فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب إذا باع الثمار قبل أن يبدو صلاحها، ثم أصابته عاهة فهو من البائع

(بابٌُ إذَا باعَ الثِّمَارَ قَبْلَ أنْ يَبْدُو صَلاَحُهَا ثُمَّ أصَابَتْهُ عَاهَةٌ فَهْوَ مِنَ البَائِعِ)

أَي: هَذَا بابُُ يذكر فِيهِ إِذا بَاعَ شخص الثِّمَار قبل بَدو صَلَاحهَا ثمَّ أَصَابَته عاهة أَي: آفَة، فَهُوَ من البَائِع أَي: من مَال البَائِع، وَالْفَاء جَوَاب: إِذا، لتضمن معنى الشَّرْط، فَهَذَا يدل على أَن البُخَارِيّ قَائِل بِصِحَّة هَذَا البيع، وَإِن لم يبد صَلَاحه، لِأَنَّهُ: إِذا لم يفْسد فَالْبيع صَحِيح.



[ قــ :2114 ... غــ :2198 ]
- حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا مالِكُ عنْ حُمَيْدٍ عنْ أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَهَى عنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى تُزْهِيَ فَقِيلَ لَهُ ومَا تُزْهِيَ قَالَ حَتَّى تَحْمَرَّ فَقَالَ أرأيْتَ إذَا منَعَ الله الثَّمَرَةَ بِمَ يأخُذْ أحدُكُمْ مالَ أخِيهِ.
.


مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله) إِن منع الله الثَّمَرَة.
.
إِلَى آخِره، لِأَن الثَّمَرَة إِذا أصابتها آفَة وَلم يقبضهَا المُشْتَرِي تكون من ضَمَان البَائِع، فَإِذا قبضهَا المُشْتَرِي فَهُوَ من مَال المُشْتَرِي.

وَفِي هَذَا الْبابُُ أَقْوَال للْعُلَمَاء وتفصيل، فَقَالَ ابْن قدامَة فِي (الْمُغنِي) : الْكَلَام فِي هَذِه الْمَسْأَلَة على وُجُوه.

الأول: أَن مَا تهلكه الْجَائِحَة من الثِّمَار من ضَمَان البَائِع فِي الْجُمْلَة، وَبِهَذَا قَالَ أَكثر أهل الْمَدِينَة، مِنْهُم: يحيى بن سعيد الْأنْصَارِيّ وَمَالك وَأَبُو عبيد وَجَمَاعَة من أهل الحَدِيث.
الثَّانِي: أَن الْجَائِحَة كل آفَة لَا صنع للآدمي فِيهَا: كَالرِّيحِ وَالْبرد وَالْجَرَاد والعطش.
الثَّالِث: أَن ظَاهر الْمَذْهَب أَنه: لَا فرق بَين قَلِيل الْجَائِحَة وكثيرها، إلاَّ أَن مَا جرت الْعَادة بِتَلف مثله كالشيء الْيَسِير الَّذِي لَا يَنْضَبِط فَلَا يلْتَفت إِلَيْهِ.

وَقَالَ أَحْمد: إِنِّي لَا أَقُول فِي عشرَة ثَمَرَات وَعشْرين ثَمَرَة لَا أَدْرِي مَا الثُّلُث؟ وَلَكِن إِذا كَانَت جَائِحَة فَوق الثُّلُث أَو الرّبع أَو الْخمس تُوضَع، وَمِنْه رِوَايَة أُخْرَى: إِن مَا كَانَ دون الثُّلُث فَهُوَ من ضَمَان المُشْتَرِي، وَبِه قَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ فِي الْقَدِيم، لِأَنَّهُ لَا بُد أَن يَأْكُل الطَّائِر مِنْهَا وينثر الرّيح وَيسْقط مِنْهَا، فَلم يكن بُد من ضَابِط وحد فاصل بَين هَذَا وَبَين الْجَائِحَة، وَالثلث قد رَأينَا الشَّرْع اعْتَبرهُ فِي مَوَاضِع مِنْهَا: الْوَصِيَّة وعطايا الْمَرِيض، إِذا ثَبت هَذَا فَإِنَّهُ إِذا تلف شَيْء لَهُ قدر خَارج عَن الْعَادة وضع من الثّمن بِقدر الذَّاهِب، وَإِن تلف الْجَمِيع بَطل العقد وَيرجع المُشْتَرِي بِجَمِيعِ الثّمن، وَإِن تلف الْبَعْض وَكَانَ الثُّلُث فَمَا زَاد وضع بِقسْطِهِ من الثّمن، وَإِن كَانَ دونه لم يرجع بِشَيْء، وَإِن اخْتلفَا فِي الْجَائِحَة أَو فِي قدر مَا أتلفت فَالْقَوْل قَول البَائِع، لِأَن الأَصْل السَّلامَة.
انْتهى.

وَقَالَ جُمْهُور السّلف وَالثَّوْري وَأَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمّد وَالشَّافِعِيّ فِي الْجَدِيد وَأَبُو جَعْفَر الطَّبَرِيّ وَدَاوُد وَأَصْحَابه: مَا ذهب من الثَّمر الْمَبِيع الَّذِي أَصَابَته جَائِحَة من شَيْء، سَوَاء كَانَ قَلِيلا أَو كثيرا بعد قبض المُشْتَرِي إِيَّاه، فَهُوَ ذَاهِب من مَال المُشْتَرِي، وَالَّذِي ذهب فِي يَد البَائِع قبل قبض المُشْتَرِي فَذَاك يبطل الثّمن عَن المُشْتَرِي.

ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (حَتَّى تزهى) ، بِضَم التَّاء من الإذهاء.
قَالَ الْخطابِيّ: هَذِه الرِّوَايَة هِيَ الصَّوَاب، وَلَا يُقَال فِي النّخل: يزهو، وَإِنَّمَا يُقَال: يزهى، لَا غير، ورد عَلَيْهِ غَيره فَقَالَ: زهى إِذا طَال واكتمل، وأزهى إِذا احمر واصفر.
قَوْله: (فَقيل لَهُ: وَمَا تزهى؟) لم يسم السَّائِل فِي هَذِه الرِّوَايَة وَلَا المسؤول أَيْضا، وَقد رَوَاهُ النَّسَائِيّ من طَرِيق عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم عَن مَالك بِلَفْظ: قيل.
يَا رَسُول الله! وَمَا تزهى؟ قَالَ: حَتَّى تحمرَّ، وَهَكَذَا أخرجه الطَّحَاوِيّ من طَرِيق يحيى بن أَيُّوب وَأَبُو عوَانَة من طَرِيق سُلَيْمَان ابْن بِلَال، كِلَاهُمَا عَن حميد، وَظَاهره الرّفْع، وَرَوَاهُ إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر وَغَيره عَن حميد مَوْقُوفا على أنس، كَمَا مضى فِي الْبابُُ الَّذِي قبله.
قَوْله: (فَقَالَ) ، أَي: رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ويروى: فَقَالَ رَسُول الله أَرَأَيْت أَي أَخْبرنِي؟ قَالَ أهل البلاغة: هُوَ من بابُُ الْكِنَايَة، حَيْثُ استفهم وَأَرَادَ الْأَمر.
قَوْله: (إِذا منع الله الثَّمَرَة) إِلَى آخِره، هَكَذَا صرح مَالك بِرَفْع هَذِه الْجُمْلَة، وَتَابعه مُحَمَّد ابْن عباد عَن الدَّرَاورْدِي عَن حميد مُقْتَصرا على هَذِه الْجُمْلَة الْأَخِيرَة، وَجزم الدَّارَقُطْنِيّ وَغير وَاحِد من الْحفاظ بِأَنَّهُ أَخطَأ فِيهِ، وَبِذَلِك جزم ابْن أبي حَاتِم فِي (الْعِلَل) عَن أَبِيه وَأبي زرْعَة، وَالْخَطَأ فِي رِوَايَة عبد الْعَزِيز من مُحَمَّد بن عباد، فقد رَوَاهُ إِبْرَاهِيم ابْن حَمْزَة عَن الدَّرَاورْدِي كَرِوَايَة إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر الْآتِي ذكرهَا، وَرَوَاهُ مُعْتَمر بن سُلَيْمَان وَبشر بن الْمفضل عَن حميد فَقَالَ فِيهِ: قَالَ: أَفَرَأَيْت ... إِلَى آخِره، قَالَ: فَلَا أَدْرِي أنس قَالَ بِمَ يسْتَحل أَو حدث بِهِ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ أخرجه الْخَطِيب فِي (المدرج) وَرَوَاهُ إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر عَن حميد فعطفه على كَلَام أنس فِي تَفْسِير قَوْله: تزهى، وَظَاهره الْوَقْف.
وَأخرجه الجوزقي من طَرِيق زيد بن هَارُون والخطيب من طَرِيق أبي خَالِد الْأَحْمَر، كِلَاهُمَا عَن حميد بِلَفْظ، قَالَ: أَرَأَيْت إِن منع الله الثَّمَرَة ... الحَدِيث وَرَوَاهُ ابْن الْمُبَارك وهشيم، كَا تقدم آنِفا عَن حميد، فَلم يذكرَا هَذَا الْقدر الْمُخْتَلف فِيهِ، وتابعهما جمَاعَة من أَصْحَاب حميد عَنهُ على ذَلِك، قيل: وَلَيْسَ فِي جَمِيع مَا تقدم مَا يمْنَع أَن يكون التَّفْسِير مَرْفُوعا، لِأَن مَعَ الَّذِي رَفعه زِيَادَة علم عَن مَا عِنْد الَّذِي وَقفه، وَلَيْسَ فِي رِوَايَة الَّذِي وَقفه مَا يَنْفِي قَول من رَفعه.
قَوْله: (بِمَ يَأْخُذ أحدكُم مَال أَخِيه؟) أَي: بِأَيّ شَيْء يَأْخُذ أحدكُم مَال أَخِيه إِذا تلف الثَّمر، لِأَنَّهُ إِذا تلف الثَّمر لَا يبْقى للْمُشْتَرِي فِي مُقَابلَة مَا دفع شَيْء، فَيكون أَخذ البَائِع بِالْبَاطِلِ، ويروى: بِمَ يسْتَحل أحدكُم مَال أَخِيه وَفِيه إِجْرَاء الحكم على الْغَالِب لِأَن تطرق التّلف إِلَى مَا بدا صَلَاحه مُمكن، وَعدم تطرقه إِلَى مَا لم يبد صَلَاحه مُمكن، فأنيط الحكم فِي الْغَالِب فِي الْحَالين.





[ قــ :114 ... غــ :199 ]
- قَالَ اللَّيْثُ حدَّثني يُونُسُ عنِ ابنِ شِهَابٍ قَالَ لَوْ أنَّ رجُلاً ابْتَاعَ تَمْرا قَبْلَ أنْ يَبْدُو صَلاَحُهُ ثُمَّ أصابَتْهُ عاهَةٌ كانَ مَا أصَابَهُ عَلى رَبِّهِ قَالَ أخبرنِي سالِمُ بنُ عَبْدِ الله عنِ ابنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لاَ تَتَبَايَعُوا الثَّمَرَ حَتَّى يَبْدُو صَلاَحُهَا ولاَ تَبِيعُوا الثَّمَرَ بالتَّمْرِ.
.


أَشَارَ بِهَذَا التَّعْلِيق عَن اللَّيْث بن سعد عَن يُونُس بن يزِيد أَن ابْن شهَاب الزُّهْرِيّ استنبط الحكم المترجم بِهِ من الحَدِيث.

قَوْله: ( ابْتَاعَ) ، أَي: اشْترى.
قَوْله: ( ثمرا) ، بالثاء الْمُثَلَّثَة.
قَوْله: ( عاهة) ، أَي: آفَة.
قَوْله: ( على ربه) ، أَي: وَاقع على صَاحبه وَهُوَ بَائِعه مَحْسُوب عَلَيْهِ، وَفهم من هَذَا أَن الزُّهْرِيّ أطلق كَلَامه وَلم يفصل هَل كَانَ حُصُول العاهة قبل قبض المُشْتَرِي أَو بعده، فمذهب الْحَنَفِيَّة بالتفصيل كَمَا ذَكرْنَاهُ عَن قريب وَقبض المُشْتَرِي الثِّمَار فِي رُؤُوس النّخل يكون بِالتَّخْلِيَةِ بِأَن يخلى البَائِع بَين المُشْتَرِي وَبَينهَا وإمكانه إِيَّاه مِنْهَا.
قَوْله: ( أَخْبرنِي) من كَلَام الزُّهْرِيّ فَإِنَّهُ قَالَ: أَخْبرنِي سَالم بن عبد الله بن عمر عَن أَبِيه عبد الله: أَن رَسُول اللهصلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: لَا تتبايعوا الثَّمر ... إِلَى آخِره، فَكَأَن الزُّهْرِيّ استنبط مَا قَالَه من عُمُوم النَّهْي، وَقد مضى هَذَا فِي: بابُُ بيع الْمُزَابَنَة، فَإِنَّهُ قَالَ: حَدثنَا يحيى بن بكير حَدثنَا اللَّيْث عَن عقيل عَن ابْن شهَاب أَخْبرنِي سَالم بن عبد الله عَن عبد الله بن عمر: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: ( لَا تَبِيعُوا الثَّمر حَتَّى يَبْدُو صَلَاحهَا، وَلَا تَبِيعُوا الثَّمر بِالتَّمْرِ.
.
)
الحَدِيث.
وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: ( لَا تَبِيعُوا الثَّمر) بالثاء الْمُثَلَّثَة وَفتح الْمِيم.
قَوْله: ( بِالتَّمْرِ) ، بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاة من فَوق وَسُكُون الْمِيم،.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: هَذَا عَام خصص بالعرايا.
قلت: قد ذكرنَا فِيمَا مضى أَن هَذَا الْعَام على عُمُومه، وَأَن بيع الْعَرَايَا حكم مُسْتَقل بِذَاتِهِ لَا يحْتَاج إِلَى شَيْء ليخرج من عُمُوم الحَدِيث الْمَذْكُور.