فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب منتهى التلقي

( بابُُ مُنْتَهَى التَّلَقِّي)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان مُنْتَهى جَوَاز التلقي، وَهُوَ إِلَى أَعلَى سوق الْبَلَد، وَأما التلقي الْمحرم فَهُوَ مَا كَانَ إِلَى خَارج الْبَلَد.
وَاعْلَم أَن التلقي لَهُ ابْتِدَاء وانتهاء.
وَأما ابتداؤه فَهُوَ من الْخُرُوج من منزله إِلَى السُّوق، وَأما انتهاؤه فَهُوَ من جِهَة الْبَلَد لَا حد لَهُ.
وَأما من جِهَة التلقي فَهُوَ أَن يخرج من أَعلَى السُّوق، وَأما التلقي فِي أَعلَى السُّوق فَهُوَ جَائِز لما فِي حَدِيث ابْن عمر: كَانُوا يتبايعون فِي أَعْلَاهُ، وَأما مَا كَانَ خَارِجا من السُّوق فِي الْحَاضِرَة أَو قَرِيبا مِنْهَا بِحَيْثُ يجد من يسْأَله عَن سعرها فَهَذَا يكره لَهُ أَن يَشْتَرِي هُنَاكَ، لِأَنَّهُ دَاخل فِي معنى التلقي، وَإِن خرج من السُّوق وَلم يخرج عَن الْبَلَد فقد صرح الشَّافِعِيَّة بِأَنَّهُ لَا يدْخل فِي النَّهْي.
وَأما الْموضع الْبعيد الَّذِي لَا يقدر فِيهِ على ذَلِك فَيجوز فِيهِ البيع، وَلَيْسَ بتلق.
قَالَ مَالك: وأكره أَن يَشْتَرِي فِي نواحي الْمصر حَتَّى يهْبط إِلَى السُّوق.
.

     وَقَالَ  ابْن الْمُنْذر: بَلغنِي هَذَا القَوْل عَن أَحْمد وَإِسْحَاق: أَنَّهُمَا نهيا عَن التلقي خَارج السُّوق ورخصا فِي ذَلِك فِي أَعْلَاهُ، ومذاهب الْعلمَاء فِي حد التلقي مُتَقَارِبَة، وروى عَن يحيى بن سعيد أَنه قَالَ، فِي مِقْدَار الْميل من الْمَدِينَة أَو آخر منازلها: هُوَ من تلقي الْبيُوع الْمنْهِي عَنهُ، وروى ابْن الْقَاسِم عَن مَالك: أَن الْميل من الْمَدِينَة لَيْسَ بتلقٍ.
وَقيل لَهُ: فَإِن كَانَ على سِتَّة أَمْيَال؟ قَالَ: لَا بَأْس بِالشِّرَاءِ، وَلَيْسَ بتلقٍ، وَعلم من ذَلِك أَن التلقي الْمَمْنُوع عِنْده إِذا خرج من مِقْدَار سِتَّة أَمْيَال، وروى أَشهب عَنهُ فِي الَّذين يخرجُون ويشترون الْفَاكِهَة من موَاضعهَا: أَنه لَا بَأْس بِهِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بتلقٍ، لأَنهم يشْتَرونَ من غير جالب.
.

     وَقَالَ  ابْن حبيب: لَا يجوز للرجل فِي الْحَضَر أَن يَشْتَرِي مَا مر بِهِ من السّلع، وَإِن كَانَ على بابُُه إِذا كَانَ لَهَا مَوَاقِف فِي السُّوق يُبَاع فِيهَا، وَهُوَ متلق إِن فعل ذَلِك وَمَا لم يكن لَهَا موقف، وَإِنَّمَا يُطَاف بهَا، فأدخلت أَزِقَّة الْحَاضِرَة فَلَا بَأْس أَن يَشْتَرِي، وَإِن لم يبلغ السُّوق.
.

     وَقَالَ  اللَّيْث: من كَانَ على بابُُه أَو فِي طَرِيقه فمرت بِهِ سلْعَة فاشتراها فَلَا بَأْس بذلك، والمتلقي عِنْده الْخَارِج القاصد إِلَيْهِ.
.

     وَقَالَ  ابْن حبيب: وَمن كَانَ مَوْضِعه غير الْحَاضِرَة قَرِيبا مِنْهَا أَو بَعيدا لَا بَأْس أَن يَشْتَرِي مَا مر بِهِ للْأَكْل خَاصَّة لَا للْبيع، وَرَوَاهُ أَشهب عَن مَالك، رَحمَه الله.



[ قــ :2083 ... غــ :2166 ]
- حدَّثنا مُوسَى بنْ إسْمَاعِيلَ قَالَ حدَّثنا جُوَيْرِيَةُ عَن نافِعٍ عنْ عَبْدِ الله رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ كُنَّا نتَلَقَّى الرُّكْبَانَ فنَشْتَرِي مِنهُمُ الطَّعَامَ فنَهَانَا النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنْ نَبِيعَهُ حتَّى نَبْلُغَ بِهِ سُوقَ الطَّعَامِ.
.


مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه لم يذكر منع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَهُم إلاَّ عَن بيعهم فِي مَكَانَهُ، فَعلم أَن مثل ذَلِك التلقي كَانَ غير مَنْهِيّ مقررا على حَاله.
وَقَوله: ( نبلغ بِهِ سوق الطَّعَام) يدل على أَن مُنْتَهى التلقي هُوَ أَن يخرج عَن أَعلَى السُّوق، وعَلى مَا يَجِيء الْآن مشروحا بأوضح مِنْهُ.

وَرِجَال الحَدِيث قد تكَرر ذكرهم، وَجُوَيْرِية تَصْغِير جَارِيَة: هُوَ ابْن أَسمَاء بن عبيد الضبعِي،.

     وَقَالَ  الْمَازرِيّ: فَإِن قيل: الْمَنْع من بيع الْحَاضِر للبادي سَببه الرِّفْق لأهل الْبَلَد، وَاحْتمل فِيهِ غبن البادي، وَالْمَنْع من التلقي أَن لَا يغبن البادي؟ فَالْجَوَاب: أَن الشَّرْع ينظر فِي مثل هَذِه الْمسَائِل إِلَى مصلحَة النَّاس، والمصلحة تَقْتَضِي أَن ينظر للْجَمَاعَة على الْوَاحِد لَا للْوَاحِد على الْوَاحِد، فَلَمَّا كَانَ البادي إِذا بَاعَ بِنَفسِهِ انْتفع جَمِيع أهل السُّوق واشتروا رخيصا فَانْتَفع بِهِ جَمِيع سكان الْبَلَد نظر الشَّرْع لأهل الْبَلَد على البادي، وَلما كَانَ فِي التلقي إِنَّمَا ينفع المتلقي خَاصَّة، وَهُوَ وَاحِد فِي قبالة وَاحِد، لم يكن فِي إِبَاحَة التلقي مصلحَة، لَا سِيمَا وينضاف إِلَى ذَلِك عِلّة ثَانِيَة: وَهُوَ لُحُوق الضَّرَر بِأَهْل السُّوق فِي انْفِرَاد المتلقي عَنْهُم بالرخص وَقطع الْمَوَارِد عَنْهُم، وهم أَكثر من المتلقي، فَنظر الشَّرْع لَهُم عَلَيْهِ، فَلَا تنَاقض فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ، بل هما متفقان فِي الْحِكْمَة والمصلحة.

قَالَ أبُو عَبْدِ الله هَذَا فِي أعلَى السُّوقِ يُبَيِّنهُ حَدِيثُ عُبَيْدِ الله
أَبُو عبد الله هُوَ البُخَارِيّ نَفسه، وَأَشَارَ بِهَذَا إِلَى حَدِيث جوَيْرِية الْمَذْكُور، وَأَرَادَ بِهِ: أَن التلقي الْمَذْكُور فِيهِ كَانَ إِلَى أَعلَى السُّوق، بيَّنه حَدِيث عبيد الله الْعمريّ الَّذِي يَأْتِي بعده، حَيْثُ قَالَ: كَانُوا يتبايعون الطَّعَام فِي أَعلَى السُّوق، ففهم مِنْهُ أَن التلقي إِلَى خَارج الْبَلَد هُوَ الْمنْهِي لَا غير، وَقَول البُخَارِيّ: هَذَا وَقع عقيب رِوَايَة عبد الله بن عمر فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَوَقع فِي رِوَايَة غَيره عقيب حَدِيث جوَيْرِية.





[ قــ :084 ... غــ :167 ]
- حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدثنَا يَحْيَى عنْ عُبَيْدِ الله قَالَ حدَّثني نافِعٌ عَن عَبْدِ الله رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ كانُوا يتبَايَعُونَ الطَّعَامَ فِي أعْلَى السُّوقِ فيَبِيعُونَهُ فِي مكَانِهِمْ فنَهَاهُم رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنْ يَبِيعُوهُ فِي مكَانِهِ حَتَّى يَنْقُلُوهُ.
.


هَذَا لبَيَان الْمَوْعُود الَّذِي وعده بقوله؛ بيَّنه حَدِيث عبيد الله الْعمريّ عَن نَافِع الَّذِي روى عَنهُ يحيى الْقطَّان،.

     وَقَالَ  بَعضهم: أَرَادَ البُخَارِيّ بذلك الرَّد على من اسْتدلَّ بِهِ على جَوَاز تلقي الركْبَان، لإِطْلَاق قَول ابْن عمر: كُنَّا نتلقى الركْبَان، وَلَا دلَالَة فِيهِ، لِأَن مَعْنَاهُ: أَنهم كَانُوا يتلقونهم فِي أَعلَى السُّوق، كَمَا فِي رِوَايَة عبيد الله بن عمر عَن نَافِع، وَقد صرح مَالك فِي رِوَايَته عَن نَافِع بقوله: وَلَا تلقوا السّلع حَتَّى يهْبط بهَا إِلَى السُّوق، فَدلَّ على أَن التلقي الَّذِي لم ينْه عَنهُ إِنَّمَا هُوَ مَا بلغ السُّوق.
انْتهى.
قلت: البُخَارِيّ لم يُورد هَذَا الحَدِيث لما ذكره هَذَا الْقَائِل، لِأَنَّهُ صرح بِأَنَّهُ لبَيَان المُرَاد من حَدِيث جوَيْرِية عَن نَافِع، وَلَو أَرَادَ هَذَا الَّذِي ذكره لَكَانَ ترْجم لَهُ، وَوجه بَيَانه هُوَ: أَن التلقي الْمَذْكُور فِي حَدِيث جوَيْرِية كَانَ إِلَى أَعلَى السُّوق، بَينه حَدِيث عبيد الله حَيْثُ قَالَ: كَانُوا يتبايعون الطَّعَام فِي أَعلَى السُّوق، ففهم مِنْهُ أَن التلقي إِلَى خَارج الْبَلَد هُوَ الْمنْهِي عَنهُ لَا غير.
قَوْله: ( حَتَّى ينقلوه) ، الْغَرَض مِنْهُ: حَتَّى يقبضوه، لِأَن الْعرف فِي قبض الْمَنْقُول أَن ينْقل عَن مَكَانَهُ.