فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب الصوم في السفر والإفطار

(بابُُ الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ والإفْطَارِ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان حكم الصَّوْم فِي السّفر وَحكم الْإِفْطَار فِيهِ، هَل هما مباحان فِيهِ أَو الْمُكَلف مُخَيّر فِيهِ سَوَاء فِي رَمَضَان أَو غَيره؟


[ قــ :1858 ... غــ :1941 ]
- حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الله قَالَ حدَّثنا سُفْيانُ عنْ أبِي إسْحَاقَ الشَّيْبَانِيِّ أنَّهُ سَمِعَ ابنَ أبِي أوْفى رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ كُنَّا مَعَ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي سَفَرٍ فَقَالَ لِرَجُلٍ انْزَلْ فاجْدَحْ لِي قَالَ يَا رسولَ الله الشَّمْسَ قَالَ انْزِلْ فاجْدَح لي قَالَ يَا رسولَ الله الشَّمسُ قَالَ انْزلْ فاجْدَحْ لِي فنَزَلَ فَجَدَحَ لَهُ فَشَرِبَ ثُمَّ رَمَى بِيَدِهِ هَهُنَا ثُمَّ قَالَ إذَا رأيْتُمُ اللَّيْلَ أقْبَلَ مِنْ هَهُنَا فَقَدْ أفْطَرَ الصَّائِمُ.
.


مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَانَ صَائِما فِي سَفَره هَذَا، وَهُوَ مُطَابق للجزء الأول من التَّرْجَمَة.

ذكر رِجَاله وهم أَرْبَعَة: الأول: عَليّ بن عبد الله بن جَعْفَر الَّذِي يُقَال لَهُ ابْن الْمَدِينِيّ، وَقد تكَرر ذكره.
الثَّانِي: سُفْيَان بن عُيَيْنَة.
الثَّالِث: أَبُو إِسْحَاق الشَّيْبَانِيّ واسْمه: سُلَيْمَان بن أبي سُلَيْمَان، واسْمه: فَيْرُوز الشَّيْبَانِيّ نِسْبَة إِلَى شَيبَان بن وَهل بن ثَعْلَبَة وشيبان فِي قبائل.
الرَّابِع: عبد الله بن أبي أوفى، واسْمه: عَلْقَمَة الْأَسْلَمِيّ، وَهَذَا هُوَ أحد من رَوَاهُ أَبُو حنيفَة الإِمَام، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.

ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين.
وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع.
وَفِيه: السماع فِي مَوضِع.
وَفِيه: القَوْل فِي مَوضِع.
وَفِيه: أَن شَيْخه بَصرِي وسُفْيَان مكي وَأَبُو إِسْحَاق كُوفِي.
والْحَدِيث من الرباعيات.

ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الصَّوْم عَن مُسَدّد وَعَن أَحْمد بن يُونُس، وَفِي الطَّلَاق عَن عَليّ بن عبد الله عَن جرير.
وَأخرجه مُسلم فِي الصَّوْم عَن يحيى بن يحيى عَن هشيم وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَعَن أبي كَامِل الجحدري وَعَن ابْن أبي عَمْرو عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَعَن عبيد الله بن معَاذ وَعَن مُحَمَّد بن الْمثنى.
وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن مُسَدّد بِهِ، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن مَنْصُور عَن سُفْيَان بِهِ.

ذكر مَعْنَاهُ قَوْله: (كُنَّا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي سفر) ، وَفِي رِوَايَة مُسلم: (كُنَّا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي سفر فِي شهر رَمَضَان) ، قيل: يشبه أَن يكون سفر غَزْوَة الْفَتْح، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ رِوَايَة هشيم عَن الشَّيْبَانِيّ عِنْد مُسلم بِلَفْظ: (كُنَّا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي سفر فِي شهر رَمَضَان) وسفره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي رَمَضَان منحصر فِي غَزْوَة بدر، وَفِي غَزْوَة الْفَتْح، فَإِن ثَبت فَلم يشْهد ابْن الزبير ابْن أبي أوفى بَدْرًا فتعينت غَزْوَة الْفَتْح، قَوْله: (فَقَالَ الرجل) وَفِي رِوَايَة مُسلم: (فَلَمَّا غَابَتْ الشَّمْس قَالَ: يَا فلَان { إنزل فاجدح) .
وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ: (فَلَمَّا غربت) ، على مَا يَأْتِي، وَلَفظ: غربت، يُفِيد معنى زَائِدا على معنى: غَابَتْ، وَالرجل فِي رِوَايَة البُخَارِيّ، وَفُلَان فِي رِوَايَة مُسلم هُوَ: بِلَال، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
قَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : وَجَاء فِي بعض طرق الحَدِيث أَنه بِلَال.
قلت: هَذَا فِي رِوَايَة أبي دَاوُد، فَإِنَّهُ أخرج الحَدِيث عَن مُسَدّد شيخ البُخَارِيّ، وَفِيه: (فَقَالَ: يَا بِلَال}
انْزِلْ) إِلَى آخِره، وَوَقع فِي رِوَايَة أَحْمد من رِوَايَة شُعْبَة عَن الشَّيْبَانِيّ: (فَدَعَا صَاحب شرابه بشراب، فَقَالَ: لَو أمسيت) .
قَوْله: (فاجدح لي) ، إجدح بِكَسْر الْهمزَة أَمر من: جدحت السويق واجتدحته، أَي: لتته، والمصدر: جدح، ومادته: جِيم ودال وحاء مُهْملَة، والجدح أَن يُحَرك السويق بِالْمَاءِ فيخوض حَتَّى يَسْتَوِي، وَكَذَلِكَ اللَّبن وَنَحْوه، والمجدح، بِكَسْر الْمِيم: عود مجدح الرَّأْس تساط بِهِ الْأَشْرِبَة، وَرُبمَا يكون لَهُ ثَلَاث شعب،.

     وَقَالَ  الدَّاودِيّ: إجدح يَعْنِي: احلب، ورد ذَلِك عِيَاض وَغَيره، وَفِي (الْمُحكم) : المجدح خَشَبَة فِي رَأسهَا خشبتان معترضتان، وَكلما خلط فقد جدح، وَعَن الْقَزاز: هُوَ كالملعقة.
وَفِي (الْمُنْتَهى) : شراب مجدوح ومجدح أَي مخوض، والمجدح عود ذُو جَوَانِب، وَقيل: هُوَ عود يعرض رَأسه، وَالْجمع مجاديح.
قَوْله: (الشَّمْس!) ، بِالرَّفْع على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف، أَي: هَذِه الشَّمْس يَعْنِي مَا غربت الْآن، وَيجوز فِيهِ النصب على معنى: انْظُر الشَّمْس، وَهَذَا ظن مِنْهُ أَن الْفطر لَا يحل إلاَّ بعد ذَلِك، لما رأى من ضوء الشَّمْس ساطعا، وَإِن كَانَ جرمها غَائِبا، يُؤَيّدهُ قَوْله: (إِن عَلَيْك نَهَارا) ، وَهُوَ معنى: (لَو أمسيت) فِي رِوَايَة أَحْمد، أَي: تَأَخَّرت حَتَّى يدْخل الْمسَاء، وتكريره الْمُرَاجَعَة لغَلَبَة اعْتِقَاده أَن ذَلِك نَهَار يحرم فِيهِ الْأكل مَعَ تجويزه أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لم ينظر إِلَى ذَلِك الضَّوْء نظرا تَاما، فقصد زِيَادَة الْإِعْلَام، فَأَعْرض، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عَن الضَّوْء وَاعْتبر غيبوبة الشَّمْس، ثمَّ بيَّن مَا يعتبره من لم يتَمَكَّن من رُؤْيَة جرم الشَّمْس، وَهُوَ إقبال الظلمَة من الْمشرق، فَإِنَّهَا لَا تقبل مِنْهُ إلاَّ وَقد سقط القرص، فَإِن قلت: الْمُرَاجَعَة معاندة، وَلَا يَلِيق ذَلِك للصحابي؟ قلت: قد ذكرنَا أَنه ظن، فَلَو تحقق أَن الشَّمْس غربت مَا توقف، وَإِنَّمَا توقف احْتِيَاطًا واستكشافا عَن حكم الْمَسْأَلَة.
وَقد اخْتلفت الرِّوَايَات عَن الشَّيْبَانِيّ فِي ذَلِك، فَأكْثر مَا وَقع فِيهَا أَن الْمُرَاجَعَة وَقعت ثَلَاثًا، وَفِي بَعْضهَا مرَّتَيْنِ، وَفِي بَعْضهَا مرّة وَاحِدَة، وَهُوَ مَحْمُول على أَن بعض الروَاة اختصر الْقِصَّة.
قَوْله: (ثمَّ رمى بِيَدِهِ هَهُنَا) ، مَعْنَاهُ أَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى الْمشرق، وَيُؤَيّد ذَلِك مَا رَوَاهُ مُسلم، (ثمَّ قَالَ بِيَدِهِ: إِذا غَابَتْ الشَّمْس من هَهُنَا، وَجَاء اللَّيْل من هَهُنَا فقد أفطر الصَّائِم) .
وَفِي لفظ لَهُ: (ثمَّ قَالَ: إِذا رَأَيْتُمْ اللَّيْل قد أقبل من هَهُنَا أَشَارَ بِيَدِهِ نَحْو الْمشرق فقد أفطر الصَّائِم.
قَوْله: (إِذا رَأَيْتُمْ اللَّيْل أقبل من هَهُنَا) أَي: من جِهَة الْمشرق.
فَإِن قلت: مَا الْحِكْمَة فِي قَوْله: (إِذا أقبل اللَّيْل من هَهُنَا؟) .
وَفِي لفظ مُسلم: (إِذا رَأَيْتُمْ اللَّيْل قد أقبل من هَهُنَا؟ وَفِي لفظ التِّرْمِذِيّ، عَن عمر بن الْخطاب: (إِذا أقبل اللَّيْل وَأدبر النَّهَار وغربت الشَّمْس فقد أفطر) ، والإقبال والإدبار والغروب متلازمة لِأَنَّهُ لَا يقبل اللَّيْل إلاَّ إِذا أدبر النَّهَار، وَلَا يدبر النَّهَار إلاَّ إِذا غربت الشَّمْس.
قلت: أجَاب القَاضِي عِيَاض: بِأَنَّهُ قد لَا يتَّفق مُشَاهدَة عين الْغُرُوب، ويشاهد هجوم الظلمَة حَتَّى يتَيَقَّن الْغُرُوب بذلك فَيحل الْإِفْطَار.
.

     وَقَالَ  شَيخنَا الظَّاهِر إِن أُرِيد أحد هَذِه الْأُمُور الثَّلَاثَة فَإِنَّهُ يعرف انْقِضَاء النَّهَار بِرُؤْيَة بَعْضهَا، وَيُؤَيِّدهُ اقْتِصَاره فِي حَدِيث ابْن أبي أوفى على إقبال اللَّيْل فَقَط، وَقد يكون الْغَيْم فِي الْمشرق دون الْمغرب أَو عَكسه، وَقد يُشَاهد مغيب الشَّمْس فَلَا يحْتَاج مَعَه إِلَى أَمر آخر.
قَوْله: (فقد أفطر الصَّائِم) أَي: دخل وَقت الْإِفْطَار، لَا أَنه يصير مُفطرا بغيبوبة الشَّمْس، وَإِن لم يتَنَاوَل مُفطرا.

ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: الحَدِيث يدل على أَن الصَّوْم فِي السّفر فِي رَمَضَان أفضل من الْإِفْطَار، وَذَلِكَ لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ صَائِما وَهُوَ فِي السّفر فِي شهر رَمَضَان.
وَقد اخْتلفُوا فِي هَذَا الْبابُُ.
فَمنهمْ من روى عَنهُ التَّخْيِير مِنْهُم: ابْن عَبَّاس وَأنس وَأَبُو سعيد وَسَعِيد بن الْمسيب وَعَطَاء وَسَعِيد بن جبر وَالْحسن وَالنَّخَعِيّ وَمُجاهد وَالْأَوْزَاعِيّ وَاللَّيْث.
وَذهب قوم إِلَى أَن الْإِفْطَار أفضل، مِنْهُم: عمر بن عبد الْعَزِيز وَالشعْبِيّ وَقَتَادَة وَمُحَمّد بن عَليّ وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق.
.

     وَقَالَ  ابْن الْعَرَبِيّ: قَالَت الشَّافِعِيَّة: الْفطر أفضل فِي السّفر،.

     وَقَالَ  أَبُو عمر: قَالَ الشَّافِعِي: هُوَ مُخَيّر وَلم يفصل، وَكَذَلِكَ قَالَ ابْن علية،.

     وَقَالَ  القَاضِي: مَذْهَب الشَّافِعِي أَن الصَّوْم أفضل.
وَمِمَّنْ كَانَ لَا يَصُوم فِي السّفر حُذَيْفَة.
وَذهب قوم إِلَى أَن الصَّوْم أفضل، وَبِه قَالَ الْأسود بن يزِيد وَأَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه.
وَفِي (التَّوْضِيح) : وَبِه قَالَ الشَّافِعِي وَمَالك وَأَصْحَابه وَأَبُو ثَوْر، وَكَذَا روى عَن عُثْمَان بن أبي الْعَاصِ وَأنس بن مَالك، وَرُوِيَ عَن عمر وَابْنه وَأبي هُرَيْرَة وَابْن عَبَّاس: إِن صَامَ فِي السّفر لم يجزه وَعَلِيهِ الْقَضَاء فِي الْحَضَر، وَعَن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، قَالَ: الصَّائِم فِي السّفر كالمفطر فِي الْحَضَر، وَبِه قَالَ أهل الظَّاهِر.
وَمِمَّنْ كَانَ يَصُوم فِي السّفر وَلَا يفْطر عَائِشَة وَقيس بن عباد وَأَبُو الْأسود وَابْن سِيرِين وَابْن عمر وَابْنه سَالم وَعَمْرو بن مَيْمُون وَأَبُو وَائِل،.

     وَقَالَ  عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فِيمَا رَوَاهُ حَمَّاد بن يزِيد عَن أَيُّوب عَن مُحَمَّد بن عُبَيْدَة عَنهُ: من أدْرك رَمَضَان وَهُوَ مُقيم ثمَّ سَافر فقد لزمَه الصَّوْم، لِأَن الله تَعَالَى قَالَ: { فَمن شهد مِنْكُم الشَّهْر فليصمه} (الْبَقَرَة: 581) .
.

     وَقَالَ  أَبُو مجلز: لَا يُسَافر أحد فِي رَمَضَان، فَإِن سَافر فليصم،.

     وَقَالَ  أَحْمد: يُبَاح لَهُ الْفطر، فَإِن صَامَ كره وأجزأه، وَعنهُ: الْأَفْضَل الْفطر،.

     وَقَالَ  أَحْمد: كَانَ عمر وَأَبُو هُرَيْرَة يأمران بِالْإِعَادَةِ، يَعْنِي إِذا صَامَ.
.

     وَقَالَ  الْإِسْبِيجَابِيّ فِي (شرح مُخْتَصر الطَّحَاوِيّ) : الْأَفْضَل أَن يَصُوم فِي السّفر إِذا لم يُضعفهُ الصَّوْم، فَإِن أضعفه ولحقه مشقة بِالصَّوْمِ بِالْفطرِ أفضل، فَإِن أفطر من غير مشقة لَا يَأْثَم، وَبِمَا قُلْنَاهُ قَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ.
قَالَ النَّوَوِيّ: هُوَ الْمَذْهَب.
وَعَن مُجَاهِد فِي رِوَايَة: أفضل الْأَمريْنِ أيسرهما عَلَيْهِ، وَقيل: الصَّوْم وَالْفطر سَوَاء وَهُوَ قَول للشَّافِعِيّ.

وَفِيه: اسْتِحْبابُُ تَعْجِيل الْفطر.

وَفِيه: بَيَان انْتِهَاء وَقت الصَّوْم، وَهُوَ أَمر مجمع عَلَيْهِ،.

     وَقَالَ  أَبُو عمر فِي (الاستذكار) : أجمع الْعلمَاء على أَنه إِذا حلت صَلَاة الْمغرب فقد حل الْفطر للصَّائِم فرضا وتطوعا.
وَأَجْمعُوا على أَن صَلَاة الْمغرب من صَلَاة اللَّيْل، وَالله، عز وَجل، قَالَ: { ثمَّ أَتموا الصّيام إِلَى اللَّيْل} (الْبَقَرَة: 781) .
وَاخْتلفُوا فِي أَنه: هَل يجب تَيَقّن الْغُرُوب أم يجوز الْفطر بِالِاجْتِهَادِ؟.

     وَقَالَ  الرَّافِعِيّ: الْأَحْوَط أَن لَا يَأْكُل إلاَّ بِيَقِين غرُوب الشَّمْس، لِأَن الأَصْل بَقَاء النَّهَار فيستصحب إِلَى أَن يستيقن خِلَافه.
وَلَو اجْتهد وَغلب على ظَنّه دُخُول اللَّيْل بورد وَغَيره فَفِي جَوَاز الْأَجَل وَجْهَان: أَحدهمَا، وَبِه قَالَ الاستاذ أَبُو إِسْحَاق الإسفرائني: أَنه لَا يجوز.
وأصحهما: الْجَوَاز وَإِذا كَانَت الْبَلدة فِيهَا أَمَاكِن مُرْتَفعَة وأماكن منخفضة فَهَل يتَوَقَّف فطر سكان الْأَمَاكِن المنخفضة على تحقق غيبَة الشَّمْس عِنْد سكان الْأَمَاكِن المرتفعة؟ الظَّاهِر اشْتِرَاط ذَلِك، وَفِيه جَوَاز الاستفسار عَن الظَّوَاهِر لاحْتِمَال أَن يكون المُرَاد إمرارها على ظواهرها.

وَفِيه: أَنه لَا يجب إمْسَاك جُزْء من اللَّيْل مُطلقًا بل مَتى تحقق غرُوب الشَّمْس حل الْفطر.

وَفِيه: تذكير الْعَالم بِمَا يخْشَى أَن يكون نَسيَه.

وَفِيه: أَن الْأَمر الشَّرْعِيّ أبلغ من الْحسي، وَأَن الْعقل لَا يقْضِي على الشَّرْع.

وَفِيه: أَن الْفطر على التَّمْر لَيْسَ بِوَاجِب، وَإِنَّمَا هُوَ مُسْتَحبّ، لَو تَركه جَازَ.

وَفِيه: إسراع النَّاس إِلَى إِنْكَار مَا يجهلون لما جهل من الدَّلِيل الَّذِي عَلَيْهِ الشَّارِع، وَأَن الْجَاهِل بالشَّيْء يَنْبَغِي أَن يسمح لَهُ فِيهِ الْمرة بعد الْمرة وَالثَّالِثَة تكون فاصلة بَينه وَبَين معلمه، كَمَا فعل الْخضر بمُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلَام،.

     وَقَالَ : { هَذَا فِرَاق بيني وَبَيْنك} (الْكَهْف: 87) .

تَابَعَهُ جَرِيرٌ وأبُو بَكْرِ بنُ عَيَّاشٍ عنِ الشِّيْبَانِيِّ عنِ ابنِ أبِي أوْفَى قَالَ كُنْتُ مَعَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي سَفَرٍ
يَعْنِي تَابع سُفْيَان جرير، بِفَتْح الْجِيم: ابْن عبد الحميد، وَتَابعه أَيْضا أَبُو بكر بن عَيَّاش، بتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالشين الْمُعْجَمَة: ابْن سَالم الْأَسدي الْكُوفِي الحناط، بالنُّون: المقرىء، وَقد اخْتلف فِي اسْمه على أَقْوَال، فَقيل: مُحَمَّد، وَقيل: عبد الله، وَقيل: سَالم، وَقيل غير ذَلِك إِلَى أَسمَاء مُخْتَلفَة، وَالأَصَح أَن اسْمه كنيته، ومتابعة جرير وَصلهَا فِي البُخَارِيّ فِي الطَّلَاق، ومتابعة أبي بكر تَأتي مَوْصُولَة فِي: بابُُ تَعْجِيل الْإِفْطَار، وَالْمرَاد من الْمُتَابَعَة: الْمُتَابَعَة فِي أصل الحَدِيث.





[ قــ :1859 ... غــ :194 ]
- حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدثنَا يَحْيَى عنْ هِشَامٍ قَالَ حدَّثني أبِي عنْ عائِشَةَ أنَّ حَمْزَةَ بن عَمْرٍ والأسْلَمِيَّ قَالَ يَا رسولَ الله إنِّي أسْرُدُ الصَّوْمَ.
( الحَدِيث 491 طرفه فِي: 3491) .


مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن سرد الصَّوْم يتَنَاوَل الصَّوْم فِي السّفر أَيْضا كَمَا هُوَ الأَصْل فِي الْحَضَر، وَأخرج هَذَا الحَدِيث من طَرِيقين: الأول: عَن مُسَدّد عَن يحيى عَن هِشَام وَهُوَ مُخْتَصر.
وَالثَّانِي: عَن عبد الله بن يُوسُف عَن مَالك عَن هِشَام إِلَى آخِره، وَسَيَأْتِي عَن قريب.

ذكر رِجَاله وهم سِتَّة: الأول: مُسَدّد بن مسرهد.
الثَّانِي: يحيى بن سعيد الْقطَّان.
الثَّالِث: هِشَام بن عُرْوَة.
الرَّابِع: أَبوهُ عُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام.
الْخَامِس: عَائِشَة أم الْمُؤمنِينَ.
السَّادِس: حَمْزَة بن عَمْرو الْأَسْلَمِيّ أَبُو صَالح، وَقيل: أَبُو مُحَمَّد.

ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين، وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع.
وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين.
وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين.
وَفِيه: رِوَايَة الابْن عَن الْأَب.
وَفِيه: أَن الحَدِيث من مُسْند عَائِشَة، وَهَذَا ظَاهر لِأَن الْحفاظ رَوَوْهُ هَكَذَا:.

     وَقَالَ  عبد الرَّحِيم بن سُلَيْمَان عِنْد النَّسَائِيّ، والدراوردي عِنْد الطَّبَرَانِيّ، وَيحيى بن عبد الله بن سَالم عِنْد الدَّارَقُطْنِيّ، ثَلَاثَتهمْ عَن هِشَام عَن أَبِيه عَن عَائِشَة عَن حَمْزَة بن عَمْرو، جَعَلُوهُ من مُسْند حَمْزَة، وَالْمَحْفُوظ أَنه من مُسْند عَائِشَة.
وحاء الحَدِيث من رِوَايَة حَمْزَة أَيْضا، فأخرجها مُسلم من رِوَايَة عَمْرو بن الْحَارِث عَن أبي الْأسود عَن عُرْوَة بن الزبير عَن أبي مراوح، ( عَن حَمْزَة بن عَمْرو الْأَسْلَمِيّ، أَنه قَالَ: يَا رَسُول الله أجد بِي قُوَّة على الصّيام فِي السّفر، فَهَل عَليّ جنَاح؟ فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: هُوَ رخصَة من الله، فَمن أَخذ بهَا فَحسن، وَمن أحب أَن يَصُوم فَلَا جنَاح عَلَيْهِ) .
وَكَذَلِكَ رَوَاهُ مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم التَّيْمِيّ عَن عُرْوَة، لكنه أسقط أَبَا مراوح، وَالصَّوَاب إثْبَاته، وَهُوَ مَحْمُول على أَن لعروة فِيهِ طَرِيقين: سَمعه من عَائِشَة، وسَمعه من أبي مراوح عَن حَمْزَة.

ذكر مَعْنَاهُ: وَقَوله: ( إِنِّي أسرد الصَّوْم) أَي: أتابعه يَعْنِي: آتِي بِهِ متواليا، وَهُوَ من سرد يسْرد من: بابُُ نصر ينصر.
.

     وَقَالَ  ابْن التِّين: وَضبط فِي بعض الْأُمَّهَات بِضَم الْهمزَة، وَلَا وَجه لَهُ فِي اللُّغَة إلاَّ أَن يُرِيد بِفَتْح السِّين وَتَشْديد الرَّاء على التكثير.
قلت: لَا يحْتَاج إِلَى هَذَا التَّطْوِيل لِأَنَّهُ حِين قيل بِضَم الْهمزَة علم أَنه من: بابُُ التفعيل، تَقول: سرد يسْرد تسريدا، وَصِيغَة الْمُتَكَلّم وَحده لَا تَجِيء إلاَّ بِضَم الْهمزَة، قَالُوا: وَفِيه رد على من يرى أَن صَوْم الدَّهْر مَكْرُوه لِأَنَّهُ أخبر بسرده، وَلم يُنكر عَلَيْهِ، بل أقره وَأذن لَهُ فِي السّفر، فَفِي الْحَضَر أولى.
وَأجِيب: بِأَن التَّتَابُع يصدق بِدُونِ صَوْم الدَّهْر فَلَا دلَالَة فِيهِ على الْكَرَاهَة.
فَإِن قلت: يُعَارضهُ نَهْيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ.
قلت: يحمل نَهْيه على ضعف عبد الله عَن ذَلِك، وَحَمْزَة ذكر قُوَّة لم يذكرهَا غَيره.





[ قــ :1860 ... غــ :1943 ]
- حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا مالِكٌ عنْ هِشَامِ بنِ عُرْوةَ عنْ أبِيهِ عنْ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا زَوجَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنَّ حَمْزَةَ بنَ عَمْرٍ والأسْلَمِيَّ قَالَ لِلنبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أأصُومُ فِي السَّفَرِ وكانَ كَثِيرَ الصِّيامِ فَقَالَ إنْ شِئْتَ فَصُمْ وإنْ شِئْتَ فأفْطِرْ.
( انْظُر الحَدِيث 491) .


هَذَا طَرِيق ثَان.
قَوْله: ( أأصوم؟) بهمزتين الأولى هِيَ همزَة الِاسْتِفْهَام وَالْأُخْرَى همزَة الْمُتَكَلّم، وكلتاهما مفتوحتان.
قيل: لَيْسَ فِيهِ تَصْرِيح بِأَنَّهُ صَوْم رَمَضَان، فَلَا يكون فِيهِ حجَّة على منع صِيَام رَمَضَان فِي السّفر.
وَأجِيب: بِأَن فِي رِوَايَة أبي مراوح فِي رِوَايَة مُسلم الَّتِي ذَكرنَاهَا إشعارا بِأَنَّهُ سَأَلَ عَن صِيَام الْفَرِيضَة، لِأَن الرُّخْصَة إِنَّمَا تطلق فِي مُقَابل مَا هُوَ وَاجِب، وأصرح من ذَلِك وَأكْثر وضوحا مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالْحَاكِم من طَرِيق مُحَمَّد بن حَمْزَة بن عَمْرو عَن أَبِيه أَنه قَالَ: ( يَا رَسُول الله! إِنِّي صَاحب ظهر أعَالجهُ، أسافر عَلَيْهِ وأكريه، وَأَنه رُبمَا صادفني هَذَا الشَّهْر يَعْنِي: شهر رَمَضَان وَأَنا أجد الْقُوَّة وأجدني أَن أَصوم أَهْون عَليّ من أَن أؤخره، فَيكون دينا عَليّ؟ فَقَالَ: أَي ذَلِك شِئْت يَا حَمْزَة) .