فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب النهي للبائع أن لا يحفل الإبل، والبقر والغنم وكل محفلة

(بابُُ النَّهْيِ لِلْبَائِعِ أنْ لاَ يُحَفَّلَ الأبلَ والْبَقَرَ والْغَنَمُ وكُلَّ مَحْفَلَةٍ والمُصْرَاةُ الَّتِي صُرَّىَ لَبَنُهَا وحُقِنَ فِيهِ وجُمِعَ فَلَمْ يُحْلَبْ أيَّاما وأصْلُ التَّصْرِيَةِ حَبْسُ المَاءِ يُقالُ مِنْهُ صَرَّيْتُ الماءَ إذَا حَبَسْتَهُ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان النَّهْي للْبَائِع أَن لَا يحفل، بِضَم الْيَاء وَتَشْديد الْفَاء: من التحفيل، وَفِي (الْمُحكم) : حفل اللَّبن فِي الضَّرع يحفل حفلاً وحفولاً، وتحفل واحتفل وَاجْتمعَ، وحفله هُوَ وحفله، وضرع حافل، وَالْجمع حفل، وناقة حافلة وحفول، والتحفيل التجميع، قَالَ أَبُو عبيد: سميت بذلك لِأَن اللَّبن يكثر فِي ضرْعهَا، وكل شَيْء كثرته فقد حفلته، واحتفل الْقَوْم إِذا كثر جمعهم، وَيُقَال مجْلِس حافل إِذا كثر الْخلق فِيهِ، وَمِنْه المحفل، وَوَقع فِي رِوَايَة النَّسَفِيّ: بابُُ نهي البَائِع أَن يحفل الْإِبِل وَالْغنم بِدُونِ كلمة: لَا، وَبِدُون ذكر الْبَقر، وَذكره أَبُو نعيم أَيْضا بِدُونِ كلمة: لَا.
.

     وَقَالَ  بَعضهم: لَا، زَائِدَة، وَجزم بِهِ،.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: لَا يجب كَونهَا زَائِدَة لاحْتِمَال أَن تكون مفسرة، و: لَا يحفل، بَيَانا للنَّهْي، وَقيد بقوله: للْبَائِع، وَهُوَ الْمَالِك إِشَارَة إِلَى أَنه لَو حفل لأجل عِيَاله، أَو لأجل الضَّيْف لم يمْنَع من ذَلِك.
فَإِن قلت: لَيْسَ للبقر ذكر فِي الحَدِيث، فلِمَ ذكرهَا فِي التَّرْجَمَة؟ قلت: لِأَنَّهَا فِي معنى الْإِبِل وَالْغنم فِي الحكم، وَفِيه خلاف دَاوُد الظَّاهِرِيّ على مَا يَأْتِي، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.

قَوْله: (وكل محفلة) بِالنّصب، عطف على الْإِبِل، أَي: لَا يحفل كل مَا من شَأْنهَا التحفيل، وَهُوَ من بابُُ عطف الْعَام على الْخَاص، وَأَشَارَ بِهَذَا إِلَى إِلْحَاق غير النعم من مَأْكُول اللَّحْم بِالنعَم، للجامع بَينهمَا، وَهُوَ تغرير المُشْتَرِي.
.

     وَقَالَ ت الْحَنَابِلَة وَبَعض الشَّافِعِيَّة: يخْتَص ذَلِك بِالنعَم، وَاخْتلفُوا فِي غير الْمَأْكُول كالأتان، وَالْجَارِيَة.
فَالْأَصَحّ لَا يرد اللَّبن عوضا.
وَبِه قَالَت الْحَنَابِلَة فِي الأتان دون الْجَارِيَة.
قَوْله: (والمصراة) ، مَرْفُوع لِأَنَّهُ مُبْتَدأ وَخَبره.
قَوْله: (الَّتِي صري لَبنهَا) ، والمصراة، بِضَم الْمِيم وَتَشْديد الرَّاء: اسْم مفعول من التصرية، يُقَال: صريت النَّاقة بِالتَّخْفِيفِ، وصريتها بِالتَّشْدِيدِ، وأصريتها: إِذا حفلتها، وناقة صرياء محفلة، وَجَمعهَا، صرايا، على غير قِيَاس.
.

     وَقَالَ  الْأَزْهَرِي: ذكر الشَّافِعِي الْمُصراة وفسرها أَنَّهَا الَّتِي تصر أخلافها وَلَا تحلب أَيَّامًا حَتَّى يجْتَمع اللَّبن فِي ضرْعهَا، فَإِذا حلبها المُشْتَرِي استغزرها،.

     وَقَالَ  الْأَزْهَرِي: جَائِز أَن تكون سميت مصراة من صر أخلافها، كَمَا ذكر، إلاَّ أَنه لما اجْتمعت فِي الْكَلِمَة ثَلَاث راآت قلبت إِحْدَاهَا يَاء، كَمَا فِي: تظنيت، فِي، تظننت، كَرَاهَة اجْتِمَاع الْأَمْثَال، قَالَ: وَجَائِز أَن تكون من الصري، وَهُوَ الْجمع، وَإِلَيْهِ ذهب الْأَكْثَرُونَ.
انْتهى.
قلت: إِذا كَانَت الْمُصراة من الصر، بِالتَّشْدِيدِ، يكون اسْم الْمَفْعُول مِنْهُ: مصرورة، وَلكنهَا تكون من صرر على وزن: فعل، فَيكون اسْم الْمَفْعُول مِنْهُ مصرر، وَلَكِن لما قلبت الرَّاء الثَّالِثَة يَاء لما ذكره، قلبت ألفا لتحركها وانفتاح مَا قبلهَا، فَصَارَت: مصراة.
وَإِذا كَانَت من الصري، وَهُوَ معتل اللاَّم اليائي، فَالْقِيَاس أَن يكون اسْم الْمَفْعُول مِنْهُ: مصراة، وَأَصلهَا مصرية، قلبت الْيَاء ألفا لتحركها وانفتاح مَا قبلهَا، وَالْقِيَاس التصريفي أَن يكون أَصْلهَا من صرى يصري تصرية من بابُُ التفعيل، فَفعل بهَا مَا ذكرنَا، وَلذَلِك قَالَ الْخطابِيّ: اخْتلف أهل الْعلم واللغة فِي تَفْسِير الْمُصراة، وَمن أَيْن أخذت، وَاشْتقت.
وَقَول البُخَارِيّ: والمصراة الَّتِي صري لَبنهَا على الْقيَاس الَّذِي ذَكرْنَاهُ، وَهُوَ الصَّحِيح.
قَوْله: (وحقن) ، فِيهِ معنى صرى، وَعطف عَلَيْهِ على سَبِيل الْعَطف التفسيري لِأَنَّهُ بِمَعْنَاهُ، وَالضَّمِير فِي: فِيهِ، يرجع إِلَى: الثدي، بِقَرِينَة ذكر اللَّبن.
قَوْله: (وأصل التصرية.
.
) إِلَى آخِره تَفْسِير أَكثر أهل اللُّغَة، وَأَبُو عبيد أَيْضا فسر هَكَذَا، وَأَشَارَ البُخَارِيّ بِهَذَا إِلَى أَن الصَّحِيح فِي تَفْسِير الْمُصراة أَن تكون من صرى من بابُُ فعل بِالتَّشْدِيدِ، وَمِنْه يُقَال: صريت المَاء أَي: حَبسته وَجمعته، وَيكون أصل: مصراة، على هَذَا: مصرية، فقلبت الْيَاء ألفا لتحركها وانفتاح مَا قبلهَا، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح، وَأكْثر مَا تكلمُوا فِيهِ خَارج عَن قانون التصريف.
فَافْهَم.



[ قــ :2064 ... غــ :2148 ]
- حدَّثنا يَحْيَى بنُ بُكَيْرٍ قَالَ حَدثنَا اللَّيْثُ عنْ جَعْفَرِ بنِ رَبِيعَةَ عنِ الأعْرَجِ قَالَ أبُو هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لاَ تَصُرُّوا الإبِلَ والْغَنَمَ فَمَنِ ابْتَاعَهَا بَعْدُ فإنَّهُ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ بَيْنَ أنْ يَحْتَلِبَهَا إنْ شاءَ أمْسَكَ وإنْ شَاءَ رَدَّهَا وصاعَ تَمْرٍ.
.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، والأعرج هُوَ عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز.

وَهَذَا الحَدِيث أخرجه بَقِيَّة الْأَئِمَّة السِّتَّة من طرق، وَقد رَوَاهُ عَن أبي هُرَيْرَة مُحَمَّد بن زِيَاد وَمُحَمّد بن سِيرِين والأعرج وَهَمَّام وَأَبُو صَالح ومُوسَى بن يسَار وثابت مولى عبد الرَّحْمَن بن زيد وَمُجاهد والوليد بن رَبَاح.
أما رِوَايَة مُحَمَّد بن زِيَاد فَانْفَرد بهَا التِّرْمِذِيّ، فَقَالَ: حَدثنَا أَبُو كريب حَدثنَا وَكِيع عَن حَمَّاد بن سَلمَة عَن مُحَمَّد بن زِيَاد عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من اشْترى مصراة فَهُوَ بِالْخِيَارِ) .
يَعْنِي: إِذا حلبها إِن شَاءَ ردهَا ورد مَعهَا صَاعا من تمر، وَأخرجه الطَّحَاوِيّ أَيْضا من رِوَايَة مُحَمَّد بن زِيَاد عَن أبي هُرَيْرَة.
وَأما رِوَايَة مُحَمَّد بن سِيرِين فأخرجها مُسلم عَن مُحَمَّد بن عَمْرو بن حبلة عَن أبي عَامر الْعَقدي.
وأخرجها مُسلم وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ من رِوَايَة أَيُّوب عَن مُحَمَّد بن سِيرِين.
وَأما رِوَايَة الْأَعْرَج فأخرجها الشَّيْخَانِ وَأَبُو دَاوُد من طَرِيق مَالك عَن أبي الزِّنَاد عَن الْأَعْرَج.
وَأما رِوَايَة همام فَانْفَرد بهَا مُسلم من طَرِيق عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن همام.
وَأما رِوَايَة أبي صَالح فَانْفَرد بهَا مُسلم أَيْضا من رِوَايَة يَعْقُوب ابْن عبد الرَّحْمَن عَن سُهَيْل بن أبي صَالح عَن أَبِيه.
وَأما رِوَايَة مُوسَى بن يسَار فأخرجها مُسلم وَالنَّسَائِيّ من رِوَايَة دَاوُد بن قيس عَنهُ.
وَأما رِوَايَة ثَابت وَهُوَ ابْن عِيَاض، فأخرجها البُخَارِيّ وَأَبُو دَاوُد من رِوَايَة زِيَاد بن سعد عَنهُ.
وَأما رِوَايَة مُجَاهِد والوليد بن رَبَاح فذكرهما البُخَارِيّ تَعْلِيقا على مَا يَأْتِي وَأخرج الطَّحَاوِيّ هَذَا الحَدِيث من ثَمَان طرق عَن ابْن سِيرِين بطريقين أَحدهمَا مَعَه خلاس بن عَمْرو وَمُحَمّد بن زِيَاد ومُوسَى بن يسَار والأعرج وَعِكْرِمَة وَأَبُو إِسْحَاق السبيعِي وَعبد الرَّحْمَن بن سعد مَعَ عِكْرِمَة.
.

قَوْله: (لَا تصروا الْإِبِل) ، بِفَتْح التَّاء وَضم الصَّاد، وَهُوَ نهي للْجَمَاعَة، وَالْإِبِل، مَنْصُوب ويروى: (لَا تصر) ، بِضَم التَّاء وَفتح الصَّاد بِصِيغَة الْإِفْرَاد على بِنَاء الْمَجْهُول، الْإِبِل مَرْفُوع بِهِ، وَالْغنم عطف على الْإِبِل بِالْوَجْهَيْنِ.
قَوْله: (فَمن ابتاعها) أَي: فَمن اشْترى الْمُصراة.
قَوْله: (بعد) ، قَالَ الْكرْمَانِي: أَي بعد هَذَا النَّهْي، أَو: بعد صر البَائِع.
قلت: الْوَجْه الثَّانِي هُوَ الْأَوْجه، وَالْأول فِيهِ الْبعد.
قَوْله: (فَإِنَّهُ) ، أَي: فَإِن الَّذِي ابتاعها.
قَوْله: (بِخَير النظرين) ، أَي: بِخَير الرأيين.
قَوْله: (أَن يحتلبها) ، بِكَسْر: إِن، كَذَا فِي الأَصْل على أَنَّهَا شَرْطِيَّة، ويحتلبها بِالْجَزْمِ لِأَنَّهُ فعل الشَّرْط، وَفِي رِوَايَة ابْن خُزَيْمَة والإسماعيلي من طَرِيق أَسد بن مُوسَى عَن اللَّيْث: بعد أَن يحلبها، بِفَتْح: أَن، وَنصب: يحلبها، وَظَاهر الحَدِيث أَن الْخِيَار لَا يثبت إلاَّ بعد الْحَلب، وَالْجُمْهُور على أَنه إِذا علم بالتصرية ثَبت لَهُ الْخِيَار، وَلَو لم يحلب.
لَكِن لما كَانَت التصرية لَا تعرف غَالِبا إلاَّ بعد الْحَلب ذكر قيدا فِي ثُبُوت الْخِيَار، فَلَو ظَهرت التصرية بعد الْحَلب فَالْخِيَار ثَابت.
قَوْله: (وَإِن شَاءَ ردهَا) ، وَفِي رِوَايَة مَالك: (وَإِن سخطها ردهَا) .
قَوْله: (وَصَاع تمر) ، مَنْصُوب بِشَيْء مُقَدّر، وَالتَّقْدِير: ورد مَعهَا صَاع تمر، قيل: يجوز أَن يكون مَفْعُولا مَعَه، وَأجِيب: بِأَن جُمْهُور النُّحَاة على أَن شَرط الْمَفْعُول مَعَه أَن يكون فَاعِلا نَحْو: جِئْت أَنا وزيدا.

ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: احْتج بِهَذَا الحَدِيث ابْن أبي ليلى وَمَالك وَاللَّيْث وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر وَأَبُو عبيد وَأَبُو سُلَيْمَان وَزفر وَأَبُو يُوسُف فِي بعض الرِّوَايَات، فَقَالُوا: من اشْترى مصراة فحلبها فَلم يرض بهَا فَإِنَّهُ يردهَا إِن شَاءَ، وَيرد مَعهَا صَاعا من تمر، إلاَّ أَن مَالِكًا قَالَ: يُؤَدِّي أهل كل بلد صَاعا من أغلب عيشهم، وَابْن أبي ليلى قَالَ: يرد مَعهَا قيمَة صَاع من تمر، وَهُوَ قَول أبي يُوسُف، وَلكنه غير مَشْهُور عَنهُ،.

     وَقَالَ  زفر: يرد مَعهَا صَاعا من تمر أَو صَاعا من شعير، أَو نصف صَاع من تمر.
وَفِي (شرح الْمُوَطَّأ) للأشبيلي: قَالَ مَالك: إِذا احتلبها ثَلَاثًا وسخطها لاخْتِلَاف لَبنهَا ردهَا وَمَعَهَا صَاعا من قوت ذَلِك الْبَلَد، تَمرا كَانَ أَو برا أَو غَيره.
وَبِه قَالَ الطَّبَرِيّ وَأَبُو عَليّ بن أبي هُرَيْرَة من أَصْحَاب الشَّافِعِي، وَعَن مَالك: يرد مكيلة مَا حلب من اللَّبن تَمرا أَو قِيمَته.
.

     وَقَالَ  أَكثر أَصْحَاب الشَّافِعِي: لَا يكون إلاَّ من التَّمْر، وَإِذا لم يجد المُشْتَرِي التَّمْر فَهَل ينْتَقل إِلَى غَيره؟ حكى الْمَاوَرْدِيّ فِيهِ وَجْهَيْن: أَحدهمَا: يرد قِيمَته بِالْمَدِينَةِ.
وَالثَّانِي: قِيمَته بأقرب بِلَاد التَّمْر إِلَيْهِ.
وَاقْتصر الرَّافِعِيّ على نقل الْوَجْه الأول عَن الْمَاوَرْدِيّ، والوجهان مَعًا فِي (الْحَاوِي) .
فَإِن اتّفق الْمُتَبَايعَانِ على غير التَّمْر فِي رد بدل لبن الْمُصراة، فقد حكى الرَّافِعِيّ عَن ابْن كج وَجْهَيْن فِي إِجْزَاء الْبر عَن التَّمْر إِذا اتفقَا عَلَيْهِ، فَكَانَ كالاستبدال عَمَّا فِي ذمَّته،.

     وَقَالَ  أَبُو حنيفَة وَمُحَمّد وَأَبُو يُوسُف فِي الْمَشْهُور عَنهُ وَمَالك فِي رِوَايَة وَأَشْهَب من الْمَالِكِيَّة وَابْن أبي ليلى فِي رِوَايَة وَطَائِفَة من أهل الْعرَاق: لَيْسَ للْمُشْتَرِي رد الْمُصراة بِخِيَار الْعَيْب، وَلكنه يرجع بِالنُّقْصَانِ، لِأَنَّهُ وجد مَا يمْنَع الرَّد وَهُوَ الزِّيَادَة الْمُنْفَصِلَة عَنْهَا، وَفِي الرُّجُوع بِالنُّقْصَانِ رِوَايَتَانِ عَن أبي حنيفَة فِي رِوَايَة (شرح الطَّحَاوِيّ) : يرجع على البَائِع بِالنُّقْصَانِ من الثّمن لتعذر الرَّد، وَفِي رِوَايَة (الْأَسْرَار) : لَا يرجع، لِأَن اجْتِمَاع اللَّبن وَجمعه لَا يكون عَيْبا.

وَأَجَابُوا عَن الحَدِيث بأجوبة.

الأول: مَا قَالَه مُحَمَّد بن شُجَاع: إِن هَذَا الحَدِيث نسخه حَدِيث: البيعان بِالْخِيَارِ مَا لم يَتَفَرَّقَا، فَلَمَّا قطع صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالفرقة الْخِيَار ثَبت بذلك أَن لَا خِيَار لأحد بعد ذَلِك إلاَّ لمن اسْتَثْنَاهُ سيدنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي هَذَا، وَهُوَ قَوْله: (إلاَّ بيع الْخِيَار الْمَجْهُول) ورده الطَّحَاوِيّ بِأَن الْخِيَار الْمَجْهُول فِي الْمُصراة إِنَّمَا هُوَ خِيَار عيب، وَخيَار الْعَيْب لَا تقطعه الْفرْقَة.

الثَّانِي: مَا قَالَه عِيسَى بن أبان، كَانَ ذَلِك فِي أول الْإِسْلَام حَيْثُ كَانَت الْعُقُوبَات فِي الدُّيُون حَتَّى نسخ الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الرِّبَا، فَردَّتْ الْأَشْيَاء الْمَأْخُوذَة إِلَى أَمْثَالهَا.

الثَّالِث: مَا قَالَه ابْن التِّين، وَمن جملَة مَا رووا بِهِ حَدِيث الْمُصراة بِالِاضْطِرَابِ، قَالَ مرّة: صَاعا من تمر، وَمرَّة: صَاعا من طَعَام، وَمرَّة مثل أَو مثلي لَبنهَا.

الرَّابِع: أَن الحَدِيث، وَإِن وَقع بِنَقْل الْعدْل الضَّابِط عَن مثله إِلَى قَائِله، لَا بُد فِي اعْتِبَاره أَن يكون غير شَاذ وَلَا مَعْلُول، وَهَذَا مَعْلُول لِأَنَّهُ يُخَالف عُمُوم الْكتاب وَالسّنة الْمَشْهُورَة، فَيتَوَقَّف بهَا عَن الْعَمَل بِظَاهِرِهِ.
أما عُمُوم الْكتاب فَقَوله تَعَالَى: { فاعتدوا عَلَيْهِ بِمثل مَا اعْتدى عَلَيْكُم} (الْبَقَرَة: 491) .
وَقَوله: { وَإِن عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمثل مَا عُوقِبْتُمْ} (النَّحْل: 621) .
وَأما الحَدِيث فَقَوله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (الْخراج بِالضَّمَانِ) ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ من حَدِيث ابْن عَبَّاس، وَصَححهُ، وَرَوَاهُ الطَّحَاوِيّ من حَدِيث عَائِشَة، ويروى: (الْغلَّة بِالضَّمَانِ) ، وَالْمرَاد بالخراج مَا يحصل من غلَّة الْعين المبتاعة، عبدا كَانَ أَو أمة أَو ملكا، وَذَلِكَ أَن يَشْتَرِيهِ فيستعمله زَمَانا ثمَّ يعثر مِنْهُ على عيب قديم لم يطلعه البَائِع عَلَيْهِ، أَو لم يعرفهُ، فَلهُ رد الْعين الْمَبِيعَة وَأخذ الثّمن، وَيكون للْمُشْتَرِي مَا اسْتَعْملهُ، لِأَن الْمَبِيع لَو كَانَ تلف فِي يَده لَكَانَ من ضَمَانه، وَلم يكن لَهُ على البَائِع شَيْء.

ثمَّ أَن هَؤُلَاءِ قد زَعَمُوا أَن رجلا لَو اشْترى شَاة فحلبها ثمَّ أصَاب عَيْبا غير التحفيل والتصرية أَنه يردهَا وَيكون اللَّبن لَهُ، وَكَذَلِكَ لَو اشْترى جَارِيَة مثلا فَولدت عِنْده ثمَّ ردهَا على البَائِع لعيب وجد بهَا، يكون الْوَلَد لَهُ، قَالُوا: لِأَن ذَلِك من الْخراج الَّذِي جعله النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، للْمُشْتَرِي بِالضَّمَانِ، فَإِذا كَانَ الْأَمر كَذَلِك، فالصاع من التَّمْر الَّذِي يُوجِبهُ هَؤُلَاءِ على مُشْتَرِي الْمُصراة إِذا ردهَا على بَايَعَهَا بِسَبَب التصرية والتحفيل، لَا يَخْلُو إِمَّا أَن يكون عوضا من جَمِيع اللَّبن الَّذِي احتلبه مِنْهَا، كَانَ بعضه فِي ضرْعهَا وَقت وُقُوع البيع، وَحدث بعضه فِي ضرْعهَا بعد البيع.
وَأما أَن يكون عوضا عَن اللَّبن الَّذِي فِي ضرْعهَا وَقت وُقُوع البيع خَاصَّة، فَإِن أَرَادوا الْوَجْه الأول فقد ناقضوا أصلهم الَّذِي جعلُوا بِهِ اللَّبن وَالْولد للْمُشْتَرِي بعد الرَّد بِالْعَيْبِ فِي الصُّورَتَيْنِ اللَّتَيْنِ ذكرناهما، وَذَلِكَ لأَنهم جعلُوا حكمهمَا كَحكم الْخراج الَّذِي فعله النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، للْمُشْتَرِي بِالضَّمَانِ، وَإِن أَرَادوا بِهِ الْوَجْه الثَّانِي فقد جعلُوا للْبَائِع صَاعا دينا بدين، وَهَذَا غير جَائِز لَا فِي قَوْلهم وَلَا فِي قَول غَيرهم، وَأي الْمَعْنيين أَرَادوا فهم فِيهِ تاركون أصلا من أصولهم، وَقد كَانَ هَؤُلَاءِ أولى بالْقَوْل بنسح الحكم فِي الْمُصراة لكَوْنهم يجْعَلُونَ اللَّبن فِي حكم الْخراج، وَغَيرهم لَا يجْعَلُونَ كَذَلِك، فَظهر من ذَلِك فَسَاد كَلَامهم وَفَسَاد مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ.
فَإِن قلت: لَا نسلم أَن يكون اللَّبن فِي حكم الْخراج، لِأَن اللَّبن لَيْسَ بغلة وَإِنَّمَا كَانَ محفلاً فِيهَا، فَيلْزم رده.
قلت: هَذَا مَمْنُوع، لِأَن الْغلَّة هِيَ الدخل الَّذِي يحصل، وَهِي أَعم من أَن يكون لَبَنًا أَو غَيره، وَأَيْضًا يلْزمهُم على هَذَا أَن يردوا عوض اللَّبن إِذا ردَّتْ الْمُصراة بِعَيْب آخر غير التصرية، وَلم يَقُولُوا بِهِ.
فَإِن قلت: هَذَا حكم خَاص فِي نَفسه، وَحَدِيث: الْخراج بِالضَّمَانِ، عَام، وَالْخَاص يقْضِي على الْعَام.
قلت: هَذَا زعمك، وَإِنَّمَا الأَصْل تَرْجِيح الْعَام على الْخَاص فِي الْعَمَل بِهِ، وَلِهَذَا رجحنا قَوْله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي الأَرْض: (مَا أخرجت فَفِيهِ الْعشْر) ، على الْخَاص الْوَارِد، بقوله: (لَيْسَ فِي الخضراوات صَدَقَة، وَلَيْسَ فِيمَا دون خَمْسَة أوسق صَدَقَة) ، وأمثال ذَلِك كَثِيرَة.

ويُذْكَرُ عنْ أبِي صَالِحٍ ومُجاهِدٍ والوَلِيدِ بنِ رَباحٍ ومُوسَى بنِ يَسارٍ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صاعَ تَمْرٍ
التَّعْلِيق عَن أبي صَالح ذكْوَان الزيات، رَوَاهُ مُسلم، قَالَ: حَدثنَا قُتَيْبَة بن سعيد حَدثنَا يَعْقُوب بن عبد الرَّحْمَن الْقَارِي عَن سُهَيْل عَن أَبِيه أبي صَالح عَن أبي هُرَيْرَة: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (من ابْتَاعَ شَاة مصراة فَهُوَ فِيهَا بِالْخِيَارِ ثَلَاث أَيَّام، إِن شَاءَ أمْسكهَا، وَإِن شَاءَ ردهَا ورد مَعهَا صَاعا من تمر) .
انْتهى.
وَأَحَادِيث الْمُصراة على نَوْعَيْنِ.
أَحدهمَا: مُطلق عَن ذكر مُدَّة الْخِيَار، وَبِه أخذت الْمَالِكِيَّة وحكموا فِيهَا بِالرَّدِّ مُطلقًا.
وَالْآخر: مِنْهَا: مُقَيّد ذكر مُدَّة الْخِيَار كَمَا فِي رِوَايَة مُسلم هَذِه، وَبِه أخذت الشَّافِعِيَّة، وَاسْتدلَّ بِهِ بَعضهم على أَن المُشْتَرِي لَو لم يطلع على التصرية إلاَّ بعد الثَّلَاث أَنه لَا يثبت لَهُ خِيَار الرَّد لظَاهِر الحَدِيث.
.

     وَقَالَ  شَيخنَا: وَالصَّحِيح عِنْد أَصْحَاب الشَّافِعِي ثُبُوته كَسَائِر الْعُيُوب، وَلكنه على الْفَوْر عِنْدهم بِلَا خلاف لَا يَمْتَد بعد الِاطِّلَاع عَلَيْهِ.

وَأما التَّعْلِيق عَن مُجَاهِد فوصله الْبَزَّار، حَدثنَا مُحَمَّد بن مُوسَى الْقطَّان حَدثنَا عَمْرو بن أبان حَدثنَا مُحَمَّد بن مُسلم الطَّائِفِي عَن ابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد عَن أبي هُرَيْرَة وَفِيه: من ابْتَاعَ مصراة فَلهُ أَن يردهَا وصاعا من طَعَام، وَمُحَمّد بن مُسلم فِيهِ مقَال،.

     وَقَالَ  صَاحب (التَّلْوِيح) : وَالَّذِي علقه عَن مُجَاهِد لم أره إلاَّ مَا فِي مُسْند الْبَزَّار.
قلت: رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ أَيْضا فِي الْأَوْسَط وَالدَّارَقُطْنِيّ فِي سنَنه.

وَأما التَّعْلِيق عَن الْوَلِيد بن رَبَاح، بِفَتْح الرَّاء وَالْبَاء الْمُوَحدَة، فوصله أَحْمد بن منيع بِلَفْظ: (من اشْترى مصراة فليرد مَعهَا صَاعا من تمر) .

وَأما التَّعْلِيق عَن مُوسَى بن يسَار، بِفَتْح الْيَاء آخر الْحُرُوف وَالسِّين الْمُهْملَة فوصله مُسلم: حَدثنَا عبد الله بن مسلمة بن قعنب حَدثنَا دَاوُد بن قيس عَن مُوسَى بن يسَار عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من اشْترى شَاة مصراة فلينقلب بهَا فليحلبها، فَإِن رَضِي حلابها أمْسكهَا وإلاَّ ردهَا وَمَعَهَا صَاع تمر) .

وَقَالَ بَعْضُهُمْ عنِ ابنِ سِيرِينَ صَاعا منْ طَعَامٍ وهْوَ بِالخَيَارِ ثَلاَثا
التَّعْلِيق عَن مُحَمَّد بن سِيرِين رَوَاهُ مُسلم: حَدثنَا مُحَمَّد بن عَمْرو بن جبلة بن أبي رواد حَدثنَا أَبُو عَامر يَعْنِي: الْعَقدي حَدثنَا قُرَّة عَن مُحَمَّد عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (من اشْترى شَاة مصراة فَهُوَ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَة أَيَّام، فَإِن ردهَا رد مَعهَا صَاعا لَا سمراء) ، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ أَيْضا، ثمَّ قَالَ: معنى من طَعَام: لَا سمراء، لَا بر.
.

     وَقَالَ  الْبَيْهَقِيّ: المُرَاد بِالطَّعَامِ هُنَا التَّمْر، لقَوْله: لَا سمراء قلت: لَا يعلم أَن المُرَاد من الطَّعَام هَهُنَا التَّمْر، وَلَا قَوْله: لَا سمراء، يدل عَلَيْهِ لِأَن الَّذِي يفهم مِنْهُ أَن لَا يكون قمحا وَغَيره أَعم من أَن يكون تَمرا أَو غَيره.
.

     وَقَالَ  بَعضهم: وروى ابْن الْمُنْذر من طَرِيق ابْن عون عَن ابْن سِيرِين أَنه سمع أَبَا هُرَيْرَة يَقُول: لَا سمراء، تمر لَيْسَ ببر، فَهَذِهِ الرِّوَايَة تبين أَن المُرَاد بِالطَّعَامِ التَّمْر، وَلما كَانَ الْمُتَبَادر إِلَى الذِّهْن أَن المُرَاد بِالطَّعَامِ الْقَمْح نَفَاهُ بقوله: لَا سمراء، ورد هَذَا بِمَا رَوَاهُ الْبَزَّار من طَرِيق أَشْعَث بن عبد الْملك عَن ابْن سِيرِين بِلَفْظ: إِن ردهَا ردهَا وَمَعَهَا صَاع من بر لَا سمراء.
قلت: الظَّاهِر من قَوْله: (لَا سمراء) نفي لقمح مَخْصُوص، وَهِي الْحِنْطَة الشامية، وَقد روى الطَّحَاوِيّ من طَرِيق أَيُّوب عَن ابْن سِيرِين: أَن المُرَاد بالسمراء الْحِنْطَة الشامية، وَهِي كَانَت أغْلى ثمنا من الْبر الْحِجَازِي فَكَأَنَّهُ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَمر برد الصَّاع من الْبر الْحِجَازِي لِأَن الْبر الشَّامي لكَونه أغْلى ثمنا قصد التَّخْفِيف عَلَيْهِم، وَجَاء فِي الحَدِيث أَيْضا: أَن الطَّعَام غير التَّمْر، وَهُوَ مَا رَوَاهُ أَحْمد بِإِسْنَاد صَحِيح عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى عَن رجل من الصَّحَابَة نَحْو حَدِيث الْبابُُ، وَفِيه: وَإِن ردهَا رد مَعهَا صَاعا من تمر، فَإِن ظَاهره يَقْتَضِي التَّخْيِير بَين التَّمْر وَالطَّعَام، وَأَن الطَّعَام غير التَّمْر.

وَقَالَ بَعْضُهُمْ عنِ ابنِ سِيرِينَ صَاعا مِنْ تَمْرٍ ولَمْ يَذْكُرْ ثَلاثا والتَّمْرُ أكْثَرُ
هَذَا التَّعْلِيق رَوَاهُ مُسلم حَدثنَا ابْن أبي عمر، حَدثنَا سُفْيَان عَن أَيُّوب عَن مُحَمَّد عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من اشْترى شَاة مصراة فَهُوَ بِخَير النظرين: إِن شَاءَ أمْسكهَا، وَإِن شَاءَ ردهَا وصاعا من تمر لَا سمراء) .
قَوْله: (وَالتَّمْر أَكثر) من كَلَام البُخَارِيّ.
أَي: أَكثر من الطَّعَام، قَالَه الْكرْمَانِي، وَقيل: أَكثر عددا من الرِّوَايَات الَّتِي لم ينص عَلَيْهِ، أَو أبدلته بِذكر الطَّعَام.
.

     وَقَالَ  بَعضهم: قد أَخذ بِظَاهِر هَذَا الحَدِيث جُمْهُور أهل الْعلم، وَأفْتى بِهِ ابْن مَسْعُود وَأَبُو هُرَيْرَة، وَلَا مُخَالف لَهُم من الصَّحَابَة،.

     وَقَالَ  بِهِ من التَّابِعين وَمن بعدهمْ من لَا يُحْصى عدده، وَلم يفرقُوا بَين أَن يكون اللَّبن الَّذِي احتلب قَلِيلا أَو كثيرا، وَلَا بَين أَن يكون تمر تِلْكَ الْبَلَد أم لَا.
انْتهى.

قلت: أَبُو حنيفَة غير مُنْفَرد بترك الْعَمَل بِحَدِيث الْمُصراة، بل مَذْهَب الْكُوفِيّين وَابْن أبي ليلى وَمَالك فِي رِوَايَة مثل مَذْهَب أبي حنيفَة، وَقد نهى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن التصرية، وروى ابْن مَاجَه من حَدِيث ابْن مَسْعُود أَنه قَالَ: أشهد على الصَّادِق المصدوق أبي الْقَاسِم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: بيع المحفلات خلابة وَلَا تحل الخلابة لمُسلم) .
انْتهى.
قلت: وَالْكل مجمعون على أَن التصرية حرَام وغش وخداع، وَلأَجل كَون بيعهَا صَحِيحا مَعَ كَونهَا حَرَامًا أجَاب عَنْهَا بِمَا ذَكرْنَاهُ فِيمَا مضى عَن قريب.
وَأقوى الْوُجُوه فِي ترك الْعَمَل بهَا مخالفتها لِلْأُصُولِ من ثَمَانِيَة أوجه.

أَحدهَا: أَنه أوجب من الرَّد من غير عيب وَلَا شَرط.
الثَّانِي: أَنه قدر الْخِيَار بِثَلَاثَة أَيَّام، وَإِنَّمَا يتَقَيَّد بِالثلَاثِ خِيَار الشَّرْط.
الثَّالِث: أَنه أوجب الرَّد بعد ذهَاب جُزْء من الْمَبِيع.
الرَّابِع: أَنه أوجب الْبَدَل مَعَ قيام الْمُبدل.
الْخَامِس: أَنه قدره بِالتَّمْرِ أَو بِالطَّعَامِ والمتلفات إِنَّمَا تضمن بأمثالها أَو قيمتهَا بِالنَّقْدِ.
السَّادِس: أَن البن من ذَوَات الْأَمْثَال، فَجعل ضَمَانه فِي هَذَا الْخَبَر بِالْقيمَةِ.
السَّابِع: أَنه يُؤَدِّي إِلَى الرِّبَا فِيمَا إِذا بَاعهَا بِصَاع تمر.
الثَّامِن: أَنه يُؤَدِّي إِلَى الْجمع بَين الْعِوَض والمعوض.

وَقَالَ هَذَا الْقَائِل أَيْضا: لم ينْفَرد أَبُو هُرَيْرَة بِرِوَايَة هَذَا الأَصْل، فقد أخرجه أَبُو دَاوُد من حَدِيث عمر، وَأخرجه الطَّبَرَانِيّ من وَجه آخر عَنهُ، وإبو يعلى من حَدِيث أنس.
وَأخرجه الْبَيْهَقِيّ فِي (الخلافيات) من طَرِيق عَمْرو بن عَوْف الْمُزنِيّ.
وَأخرجه أَحْمد من رِوَايَة رجل من الصَّحَابَة لم يسم،.

     وَقَالَ  ابْن عبد الْبر: هَذَا الحَدِيث مجمع على صِحَّته وثبوته من جِهَة النَّقْل.

قلت: أما حديثابن عمر فَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد من رِوَايَة صَدَقَة بن سعيد الْجعْفِيّ عَن جَمِيع بن عُمَيْر التَّيْمِيّ،، قَالَ: سَمِعت عبد الله بن عمر يَقُول: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من ابْتَاعَ محفلة فَهُوَ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَة أَيَّام، فَإِن رد مَعهَا مثل أَو مثلي لَبنهَا قمحا) ، قَالَ الْخطابِيّ: لَيْسَ إِسْنَاده بذلك.
.

     وَقَالَ  الْبَيْهَقِيّ: تفرد بِهِ جَمِيع بن عُمَيْر،.

     وَقَالَ  البُخَارِيّ: فِيهِ نظر، وَذكره ابْن حبَان فِي الضُّعَفَاء،.

     وَقَالَ : كَانَ رَافِضِيًّا يضع الحَدِيث.
.

     وَقَالَ  ابْن نمير: كَانَ من أكذب النَّاس،.

     وَقَالَ  ابْن عدي: عَامَّة مَا يرويهِ لَا يُتَابع عَلَيْهِ.
.

     وَقَالَ  أَبُو حَاتِم: كُوفِي صَالح الحَدِيث من عنق الشِّيعَة.
وَأما حَدِيث أنس فَأخْرجهُ أَبُو يعلى وَفِي سَنَده إِسْمَاعِيل ابْن مُسلم الْمَكِّيّ وَهُوَ ضَعِيف.
وَأخرجه الْبَيْهَقِيّ أَيْضا من رِوَايَة إِسْمَاعِيل بن مُسلم عَن الْحسن عَن أنس بن مَالك، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من اشْترى شَاة محفلة فَإِن لصَاحِبهَا أَن يحتلبها، فَإِن رضيها فليمسكها، وإلاَّ فليردها وصاعا من تمر) .
وَالْمَحْفُوظ أَنه مُرْسل.
وَأما حَدِيث رجل من الصَّحَابَة، فَأخْرجهُ أَحْمد عَنهُ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (لَا يتلَقَّى الجلب وَلَا يَبِيع حَاضر لباد، وَمن اشْترى شَاة مصراة أَو نَاقَة) .
قَالَ شُعْبَة: إِنَّمَا قَالَ: نَاقَة مرّة وَاحِدَة.
(فَهُوَ مِنْهَا بِأحد النظرين، إِذا هُوَ حلب، إِن ردهَا رد مَعهَا صَاعا من طَعَام) .
قَالَ الحكم: أَو صَاعا من تمر، ثمَّ إِن بَعضهم قد تصدى للجواب عَمَّا قَالَت الْحَنَفِيَّة فِي هَذَا الْموضع، فَمَا قَالُوا: إِن هَذَا يَعْنِي: حَدِيث الْمُصراة خبر وَاحِد لَا يُفِيد إلاَّ الظَّن، وَهُوَ مُخَالف لقياس الْأُصُول الْمَقْطُوع بِهِ، فَلَا يلْزم الْعَمَل بِهِ.

ثمَّ قَالَ هَذَا الْقَائِل وَتعقب: بِأَن التَّوَقُّف فِي خبر الْوَاحِد إِنَّمَا هُوَ فِي مُخَالفَة الْأُصُول لَا فِي مُخَالفَة قِيَاس الْأُصُول، وَهَذَا الْخَبَر إِنَّمَا خَالف قِيَاس الْأُصُول بِدَلِيل أَن الْأُصُول الْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع وَالْقِيَاس، وَالْكتاب وَالسّنة فِي الْحَقِيقَة هما الأَصْل والآخران مردودان اليهما، فَالسنة أصل وَالْقِيَاس فرع، فَكيف يرد الأَصْل بالفرع؟ بل الحَدِيث الصَّحِيح أصل بِنَفسِهِ فَكيف يُقَال: إِن الأَصْل يُخَالف نَفسه؟ انْتهى.
قلت: قَوْله: وَهُوَ مُخَالف لقياس الْأُصُول، لم يقل بِهِ الْحَنَفِيَّة، كَذَا، وَكَيف ينْقل عَنْهُم مَا لم يَقُولُوا أَو قَالُوا؟ فينقل عَنْهُم بِخِلَاف مَا أَرَادوا مِنْهُ لعدم التروي وَعدم إِدْرَاك التَّحْقِيق فِيهِ؟ فَكيف يُقَال: وَهُوَ مُخَالف لقياس الْأُصُول، وَالْحَال أَن الْقيَاس أصل من الْأُصُول، لِأَن الْحَنَفِيَّة عدوا الْقيَاس أصلا رَابِعا، على مَا فِي كتبهمْ الْمَشْهُورَة، فَيكون معنى مَا نقلوا من هَذَا، وَهُوَ مُخَالف لأصل الْأُصُول، وَهُوَ كَلَام فَاسد، وَقَوله: وَالْقِيَاس فرع، كَلَام فَاسد أَيْضا لِأَنَّهُ عد أصلا رَابِعا، فَكيف يَقُول: إِنَّه فرع، حَتَّى يَتَرَتَّب عَلَيْهِ قَوْله؟ فَكيف يرد الأَصْل بالفرع؟ ثمَّ إِنَّه نقل عَن ابْن السَّمْعَانِيّ من قَوْله: مَتى ثَبت الْخَبَر صَار أصلا من الْأُصُول، وَلَا يحْتَاج إِلَى عرضه على أصل آخر، لِأَنَّهُ إِن وَافقه فَذَاك، وَإِن خَالفه لم يجز رد أَحدهمَا لِأَنَّهُ رد للْخَبَر، وَهُوَ مَرْدُود بِاتِّفَاق؟ انْتهى.

قلت: ثمَّ نقل عَن ابْن السَّمْعَانِيّ من قَوْله: وَالْأولَى عِنْدِي فِي هَذِه الْمَسْأَلَة تَسْلِيم الأقيسة، لَكِنَّهَا لَيست لَازِمَة، لِأَن السّنة الثَّابِتَة مُقَدّمَة عَلَيْهَا وعَلى تَقْدِير التنزل فَلَا نسلم أَنه مُخَالف لقياس الْأُصُول، لِأَن الَّذِي ادعوهُ عَلَيْهِ من الْمُخَالفَة بينوها بأوجه: أَحدهَا: أَن الْمَعْلُوم من الْأُصُول أَن ضَمَان الْمِثْلِيَّات بِالْمثلِ والمتقومات بِالْقيمَةِ، وَهَهُنَا إِن كَانَ اللَّبن مثلِيا فليضمن بِاللَّبنِ، وَإِن كَانَ مُتَقَوّما فليضمن بِأحد النَّقْدَيْنِ، وَقد وَقع هُنَا مَضْمُونا بِالتَّمْرِ فَخَالف الأَصْل، وَالْجَوَاب منع الْحصْر، فَإِن الْحر يضمن فِي دِيَته بِالْإِبِلِ، وَلَيْسَت مثلا لَهُ، وَلَا قيمَة، وَأَيْضًا فضمان الْمثل بِالْمثلِ لَيْسَ مطردا، فقد يضمن الْمثل بِالْقيمَةِ إِذا تَعَذَّرَتْ الْمُمَاثلَة، كمن أتلف شَاة لبونا كَانَ عَلَيْهِ قيمتهَا، وَلَا يَجْعَل بِإِزَاءِ لَبنهَا لَبَنًا آخر، لتعذر الْمُمَاثلَة.
انْتهى.
قلت: قَوْله: فَلَا نسلم أَنه مُخَالف لقياس الْأُصُول ... إِلَى آخِره، غير مُسلم لِأَن مُخَالفَته للقاعدة الْأَصْلِيَّة ظَاهِرَة، وَهِي أَن ضَمَان الْمثل بِالْمثلِ وَضَمان الْمُتَقَوم بِالْقيمَةِ، وَهَذِه الْقَاعِدَة مطردَة فِي بابُُهَا، وَضَمان الْمثل بِالْقيمَةِ عِنْد التَّعَذُّر خَارج عَن بابُُ الْقَاعِدَة الْمَذْكُورَة، فَلَا يرد عَلَيْهَا الِاعْتِرَاض بذلك، لِأَن بابُُ التَّعَذُّر مُسْتَثْنى عَنْهَا، والتعذر تَارَة يكون بالاستحالة كَمَا فِي ضَمَان الْحر بِالْإِبِلِ، وَتارَة يكون بِالْعدمِ، كتعذر الْمُمَاثلَة فِي ضَمَان لبن الشَّاة واللبون، وَأَيْضًا فِي مَسْأَلَة الشَّاة اللَّبُون: اللَّبن جُزْء من أَجْزَائِهَا، فَيدْخل فِي ضَمَان الْكل، وَدفع الصَّاع من التَّمْر أَو غَيره مَعَ اللَّبن فِي الْمُصراة إِنَّمَا كَانَ فِي وَقت الْعقُوبَة فِي الْأَمْوَال بِالْمَعَاصِي، وَذَلِكَ لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَص على أَن بيع المحفلات خلابة، والخلابة حرَام، فَكَانَ من فعل هَذَا وَبَاعَ صَار مُخَالفا لما أَمر بِهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وداخلاً فِيمَا نهى عَنهُ، فَكَانَت عُقُوبَته فِي ذَلِك أَن يَجْعَل اللَّبن المحلوب فِي الْأَيَّام الثَّلَاثَة للْمُشْتَرِي بِصَاع من تمر، وَلَعَلَّه يُسَاوِي آصعا كَثِيرَة، ثمَّ نسخت الْعُقُوبَات فِي الْأَمْوَال بِالْمَعَاصِي، وَردت الْأَشْيَاء إِلَى مَا ذَكرْنَاهُ من الْقَاعِدَة الْأَصْلِيَّة.

ثمَّ ذكر ابْن السَّمْعَانِيّ عَن الْحَنَفِيَّة أَنهم قَالُوا: إِن الْقَوَاعِد تَقْتَضِي أَن يكون الْمَضْمُون مُقَدّر الضَّمَان بِقدر التَّالِف، وَذَلِكَ مُخْتَلف، وَقد قدر هَهُنَا بِمِقْدَار وَاحِد وَهُوَ الصَّاع، فَخرج عَن الْقيَاس.
وَالْجَوَاب: منع التَّعْمِيم فِي المضمونات كالموضحة، فأرشها مُقَدّر مَعَ اختلافها بِالْكبرِ والصغر، والغرة مقدرَة فِي الْجَنِين مَعَ اختلافه.
انْتهى.
قلت: لَا نسلم منع التَّعْمِيم فِي بابُُه كَمَا ذكرنَا، وَمَا مثل بِهِ على وَجه الْإِيرَاد على الْقَاعِدَة غير وَارِد لأَنا قُلْنَا: إِن الَّذِي يفعل من ذَلِك عِنْد التَّعَذُّر خَارج من بابُُ الْقَاعِدَة، غير دَاخل فِيهَا، حَتَّى يمْنَع اطراد الْقَاعِدَة، ثمَّ ذكر عَنْهُم أَيْضا أَن اللَّبن التَّالِف إِن كَانَ مَوْجُودا عِنْد العقد فقد ذهب جُزْء من الْمَعْقُود عَلَيْهِ من أصل الْخلقَة، وَذَلِكَ مَانع من الرَّد، فقد حدث على ملك المُشْتَرِي فَلَا يضمنهُ، وَإِن كَانَ مختلطا، فَمَا كَانَ مِنْهُ مَوْجُودا عِنْد العقد، وَمَا كَانَ حَادِثا لم يحب ضَمَانه.
وَالْجَوَاب: أَن يُقَال: إِنَّمَا يمْتَنع الرَّد بِالنَّقْصِ إِذا لم يكن لاستعلام الْعَيْب، وإلاَّ فَلَا يمْتَنع، وَهنا كَذَلِك.
انْتهى.
قلت: الَّذِي قَالُوهُ كَلَام وَاضح صَحِيح، وَالْجَوَاب الَّذِي أَجَابَهُ لَيْسَ بِشَيْء، فَهَل يرضى أحد أَن يرد هَذَا الْكَلَام بِمثل هَذَا الْجَواب؟ وَلَيْسَ الْعجب مِنْهُ، وَإِنَّمَا الْعجب من الَّذِي يَنْقُلهُ فِي تأليفه ويرضى بِهِ.

ثمَّ ذكر عَنْهُم فِيمَا قَالُوا: بِأَنَّهُ خَالف الْأُصُول فِي جعل الْخِيَار فِيهِ ثَلَاثًا، مَعَ أَن خِيَار الْعَيْب لَا يقدر بِالثلَاثِ، وَكَذَا خِيَار الْمجْلس عِنْد من يَقُول بِهِ، وَخيَار الرُّؤْيَة عِنْد من يُثبتهُ.
ثمَّ أجَاب: بِأَن حكم الْمُصراة انْفَرد بِأَصْلِهِ عَن مماثله، فَلَا تستغرب أَن ينْفَرد بِوَصْف زَائِد على غَيره، انْتهى.
قلت: لانفراده بِأَصْلِهِ عَن مماثله قُلْنَا: إِنَّه مَنْسُوخ، كَمَا ذكرنَا فِيمَا مضى.

ثمَّ ذكر عَنْهُم أَنهم قَالُوا: يلْزم من الْأَخْذ بِهِ الْجمع بَين الْعِوَض والمعوض، ثمَّ أجَاب: بِأَن التَّمْر عوض عَن اللَّبن لَا عَن الشَّاة.
قلت: لَيْسَ دفع التَّمْر الْإِجْزَاء لما ارْتكب من الْعِصْيَان حِين كَانَت الْعقُوبَة بالأموال فِي الْمعاصِي.

ثمَّ ذكر عَنْهُم بِأَنَّهُ مُخَالف لقاعدة الرِّبَا فِيمَا إِذا اشْترى شَاة بِصَاع، فَإِذا اسْتردَّ مَعهَا صَاعا فقد اسْترْجع الصَّاع الَّذِي هُوَ الثّمن، فَيكون قد بَاعَ شَاة وصاعا بِصَاع.
الْجَواب: أَن الرِّبَا إِنَّمَا يعْتَبر فِي الْعُقُود لَا فِي الفسوخ، بِدَلِيل أَنَّهُمَا لَو تبَايعا ذَهَبا بِفِضَّة لم يجز أَن يَتَفَرَّقَا قبل الْقَبْض، فَلَو تقابلا فِي هَذَا العقد بِعَيْنِه جَازَ التَّفَرُّق قبل الْقَبْض.
انْتهى.
قلت: ذكره هَذِه الْمَسْأَلَة تَأْكِيدًا لما قَالَه من الْجَواب لَا يفِيدهُ، لِأَن بالإقالة صَار العقد كَأَنَّهُ لم يكن، وَعَاد كل شَيْء إِلَى أَصله فَلَا يحْتَاج إِلَى أَن يُقَال: جَازَ التَّفَرُّق قبل الْقَبْض.

ثمَّ ذكر عَنْهُم بِأَنَّهُم قَالُوا: يلْزم مِنْهُ ضَمَان الْأَعْيَان مَعَ بَقَائِهَا فِيمَا إِذا كَانَ اللَّبن مَوْجُودا والأعيان لَا تضمن بِالْبَدَلِ إلاَّ مَعَ فَوَاتهَا كالمغصوب، وَالْجَوَاب: أَن اللَّبن وَإِن كَانَ مَوْجُودا لكنه تعذر رده لاختلاطه بِاللَّبنِ الْحَادِث بعد العقد، وَتعذر تَمْيِيزه، فَأشبه الْآبِق بعد الْغَصْب، فَإِنَّهُ يضمن قِيمَته مَعَ بَقَاء عينه لتعذر الرَّد انْتهى.
قلت: لما تعذر رد اللَّبن لاختلاطه بِاللَّبنِ الْحَادِث صَار حكمه حكم الْعَدَم فَيضمن بِالْبَدَلِ، كَالْعَيْنِ الْمَغْصُوبَة إِذا هَلَكت عِنْد الْغَاصِب، وتشبيهه بِالْعَبدِ الْآبِق غير صَحِيح، لِأَنَّهُ إِذا تعذر رده صَار فِي حكم الْهَالِك، فَيتَعَيَّن الْقيمَة.

ثمَّ نقل عَنْهُم بِأَنَّهُ: يلْزم مِنْهُ إِثْبَات الرَّد بِغَيْر عيب وَلَا شَرط، ثمَّ أجَاب: بِأَنَّهُ لما رأى ضرعا مملوءا لَبَنًا ظن أَنه عَادَة لَهَا، فَكَانَ البايع شَرط لَهُ ذَلِك، فَتبين لَهُ الْأَمر بِخِلَافِهِ، فَثَبت لَهُ الرَّد لفقد الشَّرْط الْمَعْنَوِيّ.
انْتهى.
قلت: البيع بِمثل هَذَا الشَّرْط فَاسد إِن كَانَ لفظيا، فبالمعنوي بِالْأولَى، وَلَا يَصح من الشُّرُوط إلاَّ شَرط الْخِيَار بِالنَّصِّ الْوَارِد فِيهِ، وَأما الْعَيْب فَإِذا ظهر فَإِنَّهُ يردهُ وَلَا يحْتَاج فِيهِ إِلَى الشَّرْط.



[ قــ :065 ... غــ :149 ]
- حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدَّثنا مُعْتَمِرٌ قَالَ سَمِعْتُ أبِي يَقُولُ حدَّثنا أبُو عُثْمَانَ عنْ عَبْدِ الله ابنِ مَسْعُودٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قالَ مَنِ اشْتَرَى شَاة محَفَّلَةً فرَدَّهَا فلْيَرُدَّ معَهَا صَاعا ونَهَى النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنْ تُلَقَّى الْبُيُوعُ.
( الحَدِيث 941 طرفه فِي: 461) .


مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه دَاخل فِي الحَدِيث السَّابِق المطابق للتَّرْجَمَة.

ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: مُسَدّد.
الثَّانِي: مُعْتَمر، بِضَم الْمِيم الأولى وَكسر الثَّانِيَة: ابْن سُلَيْمَان.
الثَّالِث: أَبوهُ سُلَيْمَان بن طرخان.
الرَّابِع: أَبُو عُثْمَان عبد الرَّحْمَن بن مل النَّهْدِيّ بالنُّون أسلم فِي عهد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأدّى إِلَيْهِ الصَّدقَات وغزا غزوات فِي عهد عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، مَاتَ فِي سنة خمس وَتِسْعين وعمره مائَة وَثَلَاثُونَ سنة.
الْخَامِس: عبد الله بن مَسْعُود، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.

ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع.
وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع.
وَفِيه: السماع.
وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين.
وَفِيه: أَن رِجَاله كلهم بصريون غير ابْن مَسْعُود.
وَفِيه: رِوَايَة الابْن عَن الْأَب.
وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ عَن الصَّحَابِيّ.

ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ مفرقا عَن مُسَدّد وَيزِيد بن زُرَيْع، وَأخرجه مُسلم فِيهِ عَن أبي بكر بن أبي شيبَة.
وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن هناد بن السّري.
وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي التِّجَارَات عَن يحيى بن حَكِيم، ثمَّ إِن هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الْأَكْثَرُونَ عَن مُعْتَمر بن سُلَيْمَان مَوْقُوفا.
وَأخرجه الْإِسْمَاعِيلِيّ من طَرِيق عبيد الله بن معَاذ عَن مُعْتَمر بن سُلَيْمَان مَرْفُوعا، وَذكر أَن رَفعه غلط، وَرَوَاهُ أَكثر أَصْحَاب سُلَيْمَان عَنهُ كَمَا هُنَا مَوْقُوفا حَدِيث المحفلة من كَلَام ابْن مَسْعُود، وَحَدِيث النَّهْي عَن التلقي مَرْفُوع، وَخَالفهُم أَبُو خَالِد الْأَحْمَر عَن سُلَيْمَان التَّيْمِيّ، فَرَوَاهُ بِهَذَا الْإِسْنَاد مَرْفُوعا.
أخرجه الْإِسْمَاعِيلِيّ وَأَشَارَ إِلَى وهمه أَيْضا.

ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: ( فَردهَا فليرد مَعهَا صَاعا) ، قَالَ الْكرْمَانِي: هُوَ من قبيل:
( علفتها تبنا وَمَاء بَارِدًا)

بِأَن يُقَال: إِن ثمَّة إضمارا أَي: وسقيتها مَاء، أَو يَجْعَل: علفتها، مجَازًا عَن فعل شَامِل للتعليف والسقي، نَحْو: أعطيتهَا.
وَقيل: فَردهَا أَي أَرَادَ ردهَا فليرد مَعهَا،.

     وَقَالَ  بَعضهم: يجوز أَن تكون مَعَ بِمَعْنى بعد، فَيكون الْمَعْنى فليرد بعْدهَا صَاعا.
وَاسْتشْهدَ لقَوْله هَذَا بقوله تَعَالَى: { وَأسْلمت مَعَ سُلَيْمَان} ( النَّمْل: 44) .
قلت: لم يذكر النُّحَاة لمع إلاَّ ثَلَاث معَان: أَحدهَا: مَوضِع الِاجْتِمَاع، وَلِهَذَا يخبر بهَا عَن الذوات نَحْو: { وَالله مَعكُمْ} ( مُحَمَّد: 53) .
الثَّانِي: زَمَانه، نَحْو جئْتُك مَعَ الْعَصْر.
وَالثَّالِث: مرادفة: عِنْد، وَمَا رَأَيْت فِي كتب الْقَوْم مَا يدل على مَا ذكره.
قَوْله: ( تلقى) ، أَي: يسْتَقْبل، والتلقي الِاسْتِقْبَال، وَهُوَ بِضَم التَّاء وَفتح اللَّام وَتَشْديد الْقَاف، ويروى بِالتَّخْفِيفِ.
قَوْله: ( الْبيُوع) ، أَي: أَصْحَاب الْبيُوع، أَو المُرَاد من الْبيُوع: المبيعات.





[ قــ :067 ... غــ :150 ]
- حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا مالِك عنْ أبِي الزِّنادِ عَن الأعْرَجِ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لاَ تَلَقَّوُا الرُّكْبَانَ ولاَ يَبِيعُ بَعْضُكُمْ علَى بَيْعِ بَعْضٍ ولاَ تَنَاجَشُوا ولاَ يَبِيعُ حَاضِرٌ لِبادٍ ولاَ تُصَرُّوا الْغَنَمَ ومَنِ ابْتَاعَهَا فَهْوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ بَعْدَ أنْ يَحْتَلِبَهَا إنْ رَضِيَهَا أمْسَكَهَا وإنْ سَخِطَهَا رَدَّهَا وصاعا مِنْ تَمْرٍ.
.


مطابقته للتَّرْجَمَة أوضح مَا يكون.
وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، وَأَبُو الزِّنَاد، بالزاي وَالنُّون: عبد الله بن ذكْوَان، والأعرج عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز.

والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْبيُوع أَيْضا عَن يحيى بن يحيى.
وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن القعْنبِي، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة، الْكل عَن مَالك.

قَوْله: ( لَا تلقوا الركْبَان) ، بِفَتْح الْقَاف، وَأَصله: لَا تتلقوا، بتاءين، فحذفت إِحْدَاهمَا أَي: لَا تستقبلوا الَّذين يحملون الْمَتَاع إِلَى الْبَلَد للاشتراء مِنْهُم، قبل قدوم الْبَلَد وَمَعْرِفَة السّعر.
.

     وَقَالَ  ابْن عبد الْبر: وَأما قَوْله: ( لَا تلقوا الركْبَان) ، فقد رُوِيَ هَذَا الْمَعْنى بِأَلْفَاظ مُخْتَلفَة، فَرَوَاهُ الْأَعْرَج عَن أبي هُرَيْرَة: ( لَا تلقوا الركْبَان) وَفِي رِوَايَة ابْن سِيرِين: ( لَا تلقوا الجلب) وَلَا رِوَايَة أبي صَالح وَغَيره: نهى أَن يتلَقَّى السّلع حَتَّى يدْخل الْأَسْوَاق، وروى ابْن عَبَّاس: لَا تستقبلوا السُّوق وَلَا يتلَقَّى بَعْضكُم لبَعض، وَالْمعْنَى وَاحِد، فَحَمله مَالك على أَنه: لَا يجوز أَن يَشْتَرِي أحد من الجلب السّلع الهابطة إِلَى الْأَسْوَاق، سَوَاء هَبَطت من أَطْرَاف الْمصر أَو من الْبَوَادِي، حَتَّى يبلغ بالسلعة سوقها.
وَقيل لمَالِك: أَرَأَيْت إِن كَانَ تِلْكَ على رَأس سِتَّة أَمْيَال؟ فَقَالَ: لَا بَأْس بذلك، وَالْحَيَوَان وَغَيره فِي ذَلِك سَوَاء، وَعَن ابْن الْقَاسِم: إِذا تلقاها متلق واشتراها قبل أَن يهْبط بهَا إِلَى السُّوق،.

     وَقَالَ  ابْن الْقَاسِم: يفْرض، فَإِن نقصت عَن ذَلِك الثّمن لَزِمت المُشْتَرِي.
قَالَ سَحْنُون،.

     وَقَالَ  لي غير ابْن الْقَاسِم: يفْسخ البيع،.

     وَقَالَ  اللَّيْث: أكره تلقي السّلع وشراءها فِي الطَّرِيق أَو على بابُك حَتَّى تقف السّلْعَة فِي سوقها، وَسبب ذَلِك الرِّفْق بِأَهْل الْأَسْوَاق لِئَلَّا ينقطعوا بهم عَمَّا لَهُ جَلَسُوا يَبْتَغُونَ من فضل الله تَعَالَى، فنهوا عَن ذَلِك، لِأَن فِي ذَلِك إفسادا عَلَيْهِم.
.

     وَقَالَ  الشَّافِعِي: رفقا بِصَاحِب السّلْعَة لِئَلَّا يبخس فِي ثمن سلْعَته، وَعند أبي حنيفَة: من أجل الضَّرَر، فَإِن لم يضر بِالنَّاسِ تلقي ذَلِك لضيق الْمَعيشَة، وحاجتهم إِلَى تِلْكَ السّلْعَة، فَلَا بَأْس بذلك،.

     وَقَالَ  ابْن حزم: لَا يحل لأحد أَن يتلَقَّى الجلب، سَوَاء خرج لذَلِك أَو كَانَ سائرا على طَرِيق الْجلاب، وَسَوَاء بَعُدَ مَوضِع تلقيه أَو قرُبَ، وَلَو أَنه عَن السُّوق على ذِرَاع فَصَاعِدا، لَا لأَصْحَابه وَلَا لغير ذَلِك، أضرّ ذَلِك بِالنَّاسِ أَو لم يضر، فَمن تلقى جلبا أَي شَيْء كَانَ فَإِن الجالب بِالْخِيَارِ إِذا دخل السُّوق مَتى مَا دخله، وَلَو بعد أَعْوَام فِي إِمْضَاء البيع أَو رده.
قَوْله: ( وَلَا يَبِيع بَعْضكُم على بيع بعض.
.
)
إِلَى آخِره، قد مر الْكَلَام فِيهِ فِيمَا مضى مُسْتَوفى، وَالله تَعَالَى أَعلم.