الْعَلَاء عَن حَمَّاد لفظ: نقية.
وَأما إِسْحَاق، فقد قَالَ الشَّيْخ قطب الدّين: هَذَا من الْمَوَاضِع المشكلة فِي كتاب البُخَارِيّ، فَإِنَّهُ ذكر جمَاعَة فِي كِتَابه لم ينسبهم، فَوَقع من بعض النَّاس اعْتِرَاض عَلَيْهِ بِسَبَب ذَلِك لما يحصل من اللّبْس وَعدم الْبَيَان، وَلَا سِيمَا إِذا شاركهم ضَعِيف فِي تِلْكَ التَّرْجَمَة، وأزال الْحَاكِم ابْن الرّبيع اللّبْس بِأَن نسب بَعضهم، وَاسْتدلَّ على نسبته.
وَذكر الكلاباذي بَعضهم، وَذكر ابْن السكن بَعْضًا، وَمن جملَة التراجم المعترضة: إِسْحَاق، فَإِنَّهُ ذكر هَذِه التَّرْجَمَة فِي مَوَاضِع من كِتَابه مُهْملَة، وَهِي كَثِيرَة جدا.
قَالَ أَبُو عَليّ الجياني: روى البُخَارِيّ عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم الْحَنْظَلِي وَإِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم بن نصر السَّعْدِيّ، وَإِسْحَاق بن مَنْصُور الكوسج عَن أبي أُسَامَة حَمَّاد بن أبي أُسَامَة، وَقد حدث مُسلم أَيْضا عَن إِسْحَاق بن مَنْصُور الكوسج عَن أبي أُسَامَة.
قلت: إِسْحَاق الْمَذْكُور هُنَا لَا يخرج عَن أحد الثَّلَاثَة، ويترجح أَن يكون إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه لِكَثْرَة رِوَايَته عَنهُ، وَقد حكى الجياني عَن سعيد بن السكن الْحَافِظ: أَن مَا كَانَ فِي كتاب البُخَارِيّ عَن إِسْحَاق غير مَنْسُوب فَهُوَ ابْن رَاهَوَيْه، وَهُوَ: بِالْهَاءِ وَالْوَاو المفتوحتين وَالْيَاء آخر الْحُرُوف الساكنة، وَهُوَ الْمَشْهُور، وَيُقَال أَيْضا: بِالْهَاءِ المضمومة وبالياء أخر الْحُرُوف الْمَفْتُوحَة، وَهُوَ إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم بن مخلد، بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْخَاء الْمُعْجَمَة وَفتح اللَّام، أَبُو يَعْقُوب الْحَنْظَلِي الْمروزِي، سكن نيسابور،.

     وَقَالَ  عبد اللَّه بن طَاهِر لَهُ: لِمَ قيل لَك ابْن رَاهَوَيْه؟ قَالَ: إعلم أَيهَا الْأَمِير أَن أبي ولد فِي طَرِيق مَكَّة، فَقَالَ المراوزة: راهوي، لِأَنَّهُ ولد فِي الطَّرِيق، وَهُوَ بِالْفَارِسِيَّةِ: رَاه، وَهُوَ أحد أَرْكَان الْمُسلمين، وَعلم من أَعْلَام الدّين، مَاتَ بنيسابور سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ، قلت: يحْتَمل أَن يُرَاد بِهِ إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم بن نصر السَّعْدِيّ البُخَارِيّ، بِالْخَاءِ العجمة، نزيل الْمَدِينَة، توفّي سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ، أَو: إِسْحَاق بن مَنْصُور بن بهْرَام الكوسج الْمروزِي، مَاتَ عَام أحد وَخمسين وَمِائَتَيْنِ، إِذْ البُخَارِيّ فِي هَذَا الصَّحِيح يروي عَن الثَّلَاثَة عَن أبي أُسَامَة، قَالَ الغساني فِي كتاب ( تَقْيِيد المهمل) إِن البُخَارِيّ إِذا قَالَ: حَدثنَا إِسْحَاق، غير مَنْسُوب، حَدثنَا أَبُو أُسَامَة، يَعْنِي بِهِ أحد هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة، وَلَا يَخْلُو عَن أحدهم.

قاعٌ يَعْلُوهُ الماءُ، والصَّفْصَفٌ المُسْتَوي منَ الأَرْض

لما كَانَ فِي الحَدِيث لفظ: قيعان، أَشَارَ بقوله: ( قاع يعلوه المَاء) إِلَى شَيْئَيْنِ: أَحدهمَا: أَن قيعان، الْمَذْكُورَة وَاحِدهَا: قاع.
وَالْآخر: أَن القاع هِيَ الأَرْض الَّتِي يعلوها المَاء وَلَا يسْتَقرّ فِيهَا، وَذكر: الصفصف، مَعَه بطرِيق الاستطراد، لِأَن من عَادَته تَفْسِير مَا وَقع فِي الحَدِيث من الْأَلْفَاظ الْوَاقِعَة فِي الْقُرْآن، وَوَقع فِي الْقُرْآن: { قاعا صفصفا} ( طه: 106) قَالَ أَكثر أهل اللُّغَة: الصفصف المستوي من الأَرْض، مثل مَا فسره البُخَارِيّ،.

     وَقَالَ  ابْن عباد الصفصف، حرف الْجَبَل.
وَوَقع فِي بعض النّسخ: والمصطف المستوي من الأَرْض، وَهُوَ تَصْحِيف.
ثمَّ قَوْله: قاع ... إِلَى آخِره، إِنَّمَا هُوَ ثَابت فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي، وَفِي رِوَايَة غَيره لَيْسَ بموجود.