فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب السهولة والسماحة في الشراء والبيع، ومن طلب حقا فليطلبه في عفاف

(بابُُ السُّهُولَةِ والسَّمَاحَةِ فِي الشِّرَاءِ والْبَيْعِ ومَنْ طَلَبَ حَقَّا فلْيَطْلُبْهُ فِي عَفَافٍ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان اسْتِحْبابُُ السهولة، وَهُوَ ضد الصعب وضد الْحزن، قَالَه ابْن الْأَثِير وَغَيره، والسماحة من سمح وأسمح إِذا جاد وَأعْطى عَن كرم وسخاء، قَالَه ابْن الْأَثِير.
وَفِي (الْمغرب) : السَّمْح الْجُود.
.

     وَقَالَ  بَعضهم: السهولة والسماحة متقاربان فِي الْمَعْنى.
فعطف أَحدهمَا على الآخر من التَّأْكِيد اللَّفْظِيّ.
قلت: قد عرفت أَنَّهُمَا متغايران فِي أصل الْوَضع فَلَا يَصح أَن يُقَال من التَّأْكِيد اللَّفْظِيّ.
لِأَن التَّأْكِيد اللَّفْظِيّ أَن يكون الْمُؤَكّد والمؤكد لفظا وَاحِد من مَادَّة وَاحِدَة، كَمَا عرف فِي مَوْضِعه.
قَوْله: (وَمن طلب) كلمة: من، شَرْطِيَّة.
وَقَوله: (فليطلبه) جَوَابه.
قَوْله: (فِي عفاف) ، جملَة فِي مَحل النصب على الْحَال من الضَّمِير الَّذِي فِي: (فليطلبه) ، والعفاف، بِفَتْح الْعين.
الْكَفّ عَمَّا لَا يحل.
وروى التِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه وَابْن حبَان من حَدِيث نَافِع عَن ابْن عمر وَعَائِشَة مَرْفُوعا: (من طلب حَقًا فليطلبه فِي عفاف وافٍ أَو غير وافٍ) .
وَفِي رِوَايَة أُخْرَى: (خُذ حَقك فِي عفاف وافٍ أَو غير وافٍ) .
وَأخذ البُخَارِيّ هَذَا وَجعله جزأ من تَرْجَمَة الْبابُُ.



[ قــ :1992 ... غــ :2076 ]
- حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عَيَّاشٍ قَالَ حدَّثنا أبُو غَسَّانَ محَمَّدُ بنُ مطَرِّفٍ قَالَ حدَّثني محَمَّدُ بنُ المُنْكَدِرِ عنْ جَابِرِ بنِ عَبْدِ الله رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ رَحِمَ الله رَجُلاً سَمْحا إذَا باعَ واذا اشْتَرَى وإذَا اقْتَضَى.


مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَعلي بن عَيَّاش، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره شين مُعْجمَة: الْأَلْهَانِي الْحِمصِي، وَهُوَ من أَفْرَاده، ومطرف بِالطَّاءِ الْمُهْملَة على صِيغَة اسْم الْفَاعِل من التطريف، والمنكدر على وزن اسْم الْفَاعِل من الانكدار.

والْحَدِيث أخرجه ابْن مَاجَه فِي التِّجَارَات عَن عَمْرو بن عُثْمَان.
وَأخرجه التِّرْمِذِيّ من حَدِيث زيد بن عَطاء عَن ابْن الْمُنْكَدر عَن جَابر، وَلَفظه: (غفر الله لرجل كَانَ قبلكُمْ، كَانَ سهلاً إِذا بَاعَ، سهلاً إِذا اشْترى.
سهلاً أذا اقْتضى) .
.

     وَقَالَ : حَدِيث حسن غَرِيب صَحِيح من هَذَا الْوَجْه.

قَوْله: (رحم الله) رجلا: يحْتَمل الدُّعَاء وَيحْتَمل الْخَبَر.
قَالَ الدَّاودِيّ: وَالظَّاهِر أَنه دُعَاء،.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: ظَاهره الْإِخْبَار عَن حَال رجل كَانَ سَمحا.
لَكِن قرينَة الِاسْتِقْبَال الْمُسْتَفَاد من إِذا تَجْعَلهُ دُعَاء، وَتَقْدِيره: رحم الله رجلا يكون سَمحا، وَقد يُسْتَفَاد الْعُمُوم من تَقْيِيده بِالشّرطِ، والسمح، بِسُكُون الْمِيم: الْجواد والمساهل والموافق على مَا طلب.
قَوْله: (وَإِذا اقْتضى) أَي: إِذا طلب قَضَاء حَقه بسهولة.
وَفِي رِوَايَة حَكَاهَا ابْن التِّين: (وَإِذا قضى) .
أَي: إِذا أعظى الَّذِي عَلَيْهِ بسهولة بِغَيْر مطل) .

وروى التِّرْمِذِيّ وَالْحَاكِم من حَدِيث أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: (إِن الله يحب سمح البيع سمح الشِّرَاء سمح الْقَضَاء) .
وروى النَّسَائِيّ من حَدِيث عُثْمَان رَفعه: (أَدخل الله الْجنَّة رجلا كَانَ سهلاً مُشْتَريا وبائعا وقاضيا ومقتضيا) .
وروى أَحْمد من حَدِيث عبد الله بن عمر وَنَحْوه.
وَفِي الحَدِيث الحض على الْمُسَامحَة وَحسن الْمُعَامَلَة وَاسْتِعْمَال محَاسِن الْأَخْلَاق ومكارمها وَترك المشاحة فِي البيع، وَذَلِكَ سَبَب لوُجُود الْبركَة، لِأَنَّهُ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لَا يحض أمته إلاَّ على مَا فِيهِ النَّفْع لَهُم دينا وَدُنْيا.
وَأما فَضله فِي الْآخِرَة فقد دَعَا، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِالرَّحْمَةِ والغفران لفَاعِله، فَمن أحب أَن تناله هَذِه الدعْوَة فليقتد بِهِ وليعمل بِهِ.

وَفِيه: ترك التَّضْيِيق على النَّاس فِي الْمُطَالبَة وَأخذ الْعَفو مِنْهُم.
.

     وَقَالَ  ابْن حبيب: تسْتَحب السهولة فِي البيع وَالشِّرَاء وَلَيْسَ هِيَ تِلْكَ الْمُطَالبَة فِيهِ، إِنَّمَا هِيَ ترك المضاجرة وَنَحْوهَا.