فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب ما يستحب للعالم إذا سئل: أي الناس أعلم؟ فيكل العلم إلى الله

(بابُُ مَا يُسْتَحَبُّ للْعَالِمِ إذَا سُئِلَ: أيُّ النَّاسِ أعْلَمُ؟ فَيَكِلُ العِلْمَ إلَى اللَّهِ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان: (مَا يسْتَحبّ للْعَالم إِذا سُئِلَ) الخ.
وَكلمَة: مَا، مَوْصُولَة، وَيجوز أَن تكون مَصْدَرِيَّة، وَالتَّقْدِير: اسْتِحْبابُُ الْعَالم ... وَكلمَة: إِذا، ظرفية، فَتكون ظرفا لقَوْله: (يسْتَحبّ) ، وَالْفَاء فِي قَوْله: (فيكل) ، تفسيرية على أَن قَوْله: يكل، فِي قُوَّة الْمصدر بِتَقْدِير: أَن، وَالتَّقْدِير: مَا يسْتَحبّ وَقت السُّؤَال هُوَ الوكول، وَيجوز أَن تكون: إِذا شَرْطِيَّة و: الْفَاء، حِينَئِذٍ دَاخِلَة على الْجَزَاء، وَالتَّقْدِير: فَهُوَ يكل، وَالْجُمْلَة بَيَان لما يسْتَحبّ.
قَوْله: (أَي النَّاس) أَي: أَي شخص من أشخاص الْإِنْسَان أعلم من غَيره؟ وَرُوِيَ: (إِذا سُئِلَ أَي النَّاس أعلم؟ أَن يكل) .
و: أَن مَصْدَرِيَّة.
وَالتَّقْدِير: بابُُ اسْتِحْبابُُ وكول الْعَالم الْعلم إِلَى الله تَعَالَى وَقت السُّؤَال عَنهُ: أَي النَّاس أعلم؟ قَوْله: (يكل) أَصله: يُوكل، لِأَنَّهُ من: وكل الْأَمر إِلَى نَفسه وكلا ووكولاً، وَهَذَا أَمر موكول إِلَى رَأْيك، حذفت الْوَاو لوقوعها بَين الْيَاء والكسرة كَمَا فِي: يعد، وَنَحْوه.
وَمعنى أصل التَّرْكِيب يدل على اعْتِمَاد غَيْرك فِي أَمرك.

وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبابَُُيْنِ من حَيْثُ إِن الْمَذْكُور فِي الْبابُُ الأول لُزُوم الْإِنْصَات للْعَالم، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَة وكول أمره إِلَيْهِ فِي حَالَة السماع، وَكَذَلِكَ هَهُنَا: لُزُوم وكول الْأَمر إِلَى الله تَعَالَى إِذا سُئِلَ عَن الأعلم.



[ قــ :121 ... غــ :122 ]
- حدّثنا عَبْدُ اللَّهِ بنُ مُحمَّدٍ قَالَ: حدّثنا سُفْيانُ قالَ: حدّثنا عَمْرٌ وقالَ: أَخْبرنِي سَعِيدُ بنُ جُبَيْرٍ قالَ: قُلتُ لابنِ عَبَّاسٍ: إنَّ نَوْفا البَكَالِيَّ يَزْعُمُ أنَّ مُوسَى لَيْسَ بِمُوسَى بَنِي إسْرَائِيلَ، إنَّمَا هُو مُوسَى آخَرُ.
فَقالَ: كَذَبَ عَدُوُّ اللَّهِ.
حدّثنا أُبَيُّ بنُ كَعْبٍ عَنِ النَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (قامَ مُوسَى النَّبيُّ خَطِيبا فِي بَنِي إسْرَائِيلَ.
فَسُئِلَ: أيُّ النَّاسِ أعْلَمُ؟ فقالَ: أَنَا أَعْلَمُ، فَعَتَبَ اللَّهُ عليهِ إذْ لَمْ يَرُدَّ العِلْمَ إلَيْهِ، فَأَوْحَى اللَّهُ إلَيْهِ أنَّ عَبْدا مِنْ عِبَادِي بِمَجْمَعِ البَحْرَيْنِ هُوَ أعْلَمُ مِنْكَ، قالَ: يَا رَبِّ! وَكَيْفَ لي بهِ؟ فَقِيلَ لَهُ: احْمِلْ حُوتا فِي مِكْتَل فإذَا فَقَدْتَهُ فَهُوَ ثَمَّ، فانْطَلَقَ وانْطَلَقَ بِفَتَاهُ يُوشعَ بنُ نُونٍ وَحَمَلاَ حوتا فِي مِكْتَلٍ حَتَّى كَانَا عِنْدَ الصَّخْرَةِ وَضَعَا رُؤُوسَهُمَا وَنَاما، فَانْسَلَّ الحُوتُ مِنَ المِكْتَلِ فاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي البَحْرِ سَرَبا، وكانَ لمُوسَى وفَتَاه عَجَبا، فانْطَلَقَا بَقِيَّةَ لَيْلَتِهِمَا ويَوْمِهَما فلَمَّا أصْبَحَ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ: آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرنَا هَذَا نَصَبا، وَلَمْ يَجدْ مُوسَى مَسًّا مِنَ النَّصَبِ حَتَّى جاوَزَ المَكانَ الَّذِي أُمِرَ بهِ، فَقالَ لَهُ فَتَاهُ: {أرَأيْتَ إذْ أوَيْنَا إلَى الصَّخْرَةِ فإنِّي نَسِيتُ الحُوتَ} (الْكَهْف: 63) قالَ مُوسَى: {ذلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِي، فَارْتَدا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصا} (الْكَهْف: 64) فلمَّا انْتَهَيَا إِلَى الصَّخْرَةِ إذَا رَجُلٌ مُسَجَّى بِثَوْبٍ أوْ قالَ: تَسَجَّى بِثَوْبهِ فَسَلَّمِ مُوسَى فَقالَ الخَضِرُ: وأنَّى بأرْضِكَ السَّلامُ؟ فَقالَ: أنَا مُوسَى.
فقالَ: مُوسَى بَنِي إسْرَائِيلَ؟ قالَ: نَعَمْ.
قالَ: {هَلْ اتَّبِعُكَ عَلَى أنْ تُعَلِّمنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدا.
قالَ: إنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرا} (الْكَهْف: 66 67) يَا مُوسى إنِّي عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّه عَلَّمَنِيهِ لَا تَعْلَمُهُ أنْتَ، وأنْتَ عَلَى عِلْمٍ علّمَكَهُ لاَ أعْلَمُهُ، قَالَ: {سَتَجدُنِي إنْ شَاء اللَّهُ صابِرا وَلاَ أَعْصِي لَكَ أمْرا} (الْكَهْف: 69) فانْطَلَقَا يَمْشِيَانِ عَلَى سَاحِل البَحْرِ لَيْسَ لَهُمَا سَفِينةٌ، فَمَرَّتْ بِهِمَا سفِينَةٌ فَكَلمُوهُمْ أنْ يَحْمِلُوهُمَا، فَعُرِفَ الخَضِرُ فَحَمَلُوهُمَا بِغَيْرِ نَوْلِ، فَجَاءَ عُصْفُورٌ فَوقَعَ عَلَى حَرْفِ السَّفِينَةِ، فَنَقَرَ نَقْرَةً أَو نَقْرَتَيْنِ فِي البَحْرِ، فقالَ الخَضِرُ: يَا مُوسَى مَا نَقَصَ عِلْمِي وَعِلْمَكَ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ إلاّ كَنَقْرةِ هَذَا العُصْفُورِ فِي البَحْرِ، فَعَمَدَ الخَضِرُ إِلَى لوْحٍ منْ ألْوَاحِ السَّفِينَةِ فَنَزَعَهُ، فقالَ مُوسَى: قَوْمٌ حَمَلُونَا بغيْر نَوْلٍ عَمَدْتَ إِلَى سفينَتهم فَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أهْلَها؟ قالَ: {أَلَمْ أَقُلْ إنَّكَ لَنْ تَسْتَطيعَ مَعِيَ صَبْرا} (الْكَهْف: 72) قالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نسِيتُ، فَكانَتِ الأُولَى مِنْ مُوسَى نِسْيَانا فانْطَلَقَا، فإذَا غُلاَمٌ يَلْعَبُ مَعَ الغِلْمَانِ، فأَخَذ الخَضِرُ برَأْسه مِنْ أعْلاَهُ فاقْتَلَعَ رَأْسَهُ بيدِهِ فقالَ مُوسَى: {أَقْتَلْتَ نَفْسا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ} (الْكَهْف: 74) {قالَ: أَلَمْ أقلْ لَكَ أنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرا} (الْكَهْف: 75) .
قالَ ابنُ عُيَيْنَةَ: وَهَذَا أوْكَد فانْطَلَقَا حَتَّى إِذا أتَيَا أهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أهْلَهَا فأبَوْا أنْ يُضِيِّفُوهُما، فَوَجَدَا فِيها جِدَارا يُرِيدُ أنْ يَنْقضَّ.
فأقَامَهُ.
قَالَ الخَضِرُ بِيَدِهِ فأقامَهُ، فقالَ لَهُ موسَى: {لوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أجْرا! قالَ: {هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنَكَ} (الْكَهْف: 77 78) قَالَ النَّبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (يَرْحَمُ الله مُوسَى، لَودِدْنَا لَوْ صَبَرَ حتَّى يُقَصَّ عَلَيْنا مِنْ أمْرهمَا) .


مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.

بَيَان رِجَاله: وهم سَبْعَة.
الأول: عبد الله بن مُحَمَّد الْجعْفِيّ المسندي، بِفَتْح النُّون، وَقد تقدم.
الثَّانِي: سُفْيَان بن عُيَيْنَة.
الثَّالِث: عَمْرو بن دِينَار.
الرَّابِع: سعيد بن جُبَير.
الْخَامِس: عبد الله بن عَبَّاس.
السَّادِس: نوف، بِفَتْح النُّون وَسُكُون الْوَاو وَفِي آخِره فَاء: ابْن فضَالة، بِفَتْح الْفَاء وَالضَّاد الْمُعْجَمَة: أَبُو يزِيد، وَيُقَال: أَبُو رشيد الْقَاص الْبكالِي، كَانَ عَالما فَاضلا إِمَامًا لأهل دمشق.
.

     وَقَالَ  ابْن التِّين: كَانَ حاجبا لعَلي، رَضِي الله عَنهُ، وَكَانَ قَاصا، وَهُوَ ابْن امْرَأَة كَعْب الْأَحْبَار على الْمَشْهُور، وَقيل: ابْن أَخِيه، والبكالي، بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة وَتَخْفِيف الْكَاف: نِسْبَة إِلَى بني بكال، بطن من حمير.
.

     وَقَالَ  الرشاطي.
الْبكالِي فِي حمير ينْسب إِلَى بكال بن دغمي بن عَوْف بن عدي بن مَالك بن زيد بن سدد بن زرْعَة بن سبأ الْأَصْغَر.
قَالَ الْهَمدَانِي: وَقيد دغميا بالغين الْمُعْجَمَة، قَالَ: وَسَائِر مَا فِي الْعَرَب بِالْعينِ الْمُهْملَة، وَضبط، بكالاً، بِفَتْح الْبَاء.
وَأَصْحَاب الحَدِيث يَقُولُونَ بِالْفَتْح وَالْكَسْر.
.

     وَقَالَ  صَاحب (الْمطَالع) : ونوف الْبكالِي أَكثر الْمُحدثين يفتحون الْبَاء ويشددون الْكَاف وَآخره لَام، وَكَذَا قيدناه عَن أبي بَحر، وَابْن أبي جَعْفَر عَن العذري، وَكَذَا قَالَه أَبُو ذَر، وَقيد عَن الْمُهلب بِكَسْر الْبَاء، وَكَذَلِكَ عَن الصَّدَفِي وَأبي الْحُسَيْن بن سراج بتَخْفِيف الْكَاف وَهُوَ الصَّوَاب نِسْبَة إِلَى بكال من حمير.
.
.

     وَقَالَ  أَبُو بكر بن الْعَرَبِيّ فِي شرح التِّرْمِذِيّ لَهُ: إِنَّه مَنْسُوب إِلَى بكيل، بطن من هَمدَان، ورد عَلَيْهِ بِأَن الْمَنْسُوب إِلَى بكيل إِنَّمَا هُوَ أَبُو الوداك جبر بن نوف وَغَيره، وَأما هَذَا نوف بن فضَالة فَهُوَ مَنْسُوب إِلَى بكال بطن من حمير.
السَّابِع: أبي بن كَعْب الصَّحَابِيّ، رَضِي الله عَنهُ.

بَيَان لطائف إِسْنَاده: مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث والإخبار بِصِيغَة الْإِفْرَاد وَالسُّؤَال.
وَمِنْهَا: أَن فِيهِ رِوَايَة تَابِعِيّ عَن تَابِعِيّ، وهما: عَمْرو وَسَعِيد.
وَمِنْهَا: أَن فِيهِ رِوَايَة صَحَابِيّ عَن صَحَابِيّ، وَقد مر فِي بابُُ: مَا ذكر فِي ذهَاب مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فِي الْبَحْر إِلَى الْخضر، أَن البُخَارِيّ أخرج هَذَا الحَدِيث فِي أَكثر من عشرَة مَوَاضِع.

بَيَان اللُّغَات: قد مر فِي الْبابُُ الْمَذْكُور تَفْسِير: بني إِسْرَائِيل ويوشع بن نون والصخرة والقصص.
قَوْله: (فِي مكتل) ، بِكَسْر الْمِيم وَفتح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق، وَهُوَ الزنبيل، وَيُقَال: القفة.
وَيُقَال: فَوق القفة والزنبيل.
وَفِي (الْعبابُ) : المكتل يشبه الزنبيل يسع خَمْسَة عشر صَاعا.
قَوْله: (فانسل الْحُوت) من: سللت الشَّيْء أسله سلاً فانسلّ.
وأصل التَّرْكِيب يدل على مد الشَّيْء فِي رفق وخفة.
قَوْله: (سربا) أَي: ذَهَابًا، يُقَال: سرب سربا فِي المَاء إِذا ذهب فِيهِ ذَهَابًا.
وَقيل: أمسك الله جرية المَاء على الْحُوت فَصَارَ عَلَيْهِ مثل الطاق، وَحصل مِنْهُ فِي مثل السرب، وَهُوَ ضد النفق، معْجزَة لمُوسَى أَو للخضر، عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام.
والسرب فِي الأَصْل حفير تَحت الأَرْض، والطاق: عِنْد الْبناء وَهُوَ الأزج، وَهُوَ مَا عقد أَعْلَاهُ بِالْبِنَاءِ وَترك تَحْتَهُ خَالِيا.
وَجَاء: فَجعل المَاء لَا يلتئم حَتَّى صَار كالكوة، و: الكوة، بِالضَّمِّ وَالْفَتْح: الثقب فِي الْبَيْت.
قَوْله: (نصبا) بِفَتْح النُّون وَالصَّاد أَي: تعبا.
قَوْله: (إِذْ أوينا) من أَوَى إِلَى منزله لَيْلًا أَو نَهَارا، إِذا أَتَى.
قَوْله: (نبغي) أَي: نطلب، من: بغيت الشَّيْء: طلبته.
قَوْله: (فارتدا) أَي: رجعا.
قَوْله: (مسجى) أَي: مغطى كُله كتغطية وَجه الْمَيِّت وَرجلَيْهِ وجميعه، كَذَا جَاءَ فِي البُخَارِيّ، وَقد جعل طرفه تَحت رجله، وطرفه تَحت رَأسه، فَسلم عَلَيْهِ مُوسَى، فكشف عَن وَجهه.
.

     وَقَالَ  الْجَوْهَرِي: وسجيت الْمَيِّت تسجية إِذا مددت عَلَيْهِ ثوبا.
قَوْله: (رشدا) قَالَ فِي (الْعبابُ) : الرشد بِالضَّمِّ، والرشد بِالتَّحْرِيكِ، والرشاد والرشدى مِثَال: جمزى، وَهَذِه عَن ابْن الْأَنْبَارِي: خلاف الغي.
قَالَ الله تَعَالَى: {قد تبين الرشد من الغي} (الْبَقَرَة: 256).

     وَقَالَ  جلّ ذكره: {وهيء لنا من أمرنَا رشدا} (الْكَهْف: 10).

     وَقَالَ : {أهدكم سَبِيل الرشاد} (غَافِر: 38) وَقد رشد يرشد، مِثَال: كتب يكْتب، ورشد يرشد مِثَال: سمع يسمع، وَفرق اللَّيْث بَين اللغتين.
فَقَالَ: رشد الْإِنْسَان يرشد رشدا ورشادا، وَهُوَ نقيض الغي.
ورشد يرشد رشدا وَهُوَ نقيض الضلال.
قَالَ: فَإِذا أصَاب وَجه الْأَمر وَالطَّرِيق فقد رشد.
قَوْله: (سفينة) فعيلة بِمَعْنى فاعلة، كَأَنَّهَا تسفن المَاء أَي: تقشره.
قَالَه ابْن دُرَيْد.
قَوْله: (بِغَيْر نول) ، بِفَتْح النُّون أَي، بِغَيْر أجر، والنول بِالْوَاو، والمنال والمنالة كُله الْجعل.
وَأما النّيل والنوال فالعطية ابْتِدَاء يُقَال: رجل نَالَ إِذا كَانَ كثير النوال، كَمَا قَالُوا: رجل مَال إِذا كَانَ كثير المَال.
تَقول: نلْت الرجل أنوله نولاً، ونلت الشَّيْء أناله نيلاً.
.

     وَقَالَ  صَاحب (الْعين) : أنلته ونلته ونولته، والإسم: النول والنيل.
يُقَال: نَالَ ينَال منالاً ومنالة.
قَوْله: (عُصْفُور) بِضَم الْعين: طير مَشْهُور، وَقيل: هُوَ الصرد.
قَوْله: (فَعمد) ، بِفَتْح الْمِيم: من عَمَدت للشَّيْء أعمد من بابُُ: ضرب يضْرب عمدا: قصدت لَهُ، وَفعلت ذَلِك عمدا على عين وَعمد عين، أَي: بجد ويقين.
وعمدت الشَّيْء: أقمته بعماد يعْتَمد عَلَيْهِ، وعمده الْمَرَض أَي: فدحه وأضناه، وعمدت الرجل إِذا ضَربته بالعمود، وعمدته أَيْضا إِذا ضربت عَمُود بَطْنه، وَعمد الثرى، بِالْكَسْرِ، يعمد عمدا، بِالتَّحْرِيكِ: إِذا بلله الْمَطَر.
وَيُقَال أَيْضا: عمد الْبَعِير إِذا انتضح دَاخل السنام من الرّكُوب وَظَاهره صَحِيح، فَهُوَ بعير عمد.
وَعمد الرجل إِذا غضب، وَعمد بالشَّيْء إِذا لزمَه.
قَوْله: (بِمَا نسيت) أَي: بِمَا غفلت.
وَقيل: لم ينس وَلكنه ترك، وَالتّرْك يُسمى نِسْيَانا.
قَوْله: (وَلَا ترهقني) قَالَ الزّجاج: لَا تغشني.
وَقيل: لَا تلْحق بِي وهما، يُقَال: رهقه الشَّيْء، بِالْكَسْرِ، يرهقه بِالْفَتْح رهقا بِفَتْح الْهَاء: إِذا غشيه.
وأرهقته: كلفته ذَلِك.
يُقَال: لَا ترهقني لَا أرهقك الله، أَي: لَا تعسرني لَا أعسرك الله.
قَوْله: (زكية) أَي: طَاهِرَة لم تذنب، من الزَّكَاة وَهِي الطَّهَارَة.
قَالَ تَعَالَى: {وتزكيهم بهَا} (التَّوْبَة: 103) أَي تطهرهُمْ.
قَوْله: (قَالَ الْخضر بِيَدِهِ) أَي: أَشَارَ إِلَيْهِ بِيَدِهِ.
(فأقامه) : وَهُوَ من إِطْلَاق القَوْل على الْفِعْل، وَهَذَا فِي لِسَان الْعَرَب كثير.
قَالَ ابْن الْأَعرَابِي: تَقول الْعَرَب: قَالُوا بزيد أَي: قَتَلُوهُ، وَقُلْنَا بِهِ أَي: قَتَلْنَاهُ.
.

     وَقَالَ  الرجل بالشَّيْء أَي: غَلبه.
قَوْله: (لاتخذت) ، قَالَ مكي: التَّاء فَاء الْفِعْل.
حكى أهل اللُّغَة: تخذ يتَّخذ.
قَالَ الْجَوْهَرِي: الاتخاد افتعال من الْأَخْذ، إلاَّ أَنه أدغم بعد تليين الْهمزَة وإبدالها تَاء، ثمَّ لما كثر اسْتِعْمَاله على لفظ الافتعال توهموا أَن التَّاء أَصْلِيَّة، فبنوا مِنْهَا: فعل يفعل.
قَالُوا: تخد يتَّخذ، وَقَوْلهمْ: أخذت كَذَا يبدلون الذَّال تَاء فيدغمونها، وَبَعْضهمْ يظهرها.

بَيَان الْإِعْرَاب: قَوْله: (إِن نَوْفًا) ، بِكَسْر الْهمزَة و: نَوْفًا، بِالنّصب اسْم: إِن، هُوَ منصرف فِي اللُّغَة الفصيحة، وَفِي بَعْضهَا غير منصرف وكتبت بِدُونِ الْألف.
قَالَ ابْن الْأَعرَابِي: النوف السنام العالي، وَالْجمع: أنواف.
قَالَ: والنوف: بظارة الْمَرْأَة،.

     وَقَالَ  ابْن دُرَيْد: رُبمَا سمى مَا تقطعه الخافضة من الْجَارِيَة: نَوْفًا، زَعَمُوا والنوف: الصَّوْت، يُقَال: نافت الضبعة تنوف نَوْفًا.
.

     وَقَالَ  ابْن دُرَيْد: بَنو نوف بطن من الْعَرَب، أَحْسبهُ من هَمدَان.
وناف الْبَعِير ينوف نَوْفًا إِذا ارْتَفع وَطَالَ.
قلت: فعلى هَذَا: نوف، منصرف أَلْبَتَّة لِأَنَّهُ لفظ عَرَبِيّ وَلَيْسَ فِيهِ إلاَّ عِلّة وَاحِدَة، وَهِي العلمية، وَمن مَنعه الصّرْف رُبمَا يزْعم أَنه لفظ أعجمي، فَتكون فِيهِ عِلَّتَانِ: العجمة والعلمية، والأفصح فِيهِ أَيْضا الصّرْف، لِأَن سُكُون وَسطه يُقَاوم إِحْدَى العلتين، فَيبقى الِاسْم بعلة وَاحِدَة، كَمَا فِي: نوح وَلُوط.
قَوْله: (الْبكالِي) بِالنّصب صفة: لنوفا.
قَوْله: (يزْعم) جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل فِي مَحل الرّفْع لِأَنَّهَا خبر: إِن.
قَوْله: (أَن مُوسَى) بِفَتْح: أَن، لِأَنَّهُ مفعول: يزْعم، فَإِن قلت: يزْعم من أَفعَال الْقُلُوب يَقْتَضِي مفعولين.
قلت: إِنَّمَا يكون من أَفعَال الْقُلُوب إِذا كَانَ بِمَعْنى الظَّن، وَقد يكون بِمَعْنى القَوْل من غير حجَّة فَلَا يَقْتَضِي إلاَّ مَفْعُولا وَاحِدًا، نَحْو قَوْله تَعَالَى: {زعم الَّذين كفرُوا أَن لن يبعثوا} (التغابن: 7) فههنا: يزْعم، يحْتَمل الْمَعْنيين، فَإِن كَانَ بِمَعْنى: القَوْل، فمفعوله: أَن مُوسَى، وَهُوَ ظَاهر.
وَإِن كَانَ بِمَعْنى: الظَّن، فَإِن مَعَ اسْمهَا وخبرها سدت مسد المفعولين، و: مُوسَى، لَا ينْصَرف للعلمية والعجمة.
قَوْله: (لَيْسَ مُوسَى بني إِسْرَائِيل) ، وَفِي رِوَايَة: لَيْسَ بمُوسَى، وَالْبَاء زَائِدَة للتَّأْكِيد، وَهِي جملَة فِي مَحل الرّفْع لِأَنَّهَا خبر إِن.
فَإِن قلت: مُوسَى علم، وَالْعلم لَا يُضَاف، فَكيف يُضَاف مُوسَى إِلَى بني إِسْرَائِيل؟ قلت: قد نكر ثمَّ أضيف، وَمعنى التنكير أَن يؤول بِوَاحِد من الْأمة الْمُسَمَّاة بِهِ.
قَوْله: (إِنَّمَا هُوَ مُوسَى آخر) رُوِيَ بتنوين مُوسَى، وَبِغير تَنْوِين.
أما وَجه التَّنْوِين فَلِأَنَّهُ منصرف لكَونه نكرَة.
.

     وَقَالَ  ابْن مَالك: قد يُنكر الْعلم تَحْقِيقا أَو تَقْديرا، فَيجْرِي مجْرى نكرَة، وَجعل هَذَا مِثَال التحقيقي.
وَأما وَجه ترك التَّنْوِين فَظَاهر.
وَأما لَفْظَة: آخر.
فَإِنَّهُ غير منصرف للوصفية الْأَصْلِيَّة، وَوزن الْفِعْل، فَلَا ينون على كل حَال.
فَإِن قلت: هُوَ أفعل التَّفْضِيل فلِمَ لَا يسْتَعْمل بِأحد الْوُجُوه الثَّلَاثَة؟ قلت: غلب عَلَيْهِ الإسمية الْمَحْضَة مضمحلاً عَنهُ معنى التَّفْضِيل بِالْكُلِّيَّةِ.
قَوْله: (فَقَالَ) أَي: ابْن عَبَّاس.
وَقَوله: (كذب عَدو الله) ، جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل مقول القَوْل.
قَوْله: (أبي بن كَعْب) فَاعل: حَدثنَا.
قَوْله: (قَامَ مُوسَى) جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل مقول القَوْل.
وَقَوله: (النَّبِي) ، بِالرَّفْع صفة مُوسَى.
قَوْله: (خَطِيبًا) نصب على الْحَال.
قَوْله: (أَي النَّاس) كَلَام إضافي مَرْفُوع بِالِابْتِدَاءِ، (وَأعلم) خَبره، وَالتَّقْدِير: أعلم مِنْهُم، كَمَا فِي قَوْلك: الله أكبر، أَي: من كل شَيْء.
قَوْله: (فَقَالَ) عطف على قَوْله: (فَسئلَ) .
قَوْله: (أَنا أعلم) مُبْتَدأ وَخَبره مقول القَوْل، وَالتَّقْدِير: أَنا أعلم النَّاس.
قَوْله: (فعتب الله عَلَيْهِ) ، الْفَاء تصلح للسَّبَبِيَّة.
قَوْله: (إِذْ) بِسُكُون الذَّال للتَّعْلِيل.
قَوْله: (لم يرد) يجوز فِيهِ وَفِي أَمْثَاله ضم الدَّال وَفتحهَا وَكسرهَا.
أما الضَّم فلأجل ضمة الرَّاء، وَأما الْفَتْح فَلِأَنَّهُ أخف الحركات؛ وَأما الْكسر فَلِأَن الأَصْل فِي السَّاكِن إِذا حرك أَن يُحَرك بِالْكَسْرِ، وَيجوز فك الْإِدْغَام أَيْضا.
وَقَوله: (الْعلم) مَنْصُوب لِأَنَّهُ مفعول: (لم يرد) .
قَوْله: (أَن عبدا) بِفَتْح: أَن لِأَن أَصله: بِأَن عبدا.
قَوْله: (من عبَادي) فِي مَحل النصب لِأَنَّهُ صفة: عبدا.
وَقَوله: (بمجمع الْبَحْرين) يتَعَلَّق بِمَحْذُوف، أَي: كَائِنا بمجمع الْبَحْرين.
قَوْله: (هُوَ أعلم مِنْك) .
جملَة إسمية فِي مَحل الرّفْع لِأَنَّهَا خبر: أَن.
قَوْله: (رب) أَصله: يَا رَبِّي، فَحذف حرف النداء وياء الْمُتَكَلّم للتَّخْفِيف اكْتِفَاء بِالْكَسْرِ.
قَوْله: (وَكَيف لي بِهِ؟) التَّقْدِير: كَيفَ الالتقاء لي بِهِ؟ أَي: بذلك العَبْد؟ وَقَوله: (لي) ، فِي مَحل الرّفْع على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف، وَهُوَ الالتقاء الْمُقدر، وَكَيف، وَقع حَالا، إِذْ التَّقْدِير: على أَي حَالَة الالتقاء لي؟ كَمَا فِي قَوْلك: كَيفَ جَاءَ زيد؟ فَإِن التَّقْدِير فِيهِ: على أَي حَالَة جَاءَ زيد؟ وَقد علم أَن كَيفَ، اسْم لدُخُول الْجَار عَلَيْهِ بِلَا تَأْوِيل فِي قَوْله:
على كَيفَ تبيع الأحمرين
وللإخبار بِهِ مَعَ مُبَاشرَة الْفِعْل، نَحْو: وَكَيف كنت؟ فبالإخبار بِهِ انْتَفَت الحرفية، وبمباشرته للْفِعْل انْتَفَت الفعلية، وَالْغَالِب عَلَيْهِ أَن يكون استفهاما إِمَّا حَقِيقِيًّا، نَحْو: وَكَيف زيد، أَو غَيره نَحوه {كَيفَ تكفرون بِاللَّه} (الْبَقَرَة: 28) فَإِنَّهُ أخرج مخرج التَّعَجُّب.
قَوْله: (بِهِ) يتَعَلَّق بالمقدر الَّذِي ذَكرْنَاهُ، وَالْفَاء فِي: (فَقيل) عاطفة.
قَوْله: (احْمِلْ) أَمر، وفاعله: أَنْت، مستتر فِيهِ (وحوتا) مَفْعُوله، وَالْجُمْلَة مقول القَوْل.
قَوْله: (فِي مكتل) ، فِي مَوضِع النصب على أَنه صفة لحوتا، أَي: حوتا كَائِنا فِي مكتل.
قَوْله: (فَإِذا) ، للشّرط و (فقدته) جملَة فعل الشَّرْط.
وَقَوله: (فَهُوَ ثمَّ) ، جملَة وَقعت جَوَاب الشَّرْط، فَلذَلِك دَخلته الْفَاء.
وَقَوله: (ثمَّ) بِفَتْح الثَّاء الْمُثَلَّثَة ظرف بِمَعْنى هُنَاكَ.
.

     وَقَالَ ت النُّحَاة: هُوَ اسْم يشار بِهِ إِلَى الْمَكَان الْبعيد نَحْو: {وأزلفنا ثمَّ الآخرين} (الشُّعَرَاء: 64) وَهُوَ ظرف لَا يتَصَرَّف، فَلذَلِك غلط من أعربه مَفْعُولا لرأيت فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا رَأَيْت ثمَّ رَأَيْت} (الْإِنْسَان: 20) .
قَوْله: (مَعَه) ، التَّصْرِيح بالمعية للتَّأْكِيد وإلاَّ فالمصاحبة مستفادة من الْبَاء فِي قَوْله: (بفتاه) .
قَوْله: (يُوشَع) فِي مَوضِع الْجَرّ لِأَنَّهُ عطف بَيَان من: فتاه، وَلم يظْهر فِيهِ الْجَرّ لكَونه غير منصرف للعلمية والعجمة، و: (نون) منصرف على اللُّغَة الفصحى كنوح، وَلُوط: فَافْهَم.
قَوْله: (حَتَّى) للغاية.
قَوْله: (فَنَامَا) عطف على: وضعا.
قَوْله: (فَاتخذ) عطف على: فانسل.
قَوْله: (سربا) .
قَالَ الزّجاج: نصب سربا على الْمَفْعُول، كَقَوْلِك: اتَّخذت طريقي مَكَان كَذَا، واتخذت طريقي فِي السرب، واتخذت زيدا وَكيلا.
قلت: يجوز أَن يكون نصبا على المصدرية بِمَعْنى: يسرب سربا أَي: يذهب ذَهَابًا يُقَال: سرب سربا فِي المَاء إِذا ذهب ذَهَابًا.
قَوْله: (عجبا) نصب على أَنه خبر: كَانَ.
قَوْله: (بَقِيَّة ليلتهما) ، كَلَام إضافي، وانتصاب: بَقِيَّة، على أَنه بِمَعْنى الظّرْف، لِأَن بَقِيَّة اللَّيْل هِيَ السَّاعَات الَّتِي بقيت مِنْهُ، وليلتهما مجرورة بِالْإِضَافَة.
قَوْله: (ويومهما) يجوز فِيهِ الْجَرّ وَالنّصب.
أما الْجَرّ فعطف على: ليلتهما، وَأما النصب فعلى إِرَادَة سير جَمِيع الْيَوْم.
وَوَقع فِي التَّفْسِير: فَانْطَلقَا بَقِيَّة يومهما وليلتهما.
قَالَ القَاضِي: وَهُوَ الصَّوَاب، لقَوْله: (فَلَمَّا أصبح) .
وَفِي رِوَايَة: (حَتَّى إِذا كَانَ من الْغَد) ، وَكَذَا وَقع فِي مُسلم بِتَقْدِيم يومهما وَلِهَذَا قَالَ بعض الأذكياء: إِنَّه مقلوب، وَالصَّوَاب تَقْدِيم الْيَوْم لِأَنَّهُ قَالَ: فَلَمَّا أصبح، وَلَا يصبح إلاَّ عَن ليل.
.

     وَقَالَ  بَعضهم: وَيحْتَمل أَن يكون المُرَاد بقوله: (فَلَمَّا أصبح) أَي: من اللَّيْلَة الَّتِي تلِي الْيَوْم الَّذِي سارا جَمِيعه.
قلت: هَذَا احْتِمَال بعيد لِأَنَّهُ يلْزم أَن يكون سيرهما بَقِيَّة اللَّيْلَة وَالْيَوْم الْكَامِل وَاللَّيْلَة الْكَامِلَة من الْيَوْم الثَّانِي، وَلَيْسَ كَذَلِك.
قَوْله: (قَالَ مُوسَى) جَوَاب: لما.
قَوْله: (آتنا) ، جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل وَالْمَفْعُول، وَآت، أَمر من الإيتاء.
وَقَوله: (غداءنا) بِفَتْح الْغَيْن مفعول آخر، وَاللَّام فِي: لقد للتَّأْكِيد.
و: قد، للتحقيق.
قَوْله: (نصبا) ، نصب لِأَنَّهُ مفعول: لَقينَا.
قَوْله: (مسا) نصب لِأَنَّهُ مفعول: لم يجد.
قَوْله: (من النصب) فِي مَحل النصب لِأَنَّهُ صفة: مسا، أَي: مسا حَاصِلا أَو وَاقعا من النصب.
قَوْله: (حَتَّى) ، بِمَعْنى الْغَايَة أَي إِلَى أَن جَاوز.
.
قَوْله: (فتاه) مَرْفُوع لِأَنَّهُ فَاعل: قَالَ لَهُ.
قَوْله: (أَرَأَيْت) أَي: أَخْبرنِي، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ عَن قريب.
قَوْله: (إِذْ) ظرف بِمَعْنى حِين، وَفِيه حذف تَقْدِيره: أَرَأَيْت مَا دهاني إِذْ أوينا إِلَى الصَّخْرَة؟ قَوْله: (فَإِنِّي) الْفَاء فِيهِ تفسيرية يُفَسر بِهِ مَا دهاه من نِسْيَان الْحُوت حِين أويا إِلَى الصَّخْرَة.
قَوْله: (ذَلِك) مُبْتَدأ وَخَبره قَوْله: (مَا كُنَّا نبغي) وَكلمَة: مَا، مَوْصُولَة والعائد مَحْذُوف، أَي: نبغيه وَيجوز حذف الْيَاء من نبغي للتَّخْفِيف، وَهَكَذَا قرىء أَيْضا فِي الْقُرْآن، وإثباتها أحسن، وَهِي قِرَاءَة أبي عَمْرو.
قَوْله: (قصصا) نصب على تَقْدِير: يقصان قصصا أَعنِي نصب على المصدرية.
قَوْله: (إِذا رجل مسجى) كلمة إِذا، للمفاجأة، وَرجل، مُبْتَدأ تخصص بِالصّفةِ وَهِي قَوْله: (مسجى بِثَوْب) وَالْخَبَر مَحْذُوف.
وَالتَّقْدِير: فَإِذا رجل مسجى بِثَوْب نَائِم.
أَو نَحْو ذَلِك.
قَوْله: (وأنَّى بأرضك السَّلَام؟) كلمة: أَنى، بِهَمْزَة مَفْتُوحَة وَنون مُشَدّدَة تَأتي بِمَعْنى: كَيفَ وَمَتى وَأَيْنَ وَحَيْثُ، وَهَهُنَا فِيهَا وَجْهَان.
أَحدهمَا: أَن يكون بِمَعْنى: كَيفَ يعْنى للتعجب.
وَالْمعْنَى: السَّلَام بِهَذِهِ الأَرْض عَجِيب.
وَيُؤَيِّدهُ مَا فِي التَّفْسِير: (هَل بأرضى من سَلام!) وَكَأَنَّهَا كَانَت دَار كفر أَو كَانَت تحيتهم بِغَيْر السَّلَام.
وَالثَّانِي: أَن يكون بِمَعْنى: من أَيْن؟ كَقَوْلِه تَعَالَى: {أنَّى لكِ هَذَا} (آل عمرَان: 37) فَهِيَ ظرف مَكَان، (وَالسَّلَام) ، مُبْتَدأ، و: أنَّى، مقدما خَبره، وَهُوَ نَظِير مَا قيل فِي قَوْله تَعَالَى: {أَنى لكِ هَذَا} (آل عمرَان: 37) .
فَإِن: هَذَا، مُبْتَدأ و: أَنى، مقدما خَبره.
وَوجه هَذَا الِاسْتِفْهَام أَنه لما رأى الْخضر مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَام، فِي أَرض قفر استبعد علمه بكيفية السَّلَام.
فَإِن قلت: مَا موقع بأرضك من الْإِعْرَاب؟ قلت: نصب على الْحَال من السَّلَام، وَالتَّقْدِير: من أَيْن اسْتَقر السَّلَام حَال كَونه بأرضك؟ قَوْله: (مُوسَى بني إِسْرَائِيل؟) خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف، أَي: أَنْت مُوسَى بني إِسْرَائِيل.
قَوْله: (نعم) مقول القَوْل نَائِب على الْجُمْلَة تَقْدِيره: نعم أَنا مُوسَى بني إِسْرَائِيل.
قَوْله: (هَل) للاستفهام، و: أَن مَصْدَرِيَّة أَي: على اتباعي، إياك.
قَوْله: (علمت) أَي: من الَّذِي علمك الله.
قَوْله: (رشدا) نصب على أَنه صفة لمصدر مَحْذُوف أَي: علما رشدا، أَي: ذَا رشد، وَهُوَ من قبيل: رجل عدل.
قَوْله: (لن تَسْتَطِيع) فِي مَحل الرّفْع على أَنه خبر: أَن.
قَوْله: (صبرا) مفعول: لن تَسْتَطِيع.
قَوْله: (من علم الله) كلمة من للتَّبْعِيض.
قَوْله: (علمنيه) جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل والمفعولين أَحدهمَا يَاء الْمَفْعُول، وَالثَّانِي: الضَّمِير الَّذِي يرجع إِلَى الْعلم.
فَإِن قلت: موقعها من الْإِعْرَاب؟ قلت: الْجَرّ، لِأَنَّهَا صفة لعلم، وَكَذَلِكَ قَوْله: (لَا تعلمه أَنْت) فَالْأول من الصِّفَات الإيجابية، وَالثَّانِي من الصِّفَات السلبية.
قَوْله: (وَأَنت على علم) مُبْتَدأ وَخبر عطف على قَوْله: (إِنِّي على علم) .
قَوْله: (علمك الله) جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل وَالْمَفْعُول، وَالْمَفْعُول الثَّانِي مَحْذُوف تَقْدِيره: علمك الله إِيَّاه.
وَالْجُمْلَة صفة: لعلم، وَكَذَا قَوْله: لَا أعلمهُ، صفة أُخْرَى.
قَوْله: (صَابِرًا) مفعول ثَان: لستجدني.
وَقَوله: (إِن شَاءَ الله) معترض بَين المفعولين.
قَوْله: (وَلَا أعصى لَك أمرا) .
قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: و: لَا أعصي، فِي مَحل النصب عطف على: صَابِرًا أَي: ستجدني صَابِرًا وَغير عَاص.
قَوْله: (يمشيان) حَال وَقد علم أَن الْمُضَارع إِذا وَقع حَالا وَكَانَ مثبتا لَا يجوز فِيهِ الْوَاو.
وَقَوله: (أَن يحملوهما) أَي: لِأَن يحملوهما أَي: لأجل حملهمْ إيَّاهُمَا.
قَوْله: (نقرة) نصب على المصدرية، و: (أَو نقرتين) عطف عَلَيْهِ.
قَوْله: (قوم) مَرْفُوع على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف، أَي: هَؤُلَاءِ قوم، أَو: هم قوم.
قَوْله: (حملونا) جملَة فِي مَحل الرّفْع على أَنَّهَا صفة لقوم.
قَوْله.
(فخرقتها) عطف على: عَمَدت.
قَوْله: (لتغرق) أَي: لِأَن تغرق، وَأَهْلهَا، مَنْصُوب بِهِ.
قَوْله: (بِمَا نسيت) كلمة: مَا، يجوز أَن تكون مَوْصُولَة أَي: بِالَّذِي نسيت، والعائد مَحْذُوف، أَي: نَسِيته.
وَيجوز أَن تكون مَصْدَرِيَّة أَي: بنسياني.
وَيجوز أَن تكون نكرَة بِمَعْنى شَيْء أَي: بِشَيْء نَسِيته.
قَوْله: (الأولى) صفة موصوفها مَحْذُوف، أَي: الْمَسْأَلَة الأولى من مُوسَى.
و (نِسْيَانا) نصب لِأَنَّهُ خبر: كَانَت، وَفِي بعض النّسخ: نِسْيَان بِالرَّفْع.
وَوَجهه إِن صَحَّ أَن يكون: كَانَت تَامَّة، و: الأولى، مُبْتَدأ ونسيان، خَبره.
أَو يكون: كَانَت، زَائِدَة وَالتَّقْدِير: فَالْأولى من مُوسَى نِسْيَان.
قَوْله: (فَإِذا) للمفاجأة.
وَقَوله: (غُلَام) مَرْفُوع بالإبتداء، وَقد تخصص بِالصّفةِ وَهُوَ قَوْله: (يلْعَب مَعَ الغلمان) وَالْخَبَر مَحْذُوف وَالتَّقْدِير فَإِذا غُلَام يلْعَب مَعَ الغلمان بالخضرة أَو نَحْوهَا.
قَوْله: (بِرَأْسِهِ) الْبَاء فِيهِ زَائِدَة، وَالْأولَى أَن يُقَال: إِنَّهَا على أَصْلهَا لِأَنَّهُ لَيْسَ الْمَعْنى أَنه تنَاول رَأسه ابْتِدَاء، وَإِنَّمَا الْمَعْنى أَنه جَرّه إِلَيْهِ بِرَأْسِهِ ثمَّ اقتلعه، وَلَو كَانَت زَائِدَة لم يكن لقَوْله: (فاقتلع) معنى زَائِد على أَخذه.
قَوْله: (أقتلت) الْهمزَة لَيست للاستفهام الْحَقِيقِيّ، ونظيرها الْهمزَة فِي قَوْله تَعَالَى: {ألم يجدك يَتِيما فآوى} (الضُّحَى: 6) .
قَوْله: (بِغَيْر نفس) الْبَاء، فِيهِ للمقابلة.
قَوْله: (أَن يُضَيِّفُوهُمَا) أَي: من أَن يُضَيِّفُوهُمَا، و: أَن، مَصْدَرِيَّة أَي: من تضييفهما.
قَوْله: (يُرِيد أَن ينْقض) أَي: يُرِيد الانقضاض أَي الْإِسْرَاع بالسقوط.
وَأَن مَصْدَرِيَّة.
قَوْله: (قَالَ الْخضر بِيَدِهِ) جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل، وَمَعْنَاهُ: أَشَارَ بِيَدِهِ فأقامه.
قَوْله: (يرحم الله مُوسَى) إِخْبَار، وَلَكِن المُرَاد مِنْهُ الْإِنْشَاء لِأَنَّهُ دُعَاء لَهُ بِالرَّحْمَةِ.
قَوْله: (لَوَدِدْنَا) اللَّام فِيهِ جَوَاب قسم مَحْذُوف، وَكلمَة: لَو، هَهُنَا بِمَعْنى: أَن الناصبة للْفِعْل كَقَوْلِه تَعَالَى: {ودوا لَو تدهن فيدهنون} (الْقَلَم: 9) وَالتَّقْدِير: وَالله لَوَدِدْنَا صَبر مُوسَى، أَي: لِأَنَّهُ لَو صَبر لَأبْصر أعجب الْأَعَاجِيب، وَهَكَذَا حكم كل فعل وَقع مصدرا بلو بعد فعل الْمَوَدَّة.
.

     وَقَالَ  الزَّمَخْشَرِيّ فِي قَوْله تَعَالَى: {ودوا لَو تدهن} (الْقَلَم: 9) ودوا ادهانك.
قَوْله: (حَتَّى يقص) على صِيغَة الْمَجْهُول.
قَوْله: (من أَمرهمَا) مفعول مَا لم يسمَّ فَاعله.

بَيَان الْمعَانِي: قَوْله: (يزْعم أَن مُوسَى لَيْسَ مُوسَى بني إِسْرَائِيل) ، يَعْنِي: يزْعم نوف أَن مُوسَى صَاحب الْخضر، عَلَيْهِمَا السَّلَام، الَّذِي قصّ الله تَعَالَى علينا فِي سُورَة الْكَهْف لَيْسَ مُوسَى بن عمرَان الَّذِي أرسل إِلَى فِرْعَوْن، وَإِنَّمَا هُوَ مُوسَى بن مِيشَا، بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف بالشين الْمُعْجَمَة، وميشا بن يُوسُف بن يَعْقُوب بن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِم السَّلَام، وَهُوَ أول مُوسَى، وَهُوَ أَيْضا نَبِي مُرْسل.
وَزعم أهل التَّوْرَاة أَنه هُوَ صَاحب الْخضر، وَالَّذِي ثَبت فِي الصَّحِيح أَنه مُوسَى بن عمرَان، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، والسائل هَا هُنَا هُوَ سعيد بن جُبَير، والمجيب ابْن عَبَّاس، وَفِيمَا تقدم أَن ابْن عَبَّاس تمارى هُوَ وَالْحر بن قيس فِي صَاحب مُوسَى الَّذِي سَأَلَ مُوسَى السَّبِيل إِلَى لقِيه، فَقَالَ ابْن عَبَّاس: هُوَ خضر، فَمر بهما أبي بن كَعْب، رَضِي الله عَنهُ، فَسَأَلَهُ ابْن عَبَّاس فَأخْبرهُ، فَيحْتَمل أَن يكون سعيد بن جُبَير سَأَلَ ابْن عَبَّاس بعد الْوَقْعَة الأولى الْمُتَقَدّمَة لِابْنِ عَبَّاس وَالْحر، فَأخْبرهُ ابْن عَبَّاس لما سَأَلَهُ عَن قَول نوف أَن مُوسَى لَيْسَ مُوسَى بني إِسْرَائِيل، وَجَاء أَن السَّائِل غير سعيد بن جُبَير.
رُوِيَ عَن سعيد أَنه قَالَ: جَلَست عِنْد ابْن عَبَّاس وَعِنْده قوم من أهل الْكتاب، فَقَالَ بَعضهم: يَا أَبَا عبد الله إِن نَوْفًا ابْن امْرَأَة كَعْب يزْعم عَن كَعْب أَن مُوسَى النَّبِي الَّذِي طلب الْخضر إِنَّمَا هُوَ مُوسَى بن مِيشَا؟ فَقَالَ ابْن عَبَّاس: كذب نوف، وحَدثني أبي ... وَذكر الحَدِيث.
قَوْله: (كذب عَدو الله) ، هَكَذَا وَقع من ابْن عَبَّاس على طَرِيق الإغلاظ على الْقَائِل، بِخِلَاف قَوْله، وألفاظ الْغَضَب تَجِيء على غير الْحَقِيقَة فِي الْغَالِب، وَابْن عَبَّاس قَالَه على وَجه الزّجر عَن مثل هَذَا القَوْل، لِأَنَّهُ يعْتَقد أَنه عَدو لله ولدينه حَقِيقَة، إِنَّمَا قَالَه مُبَالغَة فِي إِنْكَاره، وَكَانَ ذَلِك فِي حَال غضب ابْن عَبَّاس لشدَّة الْإِنْكَار، وَحَال الْغَضَب تطلق الْأَلْفَاظ وَلَا يُرَاد بهَا حقائقها.
.

     وَقَالَ  ابْن التِّين: لم يرد ابْن عَبَّاس إِخْرَاج نوف عَن ولَايَة الله، وَلَكِن قُلُوب الْعلمَاء تنفر إِذا سَمِعت غير الْحق، فيطلقون أَمْثَال هَذَا الْكَلَام لقصد الزّجر والتحذير مِنْهُ وَحَقِيقَته غير مُرَادة.
قَوْله: (فَسئلَ: أَي النَّاس أعلم؟ قَالَ: أَنا أعلم) وَفِيمَا تقدم: هَل تعلم أحدا أعلم مِنْك؟ قَالَ: لَا.
وَفِي مُسلم: مَا أعلم فِي الأَرْض رجلا خيرا مني وَأعلم، من غير تقدم ذكر سُؤال، فَأوحى الله إِلَيْهِ: إِنِّي أعلم بِالْخَيرِ عِنْد من هُوَ.
إِن فِي الأَرْض رجلا هُوَ أعلم مِنْك.
.

     وَقَالَ  ابْن بطال: كَانَ يَنْبَغِي أَن يَقُول: الله أعلم، إِذا قيل لَهُ: أَي النَّاس أعلم؟ لِأَنَّهُ لم يحط علما بِكُل عَالم فِي الدُّنْيَا.
وَقد قَالَت الْمَلَائِكَة: {سُبْحَانَكَ لَا علم لنا إلاَّ مَا علمتنا} (الْبَقَرَة: 32) وَسُئِلَ النَّبِي عَن الرّوح وَغَيره، فَقَالَ: لَا أَدْرِي حَتَّى أسأَل الله تَعَالَى.
.

     وَقَالَ  بعض الْفُضَلَاء، ردا على ابْن بطال فِي حصر الصَّوَاب فِي ترك الْجَواب بقوله: الله أعلم: بل الْجَواب أَن رد الْعلم إِلَى الله، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، مُتَعَيّن أجَاب أم لَا، فَإِن أجَاب قَالَ: أَنا وَالله أعلم، فَإِن لم يجب قَالَ: الله أعلم، وَبِهَذَا تأدب الْمفْتُون عقب أجوبتهم: وَالله أعلم.
وَلَعَلَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام لَو قَالَ: أَنا وَالله أعلم، أَي: هَذَا لَكَانَ جَوَابا، وَإِنَّمَا وَقعت الْمُؤَاخَذَة على الِاقْتِصَار على قَوْله: (أَنا أعلم) .
.

     وَقَالَ  الْمَازرِيّ فِي الْجَواب: أما على رِوَايَة من روى: هَل تعلم؟ فَلَا عتب عَلَيْهِ إِذا أخبر عَمَّا يعلم، وَأما على رِوَايَة: أَي النَّاس أعلم؟ وَقد أخبر الله تَعَالَى أَن الْخضر أعلم مِنْهُ، فمراد مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام؛ أَنا أعلم، أَي: فِيمَا ظهر لي واقتضاه شَاهد الْحَال، وَدلَالَة النُّبُوَّة لِأَن مُوسَى فِي النُّبُوَّة، بِالْمَكَانِ الأرفع، وَالْعلم من أَعلَى الْمَرَاتِب، فقد يعْتَقد أَن يكون أعلم لهَذِهِ الْأُمُور.
وَقيل: المُرَاد أَنه أعلم بِمَا تَقْتَضِيه وظائف النُّبُوَّة وَأُمُور الشَّرِيعَة، وَالْخضر أعلم مِنْهُ على الْخُصُوص بِأُمُور أخر غير عَيْنِيَّة، وَكَانَ مُوسَى أعلم على الْعُمُوم وَالْخضر أعلم مِنْهُ على الْخُصُوص.
قَوْله: (فعتب الله عَلَيْهِ) أَي: لم يرض قَوْله شرعا، فَإِن العتب بِمَعْنى الْمُؤَاخَذَة وَتغَير النَّفس، وَهُوَ مُسْتَحِيل على الله سُبْحَانَهُ، وَهُوَ من بابُُ: ضرب يضْرب.
وَيُقَال: أصل العتب الْمُؤَاخَذَة، يُقَال مِنْهُ: عتب عَلَيْهِ، فَإِذا واخذه بذلك وَذكر لَهُ قيل: عاتبه، والتغير والمؤاخذة فِي حق الله تَعَالَى محَال، فيراد بِهِ: لم يرض قَوْله شرعا ودينا.
وَرُوِيَ عَن أبي، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، إِنَّه قَالَ: أعجب مُوسَى بِعِلْمِهِ فَعَاتَبَهُ الله بِمَا لَقِي من الْخضر.
قَالَ الْعلمَاء: هَذَا من بابُُ التَّنْبِيه لمُوسَى والتعليم لمن بعده لِئَلَّا يَقْتَدِي بِهِ غَيره فِي تَزْكِيَة نَفسه وَالْعجب بِحَالِهَا فَيهْلك.
قَوْله: (إِن عبدا) أَي الْخضر، (بمجمع الْبَحْرين) أَي: ملتقى بحري فَارس وَالروم مِمَّا يَلِي الْمشرق.
وَحكى الثَّعْلَبِيّ عَن أبي بن كَعْب أَنه بأفريقية.
وَقيل: طنجة.
قَوْله: (حوتا) أَي: سَمَكَة.
قيل: حمل سَمَكَة مملوحة، وَقيل: مَا كَانَت إلاَّ شقّ سَمَكَة.
قَوْله: (فَإِذا فقدته) أَي: الْحُوت.
قَوْله: (فَهُوَ ثمَّ) أَي: العَبْد الأعلم مِنْك.
ثمَّ أَي: هُنَاكَ.
قَوْله: (حَتَّى كَانَا عِنْد الصَّخْرَة وضعا رؤوسهما فَنَامَا) ، وَفِي طَرِيق للْبُخَارِيّ: وَفِي أصل الصَّخْرَة عين يُقَال لَهَا الْحَيَاة لَا يُصِيب من مَائِهَا شَيْء إِلَّا حييّ، فَأصَاب الْحُوت من مَاء تِلْكَ الْعين فَتحَرك وانسل من المكتل فَدخل الْبَحْر.
وَفِي بَعْضهَا: فَقَالَ فتاه: لَا أوقظه، حَتَّى إِذا اسْتَيْقَظَ نسي أَن يُخبرهُ وَأمْسك الله عَن الْحُوت حَتَّى كَانَ أَثَره فِي حجر.
وَفِي بَعْضهَا: فَأمْسك الله عَن الْحُوت جرية المَاء فَصَارَ عَلَيْهِ مثل الطاق، فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ نسي يُوشَع أَن يُخبرهُ، فنسي يُوشَع وَحده وَنسب النسْيَان إِلَيْهِمَا.
فَقَالَ تَعَالَى: {نسيا حوتهما} (الْكَهْف: 61) كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يخرج مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤ والمرجان} (الرَّحْمَن: 22) وَإِنَّمَا يخرج من الْملح.
وَقيل: نسي مُوسَى أَن يتَقَدَّم إِلَى يُوشَع فِي أَمر الْحُوت، وَنسي يُوشَع أَن يُخبرهُ بذهابه {فَاتخذ سَبيله فِي الْبَحْر سربا} (الْكَهْف: 61) صَار عَلَيْهِ المَاء مثل الطاق.
قَالَ ابْن عَبَّاس، رَضِي الله عَنْهُمَا: أحيى الله الْحُوت فَاتخذ سَبيله فِي الْبَحْر سربا وَجَاء فَجعل لَا يلتئم عَلَيْهِ المَاء حَتَّى صَار كالكوة.
وَالضَّمِير فِي: اتخذ، يجوز أَن يكون للحوت كَمَا هُوَ الظَّاهِر، وَيجوز أَن يكون لمُوسَى على معنى: فَاتخذ مُوسَى سَبِيل الْحُوت فِي الْبَحْر سربا، أَي: مذهبا ومسلكا، كَمَا يَأْتِي أَنَّهُمَا اتبعا أثر الْحُوت وَقد يبس المَاء فِي مَمَره، فَصَارَ طَرِيقا.
لَكِن مَا جَاءَ فِي الحَدِيث يُضعفهُ، وَهُوَ قَوْله: (فَكَانَ للحوت سربا ولموسى عجبا) .
قَوْله: (عجبا) قَالَ الزّجاج: يجوز أَن يكون من قَول يُوشَع وَمن قَول مُوسَى، وانْتهى كَلَام يُوشَع عِنْد قَوْله: وَاتخذ سَبيله فِي الْبَحْر، ثمَّ قَالَ مُوسَى: عجبت من هَذَا عجبا، فَيحسن على هَذَا الْوَقْف على الْبَحْر، ويبتدىء من: عجبا.
.

     وَقَالَ  غَيره: يجوز أَن يكون إِخْبَارًا من الله تَعَالَى، أَي: اتخذ مُوسَى طَرِيق الْحُوت فِي الْبَحْر عجبا.
قَوْله: (ذَلِك) أَي: فقدان الْحُوت هُوَ الَّذِي كُنَّا نبغيه أَي نطلبه، لِأَنَّهُ عَلامَة وجدان الْمَقْصُود.
قَوْله (فارتدا على آثارهما قصصاً) أَي: يقصان قصصا، يَعْنِي: رجعا يقصان آثارهما حَتَّى أَتَيَا الصَّخْرَة.
وَفِي مُسلم (فارتدا على آثارهما قصصا) .
(فَأرَاهُ مَكَان الْحُوت فَقَالَ: هَهُنَا وصف لي) ، ويروى: أَن مُوسَى ويوشع اتبعا أثر الْحُوت وَقد يبس المَاء فِي مَمَره فَصَارَ طَرِيقا، فَأتيَا جَزِيرَة فوجدا الْخضر قَائِما يصلى على طنفسة خضراء على كبد الْبَحْر، أَي وَسطه.
قَوْله: {إِنَّك لن تَسْتَطِيع معي صبرا} (الْكَهْف: 72) أَي سترى شَيْئا ظَاهره مُنكر فَلَا تصبر عَلَيْهِ.
قَوْله: (مَا نقص علمي وعلمك) هَذَا الْبابُُ من النَّقْص مُتَعَدٍّ، وَمن النُّقْصَان لَازم، وَهَذَا هُوَ المُرَاد.
قَالُوا: لفظ النَّقْص هُنَا لَيْسَ على ظَاهره، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ: أَن علمي وعلمك بِالنِّسْبَةِ إِلَى علم الله تَعَالَى كنسبة مَا نقر العصفور إِلَى مَاء الْبَحْر، وَهَذَا على التَّقْرِيب إِلَى الأفهام، وإلاَّ فنسبة علمهما أقل.
وَقيل: نقص بِمَعْنى أَخذ، لِأَن النَّقْص أَخذ خَاص.
قَالَ عِيَاض: يرجع ذَلِك فِي حَقّهمَا.
أَي: مَا نقص علمنَا مِمَّا جهلناه من مَعْلُومَات إلاَّ مثل هَذَا فِي التَّقْدِير.
وَجَاء فِي البُخَارِيّ: (مَا علمي وعلمك فِي جنب علم الله تَعَالَى إلاَّ كَمَا أَخذ هَذَا العصفور) أَي: فِي جنب مَعْلُوم الله تَعَالَى، وَيُطلق الْعلم وَيُرَاد بِهِ الْمَعْلُوم، من بابُُ إِطْلَاق الْمصدر لإِرَادَة الْمَفْعُول، كَمَا قَالُوا: دِرْهَم ضرب الْأَمِير، أَي: مضروبه.
وَقيل: إِن، إلاَّ، هَهُنَا بِمَعْنى: وَلَا، كَأَنَّهُ قَالَ: مَا نقص علمي وعلمك من علم الله وَلَا مَا أَخذ هَذَا العصفور من هَذَا الْبَحْر، لِأَن علم الله لَا ينقص بِحَال.
قَوْله: (فَعمد الْخضر إِلَى لوح من أَلْوَاح السَّفِينَة) قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: قلع لوحين مِمَّا يَلِي المَاء.
وَفِي البُخَارِيّ: فوتد فِيهَا وتدا، وَفِيه: فَعمد إِلَى قدوم فخرق بِهِ.
وَيُقَال: أَخذ فأسا فخرق لوحا حَتَّى دخل المَاء فحشاها مُوسَى بِثَوْبِهِ.
.

     وَقَالَ  ابْن عَبَّاس: لما خرق الْخضر السَّفِينَة فنحى مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، بِنَاحِيَة، ثمَّ قَالَ فِي نَفسه: مَا كنت أصنع بمصاحبة هَذَا الرجل؟ كنت أتلو فِي بني إِسْرَائِيل كتاب الله غدْوَة وَعَشِيَّة، وَآمرهُمْ فيطيعوني.
فَقَالَ لَهُ الْخضر: يَا مُوسَى! أَتُرِيدُ أَن أخْبرك بِمَا حدثت بِهِ نَفسك؟ قَالَ: نعم.
قَالَ: قلت كَذَا وَكَذَا.
قَالَ: صدقت، ثمَّ انْطَلقَا يمشيان فَإِذا غُلَام يلْعَب مَعَ الغلمان، وَكَانُوا عشرَة وَهُوَ أطرفهم وأوضؤهم، قَالَ ابْن عَبَّاس: كَانَ غُلَاما لم يبلغ الْحِنْث،.

     وَقَالَ  الضَّحَّاك: كَانَ غُلَاما يعمد بِالْفَسَادِ ويتأذى مِنْهُ أَبَوَاهُ.
.

     وَقَالَ  الْكَلْبِيّ: كَانَ الْغُلَام يسرق الْمَتَاع بِاللَّيْلِ، فَإِذا أصبح لَجأ إِلَى أَبَوَيْهِ فيحلفان دونه شَفَقَة عَلَيْهِ، ويقولان: لقد بَات عندنَا.
وَاخْتلفُوا فِي اسْمه، فَقَالَ الضَّحَّاك: جيسون.
.

     وَقَالَ  شُعْبَة: جيسور،.

     وَقَالَ  ابْن وهب: كَانَ اسْم أَبِيه ملاس، وَاسم أمه رحمى، فَأَخذه الْخضر بِرَأْسِهِ من أَعْلَاهُ فاقتلعه، كَذَا فِي البُخَارِيّ.
وَجَاء فِيهِ فِي بَدْء الْخلق: فَأخذ الْخضر بِرَأْسِهِ فَقَطعه بِيَدِهِ هَكَذَا، وَأَوْمَأَ سُفْيَان بأطراف أَصَابِعه كَأَنَّهُ يقطف شَيْئا.
وَجَاء فِيهِ، فِي التَّفْسِير: (ثمَّ خرجا من السَّفِينَة، فَبَيْنَمَا هما يمشيان على السَّاحِل إِذْ أبْصر الْخضر غُلَاما مَعَ الغلمان، فاقتلع رَأسه فَقتله) .
وَجَاء: (فَوجدَ غلمانا يَلْعَبُونَ، فَأخذ غُلَاما كَافِرًا ظريفا، فأضجعه ثمَّ ذبحه بالسكين) .
.

     وَقَالَ  الْكَلْبِيّ: صرعه ثمَّ نزع رَأسه من جسده فَقتله.
وَقيل: رفصه بِرجلِهِ فَقتله.
وَقيل: ضرب رَأسه بالجدار حَتَّى قَتله.
وَقيل: أَدخل أُصْبُعه فِي سرته فاقتلعها فَمَاتَ، فَلَمَّا قَتله قَالَ مُوسَى: {اقتلت نفسا زكية} (الْكَهْف: 74) أَي: طَاهِرَة {بِغَيْر نفس لقد جِئْت شَيْئا نكرا} (الْكَهْف: 74) أَي مُنْكرا.
قَالَ: فَغَضب الْخضر فاقتلع كتف الصَّبِي الْأَيْسَر، وقشر اللَّحْم عَنهُ فَإِذا فِي عظم كتفه مَكْتُوب كَافِر لَا يُؤمن بِاللَّه أبدا.
وَفِي مُسلم: (وَأما الْغُلَام فطبع يَوْم طبع كَافِرًا، وَكَانَ أَبَوَاهُ قد عطفا عَلَيْهِ، فَلَو أَنه أدْرك أرهقهما طغيانا وَكفرا) .
والطغيان: الزِّيَادَة فِي الإضلال.
قَالَ البُخَارِيّ: وَكَانَ ابْن عَبَّاس يقْرَأ: {وَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤمنين} (الْكَهْف: 78) وَهُوَ كَانَ كَافِرًا.
وَعنهُ: وَأما الْغُلَام فَكَانَ كَافِرًا وَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤمنين.
وَقَوله: غُلَاما، يدل على أَنه كَانَ غير بَالغ، والغلام اسْم للمولود إِلَى أَن يبلغ، وَزعم قوم أَنه كَانَ بَالغا يعْمل الْفساد، وَاحْتَجُّوا بقوله: بِغَيْر نفس، إِن الْقصاص إِنَّمَا يكون فِي حق الْبَالِغ.
وَأجَاب الْجُمْهُور عَن ذَلِك: بِأَنا لَا نعلم كَيفَ كَانَ شرعهم، فَلَعَلَّهُ كَانَ يجب على الصَّبِي فِي شرعهم كَمَا يجب فِي شرعنا عَلَيْهِم غَرَامَة الْمُتْلفَات، وَيُقَال: المُرَاد بِهِ التَّنْبِيه على أَنه قتل بِغَيْر حق.
فَإِن قلت: فِي أَيْن كَانَ قَضِيَّة قتل الْغُلَام؟ قلت: فِي أبله، بِضَم الْهمزَة وَالْبَاء الْمُوَحدَة وَتَشْديد اللَّام الْمَفْتُوحَة بعْدهَا هَاء، وَهِي مَدِينَة بِالْقربِ من بصرة وعبادان، وَيُقَال: أيلاء، بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون الْيَاء وَاللَّام الممدودة: مَدِينَة كَانَت على سَاحل بَحر القلزم على طَرِيق حجاج مصر.
قَوْله: (قَالَ ابْن عُيَيْنَة) أَي: سُفْيَان بن عُيَيْنَة، وَهَذَا أوكد، وَالِاسْتِدْلَال عَلَيْهِ إِنَّمَا هُوَ بِزِيَادَة: لَك، فِي هَذِه الْمرة.
قَالَ الْعَلامَة جَار الله: فَإِن قلت: مَا معنى زِيَادَة لَك؟ قلت: زِيَادَة المكافحة بالعتاب على رفض الْوَصِيَّة والوسم بقلة الصَّبْر عِنْد الكرة الثَّانِيَة.
قَوْله: (حَتَّى إِذا أَتَيَا) وَفِي بعض النّسخ: (حَتَّى أَتَيَا) بِدُونِ لَفْظَة: إِذا.
قَوْله: (أهل قَرْيَة) هِيَ: أنطاكية، قَالَه ابْن عَبَّاس.
.

     وَقَالَ  ابْن سِيرِين: ابلة وَهِي أبعد الأَرْض من السَّمَاء، وَجَاء أَنهم كَانُوا من أهل قَرْيَة لئام.
وَقيل: قَرْيَة من قرى الرّوم يُقَال لَهَا ناصرة وإليها تنْسب النَّصَارَى.
.

     وَقَالَ  السُّهيْلي: قيل: إِنَّهَا برقة، وَقيل: إِنَّهَا باجروان وَهِي مَدِينَة بنواحي أرمينية من أَعمال شرْوَان، عِنْدهَا فِيمَا قيل عين الْحَيَاة الَّتِي وجدهَا الْخضر، عَلَيْهِ السَّلَام، فوافياها بعد غرُوب الشَّمْس، فَاسْتَطْعَمَا أَهلهَا واستضافاهم فَأَبَوا أَن يُضَيِّفُوهُمَا، وَلم يجدا فِي تِلْكَ اللَّيْلَة فِي تِلْكَ الْقرْيَة قرى وَلَا مأوى، وَكَانَت لَيْلَة بَارِدَة، فالتجآ إِلَى حَائِط على شاطىء الطَّرِيق يُرِيد أَن ينْقض، أَي: يكَاد أَن يسْقط، وَإسْنَاد الْإِرَادَة إِلَى الْجِدَار مجَاز، إِذْ لَا إِرَادَة لَهُ حَقِيقَة، وَالْمرَاد هَهُنَا: المشارفة على السُّقُوط.
.

     وَقَالَ  الْكسَائي: إِرَادَة الْجِدَار هَهُنَا ميله، وَفِي البُخَارِيّ: مائل، وَكَانَ أهل الْقرْيَة يَمرونَ تَحْتَهُ على خوف قَوْله: (قَالَ الْخضر بِيَدِهِ فأقامه) قد قُلْنَا: إِن مَعْنَاهُ: أَشَارَ بِيَدِهِ فأقامه.
وَفِي رِوَايَة قَالَ: (فمسحه بِيَدِهِ) ، وَذكر الثَّعْلَبِيّ أَن سمك الْجِدَار مِائَتَا ذِرَاع بِذِرَاع تِلْكَ الْقرى، وَطوله على وَجه الأَرْض خَمْسمِائَة ذِرَاع، وَعرضه خَمْسُونَ ذِرَاعا.
قيل: إِنَّه مَسحه كالطين يمسحه القلاَّل فَاسْتَوَى.
وَعَن ابْن عَبَّاس: هَدمه ثمَّ قعد يبنيه.
وَقيل: أَقَامَهُ بعمود عمده بِهِ.
فَقَالَ لَهُ مُوسَى: لَو شِئْت لاتخذت عَلَيْهِ أجرا فَيكون لنا قوتا وبلغة على سفرنا إِذْ استضفناهم فَلم يضيفونا.
فَقَالَ الْخضر: {هَذَا فِرَاق بيني وَبَيْنك} الْآيَة.
(الْكَهْف: 78) فَإِن قلت: هَذَا إِشَارَة إِلَى مَاذَا؟ قلت: قد تصور فِرَاق بَينهمَا عِنْد حُلُول ميعاده على مَا قَالَ: فَلَا تُصَاحِبنِي، فَأَشَارَ إِلَيْهِ وَجعله مُبْتَدأ، وَيجوز أَن يكون إِشَارَة إِلَى السُّؤَال الثَّالِث أَي: هَذَا الِاعْتِرَاض سَبَب الْفِرَاق.

بَيَان استنباط الْأَحْكَام: وَهُوَ على وُجُوه.
الأول: فِيهِ اسْتِحْبابُُ الرحلة للْعلم.
الثَّانِي: فِيهِ جَوَاز التزود للسَّفر.
الثَّالِث: فِيهِ فَضِيلَة طلب الْعلم وَالْأَدب مَعَ الْعَالم، وَحُرْمَة الْمَشَايِخ، وَترك الإعتراض عَلَيْهِم وَتَأْويل مَا لم يفهم ظَاهره من أَقْوَالهم وأفعالهم، وَالْوَفَاء بعهودهم، والاعتذار عِنْد الْمُخَالفَة.
الرَّابِع: فِيهِ إِثْبَات كرامات الْأَوْلِيَاء وَصِحَّة الْولَايَة.
الْخَامِس: فِيهِ جَوَاز سُؤال الطَّعَام عِنْد الْحَاجة.
السَّادِس: فِيهِ جَوَاز الْإِجَارَة.
السَّابِع: فِيهِ جَوَاز ركُوب الْبَحْر وَنَحْو ذَلِك بِغَيْر أُجْرَة برضى صَاحبه.
الثَّامِن: فِيهِ الحكم بِالظَّاهِرِ حَتَّى يتَبَيَّن خِلَافه.
التَّاسِع: فِيهِ أَن الْكَذِب الْإِخْبَار على خلاف الْوَاقِع عمدا أَو سَهوا خلافًا للمعتزلة.
الْعَاشِر: إِذا تَعَارَضَت مفسدتان يجوز دفع أعظمهما بارتكاب أخفهما، كَمَا فِي خرق الْخضر السَّفِينَة لدفع غصبهَا وَذَهَاب جُمْلَتهَا.
الْحَادِي عشر: فِيهِ بَيَان أصل عَظِيم وَهُوَ: وجوب التَّسْلِيم لكل مَا جَاءَ بِهِ الشَّرْع، وَإِن كَانَ بعضه لَا تظهر حكمته للعقول وَلَا يفهمهُ أَكثر النَّاس، وَقد لَا يفهمونه كلهم: كالقدر، وَمَوْضِع الدّلَالَة قتل الْغُلَام، وخرق السَّفِينَة فَإِن صورتيهما صُورَة الْمُنكر، وَكَانَ صَحِيحا فِي نفس الْأَمر لَهُ حِكْمَة بَيِّنَة، لَكِنَّهَا لَا تظهر لِلْخلقِ فَإِذا علمهمْ الله تَعَالَى بهَا علموها، وَلِهَذَا قَالَ: {وَمَا فعلته عَن أَمْرِي} (الْكَهْف: 82) الثَّانِي عشر: قَالَ ابْن بطال: وَفِيه أصل وَهُوَ: مَا تعبد الله تَعَالَى بِهِ خلقه من شَرِيعَته يجب أَن يكون حجَّة على الْعُقُول، وَلَا تكون الْعُقُول حجَّة عَلَيْهِ، أَلا ترى أَن إِنْكَار مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، كَانَ صَوَابا فِي الظَّاهِر، وَكَانَ غير ملوم فِيهِ، فَلَمَّا بيَّن الْخضر وَجه ذَلِك صَار الصَّوَاب الَّذِي ظهر لمُوسَى فِي إِنْكَاره خطأ، وَالْخَطَأ الَّذِي ظهر لَهُ من فعل الْخضر صَوَابا، وَهَذَا حجَّة قَاطِعَة فِي أَنه يجب التَّسْلِيم لله تَعَالَى فِي دينه وَلِرَسُولِهِ فِي سنته، واتهام الْعُقُول إِذا قصرت عَن إِدْرَاك وَجه الْحِكْمَة فِيهِ.
الثَّالِث عشر: فِيهِ أَن قَوْله: {وَمَا فعلته عَن أَمْرِي} (الْكَهْف: 82) يدل على أَنه فعله بِالْوَحْي، فَلَا يجوز لأحد أَن يقتل نفسا لما يتَوَقَّع وُقُوعه مِنْهَا، لِأَن الْحُدُود لَا تجب إِلَّا بعد الْوُقُوع، وَكَذَا لَا يقطع على أحد قبل بُلُوغه، لِأَنَّهُ إِخْبَار عَن الْغَيْب، وَكَذَا الْإِخْبَار عَن أَخذ الْملك السَّفِينَة، وَعَن اسْتِخْرَاج الغلامين الْكَنْز، لِأَن هَذَا كُله لَا يدْرك إلاَّ بِالْوَحْي.
الرَّابِع عشر: فِيهِ حجَّة لمن قَالَ بنبوة الْخضر، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام.
الْخَامِس عشر: قَالَ القَاضِي: فِيهِ جَوَاز إِفْسَاد بعض المَال لإِصْلَاح بَاقِيه، وخصاء الْأَنْعَام، وَقطع بعض آذانها لتميز.

الأسئلة والأجوبة: مِنْهَا مَا قيل: فِي قَوْله: (فَإِنِّي نسيت الْحُوت) كَيفَ نسي ذَلِك وَمثله لَا ينسى لكَونه أَمارَة على الْمَطْلُوب، وَلِأَن ثمَّة معجزتين: حَيَاة السَّمَكَة المملوحة الْمَأْكُول مِنْهَا على الْمَشْهُور، وانتصاب المَاء مثل الطاق ونفوذها فِي مثل السرب مِنْهُ؟ أُجِيب: بِأَنَّهُ قد شغله الشَّيْطَان بوسواسه والتعود بمشاهدة أَمْثَاله عِنْد مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، من الْعَجَائِب والاستئناس بأخواته مُوجب لقلَّة الاهتمام بِهِ.
وَمِنْهَا مَا قيل: فِي قَوْله: (على أَن تعلمني مِمَّا علمت رشدا) أما دلّت حَاجته إِلَى التَّعَلُّم من آخر فِي عَهده أَنه كَمَا قيل: مُوسَى بن مِيشَا لَا مُوسَى بن عمرَان، لِأَن النَّبِي يجب أَن يكون أعلم أهل زَمَانه وإمامهم المرجوع إِلَيْهِ فِي أَبْوَاب الدّين؟ أُجِيب: لَا غَضَاضَة بِالنَّبِيِّ فِي أَخذ الْعلم من نَبِي مثله، وَإِنَّمَا يغض مِنْهُ أَن يَأْخُذ مِمَّن دونه.
.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: هَذَا الْجَواب لَا يتم على تَقْدِير ولَايَته.
قلت: هَذَا الْجَواب للزمخشري، وَهُوَ قَائِل بنبوته، كَمَا ذهب إِلَيْهِ الْجُمْهُور، بل هُوَ رَسُول وَيَنْبَغِي اعْتِقَاد ذَلِك لِئَلَّا يتوسل بِهِ أهل الزيغ وَالْفساد من المبتدعة الْمَلَاحِدَة فِي دَعوَاهُم: أَن الْوَلِيّ أفضل من النَّبِي، نَعُوذ بِاللَّه تَعَالَى من هَذِه الْبِدْعَة.
.

     وَقَالَ  بَعضهم: وَفِي هَذَا الْجَواب نظر، لِأَنَّهُ يسْتَلْزم نفي مَا أوجب.
قلت: هَذِه الْمُلَازمَة مَمْنُوعَة، فَلَو بَين وَجههَا لأجيب عَن ذَلِك.
وَمِنْهَا مَا قيل: فِي قَوْله: فحملوهما، وهم ثَلَاثَة.
فَقَالَ: كلموهم بِلَفْظَة الْجمع، فَلم قَالَ: فحملوهما بالتثنية؟ أُجِيب: بِأَن يُوشَع كَانَ تَابعا فَاكْتفى بِذكر الأَصْل عَن الْفَرْع.
وَمِنْهَا مَا قيل: إِن نِسْبَة النقرة إِلَى الْبَحْر نِسْبَة المتناهي إِلَى المتناهي، وَنسبَة علمهما إِلَى علم الله نِسْبَة المتناهي إِلَى غير المتناهي، وللنقرة إِلَى الْبَحْر فِي الْجُمْلَة نِسْبَة مَا بِخِلَاف علمهما، فَإِنَّهُ لَا نِسْبَة لَهُ إِلَى علم الله.
أُجِيب: بِأَن الْمَقْصُود مِنْهُ التَّشْبِيه فِي الْقلَّة والحقارة، لَا الْمُمَاثلَة من كل الْوُجُوه.
وَمِنْهَا مَا قيل: مَتى كَانَت قصَّة الْخضر مَعَ مُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلَام؟ أُجِيب: حَيْثُ كَانَ مُوسَى فِي التيه، فَلَمَّا فَارقه الْخضر رفع إِلَى قومه وهم فِي التيه.
وَقيل: كَانَت قبل خُرُوجه من مصر.
وَالله أعلم.