فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب صوم الصبيان

( بابُُ صَوْمَ الصِّبْيَانِ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان صَوْم الصّبيان: هَل يشرع أم لَا؟ وَالْجُمْهُور على أَنه لَا يجب على من دون الْبلُوغ، وَاسْتحبَّ جمَاعَة من السّلف، مِنْهُم ابْن سِيرِين وَالزهْرِيّ، وَبِه قَالَ الشَّافِعِي: أَنهم يؤمرون بِهِ للتمرين عَلَيْهِ إِذا أطاقوه، وحد ذَلِك عِنْد أَصْحَاب الشَّافِعِي بالسبع وَالْعشر كَالصَّلَاةِ، وَعند إِسْحَاق: حَده اثْنَتَيْ عشرَة سنة، وَعند أَحْمد فِي رِوَايَة: عشر سِنِين،.

     وَقَالَ  الْأَوْزَاعِيّ: إِذا أطَاق صَوْم ثَلَاثَة أَيَّام تباعا لَا يضعف فِيهِنَّ حمل على الصَّوْم، وَالْمَشْهُور عِنْد الْمَالِكِيَّة: أَنه لَا يشرع فِي حق الصّبيان.
.

     وَقَالَ  ابْن بطال: أجمع الْعلمَاء أَنه لَا تلْزم الْعِبَادَات والفرائض إلاَّ عِنْد الْبلُوغ، إلاَّ أَن أَكثر الْعلمَاء استحسنوا تدريب الصّبيان على الْعِبَادَات رَجَاء الْبركَة، وَأَنَّهُمْ يعتادونها فتسهل عَلَيْهِم إِذا ألزمهم، وَأَن من فعل ذَلِك بهم مأجور.
وَفِي ( الْأَشْرَاف) : اخْتلفُوا فِي الْوَقْت الَّذِي يُؤمر فِيهِ الصَّبِي بالصيام، فَكَانَ ابْن سِيرِين وَالْحسن وَالزهْرِيّ وَعَطَاء وَعُرْوَة وَقَتَادَة وَالشَّافِعِيّ يَقُولُونَ: يُؤمر بِهِ إِذا أطاقه، وَنقل عَن الْأَوْزَاعِيّ مثل مَا ذكرنَا الْآن، وَاحْتج بِحَدِيث ابْن أبي لَبِيبَة عَن أَبِيه عَن جده عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: ( إِذا صَامَ الْغُلَام ثَلَاثَة أَيَّام متتابعة فقد وَجب عَلَيْهِ صِيَام رَمَضَان) .
.

     وَقَالَ  ابْن الْمَاجشون: إِذا طاقوا الصّيام ألزموه، فَإِذا أفطروا بِغَيْر عذر وَلَا عِلّة فَعَلَيْهِم الْقَضَاء.
.

     وَقَالَ  أَشهب: يسْتَحبّ لَهُم إِذا أطاقوه.
.

     وَقَالَ  عُرْوَة: إِذا أطاقوا الصَّوْم وَجب عَلَيْهِم.
قَالَ عِيَاض: وَهَذَا غلط يردهُ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ( رفع الْقَلَم عَن ثَلَاثَة) ، فَذكر: الصَّبِي حَتَّى يَحْتَلِم، وَفِي رِوَايَة: ( حَتَّى يبلغ) .

وَقَالَ عُمَرُ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ لِنَشْوَانَ فِي رَمَضَانَ وَيْلَكَ وَصِبْيَانُنَا صِيَامٌ فَضَرَبَهُ
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: ( وصبياننا صِيَام) ، وَإِنَّمَا كَانُوا يصومونهم لأجل التمرين ليتعودوا بذلك ويكونوا على نشاط بذلك بعد الْبلُوغ.
قَوْله: ( لنشوان) ، أَي: لرجل سَكرَان، بِفَتْح النُّون وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة، من نشى الرجل من الشَّرَاب نشوا ونشوة، وتنشى وانتشى كُله: سكر، وَرجل نشوان ونشيان على الْعَاقِبَة، وَالْأُنْثَى نشواء، وَجمعه نشاوى كسكارى، وَزَاد الْقَزاز: وَالْجمع النشوات،.

     وَقَالَ  الزَّمَخْشَرِيّ: وَهُوَ نش، وَامْرَأَة نشئة ونشوانة، وفعلانة قَلِيل إلاَّ فِي بني أَسد، هَكَذَا ذكر الْفراء، وَفِي ( نَوَادِر اللحياني) : يُقَال: نشئت من الشَّرَاب أنشأ نشوة ونشوة،.

     وَقَالَ  ابْن خالويه: سكر الرجل وانتشى، وثمل ونزف وانزف، فَهُوَ سَكرَان ونشوان،.

     وَقَالَ  ابْن التِّين: النشوان السكر الْخَفِيف، قيل: كَأَنَّهُ من كَلَام المولدين.
قَوْله: ( صِيَام) جمع صَائِم، ويروى: ( صوام) ، ثمَّ هَذَا التَّعْلِيق وَهُوَ أثر عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَصله سعيد بن مَنْصُور وَالْبَغوِيّ فِي: الجعديات، من طَرِيق عبد الله بن أبي الهدير ( أَن عمر بن الْخطاب أَتَى بِرَجُل شرب الْخمر فِي رَمَضَان، فَلَمَّا دنا مِنْهُ جعل يَقُول: للمنخرين والفم) ، وَفِي رِوَايَة الْبَغَوِيّ: ( فَلَمَّا رفع إِلَيْهِ عثر، فَقَالَ عمر: على وَجهك وَيحك وصبياننا صِيَام؟ .
ثمَّ أَمر فَضرب ثَمَانِينَ سَوْطًا، ثمَّ سيره إِلَى الشَّام)
.
وَفِي رِوَايَة الْبَغَوِيّ: ( فَضَربهُ الْحَد وَكَانَ إِذا غضب على إِنْسَان سيره إِلَى الشَّام فسيره إِلَى الشَّام) .

     وَقَالَ  أَبُو إِسْحَاق: من شرب الْخمر فِي رَمَضَان ضرب مائَة.
انْتهى.
هَذَا كَانَ فِي مُسْتَنده مَا ذكره سُفْيَان عَن عَطاء بن أبي مَرْوَان، عَن أَبِيه أَن عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَتَى بالنجاشي الشَّاعِر، وَقد شرب الْخمر فِي رَمَضَان فَضَربهُ ثَمَانِينَ، ثمَّ ضربه من الْغَد عشْرين،.

     وَقَالَ : ضربناك الْعشْرين لجرأتك على الله تَعَالَى وإفطارك فِي رَمَضَان.



[ قــ :1877 ... غــ :1960 ]
- حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدَّثنا بِشْرُ بنُ المُفَضَّلِ قَالَ حدَّثنا خالِدُ ابنُ ذَكْوَانَ عنِ الرُّبَيْعِ بِنْتِ مُعَوَّذٍ قالَتْ أرْسَلَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم غَدَاةَ عاشُورَاءَ إلَى قُرى الأنْصَارِ مَنْ أصْبَحَ مُفْطِرا فَلْيُتِمَّ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ ومَنْ أصْبَحَ صائِما فَلْيَصُمْ قالَتْ فَكُنَّا نَصُومُهُ بَعْد ونُصَوِّمُ صِبْيَانَنا ونَجْعَلُ لَهُمُ اللُّعْبَةَ مِنَ الْعِهْنِ فإذَا بَكَى أحَدُهُمْ عَلَى الطَّعَامِ أعْطَيْناهُ ذَاكَ حَتَّى يَكُونَ عِنْدَ الإفْطَارِ.


مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: ( ونصوم صبياننا) .

ذكر رِجَاله وهم أَرْبَعَة: الأول: مُسَدّد.
الثَّانِي: بشر، بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة: ابْن الْفضل، بِلَفْظ الْمَفْعُول من التَّفْضِيل بالضاد الْمُعْجَمَة، مر فِي الْعلم، الثَّالِث: خَالِد بن ذكْوَان أَبُو الْحسن.
الرَّابِع: الرّبيع، بِضَم الرَّاء وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره عين مُهْملَة: بنت معوذ، بِلَفْظ الْفَاعِل من التعويذ بِالْعينِ الْمُهْملَة والذال الْمُعْجَمَة: الْأَنْصَارِيَّة من المبايعات تَحت الشَّجَرَة، وَلها قدر عَظِيم،.

     وَقَالَ  الغسائي: معوذ، بِفَتْح الْوَاو، وَيُقَال بِكَسْرِهَا.

ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع.
وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد.
وَفِيه: أَن مُسَددًا وَشَيْخه بصريان وَأَن خَالِدا من أهل الْمَدِينَة، سكن الْبَصْرَة.
وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن الصحابية وخَالِد تَابِعِيّ صَغِير لَيْسَ لَهُ من الصَّحَابَة سوى الرّبيع هَذِه وَهِي أَيْضا من صغَار الصَّحَابَة وَلم يخرج البُخَارِيّ من حَدِيثه عَن غَيرهَا.

والْحَدِيث أخرجه مُسلم أَيْضا فِي الصَّوْم عَن أبي بكر بن نَافِع، وَعَن يحيى بن يحيى.

ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: ( عَن الرّبيع) ، فِي رِوَايَة مُسلم من وَجه آخر: عَن خَالِد سَأَلت الرّبيع.
قَوْله: ( إِلَى قرى الْأَنْصَار) وَزَاد مُسلم: ( الَّتِي حول الْمَدِينَة) .
قَوْله: ( صبياننا) زَاد مُسلم: ( الصغار وَنَذْهَب بهم إِلَى الْمَسْجِد) .
قَوْله: ( فليصم) أَي: فليستمر على صَوْمه.
قَوْله: ( كُنَّا نصومه) أَي: نَصُوم عَاشُورَاء.
قَوْله: ( اللعبة) ، بِضَم اللَّام وَهِي الَّتِي يُقَال لَهَا: لعب الْبَنَات.
قَوْله: ( من العهن) ، بِكَسْر الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون الْهَاء وَهُوَ الصُّوف، وَقد فسره البُخَارِيّ فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي فِي آخر الحَدِيث: قيل: العهن الصُّوف الْمَصْبُوغ.
قَوْله: ( أعطيناه ذَلِك حَتَّى يكون عِنْد الْإِفْطَار) ، وَهَكَذَا رَوَاهُ ابْن خُزَيْمَة وَابْن حبَان، وَوَقع فِي رِوَايَة مُسلم: ( أعطيناها إِيَّاه عِنْد الْإِفْطَار) .
.

     وَقَالَ  الْقُرْطُبِيّ: وصنيع اللّعب من العهن وَهُوَ الصُّوف الْأَحْمَر لصوم الصّبيان، وَلَعَلَّ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يعلم بذلك، وبعيد أَن يكون أَمر بذلك، لِأَنَّهُ تَعْذِيب صَغِير بِعبَادة شاقة غير متكررة فِي السّنة، ورد عَلَيْهِ بِمَا رَوَاهُ ابْن خُزَيْمَة من حَدِيث رزينة ( أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يَأْمر برضعائه فِي عَاشُورَاء، ورضعاء فَاطِمَة، فيتفل فِي أَفْوَاههم وَيَأْمُر أمهاتهم أَن لَا يرضعن إِلَى اللَّيْل) .
ورزينة، بِفَتْح الرَّاء وَكسر الزَّاي، كَذَا ضَبطه بَعضهم وَضَبطه شَيخنَا بِخَطِّهِ بِضَم الرَّاء،.

     وَقَالَ  الذَّهَبِيّ فِي ( تَجْرِيد الصَّحَابَة) : رزينة، خادمة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ومولاة زَوجته صَفِيَّة، رَوَت عَنْهَا ابْنَتهَا أمة الله، وروى أَبُو يعلى الْموصِلِي: حَدثنَا عبد الله بن عمر القواريري ( حَدَّثتنَا علية عَن أمهَا، قَالَت: قلت لأمة الله بنت رزينة يَا أمة الله حدثتك أمك رزينة أَنَّهَا سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يذكر صَوْم عَاشُورَاء؟ قَالَت: نعم، وَكَانَ يعظمه حَتَّى يَدْعُو برضعائه ورضعاء ابْنَته فَاطِمَة، فيتفل فِي أفواههن وَيَقُول للأمهات: لَا ترضعونهن إِلَى اللَّيْل) .
وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فَقَالَ علية بنت الْكُمَيْت عَن أمهَا أُمْنِية.

وَمِمَّا يُسْتَفَاد مِنْهُ أَن صَوْم عَاشُورَاء كَانَ فرضا قبل أَن يفْرض رَمَضَان.
وَفِيه: مَشْرُوعِيَّة تمرين الصّبيان.
وَفِيه: أَن الصَّحَابِيّ إِذا قَالَ فعلنَا كَذَا فِي عهد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَانَ حكمه الرّفْع لِأَن سُكُوته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن ذَلِك يدل على تقريرهم عَلَيْهِ، إِذْ لَو لم يكن رَاضِيا بذلك لأنكر عَلَيْهِم.