فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب من أنظر موسرا

(بابُُ منْ أنْظَرَ مُوسِرا)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان فضل من أنظر مُوسِرًا، وَقد اخْتلفُوا فِي حد الْمُوسر، فَقيل: من عِنْده مُؤْنَته وَمؤنَة من تلْزمهُ نَفَقَته.
.

     وَقَالَ  الثَّوْريّ وَابْن الْمُبَارك وَأحمد وَإِسْحَاق: من عِنْده خَمْسُونَ درهما أَو قيمتهَا من الذَّهَب، فَهُوَ مُوسر.
.

     وَقَالَ  الشَّافِعِي: قد يكون الشَّخْص بالدرهم غَنِيا يكسبه، وَقد يكون فَقِيرا بِالْألف مَعَ ضعفه فِي نَفسه وَكَثْرَة عِيَاله.
وَقيل: الْمُوسر من يملك نِصَاب الزَّكَاة، وَقيل: من لَا يحل لَهُ الزَّكَاة.
وَقيل: من يجد فَاضلا عَن ثَوْبه ومسكنه وخادمه وَدينه وقوت من يمونه، وَعند أَصْحَابنَا، على مَا ذكره صَاحب (الْمَبْسُوط) و (الْمُحِيط) : الْغَنِيّ على ثَلَاث مَرَاتِب: الْمرتبَة الأولى: الْغَنِيّ الَّذِي يتَعَلَّق بِهِ وجوب الزَّكَاة.
الْمرتبَة الثَّانِيَة: الْغَنِيّ الَّذِي يتَعَلَّق بِهِ وجوب صَدَقَة الْفطر وَالْأُضْحِيَّة وحرمان الزَّكَاة، وَهُوَ أَن يملك مَا يفضل عَن حَوَائِجه الْأَصْلِيَّة مَا يبلغ قيمَة مِائَتي دِرْهَم، مثل دور لَا يسكنهَا وحوانيت يؤجرها وَنَحْو ذَلِك.
والمرتبة الثَّالِثَة: فِي الْغنى غنى حُرْمَة السُّؤَال، قيل: مَا قِيمَته خَمْسُونَ درهما.
.

     وَقَالَ  عَامَّة الْعلمَاء: إِن من ملك قوت يَوْمه وَمَا يستر بِهِ عَوْرَته يحرم عَلَيْهِ السُّؤَال، وَكَذَا الْفَقِير الْقوي المكتسب يحرم عَلَيْهِ السُّؤَال.
قلت: هَذَا كُله فِي حق من يجوز لَهُ السُّؤَال وَأخذ الصَّدَقَة، وَمن لَا يجوز، وَأما هَهُنَا، أَعنِي فِي إنظار الْمُوسر، فالاعتماد على أَن الْمُوسر والمعسر يرجعان إِلَى الْعرف، فَمن كَانَ حَاله بِالنِّسْبَةِ إِلَى مثله يعد يسارا فَهُوَ مُوسر، وَكَذَا عَكسه فَافْهَم.



[ قــ :1993 ... غــ :2077 ]
- حدَّثنا أحْمَدُ بنُ يُونُسَ قَالَ حَدثنَا زُهَيْرٌ قَالَ حدَّثنا مَنْصُورً أنَّ رِبْعِيَّ بنَ حِرَاشٍ قَالَ حدَّثَهُ أنَّ حُذَيْفَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ حدَّثَهُ قَالَ قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَلَقَّتِ المَلاَئِكَةُ رُوحَ رَجُلٍ مِمَّنْ كانَ قَبْلَكُمْ قالُوا أعَمِلْتَ مِنَ الخَيْرِ شَيْئا قَالَ كُنْتُ آمُرُ فِتْيَانِي أنْ يُنْظِرُوا ويَتَجَاوَزُوا عَنِ المُوسِرِ قَالَ قَالَ فَتَجَاوَزُوا عَنْهُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (كنت آمُر فتياني أَن ينْظرُوا ويتجاوزوا عَن الْمُوسر) وَهَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة أبي ذَر والنسفي عَن الْمُوسر، وَهُوَ يُطَابق التَّرْجَمَة، وَوَقع فِي رِوَايَة البَاقِينَ: (أَن ينْظرُوا الْمُعسر، ويتجاوزوا عَن الْمُوسر، وَكَذَا أخرجه مُسلم عَن أَحْمد بن يُونُس شيخ البُخَارِيّ الْمَذْكُور، فعلى هَذَا الحَدِيث لَا يُطَابق التَّرْجَمَة.
.

     وَقَالَ  بَعضهم: وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ السَّبَب فِي إِيرَاد التَّعَالِيق الْآتِيَة، لِأَن فِيهَا مَا يُطَابق التَّرْجَمَة.
قلت: الأَصْل هُوَ الْمُطَابقَة بَين التَّرْجَمَة وَحَدِيث الْبابُُ الْمسند على مَا هُوَ الْمَعْهُود فِي وَضعه، وَلَا يُقَال: وجد الْمُطَابقَة هُنَا، إلاَّ على رِوَايَة أبي ذَر والنسفي، وَلَا يحْتَاج إِلَى ذكر شَيْء آخر.
فَافْهَم.

ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: أَحْمد بن يُونُس، هُوَ أَحْمد بن عبد الله بن يُونُس بن قيس أَبُو عبد الله التَّمِيمِي الْيَرْبُوعي.
الثَّانِي: زُهَيْر مصغر زهر ابْن مُعَاوِيَة أَبُو خَيْثَمَة الْجعْفِيّ.
الثَّالِث: مَنْصُور بن الْمُعْتَمِر أَبُو عتاب السّلمِيّ.
الرَّابِع: ربعي، بِكَسْر الرَّاء وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة وبالعين الْمُهْملَة وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف: ابْن حِرَاش، بِكَسْر الْحَاء الْمُهْملَة وَتَخْفِيف الرَّاء، وَفِي آخِره شين مُعْجمَة، مر فِي: بابُُ إِثْم من كذب، فِي كتاب الْعلم.
الْخَامِس: حُذَيْفَة بن الْيَمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.

ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع وبصيغة الْإِفْرَاد فِي موضِعين.
وَفِيه: القَوْل فِي مَوضِع مكررا.
وَفِيه: أَن رِجَاله كلهم كوفيون.
وَفِيه: أَن شَيْخه مَذْكُور بِالنِّسْبَةِ إِلَى جده.
وَفِيه: أَن حُذَيْفَة حَدثهُ وَفِي رِوَايَة مُسلم من طَرِيق نعيم بن أبي هِنْد عَن ربعي: اجْتمع حُذَيْفَة وَأَبُو مَسْعُود فَقَالَ حُذَيْفَة: رجل لَقِي ربه ... فَذكر الحَدِيث، وَفِي آخِره: فَقَالَ أَبُو مَسْعُود: هَكَذَا سَمِعت رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَمثله رِوَايَة أبي عوَانَة عَن عبد الْملك عَن ربعي، كَمَا سَيَأْتِي فِي هَذَا الْبابُُ.

ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي ذكر بني إِسْرَائِيل عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل، وَفِي الاستقراض عَن مُسلم بن إِبْرَاهِيم.
وَأخرجه مُسلم فِي الْبيُوع عَن أَحْمد بن يُونُس بِهِ وَعَن مُحَمَّد بن الْمثنى عَن غنْدر وَعَن عَليّ بن حجر وَإِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَعَن أبي سعيد الْأَشَج.
وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الْأَحْكَام عَن مُحَمَّد بن بشار.

ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (تلقت) أَي: اسْتقْبل روح رجل عِنْد الْمَوْت، وَفِي رِوَايَة عبد الْملك بن عُمَيْر فِي ذكر بني إِسْرَائِيل: (أَن رجلا كَانَ فِيمَن كَانَ قبلكُمْ أَتَاهُ ملك الْمَوْت ليقْبض روحه) .
قَوْله: (أعملت؟) الْهمزَة فِيهِ للاستفهام، ويروى بِحَذْف همزَة الِاسْتِفْهَام، وَهِي مقدرَة فِيهِ.
وَفِي رِوَايَة عبد الْملك الْمَذْكُورَة.
فَقَالَ: (مَا أعلم شَيْئا غير أَنِّي) فَذكره، وَفِي رِوَايَة لمُسلم من طَرِيق شَقِيق عَن أبي مَسْعُود رَفعه: (حُوسِبَ رجل مِمَّن كَانَ قبلكُمْ فَلم يُوجد لَهُ من الْخَيْر شَيْء، إلاَّ أَنه كَانَ يخالط النَّاس، وَكَانَ مُوسِرًا، وَكَانَ يَأْمر غلمانه أَن يتجاوزوا عَن الْمُعسر.
قَالَ: قَالَ الله تَعَالَى: نَحن أَحَق بذلك مِنْهُ، تجاوزوا عَنهُ) .
قَوْله: (فتياني) بِكَسْر الْفَاء: جمع فَتى، وَهُوَ الْخَادِم حرا كَانَ أَو مَمْلُوكا.
وَقَوله: (أَن ينْظرُوا) ، بِضَم الْيَاء من الإنظار، وَهُوَ الْإِمْهَال.
وَقد ذكرنَا أَن هَذَا رِوَايَة أبي ذَر والنسفي، وَرِوَايَة البَاقِينَ: (أَن ينْظرُوا الْمُعسر ويتجاوزوا عَن الْمُوسر) .
وَقد مر الْكَلَام فِيهِ فِي أول الْبابُُ.
قَوْله: (ويتجاوزوا) عَن الْمُوسر، والتجاوز الْمُسَامحَة فِي الِاقْتِضَاء والاستيفاء.
.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: وَالظَّاهِر أَن صلَة: ينْظرُوا، مَحْذُوف وَهُوَ: عَن الْمُعسر.
وَلَفظ: عَن الْمُوسر، يتَعَلَّق بالتجاوز، لَكِن البُخَارِيّ جعله مُتَعَلقا بذيل التَّرْجَمَة بالموسر، حَيْثُ قَالَ: بابُُ من أنظر مُوسِرًا.
انْتهى.
قلت: لَو وقف الْكرْمَانِي على رِوَايَة أبي ذَر والنسفي الَّتِي ذَكرنَاهَا فِي أول الْبابُُ لما احْتَاجَ إِلَى هَذَا التَّكَلُّف.

وَفِيه: والْحَدِيث الَّذِي يَأْتِي فِي الْبابُُ الَّذِي يَلِيهِ: أَن الرب، جلّ جَلَاله، يغْفر الذُّنُوب بِأَقَلّ حَسَنَة تُوجد للْعَبد، وَذَلِكَ وَالله أعلم إِذا حصلت النِّيَّة فِيهَا لله تَعَالَى، وَأَن يُرِيد بهَا وَجهه وابتغاء مرضاته، فَهُوَ أكْرم الأكرمين وَلَا يخيب عَبده من رَحمته، وَقد قَالَ الله تَعَالَى: { من ذَا الَّذِي يقْرض الله قرضا حسنا فيضاعفه لَهُ، وَله أجر كريم} (الْحَدِيد: 11) .
وَفِيه: إِبَاحَة كسب العَبْد لقَوْله: (كنت آمُر فتياني) .
وَفِيه: أَن العَبْد يُحَاسب عِنْد مَوته بعض الْحساب.
وَفِيه: أَنه إِن أنظرهُ أَو وضع سَاغَ ذَلِك، وَهُوَ شرع من قبلنَا، وشرعنا لَا يُخَالِفهُ بل ندب إِلَيْهِ.

وَقَالَ أبُو مالِكٍ عنْ رِبْعِيٍّ: كُنْتُ أُيَسِّرُ عَلَى الْمُوسِرِ وأنْظِرُ المُعْسِرَ
أَبُو مَالك اسْمه: سعد بن طَارق الْأَشْجَعِيّ الْكُوفِي، وَهَذَا التَّعْلِيق رَوَاهُ مُسلم فِي (صَحِيحه) عَن أبي سعيد الأشح: حَدثنَا أَبُو خَالِد الْأَحْمَر عَن أبي مَالك سعد بن طَارق عَن ربعي (عَن حُذَيْفَة، قَالَ: أُتِي الله بِعَبْد من عباده آتَاهُ الله مَالا، فَقَالَ لَهُ: مَاذَا عملت فِي دَار الدُّنْيَا؟ قَالَ: وَلَا يكتمون الله حَدِيثا.
قَالَ: يَا رب آتيتني مَالك، فَكنت أبايع النَّاس، وَكَانَ من خلقي الْجَوَاز، فَكنت أتيسر على الْمُوسر وَأنْظر الْمُعسر، فَقَالَ الله تَعَالَى: أَنا أَحَق بذامنك، تجاوزوا عَن عَبدِي) .
قَالَ عقبَة بن عَامر الْجُهَنِيّ وَأَبُو مَسْعُود الْأنْصَارِيّ: هَكَذَا سمعناه من فِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
قَوْله: (كنت أيسر) ، بِضَم الْهمزَة وَتَشْديد السِّين: من التَّيْسِير، من بابُُ التفعيل، وَقيل: من أيسر يوسر إيسارا، وَلَيْسَ بِصَحِيح، لِأَن الْقَاعِدَة الصرفية أَن يُقَال: أوسر.
وَفِي (الْمطَالع) : أيسر على الْمُوسر أَي: أسامحه وأعامله بالمياسرة والمساهلة.

وتَابَعَهُ شُعْبَةُ عنْ عَبْدِ المَلِكِ عنْ رِبْعِيٍّ
أَي: تَابع أَبَا مَالك شُعْبَة عَن عبد الْملك بن أبي عُمَيْر عَن ربعي بن حِرَاش عَن حُذَيْفَة، فِي قَوْله: (وَأنْظر الْمُعسر) ، هَذِه الْمُتَابَعَة رَوَاهَا البُخَارِيّ فِي الاستقراض بِسَنَدِهِ، فَقَالَ: حَدثنَا مُسلم بن إِبْرَاهِيم عَن شُعْبَة عَن عبد الْملك عَن ربعي (عَن حُذَيْفَة قَالَ: سَمِعت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: مَاتَ رجل، فَقيل لَهُ: مَا عملت من الْخَيْر؟ قَالَ: كنت أبايع النَّاس فأتجوز عَن الْمُوسر وأخفف عَن الْمُعسر، فغفر لَهُ) .
قَالَ أَبُو مَسْعُود: سمعته من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.

وَقَالَ أبُو عَوَانَةَ عنْ عَبْدِ المَلِكِ عنْ رِبْعِيٍّ: أنْظِرُ الْمُوسِرَ وأتَجَاوَزُ عنِ الْمُعْسِرِ
أَبُو عوَانَة بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة: الوضاح بن عبد الله الْيَشْكُرِي، هَذَا التَّعْلِيق وَصله البُخَارِيّ فِي ذكر بني إِسْرَائِيل مطولا عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل عَن أبي عوَانَة عَن عبد الْملك.
.

     وَقَالَ  نعيم بن ابي هِنْد عَن ربعي فَأقبل من الْمُوسر وأتجاوز عَن الْمُعسر
نعيم، بِضَم النُّون ابْن أبي هِنْد الْأَشْجَعِيّ، وَهُوَ نعيم بن النُّعْمَان بن أَشْيَم وَهُوَ ابْن عَم سَالم بن أبي الْجَعْد وَابْن عَم أبي مَالك الْأَشْجَعِيّ، مَاتَ سنة عشر وَمِائَة، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله مُسلم حَدثنَا عَليّ بن حجر وَإِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم، واللفظة لِابْنِ حجر، قَالَا: حَدثنَا جرير عَن الْمُغيرَة عَن نعيم بن أبي هِنْد (عَن ربعي بن حِرَاش قَالَ: اجْتمع حُذَيْفَة وَأَبُو مَسْعُود، قَالَ حُذَيْفَة: لَقِي رجل ربه، فَقَالَ: مَا عملت؟ قَالَ: مَا عملت من الْخَيْر إلاَّ أَنِّي كنت رجلا ذَا مَال، قَالَ: فَكنت أطلب بِهِ النَّاس، فَكنت أقبل الميسور، وأتجاوز عَن المعسور.
قَالَ: تجاوزوا عَن عَبدِي.
قَالَ أَبُو مَسْعُود: هَكَذَا سَمِعت رَسُول الله.
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَقُول.