فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب الاعتكاف في العشر الأواخر، والاعتكاف في المساجد كلها

(كِتَابُ الاعتِكَافُ)
أَي: هَذَا كتاب فِي بَيَان الِاعْتِكَاف وأحواله، وَهَذَا بالبسملة، وَلَفظ: الْكتاب، فِي رِوَايَة النَّسَفِيّ، وَلم يَقع هَذَا فِي رِوَايَة غَيره إلاَّ فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي، وَقعت الْبَسْمَلَة بعد قَوْله: أَبْوَاب الِاعْتِكَاف، وَهُوَ فِي اللُّغَة: اللّّبْث مُطلقًا.
وَيُقَال: الِاعْتِكَاف والعكوف: الْإِقَامَة على الشَّيْء، وبالمكان ولزومها فِي اللُّغَة، وَمِنْه يُقَال لمن لَازم الْمَسْجِد: عاكف ومعتكف، هَكَذَا ذكره ابْن الْأَثِير.
فِي (النِّهَايَة) .
وَفِي (الْمُغنِي) : هُوَ لُزُوم الشَّيْء وَحبس النَّفس عَلَيْهِ برا كَانَ أَو غَيره، وَمِنْه قَوْله تعالي: { مَا هَذِه التماثيل الَّتِي أَنْتُم لَهَا عاكفون} (الْأَنْبِيَاء: 25) .
وَقَوله تَعَالَى: { يعكفون على أصنام لَهُم} (الْأَعْرَاف: 831) .
وَقَوله تَعَالَى: { وَانْظُر إِلَى إلاهك الَّذِي ظلت عَلَيْهِ عاكفا} (طه: 79) .
وَفِي الشَّرْع: الِاعْتِكَاف الْإِقَامَة فِي الْمَسْجِد واللبث فِيهِ على وَجه التَّقَرُّب إِلَى الله تَعَالَى على صفة يَأْتِي ذكرهَا، قَالَ الْجَوْهَرِي: عكفه أَي: حَبسه، يعكفه بِضَم عينهَا وَكسرهَا عكفا، وَعَكَفَ على الشَّيْء يعكف عكوفا، أَي: أقبل عَلَيْهِ مواظبا يسْتَعْمل لَازِما، فمصدره عكوف، ومتعديا فمصدره عكف، وَالِاعْتِكَاف مُسْتَحبّ.
قَالَه فِي بعض كتب أَصْحَابنَا.
وَفِي (الْمُحِيط) : سنة مُؤَكدَة.
وَفِي (الْمَبْسُوط) : قربَة مَشْرُوعَة.
وَفِي (منية الْمُفْتِي) : سنة.
وَقيل: قربَة.
وَفِي (التَّوْضِيح) : قَامَ الْإِجْمَاع على أَن الِاعْتِكَاف لَا يجب إلاَّ بِالنذرِ.
فَإِن قلت: كَانَ الزُّهْرِيّ يَقُول: عجبا من النَّاس كَيفَ تركُوا الِاعْتِكَاف، وَرَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَانَ يفعل الشَّيْء ويتركه، وَمَا ترك الِاعْتِكَاف حَتَّى قبض قلت: قَالَ أَصْحَابنَا: إِن أَكثر الصَّحَابَة لم يعتكفوا.
.

     وَقَالَ  مَالك: لم يبلغنِي أَن أَبَا بكر وَعمر وَعُثْمَان وَابْن الْمسيب، وَلَا أحدا من سلف هَذِه الْأَئِمَّة اعْتكف، إلاَّ أَبَا بكر بن عبد الرَّحْمَن، وأراهم تَرَكُوهُ لِشِدَّتِهِ، لِأَن ليله ونهاره سَوَاء، وَفِي (الْمَجْمُوعَة) للمالكية: تَرَكُوهُ لِأَنَّهُ مَكْرُوه فِي حَقهم، إِذْ هُوَ كالوصال الْمنْهِي، وَأَقل الِاعْتِكَاف نفلا يَوْم عِنْد أبي حنيفَة، وَبِه قَالَ مَالك، وَعند أبي يُوسُف: أَكثر الْيَوْم، وَعند مُحَمَّد: سَاعَة، وَبِه قَالَ الشَّافِعِي وَأحمد فِي رِوَايَة.
وَحكى أَبُو بكر الرَّازِيّ عَن مَالك: أَن مُدَّة الِاعْتِكَاف عشرَة أَيَّام.
فَيلْزم بِالشُّرُوعِ ذَلِك، فِي (الْجلاب) : أَقَله يَوْم، وَالِاخْتِيَار عشرَة أَيَّام.
وَفِي (الْإِكْمَال) : اسْتحبَّ مَالك أَن يكون أَكْثَره عشرَة أَيَّام، وَهَذَا يرد نقل الرَّازِيّ عَنهُ.
.

     وَقَالَ  أَبُو البركات بن تَيْمِية الْحَنْبَلِيّ:.

     وَقَالَ ت الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة وأتباعهم: الصَّوْم من شَرط الِاعْتِكَاف الْوَاجِب، وَهُوَ مَذْهَب عَليّ وَابْن عمر وَابْن عَبَّاس وَعَائِشَة وَالشعْبِيّ وَالنَّخَعِيّ وَمُجاهد وَالقَاسِم بن مُحَمَّد وَنَافِع وَابْن الْمسيب وَالْأَوْزَاعِيّ وَالزهْرِيّ وَالثَّوْري وَالْحسن بن حَيّ.
.

     وَقَالَ  عبد الله بن مَسْعُود وطاووس وَعمر بن عبد الْعَزِيز وَأَبُو ثَوْر وَدَاوُد وَإِسْحَاق وَأحمد، فِي رِوَايَة: إِن الصَّوْم لَيْسَ بِشَرْط فِي الْوَاجِب وَالنَّفْل، وَبِه قَالَ الشَّافِعِي وَأحمد، وَمَا ذكره أَبُو البركات قَول قديم للشَّافِعِيّ، وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: لَيْسَ على الْمُعْتَكف صَوْم إلاَّ أَن يَجعله على نَفسه، وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ، قَالَ: وَرَفعه أَبُو بكر مُحَمَّد بن إِسْحَاق السُّوسِي وَغَيره.
لَا يرفعهُ، وَهُوَ شيخ الدَّارَقُطْنِيّ، لكنه خَالف الْجَمَاعَة فِي رَفعه مَعَ أَن النَّافِي لَا يحْتَاج إِلَى دَلِيل، واحتجت الطَّائِفَة الأولى بِحَدِيث عَائِشَة الَّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَفِيه: لَا اعْتِكَاف إلاَّ بِصَوْم، وَالْمرَاد بِهِ الِاعْتِكَاف فِي الْوَاجِب.
وَعند الْحَنَفِيَّة: الصَّوْم شَرط لصِحَّة الْوَاجِب مِنْهُ رِوَايَة وَاحِدَة، ولصحة التَّطَوُّع فِيمَا روى الْحسن عَن أبي حنيفَة، فَلذَلِك قَالَ: أَقَله يَوْم، وَالْمرَاد بِهِ الِاعْتِكَاف مُطلقًا عِنْد أَصْحَابنَا، لِأَن من شَرط الِاعْتِكَاف الصَّوْم مُطلقًا.
فَإِن قلت: روى البُخَارِيّ على مَا يَأْتِي: (أَن عمر سَأَلَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: كنت نذرت فِي الْجَاهِلِيَّة أَن أعتكف لَيْلَة فِي الْمَسْجِد الْحَرَام؟ قَالَ: فأوف بِنَذْرِك) ، فَهَذَا يدل على جَوَاز الِاعْتِكَاف بِغَيْر صَوْم، لِأَن اللَّيْل لَا يصلح ظرفا للصَّوْم.
قلت: عِنْد مُسلم يَوْمًا بدل لَيْلَة، وَأَيْضًا روى النَّسَائِيّ (أَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: يَا رَسُول الله! إِنِّي نذرت أَن أعتكف فِي الْجَاهِلِيَّة، فَأمره رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَن يعْتَكف ويصوم) .
وَأَيْضًا هَذَا مَحْمُول على أَنه كَانَ نذر يَوْمًا وَلَيْلَة، بِدَلِيل أَن فِي لفظ مُسلم عَن ابْن عمر: أَنه جعل على نَفسه يَوْمًا يعتكفه، فَقَالَ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أوف بِنَذْرِك.
.

     وَقَالَ  ابْن بطال: أصل الحَدِيث: قَالَ عمر: إِنِّي نذرت أَن أعتكف يَوْمًا وَلَيْلَة فِي الْجَاهِلِيَّة، فَنقل بعض الروَاة ذكر اللَّيْلَة وَحدهَا، وَيجوز للراوي أَن ينْقل بعض مَا سمع.
وَفِي (الذَّخِيرَة) : أَن الصَّوْم كَانَ فِي أول الْإِسْلَام بِاللَّيْلِ، وَلَعَلَّ ذَلِك كَانَ قبل نسخه.
.

     وَقَالَ  النَّوَوِيّ: قد تقرر أَن النّذر الْجَارِي فِي الْكفْر لَا ينْعَقد على الصَّحِيح، فَلم يكن ذَلِك شَيْئا وَاجِبا عَلَيْهِ،.

     وَقَالَ  الْمُهلب: كل مَا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّة من الْأَيْمَان وَالطَّلَاق وَجَمِيع الْعُقُود يَهْدِمهَا الْإِسْلَام وَيسْقط حرمتهَا، فَيكون الْأَمر بذلك أَمر اسْتِحْبَاب كَيْلا يكون خلفا فِي الْوَعْد.
.

     وَقَالَ  ابْن بطال: مَحْمُول عِنْد الْفُقَهَاء على الحض وَالنَّدْب لِأَن الْإِسْلَام يجبُّ مَا قبله.

(أبْوَابُ الإعْتِكَافِ) أَي: هَذِه أَبْوَاب الِاعْتِكَاف، هَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي، وَلَيْسَ لغيره ذَلِك إلاَّ لفظ: كتاب فِي الِاعْتِكَاف، فِي رِوَايَة النَّسَفِيّ، وَالْمرَاد بالأبواب: الْأَنْوَاع، لِأَن فِي كل بَاب نوعا من أَحْكَام الِاعْتِكَاف، وَقد ذكرنَا فِيمَا مضى أَن الْكتاب يجمع الْأَبْوَاب، والأبواب تجمع الْفُصُول.


(بابُُ الإعْتِكَافِ فِي العَشْرِ الأوَاخِرِ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان الِاعْتِكَاف فِي الْعشْر الْأَوَاخِر من رَمَضَان، وَقد ورد الِاعْتِكَاف بِلَفْظ الْمُجَاورَة.
فَفِي الصَّحِيح من حَدِيث أبي سعيد: (كَانَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يجاور فِي الْعشْر الْأَوْسَط من رَمَضَان) الحَدِيث.
وَفِي (الصَّحِيح) : فِي قصَّة بَدْء الْوَحْي أَنه كَانَ يجاور بحراء.

وَقد اخْتلفُوا: هَل الْمُجَاورَة الِاعْتِكَاف أَو غَيره؟ فَقَالَ عَمْرو بن دِينَار: الْجوَار وَالِاعْتِكَاف وَاحِد، وَسُئِلَ عَطاء بن أبي رَبَاح: أَرَأَيْت الْجوَار وَالِاعْتِكَاف؟ أمختلفان هما أَو شَيْء وَاحِد؟ قَالَ: بل هما مُخْتَلِفَانِ، كَانَت بيُوت النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي الْمَسْجِد.
فَلَمَّا اعْتكف فِي شهر رَمَضَان خرج من بيوته إِلَى بطن الْمَسْجِد فاعتكف فِيهِ، قلت لَهُ: فَإِن قَالَ إِنْسَان: عَليّ اعْتِكَاف أَيَّام، فَفِي جَوْفه لَا بُد؟ قَالَ: نعم، وَإِن قَالَ: عَليّ جوَار أَيَّام فبابُه أَو فِي جَوْفه، إِن شَاءَ.
هَكَذَا رَوَاهُ عبد الرَّزَّاق فِي (المُصَنّف) : عَنْهُمَا، قَالَ شَيخنَا: وَقَول عَمْرو بن دِينَار هُوَ الْمُوَافق للأحاديث، وَلما ذكر صَاحب (الْإِكْمَال) حد الِاعْتِكَاف قَالَ: وَيُسمى أَيْضا جوارا.

والاعْتِكافِ فِي المَسَاجِدِ كُلِّهَا لِقَوْلِهِ تَعالَى: { ولاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وأنْتُمْ عاكِفُونَ فِي المَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله آيَاتهِ للنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} (الْبَقَرَة: 781) .

وَالِاعْتِكَاف، بِالْجَرِّ: عطفا على لفظ: الِاعْتِكَاف الأول، وَقَيده بالمساجد لِأَنَّهُ لَا يَصح فِي غير الْمَسَاجِد، وَجمع الْمَسَاجِد وأكدها بِلَفْظ كلهَا إِشَارَة إِلَى أَن الِاعْتِكَاف لَا يخْتَص بِمَسْجِد دون مَسْجِد، وَفِيه خلاف.
فَقَالَ حُذَيْفَة: لَا اعْتِكَاف إلاَّ فِي الْمَسَاجِد الثَّلَاثَة: مَسْجِد مَكَّة وَالْمَدينَة والأقصى.
.

     وَقَالَ  سعيد بن الْمسيب: لَا اعْتِكَاف إلاَّ فِي مَسْجِد نَبِي، وَفِي (الصَّوْم) لِابْنِ أبي عَاصِم بِإِسْنَادِهِ إِلَى حُذَيْفَة: لَا اعْتِكَاف إلاَّ فِي مَسْجِد رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
وروى الْحَارِث عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: لَا اعْتِكَاف إلاَّ فِي الْمَسْجِد الْحَرَام وَمَسْجِد الْمَدِينَة.

وَذهب هَؤُلَاءِ إِلَى أَن الْآيَة خرجت على نوع من الْمَسَاجِد، وَهُوَ مَا بناه نَبِي، لِأَن الْآيَة نزلت على رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهُوَ معتكف فِي مَسْجده، فَكَانَ الْقَصْد وَالْإِشَارَة إِلَى نوع تِلْكَ الْمَسَاجِد مِمَّا بناه نَبِي.
وَذَهَبت طَائِفَة إِلَى أَنه لَا يَصح الِاعْتِكَاف إلاَّ فِي مَسْجِد تُقَام فِيهِ الْجُمُعَة، رُوِيَ ذَلِك عَن عَليّ وَابْن مَسْعُود وَعُرْوَة وَعَطَاء وَالْحسن وَالزهْرِيّ، وَهُوَ قَول مَالك فِي (الْمُدَوَّنَة) : قَالَ: أما من تلْزمهُ الْجُمُعَة فَلَا يعْتَكف إلاَّ فِي الْجَامِع.
.

     وَقَالَ ت: طَائِفَة: الِاعْتِكَاف يَصح فِي كل مَسْجِد، رُوِيَ ذَلِك عَن النَّخعِيّ وَأبي سَلمَة وَالشعْبِيّ، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وَالثَّوْري.
وَالشَّافِعِيّ فِي الْجَدِيد، وَأحمد وَإِسْحَاق وَأبي ثَوْر وَدَاوُد، وَهُوَ قَول مَالك فِي (الْمُوَطَّأ) وَهُوَ قَول الْجُمْهُور وَالْبُخَارِيّ أَيْضا، حَيْثُ اسْتدلَّ بِعُمُوم الْآيَة فِي سَائِر الْمَسَاجِد.
.

     وَقَالَ  صَاحب (الْهِدَايَة) : الِاعْتِكَاف لَا يَصح إلاَّ فِي مَسْجِد الْجَمَاعَة، وَعَن أبي حنيفَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه لَا يَصح، إلاَّ فِي مَسْجِد يصلى فِيهِ الصَّلَوَات الْخمس.
.

     وَقَالَ  الزُّهْرِيّ وَالْحكم وَحَمَّاد: هُوَ مَخْصُوص بالمساجد الَّتِي يجمع فِيهَا.
وَفِي (الذَّخِيرَة) للمالكية: قَالَ مَالك: يعْتَكف فِي الْمَسْجِد، سَوَاء أقيم فِيهِ الْجَمَاعَة أم لَا.
وَفِي (الْمُنْتَقى) عَن أبي يُوسُف: الِاعْتِكَاف الْوَاجِب لَا يجوز أَدَاؤُهُ فِي غير مَسْجِد الْجَمَاعَة، وَالنَّفْل يجوز أَدَاؤُهُ فِي غير مَسْجِد الْجَمَاعَة، وَفِي (الْيَنَابِيع) : لَا يجوز الِاعْتِكَاف الْوَاجِب إلاَّ فِي مَسْجِد لَهُ إِمَام ومؤذن مَعْلُوم، يصلى فِيهِ خمس صلوَات، وَرَوَاهُ الْحسن عَن أبي حنيفَة.
ثمَّ أفضل الِاعْتِكَاف مَا كَانَ فِي الْمَسْجِد الْحَرَام، ثمَّ فِي مَسْجِد النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ثمَّ فِي بَيت الْمُقَدّس، ثمَّ فِي الْمَسْجِد الْجَامِع، ثمَّ فِي الْمَسَاجِد الَّتِي يكثر أَهلهَا ويعظم.
.

     وَقَالَ : النَّوَوِيّ: وَيصِح فِي سطح الْمَسْجِد ورحبته كَقَوْلِنَا لِأَنَّهُمَا من الْمَسْجِد.

وَقَالَ أَيْضا: الْمَرْأَة لَا يَصح اعتكافها إلاَّ فِي الْمَسْجِد كَالرّجلِ.
.

     وَقَالَ  ابْن بطال: قَالَ الشَّافِعِي: تعتكف الْمَرْأَة وَالْعَبْد وَالْمُسَافر حَيْثُ شاؤوا،.

     وَقَالَ  أَصْحَابنَا: الْمَرْأَة تعتكف فِي مَسْجِد بَيتهَا، وَبِه قَالَ النَّخعِيّ وَالثَّوْري وَابْن علية.
وَلَا تعتكف فِي مَسْجِد جمَاعَة، ذكره فِي الأَصْل.
وَفِي (منية الْمُفْتِي) : لَو اعتكفت فِي الْمَسْجِد جَازَ، وَفِي (الْمُحِيط) : روى الْحسن عَن أبي حنيفَة جَوَازه وكراهته فِي الْمَسْجِد.
وَفِي (الْبَدَائِع) : لَهَا أَن تعتكف فِي مَسْجِد الْجَمَاعَة.
فِي رِوَايَة الْحسن عَن أبي حنيفَة، وَمَسْجِد بَيتهَا أفضل لَهَا من مَسْجِد حيها، وَمَسْجِد حيها أفضل لَهَا من الْمَسْجِد الْأَعْظَم.
قَوْله: لقَوْله تَعَالَى: { وَلَا تباشروهن} (الْبَقَرَة: 781) .
الْآيَة وَجه الدّلَالَة من الْآيَة أَنه: لَو صَحَّ فِي غير الْمَسْجِد لم يخْتَص تَحْرِيم الْمُبَاشرَة بِهِ، لِأَن الْجِمَاع منافٍ للاعتكاف بِالْإِجْمَاع، فَعلم من ذكر الْمَسَاجِد أَن المُرَاد بِالْمُبَاشرَةِ أَن الإعتكاف لايكون أَلا فِيهَا وَنقل ابْن الْمُنْذر الاجماع على أَن المُرَاد فِي الْآيَة الْجِمَاع.
.

     وَقَالَ  عَليّ بن طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس، هَذَا فِي الرجل يعْتَكف فِي الْمَسْجِد فِي رَمَضَان أَو فِي غير رَمَضَان: يحرم عَلَيْهِ أَن ينْكح النِّسَاء لَيْلًا أَو نَهَارا حَتَّى يقْضِي اعْتِكَافه،.

     وَقَالَ  الضَّحَّاك: كَانَ الرجل إِذا اعْتكف فَخرج من الْمَسْجِد جَامع إِن شَاءَ، فَقَالَ الله تَعَالَى: { وَلَا تباشروهن وَأَنْتُم عاكفون فِي الْمَسَاجِد} (الْبَقَرَة: 781) .
أَي: لَا تقربوهن مَا دمتم عاكفين فِي الْمَسَاجِد، وَلَا فِي غَيرهَا، وَكَذَا قَالَ مُجَاهِد وَقَتَادَة وَغير وَاحِد: إِنَّهُم كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِك حَتَّى نزلت هَذِه الْآيَة،.

     وَقَالَ  ابْن أبي حَاتِم: وَرُوِيَ عَن ابْن مَسْعُود وَمُحَمّد بن كَعْب وَمُجاهد وَعَطَاء وَالْحسن وَقَتَادَة وَالضَّحَّاك وَالسُّديّ وَالربيع بن أنس وَمُقَاتِل، قَالُوا: لَا يقربهَا وَهُوَ معتكف، وَهَذَا الَّذِي حَكَاهُ عَن هَؤُلَاءِ هُوَ الْأَمر الْمُتَّفق عَلَيْهِ عِنْد الْعلمَاء: أَن الْمُعْتَكف يحرم عَلَيْهِ النِّسَاء مَا دَامَ معتكفا فِي مَسْجده، وَلَو ذهب إِلَى منزله لحَاجَة لَا بُد مِنْهَا فَلَا يحل لَهُ أَن يلبث فِيهِ إلاَّ بِمِقْدَار مَا يفرغ من حَاجته تِلْكَ، من: غَائِط أَو بَوْل أَو أكل، وَلَيْسَ لَهُ أَن يقبل امْرَأَته وَلَا يضمها إِلَيْهِ، وَلَا يشْتَغل بِشَيْء سوى اعْتِكَافه، وَلَا يعود الْمَرِيض، لَكِن يسْأَل عَنهُ، وَهُوَ مار فِي طَرِيقه.
قَوْله: { تِلْكَ حُدُود الله} (الْبَقَرَة: 781) .
أَي هَذَا الَّذِي بَيناهُ وفرضناه وحددناه من الصّيام وَأَحْكَامه، وَمَا أبحنا فِيهِ وَمَا حرمنا، وَمَا ذكرنَا غاياته ورخصه وعزائمه: { حُدُود الله فَلَا تقربوها} (الْبَقَرَة: 781) .
أَي: تجاوزوها أَو تعتدوها، وَكَانَ الضَّحَّاك وَمُقَاتِل يَقُولَانِ فِي قَوْله: { تِلْكَ حُدُود الله} (الْبَقَرَة: 781) .
أَي: الْمُبَاشرَة فِي الِاعْتِكَاف.
قَوْله: { كَذَلِك يبين الله آيَاته} (الْبَقَرَة: 781) .
أَي: كَذَلِك يبين الله سَائِر أَحْكَامه على لِسَان نبيه مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَعَلَّهُم يَتَّقُونَ، أَي: يعْرفُونَ كَيفَ يَهْتَدُونَ وَكَيف يطيعون.



[ قــ :1942 ... غــ :2025 ]
- حدَّثنا إسْمَاعِيلُ بنُ عَبْدِ الله قَالَ حدَّثني ابنُ وَهْبٍ عنْ يُونُسَ أنَّ نافِعا أخْبَرَهُ عنْ عَبْدِ الله بنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما قَالَ كانَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يعْتَكف الْعَشْرَ الأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضانَ.


مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَإِسْمَاعِيل بن عبد الله هُوَ الْمَشْهُور بِإِسْمَاعِيل بن أبي أويس، وَأَبُو أويس اسْمه عبد الله الْمدنِي، ابْن اخت مَالك بن أنس، وَابْن وهب هُوَ عبد الله بن وهب الْمصْرِيّ، وَيُونُس هُوَ ابْن يزِيد بن أبي النجاد الْأَيْلِي.

والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الصَّوْم أَيْضا عَن أبي الطَّاهِر أَحْمد بن عَمْرو بن السَّرْح الْمصْرِيّ.
وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن سُلَيْمَان ابْن دَاوُد الْهَدْي.
وَأخرجه التِّرْمِذِيّ من حَدِيث سعيد بن الْمسيب عَن أبي هُرَيْرَة، وَمن حَدِيث عُرْوَة عَن عَائِشَة أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَانَ اعْتكف الْعشْر الْأَوَاخِر من رَمَضَان، حَتَّى قَبضه الله تَعَالَى) وَأخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم عَن عبد الرَّزَّاق، وَأخرجه ابْن مَاجَه عَن أبي السَّرْح عَن ابْن وهب.
وَفِي الْبابُُ عَن أبي بن كَعْب، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه من رِوَايَة حَمَّاد عَن ثَابت عَن أبي رَافع (عَن أبي بن كَعْب: أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَانَ يعْتَكف فِي الْعشْر الْأَوَاخِر من رَمَضَان) الحَدِيث، وَأَبُو رَافع هُوَ الصَّائِغ، اسْمه: نفيع، وَعَن رجل من بني بياضة رَوَاهُ النَّسَائِيّ عَنهُ: (أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يعْتَكف فِي الْعشْر الْأَوَاخِر من رَمَضَان، فَلم يعْتَكف عَاما، فَلَمَّا كَانَ فِي الْعَام الْمقبل اعْتكف عشْرين) .
.

     وَقَالَ  أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح غَرِيب، وَأخرجه ابْن حبَان وَالْحَاكِم.

     وَقَالَ : هَذَا صَحِيح على شَرط الشَّيْخَيْنِ وَلم يخرجَاهُ.





[ قــ :1943 ... غــ :06 ]
- حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يوسُفَ قَالَ حدَّثنا اللَّيْثُ عنْ عُقَيْلٍ عنِ ابنِ شِهَابٍ عنْ عُرْوَةَ ابنِ الزُّبَيْرِ عنْ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا زَوْجِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قالَتْ إنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كانَ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الأوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ حَتَّى تَوَفَّاهُ الله تَعَالَى ثُمَّ اعْتَكَفَ أزْوَاجُهُ مِنْ بَعْدِهِ.
.


مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَرِجَاله قد تكَرر ذكرهم، وَاللَّيْث هُوَ ابْن سعد، وَعقيل، بِضَم الْعين: هُوَ ابْن خَالِد الْأَيْلِي، وَابْن شهَاب هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ.

والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الصَّوْم أَيْضا عَن قُتَيْبَة عَن اللَّيْث.
وَأخرجه أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ جَمِيعًا فِيهِ عَن قُتَيْبَة.
وَحَدِيث عَائِشَة هَذَا مثل حَدِيث ابْن عمر السَّابِق، غير أَن فِيهِ زِيَادَة وَهِي قَوْلهَا: ( حَتَّى توفاه الله، ثمَّ اعتكفت أَزوَاجه من بعده) ، وَهَذِه الزِّيَادَة تدل على أَنه لم ينْسَخ لقَوْله: ( حَتَّى توفاه الله تَعَالَى) وأكد ذَلِك بقوله: ( ثمَّ اعتكفت أَزوَاجه من بعده) أَي: اسْتمرّ حكمه بعده حَتَّى فِي حق النِّسَاء، وَلَا هُوَ من الخصائص.

وَفِيه: اسْتِحْبابُُ الِاعْتِكَاف فِي الْعشْر الْأَوَاخِر من شهر رَمَضَان، وَهُوَ مجمع عَلَيْهِ اسْتِحْبابُُا مؤكدا فِي حق الرِّجَال، وَاخْتلف الْعلمَاء فِي النِّسَاء، قَالَ النَّوَوِيّ: وَفِي هَذَا الحَدِيث دَلِيل لصِحَّة اعْتِكَاف النِّسَاء، لِأَنَّهُ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَانَ أذن لَهُنَّ، وَلَكِن عِنْد أبي حنيفَة: إِنَّمَا يَصح اعْتِكَاف الْمَرْأَة فِي مَسْجِد بَيتهَا، وَهُوَ الْموضع المهيأ لَهَا فِي بَيتهَا لصلاتها.
قَالَ: وَلَا يجوز للرجل فِي مَسْجِد بَيته، وَمذهب أبي حنيفَة قَول قديم للشَّافِعِيّ ضَعِيف عِنْد أَصْحَابه.





[ قــ :1944 ... غــ :07 ]
- حدَّثنا إسماعيلُ قَالَ حدَّثني مالِكٌ عنْ يَزِيدَ بنِ عَبْدِ الله ابنِ الْهادِ عنْ محَمَّدِ بنِ إبْرَاهِيمَ بنِ الحَارِثِ التَّيْمِيِّ عنْ أبِي سلَمَةَ بنِ عَبْدِ الرَّحْمانِ عنْ أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كانَ يَعْتَكِفُ فِي العَشْرِ الأوْسَطِ مِنْ رَمَضانَ فاعْتَكَفَ عَاما حَتَّى إذَا كانَ لَيْلَةُ إحْدَى وعِشْرِينَ وَهْيَ اللَّيْلَةُ الَّتِي يَخْرُجُ مِنْ صَبِيحَتِهَا مِنْ اعْتِكافِهِ قَالَ منْ كانَ اعْتَكَفَ مَعِي فَلْيَعْتَكِفِ الْعَشْرَ الأَوَاخِرَ وقدْ أُريتُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ ثُمَّ أُنْسِيتُهَا وقَدْ رأيْتُنِي أسْجُدُ فِي ماءٍ وطِينٍ مِنْ صَبِيحَتِهَا فالْتَمِسُوهَا فِي العَشْرِ الأوَاخِرِ والْتَمِسُوهَا فِي كُلِّ وِتْرٍ فَمَطَرَتِ السَّمَاءُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ وكانَ المَسْجِدُ عَلى عَرِيشٍ فوَكَفَ الْمَسْجِدُ فَبَصُرَتْ عَينَايَ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَى جَبْهَتِهِ أثَرُ المَاءِ والطِّينِ مِنْ صْبْحِ إحْدَى وعِشْرِينَ.
.


مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: ( فليعتكف الْعشْر الْأَوَاخِر) ، والْحَدِيث قد مضى عَن قريب فِي: بابُُ تحري لَيْلَة الْقدر فِي الْوتر من الْعشْر الْأَوَاخِر، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن إِبْرَاهِيم بن حَمْزَة عَن ابْن أبي حَازِم والدراوردي عَن يزِيد عَن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم عَن أبي سَلمَة عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ، وَهَهُنَا أخرجه: عَن إِسْمَاعِيل بن أبي أويس عَن مَالك عَن يزِيد ... إِلَى آخِره، وَقد تقدّمت مباحثه هُنَاكَ.

قَوْله: ( إِذا كَانَ لَيْلَة إِحْدَى وَعشْرين) ، يفهم مِنْهُ أَن صُدُور هَذَا القَوْل، وَهُوَ: من كَانَ اعْتكف، كَانَ قبل الْحَادِي وَالْعِشْرين، وَسبق فِي: بابُُ تحري لَيْلَة الْقدر، أَن صدوره كَانَ بعده، حَيْثُ قَالَ: ( كَانَ جاور فِيهِ اللَّيْلَة الَّتِي كَانَ يرجع فِيهَا) .
قَوْله: ( هَذِه اللَّيْلَة) ، مفعول بِهِ لَا ظرف.
قَوْله: ( وَقد رأيتُني) ، أَي: رَأَيْت نَفسِي، قَوْله: ( من عَرِيش) ، ويروى ( على عَرِيش) ، وَهُوَ مَا يستظل بِهِ.