فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب التماس ليلة القدر في السبع الأواخر

(بابُُ الْتِماسِ لَيْلَةِ القَدْرِ فِي السَّبْعِ الأوَاخِرِ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان أَن التمَاس أَي طلب لَيْلَة الْقدر يَنْبَغِي أَن يكون فِي السَّبع الْأَوَاخِر، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: بابُُ التمسوا لَيْلَة الْقدر، بِصِيغَة الْأَمر، وَلَفظ: بابُُ، فِيهِ منون تَقْدِيره: هَذَا بابُُ يذكر فِيهِ التمسوا، وَهَهُنَا ثَلَاثَة أَسْبَاع: السَّبع الْأَوَائِل فِي الْعشْر الأول من الشَّهْر، والسبع الأواسط فِي الْعشْر الثَّانِي، والسبع الْأَوَاخِر فِي الْعشْر الْأَخير مِنْهُ، وَيكون طلبَهَا فِي الْحَادِي وَالْعِشْرين، وَالثَّالِث وَالْعِشْرين، وَالْخَامِس وَالْعِشْرين، وَالسَّابِع وَالْعِشْرين.
وَجَاء: (اطلبوها فِي الْعشْر الْأَوَاخِر) فَتدخل فِيهَا لَيْلَة التَّاسِع وَالْعِشْرين.



[ قــ :1933 ... غــ :2015 ]
- حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرَنَا مالِكٌ عنْ نافَعٍ عنِ ابنِ عُمرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أنَّ رِجَالاً مِنْ أصْحَابِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أُرُوا لَيْلَةَ القَدْرِ فِي المَنامِ فِي السَّبْعِ الأواخِرِ فَقَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أرى رُؤْيَاكُمْ قَدْ تَوَاطَأتْ فِي السَّبْعِ الأوَاخِرِ فَمَنْ كانَ مُتَحَرِّيهَا فلْيَتَحَرَّهَا فِي السَّبْعِ الأوَاخِرِ.
(انْظُر الحَدِيث 8511 وطرفه) .


مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فليتحرها فِي السَّبع الْأَوَاخِر) .

والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الصَّوْم أَيْضا عَن يحيى بن يحيى، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الرُّؤْيَا عَن مُحَمَّد بن سَلمَة والْحَارث بن مِسْكين، كِلَاهُمَا عَن ابْن الْقَاسِم عَن مَالك بِهِ.

قَوْله: (أروا) بِضَم الْهمزَة، مَجْهُول فعل مَاض من الإراءة،.

     وَقَالَ  بَعضهم: أَي: قيل لَهُم فِي الْمَنَام: فِي السَّبع الْأَوَاخِر.
قلت: هَذَا التَّفْسِير لَيْسَ بِصَحِيح، لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَن نَاسا قَالُوا لَهُم إِن لَيْلَة الْقدر فِي السَّبع الْأَوَاخِر، وَلَيْسَ هَذَا تَفْسِير قَوْله: (أروا لَيْلَة الْقدر فِي الْمَنَام) ، بل تَفْسِيره أَن نَاسا أروهم إِيَّاهَا فَرَأَوْا، وعَلى تَفْسِير هَذَا الْقَائِل أخبروا بِأَنَّهَا فِي السَّبع الْأَوَاخِر، وَلَا يسْتَلْزم هَذَا رُؤْيَتهمْ.
قَوْله: (فِي السَّبع الْأَوَاخِر) ، لَيْسَ ظرفا للإراءة، قَالَه الْكرْمَانِي، وَسكت، وَمَعْنَاهُ: إِنَّه صفة لقَوْله: (فِي الْمَنَام) ، أَي: فِي الْمَنَام الْوَاقِع أَو الْكَائِن فِي السَّبع الْأَوَاخِر.
قَوْله: (قد تواطأت) أَي: توافقت، وأصل الْكَلِمَة بِالْهَمْزَةِ، وَفِي رِوَايَة البُخَارِيّ فِي التَّعْبِير من طَرِيق الزُّهْرِيّ (عَن سَالم عَن أَبِيه أَن نَاسا أروا لَيْلَة الْقدر فِي السَّبع الْأَوَاخِر، وَأَن نَاسا أروا أَنَّهَا فِي الْعشْر الْأَوَاخِر، فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (التمسوها فِي السَّبع الْأَوَاخِر) ، وَلم يقل: فِي الْعشْر الْأَوَاخِر، لِأَنَّهُ كَأَنَّهُ نظر إِلَى الْمُتَّفق عَلَيْهِ من الرؤيتين، فَأمر بِهِ.
قَوْله: (فَمن كَانَ متحريها) أَي: طالبها وقاصدها، لِأَن التَّحَرِّي الْقَصْد وَالِاجْتِهَاد فِي الطّلب، ثمَّ إِن هَذَا الحَدِيث دلّ على أَن لَيْلَة الْقدر فِي السَّبع الْأَوَاخِر لَكِن من غير تعْيين.

وَقد اخْتلف الْعلمَاء فِيهَا، فَقيل: هِيَ أول لَيْلَة من رَمَضَان.
وَقيل: لَيْلَة سبع عشرَة.
وَقيل: لَيْلَة ثَمَان عشرَة.
وَقيل: لَيْلَة تسع عشرَة.
وَقيل: لَيْلَة إِحْدَى وَعشْرين.
وَقيل: ثَلَاث وَعشْرين.
وَقيل: لَيْلَة خمس وَعشْرين.
وَقيل: لَيْلَة سبع وَعشْرين.
وَقيل: لَيْلَة تسع وَعشْرين.
وَقيل: آخر لَيْلَة من رَمَضَان.
وَقيل: فِي أشفاع هَذِه الْأَفْرَاد.
وَقيل: فِي السّنة كلهَا.
وَقيل: جَمِيع شهر رَمَضَان.
وَقيل: يتَحَوَّل فِي ليَالِي الْعشْر كلهَا.
وَذهب: أَبُو حنيفَة إِلَى أَنَّهَا فِي رَمَضَان، تتقدم وتتأخر.
وَعند أبي يُوسُف وَمُحَمّد: لَا تتقدم وَلَا تتأخر، لَكِن غير مُعينَة.
وَقيل: هِيَ عِنْدهمَا فِي النّصْف الْأَخير من رَمَضَان.
وَعند الشَّافِعِي فِي الْعشْر الْأَخير لَا تنْتَقل وَلَا تزَال إِلَى يَوْم الْقِيَامَة.
.

     وَقَالَ  أَبُو بكر الرَّازِيّ: هِيَ غير مَخْصُوصَة بِشَهْر من الشُّهُور، وَبِه قَالَ الحنفيون، وَفِي (قاضيخان) : الْمَشْهُور عَن أبي حنيفَة أَنَّهَا تَدور فِي السّنة كلهَا، وَقد تكون فِي رَمَضَان، وَقد تكون فِي غَيره، وَصَحَّ ذَلِك عَن ابْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس وَعِكْرِمَة وَغَيرهم، وَقد زيف الْمُهلب هَذَا القَوْل.
.

     وَقَالَ : لَعَلَّ صَاحبه بناه على دوران الزَّمَان لنُقْصَان الْأَهِلّة، وَهُوَ فَاسد، لِأَن ذَلِك لم يعْتَبر فِي صِيَام رَمَضَان، فَلَا يعْتَبر فِي غَيره حَتَّى تنْتَقل لَيْلَة الْقدر عَن رَمَضَان انْتهى.
قلت: تزييفه هَذَا القَوْل فَاسد، لِأَن قَصده تزييف قَول الْحَنَفِيَّة، وَلَا يدْرِي أَنه فِي نفس الْأَمر تزييف قَول ابْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس، وَهَذَا جرْأَة مِنْهُ، وَمَعَ هَذَا ماخذ ابْن مَسْعُود كَمَا ثَبت فِي (صَحِيح مُسلم) عَن أبي بن كَعْب أَنه أَرَادَ أَن لَا يتكل النَّاس،.

     وَقَالَ  الإِمَام نجم الدّين أَبُو حَفْص عمر النَّسَفِيّ فِي منظومته:
(وَلَيْلَة الْقدر بِكُل الشَّهْر ... دَائِرَة وعيناها فأدر)

وَذهب ابْن الزبير إِلَى لَيْلَة سبع عشرَة، وَأَبُو سعيد الْخُدْرِيّ إِلَى أَنَّهَا لَيْلَة إِحْدَى وَعشْرين، وَإِلَيْهِ ذهب الشَّافِعِي، وَعَن عبد الله بن أنيس: لَيْلَة ثَلَاث وَعشْرين، وَعَن ابْن عَبَّاس وَغَيره من جمَاعَة من الصَّحَابَة: لَيْلَة سبع وَعشْرين، وَعَن بِلَال: لَيْلَة أَربع وَعشْرين، وَعَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: لَيْلَة تسع عشرَة.
وَقيل: هِيَ فِي الْعشْر الْأَوْسَط وَالْعشر الْأَخير.
وَقيل: فِي أشفاع الْعشْر الْأَوَاخِر.
وَقيل: فِي النّصْف من شعْبَان.

وَقَالَ الشِّيعَة: إِنَّهَا رفعت، وَكَذَا حكى الْمُتَوَلِي فِي (التَّتِمَّة) عَن الروافض، وَكَذَا حكى الْفَاكِهَانِيّ فِي (شرح الْعُمْدَة) عَن الْحَنَفِيَّة.
قلت: هَذَا النَّقْل عَن الْحَنَفِيَّة غير صَحِيح، وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (التمسوها فِي كَذَا وَكَذَا) يرد عَلَيْهِم، وَقد روى عبد الرَّزَّاق من طَرِيق دَاوُد بن أبي عَاصِم عَن عبد الله بن خُنَيْس: قلت لأبي هُرَيْرَة: زَعَمُوا أَن لَيْلَة الْقدر رفعت؟ قَالَ: كذب من قَالَ ذَلِك،.

     وَقَالَ  ابْن حزم: فَإِن كَانَ الشَّهْر تسعا وَعشْرين، فَهِيَ فِي أول الْعشْر الْأَخير بِلَا شكّ، فَهِيَ إِمَّا فِي لَيْلَة عشْرين أَو لَيْلَة إثنين وَعشْرين أَو لَيْلَة أَربع وَعشْرين، أول لَيْلَة سِتّ وَعشْرين، أَو لَيْلَة ثَمَان وَعشْرين.
وَإِن كَانَ الشَّهْر ثَلَاثِينَ فَأول الْعشْر الْأَوَاخِر بِلَا شكّ، إِمَّا لَيْلَة إِحْدَى وَعشْرين، أَو لَيْلَة ثَلَاث وَعشْرين، أَو لَيْلَة خمس أَو لَيْلَة سبع أَو لَيْلَة تسع وَعشْرين فِي وترها.
وَعَن ابْن مَسْعُود: أَنَّهَا لَيْلَة سبع عشرَة من رَمَضَان، لَيْلَة بدر، وَحَكَاهُ ابْن أبي عَاصِم أَيْضا عَن زيد بن أَرقم.

وَقيل: إِن لَيْلَة الْقدر خَاصَّة بِسنة وَاحِدَة، وَقعت فِي زمن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَحَكَاهُ الفاكهي.
وَقيل: خَاصَّة بِهَذِهِ الْأمة، وَلم تكن فِي الْأُمَم قبلهم، جزم بِهِ ابْن حبيب وَغَيره من الْمَالِكِيَّة، وَنَقله عَن الْجُمْهُور صَاحب (الْعدة) من الشَّافِعِيَّة وَرجحه، وَيرد عَلَيْهِم مَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ من حَدِيث أبي ذَر حَيْثُ قَالَ فِيهِ: (قلت: يَا رَسُول الله! أتكون مَعَ الْأَنْبِيَاء فَإِذا مَاتُوا رفعت؟ قَالَ: بل هِيَ بَاقِيَة) .
فَإِن قلت: روى مَالك فِي (الْمُوَطَّأ) : بَلغنِي أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تقاصر أَعمار أمته عَن أَعمار الْأُمَم الْمَاضِيَة.
فَأعْطَاهُ الله تَعَالَى لَيْلَة الْقدر.
قلت: هَذَا مُحْتَمل للتأويل، فَلَا يدْفع الصَّرِيح فِي حَدِيث أبي ذَر، وَذكر بَعضهم فِيهَا خَمْسَة وَأَرْبَعين قولا، وأكثرها يتداخل، وَفِي الْحَقِيقَة يقرب من خَمْسَة وَعشْرين.
فَإِن قلت: مَا وَجه هَذِه الْأَقْوَال؟ قلت: مَفْهُوم الْعدَد لَا اعْتِبَار لَهُ، فَلَا مُنَافَاة.
وَعَن الشَّافِعِي: وَالَّذِي عِنْدِي أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يُجيب على نَحْو مَا يسْأَل عَنهُ، يُقَال لَهُ: نلتمسها فِي لَيْلَة كَذَا؟ فَيَقُول: التمسوها فِي لَيْلَة كَذَا.
وَقيل: إِن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لم يحدث بميقاتها جزما، فَذهب كل وَاحِد من الصَّحَابَة بِمَا سَمعه، والذاهبون إِلَى سبع وَعشْرين هم الْأَكْثَرُونَ.




[ قــ :1934 ... غــ :016 ]
- ( حَدثنَا معَاذ بن فضَالة قَالَ حَدثنَا هِشَام عَن يحيى عَن أبي سَلمَة قَالَ سَأَلت أَبَا سعيد وَكَانَ لي صديقا فَقَالَ اعتكفنا مَعَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْعشْر الْأَوْسَط من رَمَضَان فَخرج صَبِيحَة عشْرين فَخَطَبنَا.

     وَقَالَ  إِنِّي أريت لَيْلَة الْقدر ثمَّ أنسيتها أَو نسيتهَا فالتمسوها فِي الْعشْر الْأَوَاخِر فِي الْوتر وَإِنِّي رَأَيْت أَنِّي أَسجد فِي مَاء وطين فَمن كَانَ اعْتكف مَعَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَليرْجع فرجعنا وَمَا نرى فِي السَّمَاء قزعة فَجَاءَت سَحَابَة فمطرت حَتَّى سَالَ سقف الْمَسْجِد وَكَانَ من جريد النّخل وأقيمت الصَّلَاة فَرَأَيْت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يسْجد فِي المَاء والطين حَتَّى رَأَيْت أثر الطين فِي جَبهته)
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله " فالتمسوها فِي الْعشْر الْأَوَاخِر " وَهَذَا الحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ فِي مَوَاضِع مُتعَدِّدَة مِنْهَا فِي كتاب الصَّلَاة فِي بابُُ السُّجُود على الْأنف فِي الطين فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن مُوسَى عَن همام بن يحيى عَن أبي سَلمَة وَهنا أخرجه عَن معَاذ بن فضَالة بِفَتْح الْفَاء وَتَخْفِيف الضَّاد الْمُعْجَمَة عَن هِشَام الدستوَائي عَن يحيى بن أبي كثير عَن أبي سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن وَقد مر الْكَلَام فِيهِ فِي بابُُ السُّجُود على الْأنف فِي الطين ونتكلم أَيْضا زِيَادَة للْبَيَان فَقَوله " أَبَا سعيد " هُوَ الْخُدْرِيّ واسْمه سعد بن مَالك وَهنا لم يذكر المسؤل عَنهُ فِي هَذِه الطَّرِيق وَفِي رِوَايَة عَليّ بن الْمُبَارك تَأتي فِي الِاعْتِكَاف " سَأَلت أَبَا سعيد هَل سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يذكر لَيْلَة الْقدر فَقَالَ نعم " فَذكر الحَدِيث وَفِي رِوَايَة مُسلم من طَرِيق معمر عَن يحيى تَذَاكرنَا لَيْلَة الْقدر فِي نفر من قُرَيْش فَأتيت أَبَا سعيد فَذكره وَفِي رِوَايَة همام عَن يحيى فِي بابُُ السُّجُود فِي المَاء والطين من صفة الصَّلَاة " انْطَلَقت إِلَى أبي سعيد فَقلت أَلا تخرج بِنَا إِلَى النّخل نتحدث فَخرج فَقلت حَدثنِي مَا سَمِعت من النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي لَيْلَة الْقدر " فَأفَاد بَيَان سَبَب السُّؤَال قَوْله " اعتكفنا مَعَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْعشْر الْأَوْسَط " هَكَذَا وَقع فِي أَكثر الرِّوَايَات وَالْمرَاد من الْعشْر اللَّيَالِي وَكَانَ من حَقّهَا أَن تُوصَف بِلَفْظ التَّأْنِيث لِأَن الْمَشْهُور فِي الِاسْتِعْمَال تَأْنِيث الْعشْر وَأما تذكيره فَهُوَ بِاعْتِبَار الْوَقْت أَو الزَّمَان وَوَقع فِي الْمُوَطَّأ الْعشْر الْوسط بِضَم الْوَاو وَفتح السِّين جمع وسطى مثل كبر وكبرى وَرَوَاهُ الْبَاجِيّ فِي الْمُوَطَّأ بإسكانها على أَنه جمع وَاسِط كبازل وبزل وَوَقع فِي رِوَايَة مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم فِي الْبابُُ الَّذِي يَلِيهِ كَانَ يُجَاوز الْعشْر الَّتِي فِي وسط الشَّهْر وَفِي رِوَايَة مَالك الْآتِيَة فِي أول الِاعْتِكَاف كَانَ يعْتَكف وَفِي رِوَايَة لمُسلم من طَرِيق أبي نَضرة " عَن أبي سعيد اعْتكف الْعشْر الْأَوْسَط من رَمَضَان يلْتَمس لَيْلَة الْقدر قبل أَن تبان لَهُ قَالَ فَلَمَّا انقضين أَمر بِالْبِنَاءِ فقوض ثمَّ أبينت لَهُ أَنَّهَا فِي الْعشْر الْأَوَاخِر فَأمر بِالْبِنَاءِ فأعيد " وَزَاد فِي رِوَايَة عمَارَة بن غزيَّة عَن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم أَنه اعْتكف الْعشْر الأول ثمَّ اعْتكف الْعشْر الْأَوْسَط ثمَّ اعْتكف الْعشْر الْأَوَاخِر وَمثله فِي رِوَايَة همام الْمَذْكُورَة وَزَاد فِيهَا أَن جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام أَتَاهُ فِي الْمَرَّتَيْنِ فَقَالَ لَهُ إِن الَّذِي تطلب أمامك " بِفَتْح الْهمزَة أَي قدامك قَالَ الطَّيِّبِيّ وصف الأول والأوسط بالمفرد والأخير بِالْجمعِ إِشَارَة إِلَى تصور لَيْلَة الْقدر فِي كل لَيْلَة من ليَالِي الْعشْر الْأَخير دون الْأَوَّلين قَوْله " فَخرج صَبِيحَة عشْرين فَخَطَبنَا " ( فَإِن قلت) يشكل على هَذَا رِوَايَة مَالك من حَدِيث أبي سعيد على مَا يَأْتِي فَإِن فِيهِ كَانَ " يعْتَكف فِي الْعشْر الْأَوْسَط من رَمَضَان فاعتكف عَاما حَتَّى إِذا كَانَ لَيْلَة إِحْدَى وَعشْرين وَهِي اللَّيْلَة الَّتِي يخرج من صبيحتها من اعْتِكَافه " ( قلت) معنى قَوْله " وَهِي اللَّيْلَة الَّتِي يخرج من صبيحتها أَي من الصُّبْح الَّذِي قبلهَا فَيكون فِي إِضَافَة الصُّبْح إِلَيْهَا تجوز ويوضحه أَن فِي رِوَايَة الْبابُُ الَّذِي يَلِيهِ " فَإِذا كَانَ حِين يُمْسِي من عشْرين لَيْلَة تمْضِي وتستقبل إِحْدَى وَعشْرين رَجَعَ إِلَى مَسْكَنه " قَوْله ".

     وَقَالَ  إِنِّي أريت " على صِيغَة الْمَجْهُول من الرُّؤْيَا أَي أعلمت بهَا أَو من الرُّؤْيَة أَي أبصرتها وَإِنَّمَا أرى علامتها وَهُوَ السُّجُود فِي المَاء والطين كَمَا وَقع فِي رِوَايَة همام فِي بابُُ السُّجُود على الْأنف فِي الطين قَوْله " ثمَّ أنسيتها " من الإنساء قَوْله " أَو نسيتهَا " شكّ من الرَّاوِي من التنسية فَالْأول من بابُُ الْأَفْعَال وَالثَّانِي من بابُُ التفعيل وَالْمعْنَى أَنه أنسى علم تَعْيِينهَا فِي تِلْكَ السّنة وَسَيَأْتِي سَبَب النسْيَان فِي حَدِيث عبَادَة بن الصَّامِت رَضِي الله عَنهُ بعد بابُُ.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي وأنسيتها وَفِي بَعْضهَا من النسْيَان ثمَّ قَالَ ( فَإِن قلت) إِذا جَازَ النسْيَان فِي هَذِه الْمَسْأَلَة جَازَ فِي غَيرهَا فَيفوت مِنْهُ التَّبْلِيغ إِلَى الْأمة ( قلت) نِسْيَان الْأَحْكَام الَّتِي يجب عَلَيْهِ التَّبْلِيغ لَهَا لَا يجوز وَلَو جَازَ وَوَقع لذكره الله تَعَالَى قَوْله " فِي الْوتر " أَي أوتار اللَّيَالِي كليلة الْحَادِي وَالْعِشْرين وَالثَّالِث وَالْعِشْرين لَا فِي إشفاعها قَوْله " إِنِّي أَسجد " وَفِي رِوَايَة الْكشميهني " أَن أَسجد " قَوْله " فَليرْجع " أَي إِلَى مُعْتَكفه فِي الْعشْر الْأَوْسَط لأَنهم كَانُوا معتكفين فِي الْعشْر الْمُتَقَدّم على الْعشْر الْأُخَر قَوْله " قزعة " بِفَتْح الْقَاف وَالزَّاي وَالْعين الْمُهْملَة وَهِي الْقطعَة الرقيقة من السَّحَاب قَوْله " فمطرت " بالفتحات وَيَأْتِي فِي الْبابُُ الَّذِي يَلِيهِ من وَجه آخر " فاستهلت السَّمَاء فأمطرت " قَوْله " حَتَّى سَالَ سقف الْمَسْجِد " وَفِيه مجَاز من قبيل ذكر الْمحل وَإِرَادَة الْحَال كَمَا يُقَال سَالَ الْوَادي وَفِي رِوَايَة مَالك " فوكف الْمَسْجِد " أَي قطر المَاء من سقفه قَوْله " وَكَانَ من جريد النّخل " الجريد سعف النّخل سميت بِهِ لِأَنَّهُ قد جرد عَنهُ خوصه ( ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ) فِيهِ ترك مسح جبهة الْمُصَلِّي من أثر التُّرَاب؛ وَفِيه جَوَاز السُّجُود فِي الطين، وَفِيه الْأَمر بِطَلَب الأولى والإرشاد إِلَى تَحْصِيل الْأَفْضَل، وَفِيه أَن النسْيَان جَائِز على النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَكِن لَا فِي الْأَحْكَام كَمَا مر ذكره.
وَفِيه جَوَاز اسْتِعْمَال لفظ رَمَضَان بِدُونِ ذكر شهر وَفِيه اسْتِحْبابُُ الِاعْتِكَاف وترجيحه فِي الْعشْر الْأَخير.
وَفِيه ترَتّب الحكم على رُؤْيا الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام وَفِيه تَقْدِيم الْخطْبَة على التَّعْلِيم وتقريب الْبعيد فِي الطَّاعَة وتسهيل الْمَشَقَّة فِيهَا بِحسن التلطف والتدريج إِلَيْهَا -