فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب من أجرى أمر الأمصار على ما يتعارفون بينهم: في البيوع والإجارة والمكيال والوزن، وسننهم على نياتهم ومذاهبهم المشهورة

( بابُُ منْ أجْرَى أمْرَ الأمْصَارِ عَلَى مَا يتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ فِي البُيُوعِ والإجَارَةِ والمِكْيَالِ والوَزْنِ وسُنَنهمْ عَلِى نِيَّاتِهِمْ ومَذَاهِبِهِمْ المَشْهُورَةِ)

أَي: هَذَا بابُُ يذكر فِيهِ من أجْرى أمرهَا إِلَى الْأَمْصَار على مَا يَتَعَارَفُونَ بَينهم، أَي: على عرفهم وعوائدهم فِي أَبْوَاب الْبيُوع والإجارات والمكيال، وَفِي بعض النّسخ: والكيل وَالْوَزْن مثلا بِمثل، كل شَيْء لم ينص عَلَيْهِ الشَّارِع أَنه كيلي أَو وزني يعْمل فِي ذَلِك على مَا يتعارفه أهل تِلْكَ الْبَلدة مثلا: الْأرز فَإِنَّهُ لم يَأْتِ فِيهِ نَص من الشَّارِع أَنه كيلي أَو وزني، فَيعْتَبر فِي عَادَة أهل كل بَلْدَة على مَا بَينهم من الْعرف فِيهِ، فَإِنَّهُ فِي الْبِلَاد المصرية يُكَال، وَفِي الْبِلَاد الشامية يُوزن، وَنَحْو ذَلِك من الْأَشْيَاء، لِأَن الرُّجُوع إِلَى الْعرف جملَة من الْقَوَاعِد الْفِقْهِيَّة.

قَوْله: ( وسننهم) ، عطف على مَا يَتَعَارَفُونَ بَينهم أَي: على طريقتهم الثَّابِتَة على حسب مقاصدهم وعاداتهم الْمَشْهُورَة.

وَحَاصِل الْكَلَام أَن البُخَارِيّ قصد بِهَذِهِ التَّرْجَمَة إِثْبَات الِاعْتِمَاد على الْعرف وَالْعَادَة.

وَقَالَ شُرَيْحٌ للْغَزَّالِينَ سنَّتُكُمْ بَيْنَكُمْ رِبْحا

شُرَيْح، بِضَم الشين الْمُعْجَمَة: ابْن الْحَارِث الْكِنْدِيّ القَاضِي من عهد عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
قَوْله: ( للغزالين) هُوَ جمع: غزال، وَهُوَ بياع الْغَزل.
قَوْله: ( سنتكم) ، يجوز فِيهِ الرّفْع وَالنّصب، أما الرّفْع فعلى أَنه مُبْتَدأ وَخَبره قَوْله: ( بَيْنكُم) ، يَعْنِي: عادتكم وطريقتكم بَيْنكُم مُعْتَبرَة، وَأما النصب فعلى تَقْدِير إلزموا سنتكم، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله سعيد بن مَنْصُور من طَرِيق ابْن سِيرِين: أَن نَاسا من الغزالين اخْتَصَمُوا إِلَى شُرَيْح فِي شَيْء كَانَ بَينهم، فَقَالُوا: إِن سنتنا بَيْننَا كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ: سنتكم بَيْنكُم.
قَوْله: ( ربحا) ، قيل: لَا معنى لَهُ هَهُنَا، وَإِنَّمَا مَحَله فِي آخر الْأَثر الَّذِي بعده.
قلت: هَكَذَا وَقع فِي بعض النّسخ، وَلكنه غير صَحِيح، لِأَن هَذِه اللَّفْظَة هُنَا لَا فَائِدَة لَهَا وَلَا معنى يُطَابق الْأَثر.

وَقَالَ عَبْدُ الوهَّابِ عنْ أيّوبَ عَن محَمَّدٍ لاَ بأسَ الْعَشْرَةُ بأحَدَ عَشَرَ ويأخُذُ لِلْنَّفقَةِ رِبحا
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن عرف الْبَلَد أَن الْمُشْتَرى بِعشْرَة دَرَاهِم يُبَاع بِأحد عشر، فَبَاعَهُ المُشْتَرِي على ذَلِك الْعرف لم يكن بِهِ بَأْس، وَعبد الْوَهَّاب بن عبد الْمجِيد الثَّقَفِيّ، وَأَيوب هُوَ السّخْتِيَانِيّ، وَمُحَمّد هُوَ ابْن سِيرِين، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله ابْن أبي شيبَة عَن عبد الْوَهَّاب، هَذَا.
قَوْله: ( لَا بَأْس الْعشْرَة بِأحد عشر) ، أَي: لَا بَأْس أَن يَبِيع مَا اشْتَرَاهُ بِمِائَة دِينَار مثلا كل عشرَة مِنْهُ بِأحد عشر، فَيكون رَأس المَال عشرَة وَالرِّبْح دِينَارا،.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: الْعشْرَة، بِالرَّفْع وَالنّصب إِذا كَانَ عرف الْبَلَد أَن الْمُشْتَرى بِعشْرَة دَرَاهِم يُبَاع بِأحد عشر درهما، فيبيعه على ذَلِك الْعرف، فَلَا بَأْس بِهِ.
وَيَأْخُذ لأجل النَّفَقَة ربحا.
قلت: أما وَجه الرّفْع فعلى أَنه مُبْتَدأ وَخَبره هُوَ قَوْله: ( بِأحد عشر) ، وَالتَّقْدِير: تبَاع بِأحد عشر.
وَأما النصب فعلى تَقْدِير: بيع الْعشْرَة، يَعْنِي: الْمُشْتَرى بِعشْرَة، بِأحد عشر.

وَقَالَ ابْن بطال: اخْتلف الْعلمَاء فِي ذَلِك فَأَجَازَهُ قوم وَكَرِهَهُ آخَرُونَ، وَمِمَّنْ كرهه ابْن عَبَّاس وَابْن عمر ومسروق وَالْحسن، وَبِه قَالَ أَحْمد وَإِسْحَاق.
قَالَ أَحْمد: البيع مَرْدُود، وَأَجَازَهُ ابْن الْمسيب وَالنَّخَعِيّ، وَهُوَ قَول مَالك وَالثَّوْري وَالْأَوْزَاعِيّ، وَحجَّة من كرهه لِأَنَّهُ بيع مَجْهُول، وَحجَّة من أجَازه بِأَن الثّمن مَعْلُوم وَالرِّبْح مَعْلُوم وأصل هَذَا الْبابُُ بيع الصُّبْرَة كل قفيز بدرهم وَلَا يعلم مقدارها من الطَّعَام، فَأَجَازَهُ قوم وأباه آخَرُونَ، وَمِنْهُم من قَالَ: لَا يلْزم إِلَّا القفيز الْوَاحِد.
وَعَن مَالك: لَا يَأْخُذ فِي الْمُرَابَحَة أجر السمسار وَلَا أجر الشد والطي وَلَا النَّفَقَة على الرَّقِيق، وَلَا كِرَاء الْبَيْت، وَإِنَّمَا يحْسب هَذَا فِي أصل المَال وَلَا يحْسب لَهُ ربح، وَأما كِرَاء الْبَز فيحسب لَهُ الرِّبْح لِأَنَّهُ لَا بُد مِنْهُ، فَإِن أربحه الْمُشْتَرى على مَا لَا تَأْثِير لَهُ جَازَ إِذا رَضِي بذلك.
.

     وَقَالَ  أَبُو حنيفَة: يحْسب فِي الْمُرَابَحَة أُجْرَة القصارة والسمسرة وَنَفَقَة الرَّقِيق وكسوتهم، وَيَقُول: قَامَ عَليّ بِكَذَا، وَلَا يَقُول: اشْتَرَيْته بِكَذَا.

قَوْله: ( وَيَأْخُذ للنَّفَقَة) ، أَي: لأجل النَّفَقَة ربحا، هَذَا مَحل ذكر الرِّبْح، كَمَا ذَكرْنَاهُ عَن قريب، وَقد ذكرنَا الْآن خلاف مَالك فِيهِ.

وَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِهِنْدٍ خُذِي مَا يَكْفِيكِ وولَدَكِ بِالمَعْرُوفِ

مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ لهِنْد: خذي مَا يَكْفِيك وولدك بِالْمَعْرُوفِ، وَهُوَ عَادَة النَّاس، وَهَذَا يدل على أَن الْعرف عمل جَار.
.

     وَقَالَ  ابْن بطال: الْعرف عِنْد الْفُقَهَاء أَمر مَعْمُول بِهِ، وَهُوَ كالشرط اللَّازِم فِي الشَّرْع، وَمِمَّا يدل على مَا قَالَه قَضِيَّة هِنْد بنت عتبَة زوج أبي سُفْيَان وَالِد مُعَاوِيَة، وَهَذَا التَّعْلِيق يَأْتِي الْآن مَوْصُولا.

وَذكر ابْن بطال بعض مسَائِل من الْفِقْه الَّتِي يعْمل فِيهَا بِالْعرْفِ.
مِنْهَا: لَو وكل رجل رجلا على بيع سلْعَة فَبَاعَهَا بِغَيْر النَّقْد الَّذِي هُوَ عرف النَّاس لم يجز ذَلِك، وَلَزِمَه النَّقْد الْجَارِي.
وَكَذَا: لَو بَاعَ طَعَاما مَوْزُونا أَو مَكِيلًا بِغَيْر الْوَزْن أَو الْكَيْل الْمَعْهُود لم يجز، وَلزِمَ الْكَيْل الْمَعْهُود الْمُتَعَارف من ذَلِك.

وَقَالَ تَعَالَى: { ومَنْ كانَ فَقِيرا فَلْيأكُل بالمَعْرُوف} ( النِّسَاء: 6) .

هَذَا من التَّرْجَمَة، وَكَانَ يَنْبَغِي أَن يذكر فِي صدر الْبابُُ أَو يكْتَفى بِذكرِهِ فِي حَدِيث عَائِشَة الْآتِي فِي هَذَا الْبابُُ، وَالْمرَاد مِنْهُ فِي التَّرْجَمَة حِوَالَة، وَإِلَى الْيَتِيم فِي أكله من مَاله على الْعرف.

واكْتَرَى الحَسَنُ مِنْ عَبْدِ الله بنِ مِرْدَاسِ حِمَارا فَقَالَ بِكَمْ قَالَ بِدَانِقَيْنِ فَرَكِبَهُ ثُمَّ جاءَ مَرَّةً أُخْرَى فَقَالَ الحِمَارَ الحِمَارَ فَرَكِبَهُ ولَمْ يُشَارِطْهُ فبَعَثَ إلَيْهِ بِنِصْفِ دِرْهَمٍ
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن الْحسن لم يشارط المكاري فِي الْمرة الثَّانِيَة اعْتِمَادًا على الْأُجْرَة الْمُتَقَدّمَة، وَزَاد بعد ذَلِك على الْأُجْرَة الْمُتَقَدّمَة على سَبِيل الْفضل.
وَقد جرى الْعرف أَن شخصا إِذا اكترى حمارا أَو فرسا أَو جملا للرُّكُوب إِلَى مَوضِع معِين بِأُجْرَة مُعينَة، ثمَّ فِي ثَانِي مرّة إِذا أَرَادَ ركُوب حمَار هَذَا على الْعَادة لَا يشارطه الْأُجْرَة لاستغنائه عَن ذَلِك، بِاعْتِبَار الْعرف الْمَعْهُود بَينهمَا، وَالْحسن هُوَ الْبَصْرِيّ، وَعبد الله بن مرادس، بِكَسْر الْمِيم: هُوَ صَاحب الْحمار الَّذِي اكتراه مِنْهُ الْحسن.
وَوصل هَذَا التَّعْلِيق سعيد بن مَنْصُور عَن هشيم عَن يُونُس فَذكر مثله.

قَوْله: ( بدانقين) ، تَثْنِيَة دانق بِفَتْح النُّون وَكسرهَا: وَهُوَ سدس الدِّرْهَم.
قَوْله: ( فَرَكبهُ) ، فِيهِ حذف أَي: فَرضِي الْحسن بدانقين فَأَخذه فَرَكبهُ.
قَوْله: ( ثمَّ جَاءَ) ، أَي: الْحسن مرّة أُخْرَى إِلَى عبد الله بن مرداس، فَقَالَ: الْحمار الْحمار، بالتكرار وَيجوز فيهمَا النصب وَالرَّفْع، أما النصب فعلى تَقْدِير: هَات الْحمار، فينصب على المفعولية، وَأما الرّفْع فعلى الِابْتِدَاء، وَالْخَبَر مَحْذُوف أَي: الْحمار مَطْلُوب، أَو أطلب، أَو نَحْو ذَلِك.
قَوْله: ( وَلم يشارطه) ، يَعْنِي الْأُجْرَة اعْتِمَادًا على الْأُجْرَة الْمُتَقَدّمَة للْعُرْف بذلك.
قَوْله: ( فَبعث إِلَيْهِ) أَي: بعث الْحسن إِلَى عبد الله الْمَذْكُور ( بِنصْف دِرْهَم) فَزَاد على الدانقين دانقا آخر على سَبِيل الْفضل وَالْكَرم.



[ قــ :2124 ... غــ :2210 ]
- حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا مالِكٌ عنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ عنْ أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ حَجَمَ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أبُو طَيْبَةَ فأمَرَ لَهُ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِصاعٍ مِنْ تَمْرٍ وأمَرَ أهْلَه أنْ يُخَفِّفُوا عَنْهُ مِنْ خَرَاجِهِ.
.


مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يشارط الْحجام الْمَذْكُور على أجرته اعْتِمَادًا على الْعرف فِي مثله، وَقد مضى الحَدِيث بِعَيْنِه إِسْنَادًا ومتنا فِيمَا مضى فِي كتاب الْبيُوع فِي بابُُ ذكر الْحجام، غير أَن هُنَاكَ: حجم أَبُو طيبَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهنا: حجم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَبُو طيبَة.





[ قــ :15 ... غــ :11 ]
- حدَّثنا أبُو نُعَيْمٍ قَالَ حَدثنَا سُفْيانُ عنْ هِشَامٍ عنْ عُروَةَ عنْ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قالَتْ هِنْدٌ أُمُّ مُعاوِيَة لِرَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إنَّ أَبَا سُفْيانَ رَجُلٌ شَحِيحُ فَهَلْ عَلَيَّ جُناح أنْ اخُذَ مِنْ مالِهِ سِرّا قَالَ خُذِي أنْتِ وبَنُوكِ مَا يَكْفِيكِ بالمَعْرُوفِ.
.


مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: ( خذي أَنْت وبنوك مَا يَكْفِيك بِالْمَعْرُوفِ) من حَيْثُ إِنَّه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أحالها على الْعرف فِيمَا لَيْسَ فِيهِ تَحْدِيد شَرْعِي.
وَأَبُو نعيم، بِضَم النُّون: هُوَ الْفضل بن دُكَيْن، وسُفْيَان هُوَ الثَّوْريّ، نَص عَلَيْهِ الْمزي فِي ( الْأَطْرَاف) [/ ح.

والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي النَّفَقَات عَن مُحَمَّد بن يُوسُف، وَفِي الْأَحْكَام عَن مُحَمَّد بن كثير، ثَلَاثَتهمْ عَن سُفْيَان بِهِ.

قَوْله: ( هِنْد) يصرف وَلَا يصرف، وَهِي بنت عتبَة، بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق: ابْن ربيعَة بن عبد شمس بن عبد منَاف، زَوْجَة أبي سُفْيَان، أسلمت عَام الْفَتْح وَمَاتَتْ فِي خلَافَة عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
وَأَبُو سُفْيَان اسْمه: صَخْر بن حَرْب ضد الصُّلْح ابْن أُميَّة بن عبد شمس، أسلم يَوْم فتح مَكَّة، وَكَانَ رَئِيس قُرَيْش يَوْمئِذٍ، وَقد مر فِي حَدِيث هِرقل.
قَوْله: ( شحيح) ، بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة وبالحاءين الْمُهْمَلَتَيْنِ، والشحيح: هُوَ الْبَخِيل الْحَرِيص.
قَوْله: ( جنَاح) ، بِضَم الْجِيم: أَي: إِثْم.
قَوْله: ( أَن آخذ) أَي: بِأَن آخذ، وَكلمَة: أَن، مَصْدَرِيَّة.
قَوْله: ( سرا) ، نصب على التَّمْيِيز أَي: من حَيْثُ السِّرّ، وَيجوز أَن يكون صفة لمصدر مَحْذُوف أَي أخذا سرا غير جهر، قَوْله: ( وبنوك) ، ويروى: وبنيك، بِالْجَرِّ.
أما وَجه الأول فعلى أَنه مَعْطُوف على الضَّمِير الْمَرْفُوع فِي: خذي، وَإِنَّمَا ذكر أَنْت ليَصِح الْعَطف عَلَيْهِ، وَفِيه خلاف بَين الْبَصرِيين والكوفيين، وَأما النصب فعلى أَنه مفعول مَعَه.
.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: مُقْتَضى الْمقَام أَن يُقَال أَيْضا: وَمَا يَكْفِي بنيك، أَو: مَا يكفيكم.
قلت: تَقْدِيره: مَا يَكْفِي لنَفسك ولبنيك، وَاقْتصر عَلَيْهَا لِأَنَّهَا هِيَ الكافلة لأمورهم.
.

     وَقَالَ  أَيْضا: فَإِن قلت: هَذِه الْقِصَّة بِمَكَّة وَأَبُو سُفْيَان فِيهَا، فَكيف حكم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي غيبته وَهُوَ فِي الْبَلَد؟ قلت: هَذَا لم يكن حكما بل كَانَ فَتْوَى.
انْتهى.
.

     وَقَالَ  صَاحب ( التَّوْضِيح) : وَاسْتدلَّ بِحَدِيث هِنْد على الْقَضَاء على الْغَائِب، وبالإفتاء لِأَن زَوجهَا أَبَا سُفْيَان كَانَ متواريا بهَا.
انْتهى.
قلت: لم يكن غَائِبا وَلَا متواريا.
.

     وَقَالَ  السُّهيْلي: كَانَ حَاضرا سؤالها، فَقَالَ: أَنْت فِي حل مِمَّا أخذت، فَلَا يَصح الِاحْتِجَاج بِهِ على جَوَاز الْقَضَاء على الْغَائِب.

وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَفِيه: نَفَقَة الزَّوْجَة وَالْأَوْلَاد الصغار، وَأَنَّهَا مقدرَة بالكفاية.
قَالَ: وَفِيه: أَخذ الْحق من مَال الْغَيْر بِدُونِ إِذْنه.
قلت: لَيْسَ هَذَا على إِطْلَاقه بل هَذَا إِذا ظفر بِجِنْس حَقه، وَفِي خلاف جنس حَقه لَا بُد من إِذْنه أَو إِذن الْحَاكِم.
قَالَ: وَفِيه: إِطْلَاق الْفَتْوَى وَإِرَادَة تَعْلِيقهَا بِمَا يَقُوله المستفتي.
وَفِيه: خُرُوج الْمُزَوجَة من بَيتهَا لحاجتها إِذا علمت رضى الزَّوْج بِهِ.




[ قــ :16 ... غــ :1 ]
-
( حَدثنِي إِسْحَاق قَالَ حَدثنَا ابْن نمير قَالَ أخبرنَا هِشَام ح وحَدثني مُحَمَّد قَالَ سَمِعت عُثْمَان بن فرقد قَالَ سَمِعت هِشَام بن عُرْوَة يحدث عَن أَبِيه أَنه سمع عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا تَقول وَمن كَانَ غَنِيا فليستعفف وَمن كَانَ فَقِيرا فَليَأْكُل بِالْمَعْرُوفِ أنزلت فِي وَالِي الْيَتِيم الَّذِي يُقيم عَلَيْهِ وَيصْلح فِي مَاله إِن كَانَ فَقِيرا أكل مِنْهُ بِالْمَعْرُوفِ) مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله أكل مِنْهُ بِالْمَعْرُوفِ.
( ذكر رِجَاله) وهم سَبْعَة.
الأول اسحق قَالَ الغساني لم أَجِدهُ مَنْسُوبا لأحد من الروَاة.

     وَقَالَ  خلف وَغَيره فِي الْأَطْرَاف أَنه اسحق بن مَنْصُور واستخرج أَبُو نعيم هَذَا الحَدِيث من مُسْند اسحق بن رَاهَوَيْه عَن ابْن نمير.

     وَقَالَ  أخرجه البُخَارِيّ عَن اسحق.

     وَقَالَ  فِي التَّفْسِير أخرجه البُخَارِيّ عَن اسحق بن مَنْصُور.
الثَّانِي ابْن نمير هُوَ عبد الله بن نمير بِضَم النُّون وَقد مر فِي التَّيَمُّم.
الثَّالِث هِشَام بن عُرْوَة.
الرَّابِع مُحَمَّد بن الْمثنى الْمَشْهُور بالزمن وَقد مر فِي الْإِيمَان كَذَا قَالَه الْكرْمَانِي وَيُقَال هُوَ مُحَمَّد بن سَلام وَالظَّاهِر أَنه هُوَ الأول.
الْخَامِس عُثْمَان بن فرقد بِفَتْح الْفَاء وَسُكُون الرَّاء وَفتح الْقَاف وَفِي آخِره دَال مُهْملَة على وزن جَعْفَر هُوَ الْعَطَّار فِيهِ مقَال لَكِن البُخَارِيّ لم يخرج لَهُ مَوْصُولا إِلَّا هَذَا الحَدِيث وَقد قرنه بِابْن نمير وَذكر لَهُ آخر تَعْلِيقا فِي الْمَغَازِي.
السَّادِس عُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام.
السَّابِع أم الْمُؤمنِينَ عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا.
( ذكر لطائف إِسْنَاده) فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْإِفْرَاد فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع وَفِيه الْإِخْبَار بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين وَفِيه السماع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع وَفِيه العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد وَفِيه القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع وَفِيه أَن شَيْخه اسحق إِن كَانَ ابْن مَنْصُور فَهُوَ مروزي انْتقل إِلَى نيسابور وَإِن كَانَ هُوَ ابْن رَاهَوَيْه فَكَذَلِك مروزي انْتقل إِلَى نيسابور وَفِيه أَن شَيْخه الآخر إِن كَانَ ابْن الْمثنى فَهُوَ بَصرِي وَإِن كَانَ مُحَمَّد بن سَلام فَهُوَ البُخَارِيّ البيكندي وَفِيه أَن عبد الله بن نمير كُوفِي وَأَن عُثْمَان بن فرقد بَصرِي وَأَن هشاما وأباه عُرْوَة مدنيان " ( ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره) أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا من حَدِيث عبد الله بن نمير عَن هِشَام فِي التَّفْسِير وَمن طَرِيق عُثْمَان بن فرقد من أَفْرَاده وَأخرجه مُسلم فِي آخر الْكتاب عَن أبي كريب عَن عبد الله بن نمير ( ذكر مَعْنَاهُ) قَوْله " وَمن كَانَ غَنِيا فليستعفف وَمن كَانَ فَقِيرا فَليَأْكُل بِالْمَعْرُوفِ " هَذَا فِي سُورَة النِّسَاء وَأول الْآيَة { وابتلوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذا بلغُوا النِّكَاح فَإِن آنستم مِنْهُم رشدا فادفعوا إِلَيْهِم أَمْوَالهم وَلَا تَأْكُلُوهَا إسرافا وبدارا أَن يكبروا وَمن كَانَ غَنِيا فليستعفف وَمن كَانَ فَقِيرا فَليَأْكُل بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دفعتم إِلَيْهِم أَمْوَالهم فأشهدوا عَلَيْهِم وَكفى بِاللَّه حسيبا} قَوْله " وابتلوا الْيَتَامَى " أَي اختبروهم قَالَه ابْن عَبَّاس وَمُجاهد وَالْحسن وَالسُّديّ وَمُقَاتِل بن حَيَّان قَوْله " حَتَّى إِذا بلغُوا النِّكَاح " قَالَ مُجَاهِد يَعْنِي الْحلم قَوْله " فَإِن آنستم مِنْهُم رشدا " يَعْنِي صلاحا فِي دينهم وحفظا لأموالهم قَالَه سعيد بن جُبَير ثمَّ نهى الله عَن أكل أَمْوَال الْيَتَامَى من غير حَاجَة ضَرُورِيَّة إسرافا ومبادرة قبل بلوغهم قَوْله " وَمن كَانَ غَنِيا " أَي من كَانَ فِي غنية عَن مَال الْيَتِيم فليستعفف عَنهُ وَلَا يَأْكُل مِنْهُ شَيْئا قَوْله " أنزلت " أَي هَذِه الْآيَة فِي وَالِي الْيَتِيم وَهُوَ الَّذِي يَلِي أمره ويتولاه قَوْله " الَّذِي يُقيم عَلَيْهِ " قَالَ ابْن التِّين الصَّوَاب يقوم لِأَنَّهُ من الْقيام لَا من الْإِقَامَة قلت لَا مَانع من ذَلِك لِأَن مَعْنَاهُ يلازمه ويعتكف عَلَيْهِ أَو يُقيم نَفسه عَلَيْهِ وَكَذَا أخرجه أَبُو نعيم عَن هِشَام من وَجه آخر وَذهل صَاحب التَّوْضِيح عَن هَذَا الْمَعْنى.

     وَقَالَ  الصَّوَاب يقوم بِالْوَاو وَلِأَن يُقيم مُتَعَدٍّ بِغَيْر حرف جر قَوْله " أكل مِنْهُ بِالْمَعْرُوفِ " يَعْنِي بِقدر قِيَامه عَلَيْهِ.

     وَقَالَ  الْفُقَهَاء لَهُ أَن يَأْكُل أقل الْأَمريْنِ أُجْرَة مثله أَو قدر حَاجته وَاخْتلفُوا هَل يرد إِذا أيسر على قَوْلَيْنِ أَحدهمَا لَا لِأَنَّهُ أكل بِأُجْرَة عمله وَكَانَ فَقِيرا وَهُوَ الصَّحِيح عِنْد أَصْحَاب الشَّافِعِي لِأَن الْآيَة أَبَاحَتْ الْأكل من غير بدل وَقد قَالَ الإِمَام أَحْمد حَدثنَا عبد الْوَهَّاب حَدثنَا حُسَيْن عَن عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده أَن رجلا سَأَلَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ لَيْسَ لي مَال ولي يَتِيم فَقَالَ " كل من مَال يَتِيمك غير مُسْرِف وَلَا مبذر وَلَا متاثل مَالا وَمن غير أَن تَقِيّ مَالك ".

     وَقَالَ  تفدي مَالك شَاك حُسَيْن وروى ابْن حبَان فِي صَحِيحه وَابْن مرْدَوَيْه فِي تَفْسِيره من حَدِيث عَليّ بن مهْدي عَن جَعْفَر بن سُلَيْمَان عَن أبي عَامر الخراز عَن عَمْرو بن دِينَار عَن جَابر أَن رجلا قَالَ يَا رَسُول الله مِمَّا أضْرب يَتِيمِي قَالَ " مَا كنت ضَارِبًا مِنْهُ ولدك غير واق مَالك بِمَالِه وَلَا متاثل مِنْهُ مَالا ".

     وَقَالَ  ابْن جرير حَدثنَا الْحسن بن يحيى أخبرنَا عبد الرَّزَّاق أخبرنَا الثَّوْريّ عَن يحيى بن سعيد عَن الْقَاسِم بن مُحَمَّد قَالَ جَاءَ أَعْرَابِي إِلَى ابْن عَبَّاس فَقَالَ إِن فِي حجري أيتاما وَإِن لَهُم إبِلا ولي إبل وَأَنا أمنح فِي إبلي وأفقر فَمَاذَا يحل لي من أَلْبَانهَا فَقَالَ إِن كنت تبغي ضَالَّتهَا وَتَهْنَأ جَرْبَاهَا وَتَلوط حَوْضهَا وتسقي عَلَيْهَا فَاشْرَبْ غير مُضر بِنَسْل وَلَا نَاهِك فِي الْحَلب وَبِهَذَا القَوْل وَهُوَ عدم الْبَدَل يَقُول عَطاء بن أبي رَبَاح وَعِكْرِمَة وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وعطية الْعَوْفِيّ وَالْحسن الْبَصْرِيّ وَالثَّانِي نعم لِأَن مَال الْيَتِيم على الْخطر وَإِنَّمَا أُبِيح للْحَاجة فَيرد بدله كَأَكْل مَال الْغَيْر للْمُضْطَر عِنْد الْحَاجة قَوْله " وَمن كَانَ فَقِيرا فَليَأْكُل بِالْمَعْرُوفِ " يَعْنِي الْقَرْض كَذَا رَوَاهُ ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس وروى من طَرِيق السّديّ عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله فَليَأْكُل بِالْمَعْرُوفِ قَالَ يَأْكُل بِثَلَاث أَصَابِع.

     وَقَالَ  الشّعبِيّ لَا يَأْكُل مِنْهُ إِلَّا أَن يضْطَر إِلَيْهِ كَمَا يضْطَر إِلَى الْميتَة فَإِن أكل مِنْهُ قَضَاهُ رَوَاهُ ابْن أبي حَاتِم وَقيل أَن الْوَلِيّ يستقرض من مَال الْيَتِيم إِذا افْتقر وَبِه قَالَ عُبَيْدَة وَعَطَاء وَأَبُو الْعَالِيَة وَقيل فَليَأْكُل بِالْمَعْرُوفِ فِي مَال نَفسه لِئَلَّا يحْتَاج إِلَى مَال الْيَتِيم.

     وَقَالَ  مُجَاهِد لَيْسَ عَلَيْهِ أَن يَأْخُذ قرضا وَلَا غَيره وَبِه قَالَ أَبُو يُوسُف وَذهب إِلَى أَن الْآيَة مَنْسُوخَة نسختها { لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالكُم بَيْنكُم بِالْبَاطِلِ} قَوْله " فَإِذا دفعتم إِلَيْهِم أَمْوَالهم " يَعْنِي بعد بلوغهم الْحلم وإيناس الرشد فَحِينَئِذٍ سلموهم أَمْوَالهم فَإِذا دفعتم إِلَيْهِم أَمْوَالهم فأشهدوا عَلَيْهِم لِئَلَّا يَقع من بَعضهم جحود وإنكار لما قَبضه وتسلمه قَوْله " وَكفى بِاللَّه حسيبا " أَي محاسبا وَشَاهدا ورقيبا على الْأَوْلِيَاء فِي حَال نظرهم للْأُم حَال تسلمهم الْأَمْوَال هَل هِيَ كَامِلَة وفرة أَو نَاقِصَة مبخوسة مدحلسة مروج حسباها مُدَلّس أمورها الله عَالم بذلك كُله وَلِهَذَا ثَبت فِي صَحِيح مُسلم أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ " يَا أَبَا ذَر إِنِّي أَرَاك ضَعِيفا وَإِنِّي أحب لَك مَا أحب لنَفْسي لَا تأمرن على اثْنَيْنِ وَلَا تولين مَال يَتِيم " - <"