فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب بيع المدبر

(بابُُ بَيْعِ المدَبَّرِ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان حكم بيع الْمُدبر، وَهُوَ الْمُعَلق عتقه بِمَوْت سَيّده، كَذَا قَالُوا.
قلت: التَّدْبِير لُغَة) : النّظر فِيمَا يؤول إِلَيْهِ عاقبته، وَشرعا: التَّدْبِير تَعْلِيق الْعتْق بِمُطلق مَوته، كَقَوْلِه: إِذا مت فَأَنت حر، أَو: أَنْت حر يَوْم أَمُوت.
أَو: أَنْت حر عَن دبر مني، أَو: أَنْت مُدبر أَو: دبرتك.
أَو قَالَ: أَعتَقتك بعد موتِي.
أَو: أَنْت عَتيق أَو مُعتق أَو مُحَرر بعد موتِي.
أَو: إِن مت فَأَنت حر، أَو: إِن حدث لي حدث فَأَنت حر، لِأَن الْحَدث يُرَاد بِهِ الْمَوْت عَادَة، وَكَذَا إِذا قَالَ: أَنْت حر مَعَ موتِي أَو فِي موتِي فَهَذِهِ كلهَا أَلْفَاظ التَّدْبِير الْمُطلق، فَالْحكم فِيهَا: أَنه لَا يجوز بَيْعه وَلَا هِبته، وَلكنه يستخدم ويؤجر، وَالْأمة تُوطأ وَتنْكح وتعتق بِمَوْت الْمولى من ثلثه، وَإِن مَاتَ فَقِيرا يسْعَى فِي ثلي قِيمَته، وَيسْعَى فِي جَمِيع قِيمَته إِن مَاتَ الْمولى مديونا مُسْتَغْرقا.

وَأما أَلْفَاظ التَّدْبِير الْمُقَيد فَهِيَ كَقَوْلِه: إِن مت من مرضِي هَذَا أَو من سَفَرِي هَذَا فَأَنت حر، فَحكمه أَنه يجوز بَيْعه بِالْإِجْمَاع، فَإِن وجد الشَّرْط عتق.
.

     وَقَالَ  الشَّافِعِي وَأحمد: يجوز بيع الْمُدبر بِكُل حَال.
.

     وَقَالَ  الْقُرْطُبِيّ وَغَيره: اتَّفقُوا على مَشْرُوعِيَّة التَّدْبِير، وَاتَّفَقُوا على أَنه من الثُّلُث، غير اللَّيْث بن سعد وَزفر فَإِنَّهُمَا قَالَا: من رَأس المَال، وَاخْتلفُوا: هَل هُوَ عقد جَائِز أَو لَازم؟ فَمن قَالَ: لَازم: منع التَّصَرُّف فِيهِ إلاَّ بِالْعِتْقِ.
وَمن قَالَ: جَائِز، أجَاز، وبالأول قَالَ مَالك وَالْأَوْزَاعِيّ والكوفيون، وَبِالثَّانِي قَالَ الشَّافِعِي وَأهل الحَدِيث.



[ قــ :2144 ... غــ :2230 ]
- حدَّثنا ابنُ نُمَيْرٍ قَالَ حدَّثنا وكِيعٌ قَالَ حدَّثنا إسْمَاعِيلُ عنْ سَلَمَةَ بنِ كُهَيْلٍ عنْ عطاءٍ عنْ جابِرٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ باعَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم المدَبَّرَ.
.


مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.

ذكر رِجَاله وهم سِتَّة: الأول: مُحَمَّد بن عبد الله بن نمير، بِضَم النُّون وَفتح الْمِيم: وَهُوَ مصغر نمر الْحَيَوَان الْمَشْهُور.
الثَّانِي: وَكِيع بن الْجراح الرواسِي.
الثَّالِث: إِسْمَاعِيل بن أبي خَالِد، وَاسم أبي خَالِد سعد، وَيُقَال: هُرْمُز، وَيُقَال: كثير.
الرَّابِع: سَلمَة بن كهيل مصغر كهل الْحَضْرَمِيّ، كَانَ ركنا من الْأَركان، مَاتَ سنة إِحْدَى وَعشْرين وَمِائَة.
الْخَامِس: عَطاء بن أبي رَبَاح.
السَّادِس: جَابر بن عبد الله الْأنْصَارِيّ.

ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع.
وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع.
وَفِيه: القَوْل فِي مَوضِع وَاحِد.
وَفِيه: إِن شَيْخه ووكيعا وَإِسْمَاعِيل وَسَلَمَة كلهم كوفيون وَأَن عَطاء مكي.
وَفِيه: ثَلَاثَة من التَّابِعين على نسق وَاحِد وهم: إِسْمَاعِيل وَسَلَمَة ووعطاء، فإسماعيل وَسَلَمَة قريبان من صغَار التَّابِعين، وَعَطَاء من أوساطهم.
وَفِيه: ثَلَاثَة ذكرُوا مجردين بِلَا نِسْبَة.
وَفِيه: أَن شَيْخه ذكر مَنْسُوبا إِلَى جده.

ذكر من أخرجه غَيره: أخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْعتْق عَن أَحْمد بن حَنْبَل.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن أبي دَاوُد الْحَرَّانِي، وَفِيه وَفِي الْبيُوع عَن مَحْمُود بن غيلَان، وَفِيه وَفِي الْقَضَاء عَن عبد الْأَعْلَى بن وَاصل، وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الْأَحْكَام عَن مُحَمَّد ابْن عبد الله بن نمير وَعلي بن مُحَمَّد، كِلَاهُمَا عَن وَكِيع عَن إِسْمَاعِيل بِهِ.

ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: احْتج بِهِ الشَّافِعِي وَأحمد لما ذَهَبا إِلَيْهِ من جَوَاز بيع الْمُدبر بِكُل حَال، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى بِمَا فِيهِ الْكِفَايَة فِي: بابُُ بيع المزايدة.
قَوْله: (الْمُدبر) أَي: الْمُدبر الَّذِي كَانَ للرجل الْمُحْتَاج، قد ذكرنَا هُنَاكَ أَن الَّذِي اشْتَرَاهُ: نعيم، وَاسم الْمُدبر: يَعْقُوب، وَاسم سَيّده: أَبُو مَذْكُور، وَالثمن: ثَمَانمِائَة دِرْهَم.





[ قــ :144 ... غــ :31 ]
- حدَّثنا قُتَيْبَةُ قَالَ حدَّثنا سُفْيَانُ عنْ عَمْرِو سَمِعَ جابِرَ بنَ عَبْدِ الله رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا يقولُ باعَهُ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
.


هَذَا طَرِيق آخر أخرجه عَن قُتَيْبَة بن سعيد عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن عَمْرو بن دِينَار، وَفِي رِوَايَة الْحميدِي: حَدثنَا عَمْرو بن دِينَار، هَكَذَا أوردهُ مُخْتَصرا وَلم يذكر من يعود عَلَيْهِ الضَّمِير.
وَأخرجه ابْن أبي شيبَة فِي ( مُصَنفه) عَن سُفْيَان فَزَاد فِي آخِره: يَعْنِي الْمُدبر، وَأخرجه مُسلم عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَأبي بكر بن أبي شيبَة جَمِيعًا عَن سُفْيَان بِلَفْظ: دبر رجل من الْأَنْصَار غُلَاما لَهُ لم يكن لَهُ مَال غَيره، فَبَاعَهُ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَاشْتَرَاهُ ابْن النحام عبدا قبطيا مَاتَ عَام أول فِي إِمَارَة ابْن الزبير، وَهَكَذَا أخرجه أَحْمد عَن سُفْيَان بِتَمَامِهِ نَحوه، وَقد أخرجه البُخَارِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فِي كَفَّارَات الْإِيمَان من طَرِيق حَمَّاد بن زيد عَن عَمْرو نَحوه وَلم يقل فِيهِ فِي إمارات ابْن الزبير وَلَا عين الثّمن.





[ قــ :144 ... غــ :33 ]
- حدَّثني زُهَيْرُ بنُ حَرْبٍ قَالَ حَدثنَا يَعْقُوبُ قَالَ حَدثنَا أبِي عنْ صالِحٍ قَالَ حدَّثَ ابنُ شِهَابٍ أنَّ عُبَيْدَ الله أخْبَرَهُ أنَّ زَيْدَ بنَ خالِدٍ وَأَبا هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أخْبَرَاهُ أنَّهُما سَمِعَا رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُسْئَلُ عنِ الأمَةِ تَزْنِي ولَمْ تُحْصَنْ قَالَ اجْلِدُوهَا ثُمَّ إنْ زَنَتْ فاجْلِدُوها ثُمَّ بِيعُوها بعْدَ الثَّالِثَةِ أوِ الرَّابِعَةِ.
.


قيل: لَا معنى لإدخال هَذَا فِي بيع الْمُدبر، وَلِهَذَا أسقط هَذَا الْبابُُ ابْن التِّين وَأدْخلهُ ابْن بطال فِي الْبابُُ الَّذِي قبله، وَهُوَ: بابُُ بيع الرَّقِيق،.

     وَقَالَ  بَعضهم: وَجه دُخُول هَذَا فِي هَذَا الْبابُُ عُمُوم الْأَمر بِبيع الْأمة إِذا زنت، فَيشْمَل مَا إِذا كَانَت مُدبرَة أَو غير مُدبرَة، فَيُؤْخَذ مِنْهُ جَوَاز بيع الْمُدبرَة فِي الْجُمْلَة.
انْتهى.
قلت: أَخذ هَذَا الْقَائِل بعض كَلَامه هَذَا من الْكرْمَانِي، وَزَاد عَلَيْهِ من عِنْده فَإِن الْكرْمَانِي قَالَ: فَإِن قلت: مَا وَجه تعلقه بالمدبر؟ قلت: لفظ الْأمة الْمُطلقَة شَامِل للمدبرة وَغَيرهَا.
انْتهى.
قلت: هَذَا الْكَلَام كُله لَيْسَ بموجه، لِأَن الْأمة الْمَذْكُورَة فِي الحَدِيث إِنَّمَا أَمر صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِبَيْعِهَا لأجل تكَرر زنَاهَا، وَالْأمة الْمُدبرَة يجوز بيعهَا عِنْدهم مُطلقًا، سَوَاء تكَرر الزِّنَا مِنْهَا أَو لم يتَكَرَّر، أَو لم تزنِ أصلا.
وَقَول هَذَا الْقَائِل: فَيُؤْخَذ مِنْهُ جَوَاز بيع الْمُدبرَة فِي الْجُمْلَة كَلَام واهٍ، لِأَن الْأَخْذ الَّذِي ذكره لَا يكون إلاَّ بِدلَالَة من اللَّفْظ من أَقسَام الدّلَالَة الثَّلَاثَة، وَلَا يَصح أَيْضا على رَأْي أهل الْأُصُول، فَإِن الَّذِي يدل لَا يَخْلُو إِمَّا أَن يكون بِعِبَارَة النَّص أَو بإشارته أَو بدلالته، فَأَي ذَلِك أَرَادَ هَذَا الْقَائِل فَلَا يدْرِي مَا قَالَه، وَالصَّوَاب مَعَ ابْن بطال وَابْن التِّين.

ذكر رِجَاله وهم ثَمَانِيَة: الأول: زُهَيْر مصغر زهر بن حَرْب، ضد الصُّلْح، الثَّانِي: يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم الثَّالِث أَبوهُ ابراهيم بن سعيد بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف الْقرشِي الزُّهْرِيّ.
الرَّابِع: صَالح بن كيسَان.
الْخَامِس: مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ.
السَّادِس: عبيد الله بن عبد الله بن عتبَة بن مَسْعُود، أحد الْفُقَهَاء السَّبْعَة.
السَّابِع: زيد بن خَالِد الْجُهَنِيّ.
الثَّامِن: أَبُو هُرَيْرَة.

وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى فِي: بابُُ بيع العَبْد الزَّانِي، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ من وَجه آخر: عَن عبد الله بن يُوسُف عَن اللَّيْث عَن سعيد المَقْبُري عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة، وَأخرجه: عَن إِسْمَاعِيل عَن مَالك عَن ابْن شهَاب عَن عبيد الله بن عبد الله عَن أبي هُرَيْرَة، وَزيد بن خَالِد الْجُهَنِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا.

قَوْله: ( لم تحصن) ، بِفَتْح الصَّاد وَكسرهَا.





[ قــ :146 ... غــ :34 ]
- حدَّثنا عَبْدُ العَزِيزِ بنُ عبْدِ الله قَالَ أخبرنِي اللَّيْثُ عنْ سَعِيدٍ عنْ أبِيهِ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ سَمِعْتُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقولُ إذَا زَنَتْ أمَةُ أحَدِكُمْ فتَبَيَّنَ زِناهَا فلْيَجْلِدْها الحَدَّ ولاَ يُثَرِّبْ عَلَيْها ثُمَّ إنْ زَنَتْ فلْيَجْلِدْهَا الحَدَّ ولاَ يُثَرِّبْ ثُمْ إنْ زَنَتِ الثَّالِثَةَ فتَبَيَّنَ زِناهَا فَلْيَبِعْها ولَوْ بِحَبلٍ مِنْ شَعرٍ.
.


هَذَا طَرِيق آخر فِي الحَدِيث الْمَذْكُور عَن أبي هُرَيْرَة وَحده أخرجه عَن عبد الْعَزِيز بن عبد الله بن يحيى أبي الْقَاسِم الْقرشِي العامري الأويسي الْمدنِي، وَهُوَ من أَفْرَاده عَن اللَّيْث بن سعد عَن سعيد المَقْبُري عَن أَبِيه أبي سعيد كيسَان مولى بني لَيْث، وَهَذَا أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْمُحَاربين عَن عبد الله بن يُوسُف.
وَأخرجه مُسلم فِي الْحُدُود، وَالنَّسَائِيّ فِي الرَّحِم، جَمِيعًا عَن عِيسَى بن حَمَّاد كِلَاهُمَا عَن اللَّيْث بِهِ.

قَوْله: ( فَتبين) أَي: ظهر زنَاهَا وَثَبت.
قَوْله: ( وَلَا يثرب) أَي: وَلَا يوبخها بِالزِّنَا بعد الضَّرْب، والتثريب اللوم، وَقيل أَرَادَ: لَا يَقع فِي عقوبتها التثريب بل يضْربهَا الْحَد، فَإِن زنا الْإِمَاء لم يكن عِنْد الْعَرَب مَكْرُوها وَلَا مُنْكرا، فَأَمرهمْ بِحَدّ الْإِمَاء كَمَا أَمرهم بِحَدّ الْحَرَائِر، ومادته: ثاء مُثَلّثَة وَرَاء وباء مُوَحدَة.
قَوْله: ( وَلَو بِحَبل) أَي: وَلَو كَانَ بِحَبل من شعر.