فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب التجارة في البر "

( بابُُ التِّجَارَةِ فِي البَرِّ وغَيْرِهِ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان إِبَاحَة التِّجَارَة.
قَوْله: ( فِي الْبر) ، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَتَشْديد الرَّاء، وَقيل: بِفَتْح الْبَاء وبتشديد الزَّاي.
قَالَ ابْن دُرَيْد: الْبر، مَتَاع الْبَيْت من الثِّيَاب خَاصَّة، وَعَن اللَّيْث: ضرب من الثِّيَاب، وَعَن الْجَوْهَرِي: هُوَ من الثِّيَاب أَمْتعَة الْبَزَّاز، والبزازة حرفته.
.

     وَقَالَ  مُحَمَّد فِي ( السّير الْكَبِير) : الْبَز عِنْد أهل الْكُوفَة ثِيَاب الْكَتَّان والقطن لَا ثِيَاب الصُّوف والخز.
وَقيل: هِيَ السِّلَاح وَالثيَاب، وَقيل، بِضَم الْبَاء وَتَشْديد الرَّاء، قيل: الْأَكْثَر على أَنه بالزاي، وَلَيْسَ فِي الحَدِيث مَا يدل عَلَيْهِ بِخُصُوصِهِ، وَكَذَلِكَ لَيْسَ فِي الحَدِيث مَا يَقْتَضِي تعْيين الْبر، بِضَم الْبَاء وَتَشْديد الرَّاء.
وَالْأَقْرَب أَن يكون: بِفَتْح الْبَاء وَتَشْديد الرَّاء، لِأَنَّهُ أليق بمؤاخاة التَّرْجَمَة الَّتِي تَأتي بعْدهَا بِبابُُ، وَهِي قَوْله: بابُُ التِّجَارَة فِي الْبَحْر، وَإِلَى هَذَا مَال ابْن عَسَاكِر.
قَوْله: ( وَغَيره) ، لَيْسَ هَذَا اللَّفْظ بموجود فِي رِوَايَة الْأَكْثَر، وَإِنَّمَا هُوَ عِنْد الْإِسْمَاعِيلِيّ وكريمة.
قلت: على تَقْدِير وجود هَذِه اللَّفْظَة، الأصوب أَن: الْبَز، بالزاي، وَيكون الْمَعْنى: وَغير الْبَز من أَنْوَاع الْأَمْتِعَة.

وقَوْلِهِ عَزَّ وجَلَّ: { ورِجالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ ولاَ بَيْعٌ عنْ ذِكْرِ الله} ( النُّور: 73) .

وَقَوله، بِالْجَرِّ عطف على التِّجَارَة، تَقْدِيره: وَفِي تَفْسِير قَوْله تَعَالَى: { رجال لَا تُلْهِيهِمْ} ( النُّور: 73) .
وَأول الْآيَة: { فِي بيُوت أذن الله أَن ترفع وَيذكر فِيهَا اسْمه يسبح لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَال} ( النُّور: 73) .
قَرَأَ ابْن عَامر وَأَبُو بكر عَن عَاصِم بِفَتْح الْبَاء على مَا لم يسم فَاعله، ويسند إِلَى أحد الظروف الثَّلَاثَة، أَعنِي: { لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَال} ( النُّور: 73) .
وَرِجَال مَرْفُوع بِمَا دلّ عَلَيْهِ: يسبح، وَهُوَ: يسبح لَهُ، وَالْبَاقُونَ بِكَسْر الْبَاء، جعلُوا التَّسْبِيح فعلا للرِّجَال، وَرِجَال فَاعل لقَوْله: يسبح فَإِن قيل: التِّجَارَة اسْم يَقع على البيع وَالشِّرَاء، فَمَا معنى ضم: ذكر البيع إِلَى التِّجَارَة؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: قيل: التِّجَارَة فِي السّفر وَالْبيع فِي الْحَضَر، وَقيل: التِّجَارَة الشِّرَاء، وَأَيْضًا البيع فِي الإلهاء أَدخل لكثرته بِالنِّسْبَةِ إِلَى التِّجَارَة.

وَقَالَ قَتَادَةُ كانَ الْقَوْمُ يَتَبَايَعُونَ ويَتَّجِرُونَ ولَكِنَّهُمْ إذَا نابَهُمْ حقٌّ مِنْ حُقُوقِ الله لَمْ تُلْهِهِمْ تِجَارَةٌ ولاَ بَيْعٌ عنْ ذِكْرِ الله حَتَّى يُؤَدُّوهُ إلَى الله
أَرَادَ بالقوم: الصَّحَابَة، فَإِنَّهُم كَانُوا فِي بيعهم وشرائهم إِذا سمعُوا إِقَامَة الصَّلَاة يتبادرون إِلَيْهَا لأَدَاء حُقُوق الله، وَيُؤَيّد هَذَا مَا أخرجه عبد الرَّزَّاق من كَلَام ابْن عمر، أَنه كَانَ فِي السُّوق فأقيمت الصَّلَاة، فأغلقوا حوانيتهم ودخلوا الْمَسْجِد، فَقَالَ ابْن عمر: فيهم نزلت، فَذكر الْآيَة،.

     وَقَالَ  ابْن بطال: وَرَأَيْت فِي تَفْسِير الْآيَة، قَالَ: كَانُوا حدادين وخرازين، فَكَانَ أحدهم إِذا رفع المطرقة أَو غرز الأشفى فَسمع الْأَذَان لم يخرج الأشفي من الغررة وَلم يُوقع المطرقة، وَرمى بهَا، وَقَامَ إِلَى الصَّلَاة.
وَفِي الْآيَة نعت تجار الْأمة السالفة وَمَا كَانُوا عَلَيْهِ من مُرَاعَاة حُقُوق الله تَعَالَى والمحافظة عَلَيْهَا والتزام ذكر الله فِي حَال تجاراتهم وصبرهم على أَدَاء الْفَرَائِض وإقامتها، وخوفهم من سوء الْحساب وَالسُّؤَال يَوْم الْقِيَامَة.

0602

- 1602 حدَّثنا أبُو عَاصِمٍ عنِ ابنِ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبرنِي عَمْرُو بنُ دِينارٍ عنْ أبِي المِنْهَالِ قَالَ كنتُ أتَّجِرُ فِي الصَّرْفِ فَسألْتُ زَيْدَ بنَ أرْقَمَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ فَقَالَ قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ح وحدَّثني الفَضْلُ بنُ يَعْقُوبَ قَالَ حدَّثنا الحَجَّاجُ بنُ مُحَمَّدٍ قَالَ ابنُ جُرَيْجٍ أَخْبرنِي عَمْرُو بنُ دِينَارٍ وعامِرُ بنُ مُصْعَبٍ أنَّهُمَا سَمِعَا أبَا المِنْهَالِ يَقُولُ سألْتُ الْبَرَاءَ بنَ عازِبٍ وزَيْدَ بنَ أرْقَمَ عنِ الصَّرْفِ فَقالاَ كُنَّا تَاجِرَيْنِ عَلَى عَهْدِ رَسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَسألْنَا رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عنِ الصَّرْفِ فَقَالَ إنْ كانَ يَدا بِيَدٍ فَلاَ بَأسَ وإنْ كانَ نَسَاءً فَلاَ يَصْلُحُ ... [/ نه

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: ( كُنَّا تاجرين على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) .

ذكر رِجَاله وهم تِسْعَة، لِأَنَّهُ رُوِيَ من طَرِيقين: الأول: أَبُو عَاصِم النَّبِيل الضَّحَّاك بن مخلد.
الثَّانِي: عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز بن جريج.
الثَّالِث: عَمْرو، بِفَتْح الْعين: ابْن دِينَار.
الرَّابِع: أَبُو الْمنْهَال، بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون النُّون وَفِي آخِره لَام: اسْمه عبد الرَّحْمَن بن مطعم، وَلَهُم أَبُو الْمنْهَال الآخر صَاحب أبي بَرزَة، واسْمه: سيار بن سَلامَة.
الْخَامِس: الْفضل بن يَعْقُوب الرخامي.
السَّادِس: الْحجَّاج بن مُحَمَّد الْأَعْوَر.
السَّابِع: عَامر بن مُصعب، بِضَم الْمِيم وَفتح الْعين الْمُهْملَة.
الثَّامِن: الْبَراء بن عَازِب الْأنْصَارِيّ.
التَّاسِع: زيد بن أَرقم الْأنْصَارِيّ الخزرجي.

ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين.
وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع.
وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْإِفْرَاد فِي موضِعين.
وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين.
وَفِيه: السُّؤَال.
وَفِيه: السماع فِي موضِعين.
وَفِيه: القَوْل فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع.
وَفِيه: أَبُو عَاصِم شَيْخه بَصرِي وَابْن جريج وَعَمْرو بن دِينَار مكيان وَأَبُو الْمنْهَال كُوفِي وَفضل بن يَعْقُوب شَيْخه بغددي، وَهُوَ من أَفْرَاده، وَالْحجاج بن مُحَمَّد أَصله ترمذي سكن المصيصة.

ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْبيُوع عَن عَمْرو بن عَليّ وَعَن حَفْص بن عمر وَفِي هِجْرَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن عَليّ بن عبد الله.
وَأخرجه مُسلم فِي الْبيُوع أَيْضا عَن مُحَمَّد بن حَاتِم وَعَن عبيد الله بن معَاذ.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن مَنْصُور، وَعَن إِبْرَاهِيم بن الْحسن وَعَن أَحْمد بن عبد الله وَذكر كلهم فِي حَدِيثهمْ زيد بن أَرقم سوى عَمْرو بن عَليّ.

قَوْله: ( عَن الصّرْف) ، قَالَ الدَّاودِيّ: يَعْنِي عَن الذَّهَب وَالْفِضَّة.
.

     وَقَالَ  الْخَلِيل: الصّرْف فضل الدِّرْهَم على الدِّرْهَم، وَمِنْه اشتق اسْم الصَّيْرَفِي لتصريفه بعض ذَلِك فِي بعض.
قلت: الصّرْف من أَنْوَاع البيع، وَهُوَ بيع الثّمن بِالثّمن.
قَوْله: ( إِن كَانَ يدا بيد) ، يَعْنِي: متقابضين فِي الْمجْلس.
قَوْله: ( وَإِن كَانَ نسَاء) ، بِفَتْح النُّون وبالمد، وَهُوَ رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة غَيره: ( نسيئا) ، بِفَتْح النُّون وَكسر السِّين وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف بعْدهَا همزَة.
وَفِي ( الْمطَالع) : ( وَإِن كَانَ نسيئا) على وزن: فعيل، وَعند الْأصيلِيّ: ( نسَاء) ، مثل: فعال، وَكِلَاهُمَا صَحِيح بِمَعْنى التَّأَخُّر، والنسيء اسْم وضع مَوضِع الْمصدر الْحَقِيقِيّ، وَمثله: { إِنَّمَا النسيء زِيَادَة فِي الْكفْر} ( التَّوْبَة: 73) .
يُقَال: أنسأت الشَّيْء إنساءً ونَساءً، وَسَيَأْتِي الْكَلَام فِي هَذَا الْبابُُ مفصلا، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.