فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب ما يذكر من صوم النبي صلى الله عليه وسلم وإفطاره

( بابُُ مَا يُذْكَرُ مِنْ صَوْمِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وإفْطَارِهِ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان مَا يذكر من صَوْم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من التَّطَوُّع وَبَيَان إفطاره فِي خلال صَوْمه، قيل: لم يضف البُخَارِيّ التَّرْجَمَة الَّتِي قبل هَذِه للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وأطلقها ليفهم التَّرْغِيب للْأمة فِي الِاقْتِدَاء بِهِ فِي إكثار الصَّوْم فِي شعْبَان، وَقصد بِهَذِهِ التَّرْجَمَة شرح حَال النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي ذَلِك.
قلت: الْبابُُ السَّابِق أَيْضا فِي شرح حَال النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي صَوْمه وَصلَاته، غير أَنه أطلق التَّرْجَمَة فِي ذَلِك لإِظْهَار فضل شعْبَان وَفضل الصَّوْم فِيهِ.



[ قــ :1890 ... غــ :1971 ]
- حدَّثنا مُوسَى بنُ إسْمَاعِيلَ قَالَ حدَّثنا أبُو عَوَانَةَ عنْ أبِي بِشْرٍ عنْ سَعيدٍ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ مَا صَامَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شَهْرا كامِلاً قَطُّ غَيْرَ رَمَضَانَ ويَصُومُ حَتَّى يَقُولَ الْقَائِلُ لاَ وَالله لاَ يُفْطِرُ ويُفْطِرُ حَتَّى يَقُولَ الْقَائِلُ لاَ وَالله لاَ يَصُومُ.


مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ أَنه يبين صَوْمه وفطره.

ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: مُوسَى بن إِسْمَاعِيل أَبُو سَلمَة الْمنْقري التَّبُوذَكِي.
الثَّانِي: أَبُو عوَانَة، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَتَخْفِيف الْوَاو وَبعد الْألف نون، واسْمه: الوضاح بن عبد الله الْيَشْكُرِي.
الثَّالِث: أَبُو بشر، بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة: واسْمه جَعْفَر بن أبي وحشية إِيَاس الْيَشْكُرِي.
الرَّابِع: سعيد بن جُبَير.
الْخَامِس: عبد الله بن عَبَّاس.

ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين.
وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع.
وَفِيه: أَن شَيْخه بَصرِي وَشَيخ شَيْخه وَأَبا بشر واسطيان، وَقيل: أَبُو بشر بَصرِي وَسَعِيد بن جُبَير كُوفِي.
وَفِيه: أَبُو بشر عَن سعيد وَفِي رِوَايَة شُعْبَة حَدثنِي سعيد بن جُبَير، وَلمُسلم من طَرِيق عُثْمَان بن حَكِيم: سَأَلت سعيد بن جُبَير عَن صِيَام رَجَب؟ فَقَالَ: سَمِعت ابْن عَبَّاس ...
ذكر من أخرجه غَيره: أخرجه مُسلم فِي الصَّوْم عَن أبي الرّبيع الزهْرَانِي عَن أبي عوَانَة بِهِ، وَعَن مُحَمَّد بن بشار وَأبي بكر بن نَافِع، وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الشَّمَائِل عَن مَحْمُود بن غيلَان.
وَأخرجه النَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه جَمِيعًا فِيهِ عَن مُحَمَّد ابْن بشار بِهِ.

قَوْله: ( ويصوم) ، فِي رِوَايَة مُسلم من الطَّرِيق الَّتِي أخرجهَا البُخَارِيّ: ( وَكَانَ يَصُوم) .
قَوْله: ( غير رَمَضَان) ، قَالَ الْكرْمَانِي: تقدم أَنه كَانَ يَصُوم شعْبَان كُله، ثمَّ قَالَ: إِمَّا أَنه أَرَادَ بِالْكُلِّ معظمه، وَإِمَّا أَنه مَا رأى إلاَّ رَمَضَان، فَأخْبر بذلك على حسب اعْتِقَاده.





[ قــ :189 ... غــ :197 ]
- حدَّثني عَبْدُ العَزِيز بنُ عَبْدِ الله قالَ حدَّثني مُحَمَّدُ بنُ جَعْفَرٍ عنْ حُمَيْدٍ أنَّهُ سَمِعَ أنسا رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ يَقُولُ كانِ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُفْطِرُ مِنَ الشَّهْرِ حَتَّى نَظُنَّ أنْ لاَ يَصُومَ مِنْهُ ويَصُومُ حَتَّى نَظُنَّ أنْ لاَ يُفُطِرَ مِنْهُ شَيْئا وكانَ لَا تَشاءُ تَرَاهُ مِنَ اللَّيْلِ مُصَلِّيا إلاَّ رأيْتَهُ ولاَ نَائِما إلاَ رأيْتَهُ.

مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه يذكر عَن صَوْمه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَعَن إفطاره على الْوَجْه الْمَذْكُور فِيهِ.

وَرِجَاله أَرْبَعَة: عبد الْعَزِيز ابْن عبد الله بن يحيى أَبُو الْقَاسِم الْقرشِي العامري الأويسي الْمدنِي وَهُوَ من أَفْرَاد البُخَارِيّ، وَمُحَمّد بن جَعْفَر بن أبي كثير الْمدنِي، وَحميد الطَّوِيل الْبَصْرِيّ.

وَالْبُخَارِيّ أخرجه أَيْضا فِي صَلَاة اللَّيْل بِهَذَا الْإِسْنَاد بِعَيْنِه، وبعين هَذَا الْمَتْن، وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ، ونتكلم هُنَا لزِيَادَة التَّوْضِيح وَإِن كَانَ فِيهِ تكْرَار فَلَا بَأْس بِهِ.

قَوْله: ( حَتَّى نظن) فِيهِ ثَلَاثَة أوجه الأول: نظن، بنُون الْجمع، وَالثَّانِي: تظن، بتاء الْمُخَاطب، وَالثَّالِث: يظنّ، بِالْيَاءِ آخر الْحُرُوف على بِنَاء الْمَجْهُول.
قَوْله: ( أَن لَا يَصُوم) ، بِفَتْح همزَة: أَن، وَيجوز فِي يَصُوم الرّفْع وَالنّصب، لِأَن: أَن، إِمَّا ناصبة، و: لَا، نَافِيَة، وَإِمَّا مفسرة.
و: لَا ناهية.
قَوْله: ( وَكَانَ لَا تشاءُ ترَاهُ) أَي: كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا تشَاء، بتاء الْخطاب، وَكَذَلِكَ ترَاهُ.
وَقَوله: ( إلاَّ رَأَيْته) ، بِفَتْح التَّاء، وَمَعْنَاهُ: أَن حَاله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي التَّطَوُّع بالصيام وَالْقِيَام كَانَ يخْتَلف، فَكَانَ تَارَة يَصُوم من أول الشَّهْر، وَتارَة من وَسطه، وَتارَة من آخِره كَمَا كَانَ يُصَلِّي تَارَة من أول اللَّيْل وَتارَة من وَسطه وَتارَة من آخِره، فَكَانَ من أَرَادَ أَن يرَاهُ فِي وَقت من أَوْقَات اللَّيْل قَائِما، أَو فِي وَقت من أَوْقَات النَّهَار صَائِما، فراقبه مرّة بعد مرّة فَلَا بُد أَن يصادفه قَائِما أَو صَائِما على وفْق مَا أَرَادَ أَن يرَاهُ، وَهَذَا معنى الْخَبَر، وَلَيْسَ المُرَاد أَنه كَانَ يسْرد الصَّوْم، وَلَا أَنه كَانَ يستوعب اللَّيْل قَائِما.
.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: كَيفَ يُمكن أَنه مَتى شَاءَ يرَاهُ مُصَليا وَيَرَاهُ نَائِما.
ثمَّ قَالَ: غَرَضه أَنه كَانَت لَهُ حالتان يكثر هَذَا على ذَاك مرّة، وَبِالْعَكْسِ أُخْرَى؟ فَإِن قلت: يُعَارض هَذَا قَول عَائِشَة فِي الحَدِيث الَّذِي مضى قبله: ( وَكَانَ إِذا صلى صَلَاة دَامَ عَلَيْهَا) .
وَقَوله: الَّذِي سَيَأْتِي فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: ( وَكَانَ عمله دِيمَة) ؟ قلت: المُرَاد بِذَاكَ مَا اتَّخذهُ راتبا، لَا مُطلق النَّافِلَة.

وَقَالَ سُلَيْمَانُ عنْ حُمَيْدٍ أنَّهُ سَألَ أنَسا فِي الصَّوْمِ
قَالَ بَعضهم: كنت أَظن أَن سُلَيْمَان هَذَا هُوَ ابْن بِلَال لَكِن لم أره بعد التتبع التَّام من حَدِيثه فَظهر أَنه سُلَيْمَان بن حَيَّان أَبُو خَالِد الْأَحْمَر.
انْتهى.
قلت: هَذَا الْكرْمَانِي قَالَ: سُلَيْمَان هُوَ أَبُو خَالِد الْأَحْمَر ضد الْأَبْيَض من غير ظن وَلَا حسبان، وَلَو قَالَ مثل مَا قَالَه لم يحوجه شَيْء إِلَى مَا قَالَه، وَلكنه كَأَنَّهُ لما رأى كَلَام الْكرْمَانِي لم يعْتَمد عَلَيْهِ لقلَّة مبالاته، ثمَّ لما فتش بتتبع تَامّ ظهر لَهُ أَن الَّذِي قَالَه الْكرْمَانِي هُوَ هُوَ، وَفِي جملَة الْأَمْثَال: خبز الشّعير يُؤْكَل ويذم، وَقد وصل البُخَارِيّ هَذَا الَّذِي ذكره مُعَلّقا عقيب هَذَا، وَفِيه: ( سَأَلت أنسا عَن صِيَام النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) فَذكر الحَدِيث ثمَّ أتم من طَرِيق مُحَمَّد بن جَعْفَر فَإِن قلت: قد ذكرنَا تقدم هَذَا الحَدِيث فِي الصَّلَاة فِي: بابُُ قيام النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ونومه.
وَمَا نسخ من قيام اللَّيْل وَفِي آخِره، تَابعه سُلَيْمَان وَأَبُو خَالِد الْأَحْمَر عَن حميد، فَهَذَا يَقْتَضِي أَن سُلَيْمَان هَذَا غير أبي خَالِد للْعَطْف فِيهِ قلت: قَالَ بَعضهم: يحْتَمل أَن تكون الْوَاو زَائِدَة، وردَّينا عَلَيْهِ هُنَاكَ أَن زِيَادَة الْوَاو نادرة بِخِلَاف الأَصْل، سِيمَا الحكم بذلك بِالِاحْتِمَالِ، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ مُسْتَوفى.





[ قــ :1893 ... غــ :1973 ]
- حدَّثني مُحَمَّدٌ قَالَ أخبرَنَا أَبُو خالِدٍ الأحْمَرُ قَالَ أخبرنَا حُمَيْدٌ قَالَ سألْتُ أنسا رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ عنْ صِيَامِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ مَا كُنْتُ أُحِبُّ أنْ أرَاهُ مِنَ الشَّهْرِ صَائِما إلاَّ رأيْتُهُ ولاَ مُفْطِرا إلاَّ رَأيْتُهُ ولاَ مِنَ اللَّيْلِ قَائِما إلاَّ رَأيْتُهُ ولاَ نَائِما إلاَّ رَأيْتُهُ وَلاَ مَسِسْتُ خَزَّةً ولاَ حَرِيرَةً ألْيَنَ مِنْ كَفِّ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ولاَ شَمَمْتُ مِسْكَةً ولاَ عَبِيرَةً أطْيَبَ رَائِحَةً مِنْ رَائِحَةِ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة مثل مَا تقدم فِي الحَدِيث السَّابِق، وَمُحَمّد شَيْخه هُوَ ابْن سَلام نَص عَلَيْهِ الْحَافِظ الْمزي فِي ( الْأَطْرَاف) وَأَبُو خَالِد الْأَحْمَر هُوَ سُلَيْمَان بن حَيَّان.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الصَّلَاة.

قَوْله: ( أحب أَن أرَاهُ) كلمة: أَن، مَصْدَرِيَّة أَي: مَا كنت أحب رُؤْيَته من الشَّهْر حَال كَونه صَائِما إلاَّ رَأَيْته.
قَوْله: ( وَلَا مفطر ا) أَي: وَلَا كنت أحب أَن أرَاهُ حَال كَونه مُفطرا، إلاَّ رَأَيْته.
قَوْله: ( وَلَا من اللَّيْل قَائِما) أَي: وَلَا كنت أحب أَن أرَاهُ من اللَّيْل حَال كَونه قَائِما إلاَّ رَأَيْته، وَكَذَلِكَ التَّقْدِير فِي قَوْله: ( وَلَا نَائِما) من النّوم.
قَوْله: ( وَلَا مسست) ، بسينين مهملتين أولاهما مَكْسُورَة وَهِي اللُّغَة الفصيحة، وَحكى أَبُو عُبَيْدَة الْفَتْح، يُقَال: مسست الشَّيْء أمسه مسا: إِذا لمسته بِيَدِك، وَيُقَال: مست فِي مسست بِحَذْف السِّين الأولى، وتحويل كسرتها إِلَى الْمِيم، وَمِنْهُم من يقر فتحتها بِحَالِهَا فَيَقُول: مست، كَمَا يُقَال: ظلت فِي ظللت.
قَوْله: ( خزة) ، وَاحِدَة الْخَزّ.
وَفِي الأَصْل: الْخَزّ، بِالْفَتْح وَتَشْديد الزَّاي: اسْم دَابَّة، ثمَّ سمي الثَّوْب الْمُتَّخذ من وبره خَزًّا، والواحدة مِنْهُ: خزة.
.

     وَقَالَ  ابْن الْأَثِير: الْخَزّ الْمَعْرُوف أَولا ثِيَاب تنسج من صوف وإبريسم، وَهِي مباجة، وَقد لبسهَا الصَّحَابَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، والتابعون، وَمِنْه النَّوْع الآخر وَهُوَ الْمَعْرُوف الْآن فَهُوَ حرَام لِأَن جَمِيعه مَعْمُول من الإبريسم، وَهُوَ المُرَاد من الحَدِيث.
( قوم يسْتَحلُّونَ الْخَزّ وَالْحَرِير) .
قَوْله: ( وَلَا شممت) ، بِكَسْر الْمِيم الأولى،.

     وَقَالَ  أَبُو عُبَيْدَة: وَالْفَتْح لُغَة.

ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: اسْتِحْبابُُ التَّنَفُّل بِاللَّيْلِ.
وَفِيه: اسْتِحْبابُُ التَّنَفُّل بِالصَّوْمِ فِي كل شهر وَأَن الصَّوْم النَّفْل مُطلق لَا يخْتَص بِزَمَان إِلَّا مَا نهي عَنهُ.
وَفِيه: أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لم يصم الدَّهْر وَلَا قَامَ اللَّيْل كُله، وَإِنَّمَا ترك ذَلِك لِئَلَّا يقْتَدى بِهِ فَيشق على الْأمة، وَإِن كَانَ قد أعطي من الْقُوَّة مَا لَو الْتزم ذَلِك لاقتدر عَلَيْهِ، لكنه سلك من الْعِبَادَة الطَّرِيقَة الْوُسْطَى فصَام وَأفْطر وَأقَام ونام.
وَأما طيب رَائِحَته، فَإِنَّمَا طيبها الرب عز وَجل لمباشرته الْمَلَائِكَة ولمناجاته لَهُم.