فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب حِفْظِ الْعِلْمِ

( بابُُ حِفْظِ العِلْمِ)

أَي هَذَا بابُُ فِي بَيَان حفظ الْعلم.

وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبابَُُيْنِ من حَيْثُ إِن من يسمر بِالْعلمِ فَمَا يسمر لأجل الْحِفْظ غَالِبا، وَذكر هَذَا الْبابُُ عقيب ذَلِك مُنَاسِب.



[ قــ :117 ... غــ :118 ]
- حدّثنا عَبْدُ العَزِيز بنُ عَبْدِ اللَّهِ قالَ: حدّثني مَالِكٌ عَن ابنِ شِهَابٍ عَن الأَعْرَج ِ عَنْ أبي هُرَيْرَةَ قالَ: إنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ: أكْثَرَ أبُو هُرَيْرَةَ، ولوْلاَ آيَتَانِ فِي كِتابِ اللَّهِ مَا حَدَّثْتُ حَدِيثا، ثُمَّ يَتْلُو: { إنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ البَيِّنَاتِ والهُدَى إلَى قَوْلهِ الرَّحْيمُ} ( الْبَقَرَة: 159 و 174) إنَّ إخْوَانَنَا مِنَ المُهَاجِرينَ كانَ يَشْغَلُهُمُ الصَّفْقُ بالأَسْوَاقِ، وإنَّ إخْوَانَنَا مِنَ الأَنْصَارِ كانَ يَشْغَلُهُمُ العَمَلُ فِي أمْوَالِهِمْ وإنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كانَ يَلْزِمُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بشبَعِ بَطْنِهِ وَيَحْضُرُ مَا لَا يَحْضُرُونَ ويَحْفَظُ مَا لَا يَحْفَظُونَ..
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: ( ويحفظ مَا لَا يحفظون) .
وَقَوله: ( أَكثر أَبُو هُرَيْرَة) لِأَن الْإِكْثَار لَا يكون إلاَّ عَن حفظ.

بَيَان رِجَاله: وهم خَمْسَة قد ذكرُوا كلهم، وَابْن شهَاب: هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ، والأعرج: هُوَ عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز.
وَقَالُوا: يجوز ذكر الرَّاوِي بلقبه أَو صفته الَّتِي يكرهها إِذا كَانَ المُرَاد تَعْرِيفه لَا نَقصه، كَمَا يجوز جرحهم للْحَاجة.

بَيَان لطائف إِسْنَاده: وَمِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع وَصِيغَة الْإِفْرَاد والعنعنة.
وَمِنْهَا: أَن رُوَاته كلهم مدنيون.
وَمِنْهَا: أَن فِيهِ رِوَايَة تَابِعِيّ عَن تَابِعِيّ.

بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْمُزَارعَة عَن إِبْرَاهِيم، وَفِي الِاعْتِصَام عَن عَليّ عَن سُفْيَان.
وَأخرجه مُسلم فِي الْفَضَائِل عَن قُتَيْبَة وَأبي بكر وَزُهَيْر عَن سُفْيَان، وَعَن عبد الله بن جَعْفَر عَن يحيى عَن مَالك، وَعَن عبد الرَّزَّاق عَن معمر، كلهم عَن الزُّهْرِيّ وَله طرق من غير رِوَايَة الْأَعْرَج.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْعلم عَن مُحَمَّد بن مَنْصُور عَن سُفْيَان بِهِ، وَعَن مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم عَن إِسْحَاق بن عِيسَى عَن مَالك بِهِ.
وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي السّنة عَن أبي مَرْوَان العثماني عَن إِبْرَاهِيم بن سعد بِهِ مُخْتَصرا.

بَيَان اللُّغَات وَالْإِعْرَاب: قَوْله: ( إِن النَّاس) مقول: قَالَ.
وَقَوله: ( يَقُولُونَ) جملَة فِي مَحل الرّفْع خبر: إِن، قَوْله: ( أَكثر أَبُو هُرَيْرَة) جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل مقول يَقُولُونَ.
قَوْله: ( وَلَوْلَا آيتان) مقول.
قَالَ، لَا مقول: يَقُولُونَ.
وَحذف اللَّام من جَوَاب لَوْلَا وَهُوَ جَائِز، وَالْأَصْل: لَوْلَا آيتان موجودتان فِي كتاب الله لما حدثت.
قَوْله: ( حَدِيثا) نصب على المفعولية.
قَوْله: ( ثمَّ يَتْلُو) مقول: الْأَعْرَج، وَفِي بعض النّسخ: ( ثمَّ تَلا) .
قَوْله: ( إِن إِخْوَاننَا) اسْتِئْنَاف كالتعليل للإكثار، كأنّ سَائِلًا سَأَلَ: لم كَانَ أَبُو هُرَيْرَة مكثرا دون غَيره من الصَّحَابَة؟ فَأجَاب بقوله: ( لِأَن إِخْوَاننَا) كَذَا وَكَذَا، فلأجل ذَلِك ترك العاطف بَين الجملتين.
قَوْله: ( من الْمُهَاجِرين) كلمة: من، بَيَانِيَّة.
قَوْله: ( كَانَ يشغلهم الصفق) جملَة فِي مَحل الرّفْع لِأَنَّهَا خبر: إِن.
وَقَوله: ( يشغلهم) من بابُُ: شغل يشغل كفتح يفتح بِفَتْح، عين الْفِعْل فيهمَا من الشّغل، وَيُقَال بِضَم حرف المضارعة من الإشغال، وَهُوَ غَرِيب.
وَفِي ( الْعبابُ) يُقَال شغلته أشغله.
.

     وَقَالَ  ابْن دُرَيْد: لَا يُقَال أشغلته.
.

     وَقَالَ  ابْن فَارس: لَا يكادون يَقُولُونَ: أشغلت، وَهُوَ جَائِز.
.

     وَقَالَ  اللَّيْث: اشتغلت أَنا، وَالْفِعْل اللَّازِم: اشْتغل.
.

     وَقَالَ  أَبُو حَاتِم وَابْن دُرَيْد: لَا يُقَال: اشْتغل.
.

     وَقَالَ  ابْن فَارس فِي ( المقاييس) : جَاءَ عَنْهُم: اشْتغل فلَان بالشَّيْء وَهُوَ مشتغل.
وَقَوله: ( الصفق) بِالرَّفْع فَاعل: يشغل، وَهُوَ بِفَتْح الصَّاد كِنَايَة عَن التبايع.
يُقَال: صفقت لَهُ بِالْبيعِ صفقا، أَي: ضربت يَدي على يَده للْعقد.
قَالَ الْهَرَوِيّ: يُقَال: أصفق الْقَوْم على الْأَمر، وصفقوا بِالْبيعِ والبيعة.
.

     وَقَالَ  غَيره: أَصله من تصفيق الْأَيْدِي بَعْضهَا على بعض من المتابعين، أَي: عاقدي الْبيعَة عِنْد عقدهم، والسوق يؤنث وَيذكر، سميت بِهِ لقِيَام النَّاس فِيهَا على سوقهم.
قَوْله: ( بشبع بَطْنه) بِالْبَاء الْمُوَحدَة فِي رِوَايَة الْأصيلِيّ، وَفِي رِوَايَة غَيره: ( لشبع بَطْنه) بِاللَّامِ، وَهُوَ الثَّابِت فِي غير البُخَارِيّ أَيْضا، وَكِلَاهُمَا للتَّعْلِيل، أَي: لأجل شبع بَطْنه، وَرُوِيَ: ليشبع بَطْنه، بلام كي، ويشبع، يصيغة الْمُضَارع الْمَنْصُوب، والشبع، بِكَسْر الشين وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة.
وَفِي ( الْعبابُ) : الشِّبَع مِثَال عِنَب، والشبع بِالْفَتْح، وَهَذِه عَن ابْن عباد، نقيض الْجُوع.
يُقَال: شبعت خبْزًا وَلَحْمًا، وَمن خبز وَلحم شبعاً، وَهُوَ من مصَادر الطبائع.
.

     وَقَالَ  ابْن دُرَيْد: الشِّبَع والشبع بِإِسْكَان الْبَاء وتحريكها.
.

     وَقَالَ  غَيره: الشِّبَع بالإسكان اسْم مَا أشبعك من شَيْء.
وَفِي الحَدِيث: ( آجر مُوسَى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَفسه من شُعَيْب صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بشبع بَطْنه وعفة فرجه) .
قَوْله: ( مَا لَا يحْضرُون) ، فِي مَحل النصب على أَنه مفعول: ( يحضر) وَكَذَلِكَ قَوْله ( مَا لَا يحفظون) مفعول ( يحفظ) .
بَيَان الْمعَانِي: قَوْله: ( أَكثر أَبُو هُرَيْرَة) أَي من رِوَايَة الحَدِيث.
وَهُوَ من بابُُ حِكَايَة كَلَام النَّاس أَو وضع الْمظهر مَوضِع الْمُضمر، إِذْ حق الظَّاهِر أَن يَقُول: أكثرت، وَفِي رِوَايَة البُخَارِيّ فِي الْبيُوع من طَرِيق شُعَيْب عَن الزُّهْرِيّ: ( أَكثر أَبُو هُرَيْرَة من الحَدِيث) .
وَفِي رِوَايَته وَفِي الْمُزَارعَة من طَرِيق إِبْرَاهِيم بن سعد عَن الزُّهْرِيّ هُنَا، زِيَادَة وَهِي: ( وَيَقُولُونَ مَا للمهاجرين وَالْأَنْصَار لَا يحدثُونَ مثل أَحَادِيثه؟) وَهَذِه الزِّيَادَة تدلك على النُّكْتَة فِي ذكر أبي هُرَيْرَة الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار.
قَوْله: ( لَوْلَا آيتان) المُرَاد من الْآيَتَيْنِ { إِن الَّذين يكتمون} ( الْبَقَرَة: 159 و 174) إِلَى آخر الْآيَتَيْنِ، وَالْمعْنَى: لَوْلَا أَن الله تَعَالَى ذمّ الكاتمين للْعلم لما حدثتكم أصلا، لَكِن لما كَانَ الكتمان حَرَامًا وَجب الْإِظْهَار والتبليغ، فَلهَذَا حصل مني الْإِكْثَار لِكَثْرَة مَا عِنْدِي مِنْهُ.
ثمَّ ذكر سَبَب الْكَثْرَة بقوله: ( إِن إِخْوَاننَا) إِلَى آخِره.
قَوْله: ( ثمَّ يَتْلُو) أَي: قَالَ الْأَعْرَج: ثمَّ يَتْلُو أَبُو هُرَيْرَة، وَذكر بِلَفْظ الْمُضَارع استحضارا لصورة التِّلَاوَة كَأَنَّهُ فِيهَا.
قَوْله: ( إِن إِخْوَاننَا) : الإخوان جمع أَخ، هَذَا يدل على أَن أصل أَخ: أَخُو، بِالتَّحْرِيكِ، وَيجمع أَيْضا على: آخاء، مثل: آبَاء.
والذاهب مِنْهُ وَاو.
وعَلى: إخْوَة بِالضَّمِّ عَن الْفراء، وَفِيه سؤالان: الأول: كَانَ حق الظَّاهِر أَن يَقُول: إِن إخوانه، ليرْجع الضَّمِير إِلَى أبي هُرَيْرَة.
وَأجِيب: بِأَنَّهُ عدل عَنهُ لغَرَض الِالْتِفَات، وَهُوَ فن من محَاسِن الْكَلَام.
الثَّانِي: قَالَ: إِخْوَاننَا، وَلم يقل: إخْوَانِي.
وَأجِيب: لِأَنَّهُ قصد نَفسه وَأَمْثَاله من أهل الصّفة، وَالْمرَاد الإخوان فِي الْإِسْلَام لَا فِي النّسَب، وَالْمرَاد من: ( الْمُهَاجِرين) ، الَّذين هَاجرُوا من مَكَّة إِلَى رَسُول الله، صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَآله وَسلم، وَمن ( الْأَنْصَار) أَصْحَاب الْمَدِينَة الَّذين آووا رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، ونصروه بِأَنْفسِهِم وَأَمْوَالهمْ.
قَوْله: ( الْعَمَل فِي أَمْوَالهم) يُرِيد بِهِ: الزِّرَاعَة وَالْعَمَل فِي الْغِيطَان.
وَفِي رِوَايَة مُسلم: ( كَانَ يشغلهم عمل أَرضهم) .
وَفِي رِوَايَة ابْن سعد: ( كَانَ يشغلهم الْقيام على أراضيهم) .
قَوْله: ( وَإِن أَبَا هُرَيْرَة) فِيهِ الْتِفَات أَيْضا، لِأَن حق الظَّاهِر أَن يَقُول: وَإِنِّي.
قَوْله: ( بشبع بَطْنه) يَعْنِي أَنه كَانَ يلازم قانعا بالقوت لَا مشتغلاً بِالتِّجَارَة وَلَا بالزارعة، وَفِي رِوَايَة البُخَارِيّ فِي الْبيُوع: ( كنت امْرأ مِسْكينا من مَسَاكِين الصّفة) .
قَوْله: ( ويحضر) بِالرَّفْع عطفا على قَوْله: ( يلْزم) ، وَيجوز بِالنّصب أَيْضا على رِوَايَة من روى: ليشبع بَطْنه، بلام كي، و: يشْبع، بِصُورَة الْمُضَارع إِن صحت هَذِه الرِّوَايَة.
قَوْله: ( مَا لَا يحْضرُون) أَي: من أَحْوَال الرَّسُول، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، و ( يحفظ مَا لَا يحفظون) من أَقْوَاله، وَهَذَا إِشَارَة إِلَى المسموعات وَذَاكَ إِشَارَة إِلَى المشاهدات.
لَا يُقَال: هَذَا الحَدِيث يُعَارضهُ مَا تقدم من حَدِيث أبي هُرَيْرَة: ( مَا من أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أحد أَكثر حَدِيثا عَنهُ مني إِلَّا مَا كَانَ من عبد الله بن عَمْرو فَإِنَّهُ كَانَ يكْتب وَلَا أكتب) ، لأَنا نقُول: إِن عبد الله كَانَ أَكثر تحملاً، وَأَبُو هُرَيْرَة كَانَ أَكثر رِوَايَة.
فَإِن قلت: كَيفَ يكون الْأَكْثَر تحملاً وَهُوَ دَاخل تَحت عُمُوم الْمُهَاجِرين؟ قلت: هُوَ أَكثر من جِهَة ضَبطه بِالْكِتَابَةِ وتقييده بهَا، وَأَبُو هُرَيْرَة أَكثر من جِهَة مُطلق السماع.

بَيَان استنباط الْأَحْكَام: فِيهِ: حفظ الْعلم والمواظبة على طلبه.
وَفِيه: فَضِيلَة أبي هُرَيْرَة وَفضل التقلل من الدُّنْيَا وإيثار طلب الْعلم على طلب المَال.
وَفِيه: جَوَاز الْإِخْبَار عَن نَفسه بفضيلته إِذا اضْطر إِلَى ذَلِك وَأمن الْإِعْجَاب.
وَفِيه: جَوَاز إكثار الْأَحَادِيث وَجَوَاز التِّجَارَة وَالْعَمَل وَجَوَاز الِاقْتِصَار على الشِّبَع، وَقد تكون مندوبات، وَقد تكون وَاجِبَات بِحَسب الْأَشْخَاص والأوقات.





[ قــ :118 ... غــ :119 ]
- حدّثنا أحْمَدُ بْنُ أبِي بَكْرٍ أبُو مُصْعَبٍ قالَ: حدّثنا مَحَمَّدُ بنُ إبْرَاهِيمَ بنِ دِينَارٍ عَنِ ابنِ أبي ذِئْبٍ عَنْ سَعِيدٍ المَقْبُرِيِّ عَنْ أبي هُرَيْرَةَ قالَ: قُلْتُ: يَا رسولَ اللَّهِ! إنِّي أسْمعُ مِنْكَ حَدِيثا كَثِيرا أنُسَاهُ، قالَ: ( ابْسُطْ رِدَاءَكَ) فَبَسَطْتُهُ، قالَ: فَغَرَفَ بِيَدَيْهِ ثُمَّ قالَ: ( ضمَّهُ) ، فَضَممْتُهُ فَمَا نَسِيتُ شَيْئا بَعْدَهُ.


مُطَابقَة هَذَا الحَدِيث للتَّرْجَمَة بطرِيق الِالْتِزَام، والْحَدِيث الْمَاضِي بطرِيق الْمُطَابقَة، وَأَحَادِيث الْبابُُ ثَلَاثَة كلهَا عَن أبي هُرَيْرَة، والْحَدِيث الثَّالِث يدل على أَنه لم يحدث بِجَمِيعِ محفوظه.
ودلالته على التَّرْجَمَة بالمطابقة.

بَيَان رِجَاله: وهم خَمْسَة.
الأول: أَحْمد بن أبي بكر، وَاسم أبي بكر: الْقَاسِم، وَقيل: زُرَارَة بن الْحَارِث بن زُرَارَة بن مُصعب بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، أَبُو مُصعب الزُّهْرِيّ الْعَوْفِيّ، قَاضِي الْمَدِينَة وعالمها، وَهُوَ أحد من حمل ( الْمُوَطَّأ) عَن مَالك، روى عَنهُ السِّتَّة، لَكِن النَّسَائِيّ بِوَاسِطَة.
وَأخرج لَهُ مُسلم حَدِيث أبي هُرَيْرَة: ( السّفر قِطْعَة من الْعَذَاب) فَقَط، قَالَ أَبُو حَاتِم وَأَبُو زرْعَة: صَدُوق، مَاتَ سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ، عَن اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين سنة.
الثَّانِي: مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن دِينَار الْمدنِي، وَيُقَال: الْأنْصَارِيّ، كَانَ مفتي أهل الْمَدِينَة مَعَ مَالك وَعبد الْعَزِيز بن يزِيد بن سَلمَة، فَقِيها فَاضلا لَهُ بِالْعلمِ عناية.
قَالَ البُخَارِيّ: هُوَ مَعْرُوف بِالْحَدِيثِ.
.

     وَقَالَ  أَبُو حَاتِم: ثِقَة، روى لَهُ الْجَمَاعَة.
الثَّالِث: مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن الْمُغيرَة بن الْحَارِث بن أبي ذِئْب، بِكَسْر الذَّال الْمُعْجَمَة، الْقرشِي العامري الْمدنِي الثِّقَة.
كَبِير الشان.
.

     وَقَالَ  أَحْمد: كَانَ ابْن أبي ذِئْب أفضل من مَالك إِلَّا أَن مَالِكًا كَانَ أَشد تنقية للرِّجَال مِنْهُ، وأقدمه الْمهْدي بَغْدَاد حَتَّى حدث بهَا، ثمَّ رَجَعَ يُرِيد الْمَدِينَة فَمَاتَ بِالْكُوفَةِ سنة تسع وَخمسين وَمِائَة.
ولد سنة ثَمَانِينَ.
الرَّابِع: سعيد بن أبي سعيد المَقْبُري الْمدنِي.
الْخَامِس: أَبُو هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.

بَيَان لطائف إِسْنَاده: مِنْهَا: أَن فِي التحديث والعنعنة.
وَمِنْهَا: أَن رُوَاته كلهم مدنيون.
وَمِنْهَا: أَن كلهم أَئِمَّة أجلاء.

بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي عَلَامَات النُّبُوَّة عَن إِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر عَن ابْن أبي فديك.
وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي المناقب عَن مُحَمَّد بن الْمثنى عَن عُثْمَان بن عمر، كِلَاهُمَا عَن ابْن أبي ذِئْب عَن سعيد عَن أبي هُرَيْرَة،.

     وَقَالَ  التِّرْمِذِيّ: حسن صَحِيح، قد رُوِيَ من غير وَجه عَن أبي هُرَيْرَة.

بَيَان الْإِعْرَاب والمعاني: قَوْله: ( قلت: يَا رَسُول الله) ويروى: ( قلت: لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) .
قَوْله: ( كثيرا) صفة لقَوْله: حَدِيثا، لِأَنَّهُ بِاعْتِبَار كَونه اسْم جنس يُطلق على الْكثير والقليل.
قَوْله: ( انساه) جملَة فِي مَحل النصب لِأَنَّهَا صفة أُخْرَى لقَوْله: ( حَدِيثا) ، وَالنِّسْيَان جهل بعد الْعلم.

وَالْفرق بَينه وَبَين السَّهْو أَن النسْيَان زَوَال عَن الحافظة والمدركة، والسهو زَوَال عَن الحافظة فَقَط.
وَالْفرق بَين السَّهْو وَالْخَطَأ أَن السَّهْو مَا يتَنَبَّه صَاحبه بِأَدْنَى تَنْبِيه، وَالْخَطَأ مَا لَا يتَنَبَّه بِهِ.
وَيُقَال المأتي بِهِ إِن كَانَ على جِهَة مَا يَنْبَغِي فَهُوَ الصَّوَاب، وَإِن كَانَ لَا على مَا يَنْبَغِي ينظر، فَإِن كَانَ مَعَ قصد من الْآتِي بِهِ يُسمى الْغَلَط، وَإِن كَانَ من غير قصد مِنْهُ فَإِن كَانَ يتَنَبَّه بأيسر تَنْبِيه فَهُوَ السَّهْو، وإلاَّ فَهُوَ الْخَطَأ.
وَالنِّسْيَان حَالَة تعتري الْإِنْسَان من غير اخْتِيَاره توجب غفلته عَن الْحِفْظ.
والغفلة ترك الِالْتِفَات بِسَبَب أَمر عَارض.

قَوْله: ( قَالَ) أَي: قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأبي هُرَيْرَة: ( ابْسُطْ رداءك) .
قَوْله: ( فبسطته) عطف على: ( ابْسُطْ) .
وَعطف الْخَبَر على الْإِنْشَاء فِيهِ خلاف، وَالَّذِي يمنعهُ يقدر شَيْئا، وَالتَّقْدِير: لما قَالَ: ابْسُطْ رداءك امتثلت أمره فبسطته.
( فغرف) أَي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ( بِيَدِهِ) ، وَلم يذكر المغروف وَلَا المغروف مِنْهُ، لِأَنَّهُ لم يكن إِلَّا إِشَارَة مَحْضَة.
قَوْله: ( ضمه) بِالْهَاءِ رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: ضم، بِلَا هَاء.
وَالضَّمِير يرجع إِلَى الحَدِيث يدل عَلَيْهِ مَا رُوِيَ فِي غير الصَّحِيح: ( فغرف بيدَيْهِ، ثمَّ قَالَ: ضم) الحَدِيث، وَفِي بعض طرقه عِنْد البُخَارِيّ: ( لن يبسط أحد مِنْكُم ثَوْبه حَتَّى أَقْْضِي مَقَالَتي هَذِه، ثمَّ يجمعها إِلَى صَدره فينسى من مَقَالَتي شَيْئا أبدا.
فبسطت نمرة لَيْسَ عَليّ ثوب غَيرهَا حَتَّى قضى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مقَالَته، ثمَّ جمعتها إِلَى صَدْرِي، فوالذي بَعثه بِالْحَقِّ مَا نسيب من مقَالَته تِلْكَ إِلَى يومي هَذَا)
.
وَفِي مُسلم: ( أَيّكُم يبسط ثَوْبه فَيَأْخُذ) فَذكره بِمَعْنَاهُ، ثمَّ قَالَ: ( فَمَا نسيت بعد ذَلِك الْيَوْم شَيْئا حَدثنِي بِهِ) .
فَفِي قَوْله: بعد ذَلِك الْيَوْم دَلِيل على الْعُمُوم، وعَلى أَنه بعد ذَلِك لم ينس شَيْئا سَمعه من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لَا أَن ذَلِك خَاص بِتِلْكَ الْمقَالة، كَمَا يُعْطِيهِ ظَاهر قَوْله: ( من مقَالَته تِلْكَ) ، ويعضد الْعُمُوم مَا جَاءَ فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة: ( إِنَّه شكى إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه ينسى) .
فَفعل مَا فعل ليزول عَنهُ النسْيَان.
قلت: تنكير: شَيْئا، بعد النَّفْي يدل على الْعُمُوم، لِأَن النكرَة فِي سِيَاق النَّفْي تدل عَلَيْهِ، فَدلَّ على الْعُمُوم فِي عدم النسْيَان لكل شَيْء من الحَدِيث وَغَيره.
فَإِن قلت: قَوْله: ( فوالذي بَعثه بِالْحَقِّ مَا نسيت من مقَالَته تِلْكَ إِلَى يومي هَذَا) ، يدل على تَخْصِيص عدم النسْيَان بِتِلْكَ الْمقَالة فَقَط.
وَقَوله: ( فَمَا نسيت بعد ذَلِك الْيَوْم شَيْئا حَدثنِي بِهِ) ، يدل على تَخْصِيص عدم النسْيَان بِالْحَدِيثِ فَقَط.
قلت: الْجَواب يفهم مِمَّا ذَكرْنَاهُ الْآن، وَكَيف لَا وَأَبُو هُرَيْرَة اسْتدلَّ بذلك على كَثْرَة محفوظه من الحَدِيث، فَلَا يَصح حمله على تِلْكَ الْمقَالة وَحدهَا، أَو نقُول: وَيحْتَمل أَن يكون قد وَقعت لَهُ قضيتان: إِحْدَاهمَا خَاصَّة.
وَالْأُخْرَى: عَامَّة.
فَإِن قلت: مَا هَذِه الْمقَالة؟ قلت: هِيَ مُبْهمَة فِي جَمِيع طرق الحَدِيث من رِوَايَة الزُّهْرِيّ، غير أَنه صرح بهَا فِي طَرِيق أُخْرَى عَن أبي هُرَيْرَة، أخرجهَا أَبُو نعيم فِي ( الْحِلْية) قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ( مَا من رجل يسمع كلمة أَو كَلِمَتَيْنِ مِمَّا فرض الله تَعَالَى فيتعلمهن ويعلمهن إلاَّ دخل الْجنَّة) .
.

     وَقَالَ  الشَّيْخ قطب الدّين: وَقَوله: ( وضمه) فِيهِ ثَلَاث لُغَات فِي الْمِيم: الْفَتْح وَالْكَسْر وَالضَّم،.

     وَقَالَ  بَعضهم: لَا يجوز إلاَّ الضَّم لأجل الْهَاء المضمومة بعده، وَاخْتَارَهُ الْفَارِسِي، وَجوزهُ صَاحب ( الفصيح) وَغَيره: قلت: مثل هَذِه الْكَلِمَة يجوز فِيهِ أَرْبَعَة أوجه من حَيْثُ قَوَاعِد الصرفيين: الأول: ضم الْمِيم تبعا للضاد.
وَالثَّانِي: فتحهَا لِأَن الفتحة أخف الحركات.
وَالثَّالِث: كسرهَا لِأَن السَّاكِن إِذا حرك حرك بِالْكَسْرِ.
وَالرَّابِع: فك الْإِدْغَام، أَعنِي: أضمم.
.

     وَقَالَ  بَعضهم: وَيجوز ضمهَا.
وَقيل: يتَعَيَّن لأجل ضمة الْهَاء.
قلت: دَعْوَى التَّعْيِين غير صَحِيحَة، وَلَا كَون الضمة لأجل الْهَاء، وَإِنَّمَا هُوَ لأجل ضمة الضَّاد، كَمَا ذكرنَا.
.

     وَقَالَ : وَيجوز كسرهَا لَكِن مَعَ إسكان الْهَاء.
قلت: إِن أَرَادَ بالإسكان فِي حَالَة الْوَقْف فَمُسلم، وَإِن أَرَادَ مُطلقًا فَمَمْنُوع، فَافْهَم، فَإِن مثل هَذَا لَا يحققه إلاَّ من أمعن فِي النّظر فِي الْعُلُوم الآلية.
قَوْله: ( بعد) بِضَم الدَّال لِأَنَّهُ قطع من الْإِضَافَة فيبنى على الضَّم، وَفِي بعض النّسخ: ( بعده) ، أَي بعد هَذَا الضَّم.

وَمِمَّا يُسْتَفَاد مِنْهُ: معْجزَة النَّبِي، صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَآله وَسلم، حَيْثُ رفع من أبي هُرَيْرَة النسْيَان الَّذِي هُوَ من لَوَازِم الْإِنْسَان حَتَّى قيل: إِنَّه مُشْتَقّ مِنْهُ، وَحُصُول هَذَا من بسط الرِّدَاء وضمه أَيْضا معْجزَة، حَيْثُ جعل الْحِفْظ كالشيء الَّذِي يغْرف مِنْهُ، فَأخذ غرفَة مِنْهُ ورماها فِي رِدَائه، وَمثل بذلك فِي عَالم الْحس.

حدّثنا إبراهيمُ بنُ المُنْذِرِ قالَ: حدّثنا ابنُ أبي فُدَيْكٍ بِهَذَا، أَو قالَ: غَرَفَ بِيَدِهِ فِيه.

سَاق البُخَارِيّ الحَدِيث الْمَذْكُور بِهَذَا السَّنَد بِعَيْنِه فِي عَلَامَات النُّبُوَّة، فَقَالَ: حَدثنِي إِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر، حَدثنَا ابْن أبي فديك عَن ابْن أبي ذِئْب عَن المَقْبُري عَن أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله عَنهُ قَالَ: ( قلت: يَا رَسُول الله! إِنِّي سَمِعت مِنْك حَدِيثا كثيرا فأنساه.
قَالَ: ابْسُطْ رداءك، فبسطت، فغرف بِيَدِهِ فِيهِ، ثمَّ قَالَ: ضمه، فضممته فَمَا نسيت حَدِيثا بعد)
.

وَالِاخْتِلَاف بَين الْحَدِيثين فِي بعض الْأَلْفَاظ.
فَفِي الأول: ( إِنِّي أسمع مِنْك) ، وَفِي هَذَا: ( سَمِعت مِنْك) .
وَهُنَاكَ: ( انساه) ، وَهَهُنَا: ( فأنساه) ، بِالْفَاءِ.
وَهُنَاكَ: ( فبسطته) ، وَهنا: ( فبسطت) بِدُونِ ضمير الْمَفْعُول.
وَهُنَاكَ: ( فغرف بيدَيْهِ) ، وَهَهُنَا: ( بِيَدِهِ) ، وَهُنَاكَ: ( فَمَا نسيت شَيْئا) ، وَهنا: ( فَمَا نسيت حَدِيثا) .
وَفِي رِوَايَة الْأَكْثَرين فِي حَدِيث الْبابُُ: ( فغرف) وَوَقع فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي وَحده: يحذف.
.

     وَقَالَ  صَاحب ( الْمطَالع) فِي بابُُ حفظ الْعلم، فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي قَوْله: ( ابْسُطْ رداءك) قَول ابْن أبي فديك.
.

     وَقَالَ : يحذف فِيهِ، أَي: كَأَنَّهُ يَرْمِي بِيَدِهِ فِي رِدَاء أبي هُرَيْرَة شَيْئا لما كَانَ قبل ذَلِك، فغرف بِيَدِهِ ثمَّ قَالَ: ضمه.
انْتهى كَلَامه.
وَادّعى بَعضهم أَن هَذَا تَصْحِيف، وَلم يُقِم عَلَيْهِ برهانا، غير أَنه قَالَ: لما وضح من سِيَاقه فِي عَلَامَات النُّبُوَّة، وَقد رَوَاهُ ابْن سعد فِي ( الطَّبَقَات) عَن ابْن أبي فديك، فَقَالَ: فغرف، وَهَذَا لَيْسَ يقوم بِهِ دَلِيل على مَا لَا يخفى، وَلَو كَانَ تصحيفا لنبه عَلَيْهِ صَاحب ( الْمطَالع)
وَإِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر مر فِي أول كتاب الْعلم، وَابْن أبي فديك هُوَ أَبُو إِسْمَاعِيل مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل بن أبي فديك الْمدنِي، وَأَبُو فديك، بِضَم الْفَاء وَفتح الدَّال الْمُهْملَة اسْمه: دِينَار، مَاتَ سنة مِائَتَيْنِ.

قَوْله: ( بِهَذَا) أَي: بِهَذَا الحَدِيث.
قَوْله: ( قَالَ) أَي ابْن أبي فديك يحذف بِيَدِهِ إِلَى فِيهِ، من الْحَذف بِالْحَاء الْمُهْملَة والذال الْمُعْجَمَة وبالفاء.
وَفِي ( الْعبابُ) فِي فصل الْحَاء الْمُهْملَة: حذفته بالعصا أَي: رميته.
وَهُوَ بَين كل حاذف وقاذف: فالحاذف بالعصا، والقاذف بِالْحجرِ.
.

     وَقَالَ  اللَّيْث: الْحَذف الرَّمْي عَن جَانب وَالضَّرْب عَن جَانب.
.

     وَقَالَ  فِي فصل الْخَاء الْمُعْجَمَة.
الْخذف، رميك بحصاة أَو نواة أَو نَحْوهمَا تَأْخُذهُ بَين سبابُتيك تخذف بِهِ.
قلت: وَمن هَذَا قَالَ بَعضهم: الْحَذف، بِالْمُهْمَلَةِ بالعصا، والخذف بِالْمُعْجَمَةِ بالحصى.
.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: وَقد وجد فِي بعض النّسخ هَهُنَا: حَدثنَا إِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر ... الخ، ثمَّ قَالَ: وَالظَّاهِر أَن ابْن أبي فديك يرويهِ أَيْضا عَن ابْن أبي ذِئْب، فيتفق مَعَه إِلَى آخر الْإِسْنَاد الأول مَعَ احْتِمَال رِوَايَته عَن غَيره.
قلت: هَذَا غَفلَة مِنْهُ، وَلَو اطلع على مَا رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي عَلَامَات النُّبُوَّة لما تردد هَهُنَا، ولجزم بِرِوَايَة ابْن أبي فديك عَن ابْن أبي ذِئْب.





[ قــ :119 ... غــ :10 ]
- حدّثنا إسْماعيلُ قالَ: حدّثني أخِي عَن ابنِ أبي ذِئْبٍ عنْ سَعِيدٍ المَقْبُرِيِّ عنْ أبي هُرَيْرَةَ قالَ: حَفظْتُ مِنْ رسولِ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وعاءَيْنِ، فَأمَّا أحَدُهُمَا فَبَثَثْتُهُ وأمَّا الآخَرُ فَلَوْ بَثَثْتُهُ قُطِعَ هَذَا البُلْعُومُ.

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.

بَيَان رِجَاله: وهم خَمْسَة ذكرُوا كلهم، وَإِسْمَاعِيل هُوَ ابْن أبي أويس، وَأَخُوهُ عبد الحميد بن أبي أويس الأصبحي الْمدنِي الْقرشِي، أَبُو بكر الْأَعْمَش.
مَاتَ سنة اثْنَتَيْنِ وَمِائَتَيْنِ.
وَابْن أبي ذِئْب هُوَ مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن وَقد مر عَن قريب.

بَيَان لطائف إِسْنَاده: مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع وَصِيغَة الْإِفْرَاد والعنعنة.
وَمِنْهَا: أَن فِيهِ رِوَايَة الْأَخ عَن الْأَخ.
وَمِنْهَا: أَن رُوَاته مدنيون، وَهَذَا الحَدِيث انْفَرد بِهِ البُخَارِيّ عَن الْجَمَاعَة.

بَيَان اللُّغَات: قَوْله: ( وعاءين) تَثْنِيَة وعَاء، بِكَسْر الْوَاو وبالمد، وَهُوَ الظّرْف الَّذِي يحفظ فِيهِ الشَّيْء، وَيجمع على: أوعية، وَيُؤْخَذ مِنْهُ الْفِعْل.
يُقَال: أوعيت الزَّاد وَالْمَتَاع إِذا جعلته فِي الْوِعَاء، قَالَ عبيد بن الأبرص:
( الْخَيْر يبْقى وَلَو طَال الزَّمَان بِهِ ... وَالشَّر أَخبث مَا أوعيت من زَاد)

قَوْله: ( فبثثته) أَي: نشرته، يُقَال: بَث الْخَيْر: وأبثه بِمَعْنى.
قَالَ ذُو الرمة:
( غيلَان وأسقيه حَتَّى كَاد مِمَّا أبثه)

وبثثت الْغُبَار: إِذا هيجته، وبثثت الْخَبَر: شدد للْمُبَالَغَة، وبثثت الْخَبَر: كشفته ونشرته، والتركيب يدل على تَفْرِيق الشَّيْء وإظهاره.

بَيَان الْإِعْرَاب: قَوْله: ( حفظت عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) هَكَذَا رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة البَاقِينَ: ( حفظت من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، وَهِي أصرح لتلقيه من النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، بِلَا وَاسِطَة.
قَوْله: ( وعاءين) ، مَنْصُوب لِأَنَّهُ مفعول: حفظت.
قَوْله: ( فَأَما أَحدهمَا) كلمة: أما، هِيَ التفصيلية وَقَوله ( فبثثته) جَوَاب: أما، وَإِنَّمَا دخلت عَلَيْهِ الْفَاء لتضمنها معنى الشَّرْط.
وَقَوله: ( وَأما الآخر) .
أَي: وَأما الْوِعَاء الآخر، وَجَوَابه قَوْله: ( فَلَو بثثته) ، وَقَوله: ( لقطع هَذَا البلعوم) جَوَاب: لَو، ويروى قطع بِدُونِ اللَّام، و: ( البلعوم) مَرْفُوع بِإِسْنَاد قطع، إِلَيْهِ وَهُوَ مفعول نَاب عَن الْفَاعِل.

بَيَان الْمَعْنى: فِيهِ ذكر الْمحل وَإِرَادَة الْحَال، وَهُوَ ذكر الْوِعَاء، وَإِرَادَة مَا يحل فِيهِ.
وَالْحَاصِل أَنه أَرَادَ بِهِ نَوْعَيْنِ من الْعلم، وَأَرَادَ بِالْأولِ: الَّذِي حفظه من السّنَن المذاعة لَو كتبت لاحتمل أَن يمْلَأ مِنْهَا وعَاء.
وَبِالثَّانِي: مَا كتمه من أَخْبَار الْفِتَن، كَذَلِك.
.

     وَقَالَ  ابْن بطال: المُرَاد من الْوِعَاء الثَّانِي أَحَادِيث أَشْرَاط السَّاعَة، وَمَا عرف بِهِ النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، من فَسَاد الدّين على أَيدي أغيلمة سُفَهَاء من قُرَيْش، وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَة يَقُول: لَو شِئْت أَن أسميهم بِأَسْمَائِهِمْ، فخشي على نَفسه فَلم يُصَرح، وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي لكل من أَمر بِمَعْرُوف إِذْ خَافَ على نَفسه فِي التَّصْرِيح أَن يعرض، وَلَو كَانَت الْأَحَادِيث الَّتِي لم يحدث بهَا فِي الْحَلَال وَالْحرَام مَا وَسعه كتمها بِحكم الْآيَة.
وَيُقَال: حمل الْوِعَاء الثَّانِي الَّذِي لم يُنَبه على الْأَحَادِيث الَّتِي فِيهَا تَبْيِين أسامي أُمَرَاء الْجور وأحوالهم ووذمهم، وَقد كَانَ أَبُو هُرَيْرَة يكني عَن بَعضهم وَلَا يُصَرح بِهِ خوفًا على نَفسه مِنْهُم، كَقَوْلِه: أعوذ بِاللَّه من رَأس السِّتين وإمارة الصّبيان، يُشِير بذلك إِلَى خلَافَة يزِيد بن مُعَاوِيَة لِأَنَّهَا كَانَت سنة سِتِّينَ من الْهِجْرَة، فَاسْتَجَاب الله دُعَاء أبي هُرَيْرَة، فَمَاتَ قبلهَا بِسنة.
فَإِن قيل: الْوِعَاء فِي كَلَام الْعَرَب الظّرْف الَّذِي يجمع فِيهِ الشَّيْء، فَهُوَ معَارض لما تقدم مِمَّا قَالَ: إِنِّي لَا أكتب، وَكَانَ أَي عبد الله بن عَمْرو يكْتب.
أُجِيب: بِأَن المُرَاد أَن الَّذِي حفظه من النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، من السّنَن الَّتِي حدث بهَا وحملت عَنهُ، لَو كتبت لاحتمل أَن يمْلَأ مِنْهَا وعَاء، وَمَا كتمه من أَحَادِيث الْفِتَن الَّتِي لَو حدث بهَا لقطع مِنْهُ البلعوم، يحْتَمل أَن يمْلَأ وعَاء آخر، وَلِهَذَا الْمَعْنى قَالَ: وعاءين، وَلم يقل: وعَاء وَاحِدًا لاخْتِلَاف حكم الْمَحْفُوظ فِي الْإِعْلَام بِهِ والستر لَهُ.
.

     وَقَالَ ت المتصوفة: المُرَاد بِالْأولِ: علم الْأَحْكَام والأخلاق.
وَبِالثَّانِي: علم الْأَسْرَار، المصون عَن الأغيار، الْمُخْتَص بالعلماء بِاللَّه من أهل الْعرْفَان.
.

     وَقَالَ  آخَرُونَ مِنْهُم: الْعلم الْمكنون والسر المصون علمنَا، وَهُوَ نتيجة الْخدمَة وَثَمَرَة الْحِكْمَة، لَا يظفر بهَا إلاَّ الغواصون فِي بحار المجاهدات، وَلَا يسْعد بهَا إلاَّ المصطفون بأنوار المجاهدات والمشاهدات، إِذْ هِيَ أسرار متمكنة فِي الْقُلُوب لَا تظهر إلاَّ بالرياضة وأنوار لامعة فِي الغيوب لَا تنكشف إلاَّ للأنفس المرتاضة.
قلت: نعم مَا قَالَ، لَكِن بِشَرْط أَن لَا تَدْفَعهُ الْقَوَاعِد الإسلامية وَلَا تنفيه القوانين الإيمانية إِذْ مَا بعد الْحق إلاَّ الضلال.
فَإِن قلت: قد وَقع فِي مُسْند أبي هُرَيْرَة: حفظت ثَلَاثَة أجربة.
فبثثت مِنْهَا جرابين، وَهَذَا مُخَالف لحَدِيث الْبابُُ؟ قلت: يحمل على أَن الجرابين مِنْهَا كَانَا من نوع وَاحِد وَهُوَ الْأَحْكَام، وَمَا يتَعَلَّق بظواهر الشَّرْع، والجراب الآخر الْأَحَادِيث الَّتِي لَو نشرها لقطع بلعومه، وَلَا شكّ أَن النَّوْع الأول كَانَ أَكثر من النَّوْع الثَّانِي، فَلذَلِك عبر عَنهُ بالجرابين، وَالنَّوْع الثَّانِي بجراب وَاحِد فَبِهَذَا حصل التَّوْفِيق بَين الْحَدِيثين.
وَلَقَد أبعد بَعضهم فِي قَوْله: يحمل على أَن أحد الوعاءين كَانَ أكبر من الآخر بِحَيْثُ يَجِيء مَا فِي الْكَبِير فِي جرابين، وَمَا فِي الصَّغِير فِي وَاحِد.
قَوْله: ( فبثثته) زَاد الْإِسْمَاعِيلِيّ: ( فِي النَّاس) .
قالَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ: الْبُلْعُومُ مَجْرَى الطَّعَامِ

هَذَا ثَبت فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي، وَأَبُو عبد الله هُوَ البُخَارِيّ نَفسه.
و: ( البلعوم) بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة مجْرى الطَّعَام فِي الْحلق، وَهُوَ المريء كَمَا فسره القَاضِي الْجَوْهَرِي، وَكَذَا البلعم.
.

     وَقَالَ  الْفُقَهَاء: الْحُلْقُوم مجْرى النَّفس، والمريء مجْرى الطَّعَام وَالشرَاب، وَهُوَ تَحت الْحُلْقُوم، والبلعوم تَحت الْحُلْقُوم.
.

     وَقَالَ  ابْن بطال: البلعوم الْحُلْقُوم، وَهُوَ مجْرى النَّفس إِلَى الرئة، والمريء مجْرى الطَّعَام وَالشرَاب إِلَى الْمعدة مُتَّصِل بالحلقوم، وَالْمَقْصُود: كنى بذلك عَن الْقَتْل.
وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ: ( لقطع هَذَا) ، يَعْنِي رَأسه.