فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب من استأجر أجيرا فترك الأجير أجره، فعمل فيه المستأجر فزاد، أو من عمل في مال غيره، فاستفضل

( بابُُ مَنِ اسْتأجرَ أَجِيرا فتَرَكَ أجْرَهُ فعَمِلَ فِيهِ الْمُسْتأجِرُ فَزادَ أوْ منْ عَمِلَ فِي مالِ غَيْرِهِ فاسْتَفْضَلَ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي ذكر من اسْتَأْجر أَجِيرا فَترك أجره، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني فَترك الْأَجِير أجره وغايته أَنه أظهر فَاعل ترك.
قَوْله: ( فَعمل فِيهِ) ، ويروى: بِهِ، أَي: اتّجر فِيهِ أَو زرع فَزَاد أَي ربح.
قَوْله: ( من عمل فِي مَال غَيره) ، عطف على: من اسْتَأْجر.
قَوْله: ( فاستفضل) ، بِمَعْنى: أفضل، يَعْنِي: أفضل من مَال غَيره الشَّيْء، وَلَيْسَ السِّين فِيهِ للطلب.



[ قــ :2179 ... غــ :2272 ]
- حدَّثنا أبُو اليَمَانِ قَالَ أخبرنَا شُعَيْبٌ عَن الزُّهْرِيِّ قَالَ حدَّثني سالِمُ بنُ عَبْدِ الله أنَّ عَبْدَ الله بنَ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ انْطَلَقَ ثلاثةُ رَهْطٍ مِمَّنْ كانَ قَبْلَكُمْ أوَوْا المَبِيتَ إلَى غارٍ فدَخَلُوهُ فانْحَدَرَتْ صَخْرَةٌ مِنَ الجَبَلِ فسَدَّتْ عَلَيْهِمُ الغَارَ فقالُوا إنَّهُ لاَ يُنْجِيكُمْ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ إلاَّ أنْ تَدْعُوا الله بصالِحِ أعْمَالِكُمْ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ أللَّهُمَّ كانَ لِي أبَوانِ شَيْخَانِ كَبِيرانِ وكُنْتُ لَا أغْبَقُ قَبْلَهُمَا أهْلاً ولاَ مَالا فنأى بِي فِي طَلَبِ شَيْءٍ يوْما فَلَمْ أرِحْ عَلَيْهِما حَتَّى نامَا فَحَلَبْتُ لَهُما غَبُوقَهُما فوَجدْتُهُما نائِمَيْنِ وكَرِهْتُ أنْ أغبِقَ قَبْلَهُما أهْلاً أوْ مَالا فَلَبِثْتُ والقَدَحُ على يَدَيَّ أنْتَظِرِ اسْتِيقَاظَهُما حَتَّى بَرَق الفَجْرُ فاسْتَيْقَظَا فشَرِبا غَبُوقَهُما اللَّهُمَّ إنْ كُنْتُ فَعلْتُ ذَلِكَ ابْتِغاءَ وَجْهِكَ فَفَرِّجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ منْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ فانْفَرَجَتْ شيْئا لَا يَسْتَطِيعُونَ الخُرُوجَ قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.

     وَقَالَ  الآخرُ أللَّهُمَّ كانَتْ لِي بِنْتُ عَمٍّ كانَتْ أحَبَّ النَّاسَ إلَيَّ فأرَدْتُها عنْ نَفْسها فامْتَنَعَتْ مِنِّي حَتَّى ألَمَّتْ بِا سَنَةٌ مِنَ السِّنينَ فَجاءَتْنِي فأعْطَيْتُهَا عِشْرِينَ ومِائَةَ دِينَارٍ علَى أنْ تُخَلِّيَ بَيْنِي وبَيْنَ نَفْسِهَا فَفَعَلتْ حتَّى إذَا قَدَرْتُ عَلَيْهَا قالتْ لَا احلُّ لَكَ أنْ تَفُضَّ الخَاتَمَ إلاَّ بِحَقِّهِ فتَحَرَّجْتُ مِنَ الوُقُوعِ عَلَيْهَا فانْصَرَفْتُ عَنْهَا وهْيَ أحَبُّ النَاسِ إلَيَّ وتَرَكْتُ الذَّهَبَ الَّذِي أعْطَيْتُهَا اللَّهُمَّ إنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابتِغَاءَ وجْهِكَ فافْرُجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فيهِ فانْفَرَجَتِ الصَّخْرَةُ غَيْرَ أنَّهُمْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ الخُرُوجَ مِنْها قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.

     وَقَالَ  الثَّالِثُ اللَّهُمَّ إنِّيي استَأجَرْتُ أُجَرَاءَ فأعْطَيْتُهُمْ أجْرَهُمْ غَيْرَ رجلٍ واحِدٍ ترَكَ الَّذِي لَهُ وذَهَبَ فَثَمَّرْتُ أجْرَهُ حتَّى كَثُرَتْ مِنْهُ الأمْوَالُ فجَاءَنِي بَعْدَ حِين فَقَالَ يَا عَبْدَ الله أدِّي إلَيَّ أجْرِي فَقُلْتُ لَهُ كُلُّ مَا تَرَى منْ أجْرِكَ مِنَ الإبِلِ والْبَقَرِ والغَنَمِ والرَّقِيقِ فَقَالَ يَا عَبْدَ الله لَا تَسْتَهْزِىءْ بِي فقُلْتُ إنِّي لَا أسْتَهْزِىءُ بِكَ فأخذَهُ كُلَّهُ فاسْتَاقَهُ فَلَمْ يَتْرُكّ مِنْهُ شَيْئا اللَّهُمَّ فإنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فافْرُجْ عنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ فانْفَرَجَتِ الصَّخْرَةُ فَخَرَجُوا يَمْشُونَ.
.


مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: ( فأعطيتهم أجرهم غير رجل وَاحِد ترك الَّذِي لَهُ وَذهب) إِلَى قَوْله: ( بعد حِين) .
قَالَ الْمُهلب: لَيْسَ فِيهِ دَلِيل لما ترْجم لَهُ، وَإِنَّمَا أتجر الرجل فِي أجر أجيره ثمَّ أعطَاهُ على سَبِيل التَّبَرُّع، وَإِنَّمَا الَّذِي كَانَ يلْزمه قدر الْعَمَل خَاصَّة.
قلت: وَرِجَاله هَكَذَا قد تقدمُوا غير مرّة، وَأَبُو الْيَمَان: الحكم بن نَافِع الْحِمصِي، وَشُعَيْب بن أبي حَمْزَة الْحِمصِي، وَالزهْرِيّ هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب.

وَقد مضى هَذَا الحَدِيث فِي كتاب الْبيُوع فِي: بابُُ إِذا اشْترى شَيْئا لغيره بِغَيْر إِذْنه.
فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم عَن أبي عَاصِم عَن ابْن جريج عَن مُوسَى بن عقبَة عَن نَافِع عَن ابْن عمر وَبَينهمَا تفَاوت فِي الْمَتْن يعرف بِالنّظرِ.

قَوْله: ( ثَلَاثَة رَهْط) ، الرَّهْط من الرِّجَال مَا دون الْعشْرَة، وَقيل: إِلَى الْأَرْبَعين وَلَا يكون فيهم امْرَأَة وَلَا وَاحِد لَهُ من لَفظه وَيجمع على أرهط وأرهاط وأراهط، جمع الْجمع.
قَوْله: ( حَتَّى أووا) ، يُقَال: أَوَى فلَان إِلَى منزله يأوي أويا على وزن فعول،.

     وَقَالَ  أَبُو زيد: فعلت وأفعلت بِمَعْنى، يَعْنِي: أَوَى بِالْقصرِ وآوى بِالْمدِّ سَوَاء، وَالْمَبِيت مَوضِع البيتوتة، وَكلمَة: إِلَى، فِي: إِلَى غَار، للانتهاء.
يَعْنِي: انْتهى، أويهم لأجل البيتوتة إِلَى غَار، وَهُوَ كَهْف فِي الْجَبَل.
قَوْله: ( فانحدرت) أَي: هَبَطت وَنزلت.
قَوْله: ( لَا ينجيكم) ، بِضَم الْيَاء، من الإنجاء بِالْجِيم، وَهُوَ التخليص.
قَوْله: ( إلاَّ أَن تدعوا الله) ، بِسُكُون الْوَاو لِأَنَّهُ جمع، وَأَصله: تدعون، من الدُّعَاء فَسَقَطت النُّون لأجل: أَن.
قَوْله: ( أللهم قد) ذكرنَا مَعْنَاهُ هُنَاكَ فِي ذَلِك الْبابُُ.
قَوْله: ( لَا أغبق) ، من الغبوق بالغين الْمُعْجَمَة وَالْبَاء الْمُوَحدَة وَفِي آخِره قَالَ، وَهُوَ: شرب الْعشي، وضبطوا: لَا أغبق، بِفَتْح الْهمزَة من الثلاثي إلاَّ الْأصيلِيّ، فَإِنَّهُ يضمها من الرباعي، وخطؤه فِيهِ.
.

     وَقَالَ  صَاحب ( الْأَفْعَال) : يُقَال: غبقت الرجل، وَلَا يُقَال: أغبقته، والغبوق: شرب آخر النَّهَار مُقَابل الصبوح، وَاسم الشَّرَاب الغبق.
قَوْله: ( أَهلا) الْأَهْل الزَّوْجَات، وَالْمَال الرَّقِيق،.

     وَقَالَ  الدادي: وَالدَّوَاب أَيْضا.
.

     وَقَالَ  ابْن التِّين: وَلَيْسَ للدواب هُنَا معنى يذكر بِهِ.
قَوْله: ( فنَاء بِي) بِمد بعد النُّون بِوَزْن جَاءَ فِي رِوَايَة كَرِيمَة والأصيلي، وَفِي رِوَايَة غَيرهمَا: فنأى، بِفَتْح النُّون والهمزة مَقْصُورا على وزن: سقى، أَي: بعد، وأصل هَذِه الْمَادَّة من النأي، بِفَتْح النُّون وَسُكُون الْهمزَة: الْبعد، يُقَال: نأى بِي طلب شَيْء، أَي: بعد.
قَوْله: ( فَلم أرح) ، بِضَم الْهمزَة وَكسر الرَّاء أَي: لم أرجع على أَبَوي حَتَّى أخذهما النّوم.
قَوْله: ( والقدح) الْوَاو فِيهِ للْحَال.
قَوْله: ( حَتَّى برق الْفجْر) أَي: ظهر الضياء.
قَوْله: ( فأردتها عَن نَفسهَا) ، كِنَايَة عَن طلب الْجِمَاع.
قَوْله: ( حَتَّى ألمت بهَا) أَي: حَتَّى نزلت بهَا سنة من سني الْقَحْط فأحوجتها.
قَوْله: ( عشْرين وَمِائَة) ، أَي: عشْرين دِينَارا وَمِائَة، وَوَقع هُنَاكَ مائَة، والتخصيص بِالْعدَدِ لَا يُنَافِي الزِّيَادَة، وَالْمِائَة كَانَت بالتماسها وَالْعشْرُونَ تبرع مِنْهُ كَرَامَة لَهَا.
قَوْله: ( لَا أحل لَك) ، بِضَم الْهمزَة من الْإِحْلَال.
قَوْله: ( أَن تفض الْخَاتم) كِنَايَة عَن الْوَطْء، يُقَال: فض الْخَاتم والختم إِذا كَسره وفتحه.
قَوْله: ( فتحرجت) ، يُقَال: تحرج فلَان إِذا فعل فعلا يخرج بِهِ من الْحَرج، وَهُوَ الْإِثْم والضيق.
قَوْله: ( وَتركت الذَّهَب الَّذِي أعطيتهَا) وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: ( الَّتِي أعطيتهَا) ، وَالذَّهَب يذكر وَيُؤَنث.
قَوْله: ( فأفرج عَنَّا) ، بوصل الْهمزَة وَضم الرَّاء، فَإِذا قطع الْهمزَة وَكسر الرَّاء.
فَالْأول أَمر من الْفرج.
وَالثَّانِي: من الإفراج.
قَوْله: ( أجراء) جمع أجِير.
قَوْله: ( فثمرت) أَي: كثرت من التثمير.
قَوْله: ( كل مَا ترى) مُبْتَدأ وَخَبره.
قَوْله: ( من أجرك) ، أَي: من أجرتك.
قَوْله: ( من الْإِبِل.
.
)
إِلَى آخِره، بَيَان لما ترى، وَهنا زَاد الْإِبِل وَالْبَقر، وَهُنَاكَ بقرًا وراعيها، وَلَا مُنَافَاة بَينهمَا، وَقد ذكرنَا بعض الْخلاف فِيمَن اتّجر فِي مَال غَيره، فَقَالَ قوم: لَهُ الرِّبْح إِذا أدّى رَأس المَال إِلَى صَاحبه سَوَاء كَانَ غَاصبا لِلْمَالِ أَو وَدِيعَة عِنْده مُتَعَدِّيا فِيهِ، وَهُوَ قَول عَطاء وَمَالك وَرَبِيعَة وَاللَّيْث وَالْأَوْزَاعِيّ وَأبي يُوسُف، وَاسْتحبَّ مَالك وَالثَّوْري وَالْأَوْزَاعِيّ تنزهه، وَيتَصَدَّق بِهِ،.

     وَقَالَ  آخَرُونَ يرد المَال وَيتَصَدَّق بِالرِّبْحِ كُله.
وَلَا يطيب لَهُ شَيْء من ذَلِك، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وَمُحَمّد بن الْحسن وَزفر،.

     وَقَالَ  قوم: الرِّبْح لرب المَال، وَهُوَ ضَامِن لما تعدى فِيهِ، وَهُوَ قَول ابْن عمر وَأبي قلَابَة، وَبِه قَالَ أَحْمد وَإِسْحَاق.
.

     وَقَالَ  الشَّافِعِي: إِن اشْترى السّلْعَة بِالْمَالِ بِعَيْنِه فَالرِّبْح وَرَأس المَال لرب المَال، وَإِن اشْتَرَاهَا بِمَال بِغَيْر عينه قبل أَن يستوجبها بِثمن مَعْرُوف بِالْعينِ، ثمَّ نقد المَال مِنْهُ أَو الْوَدِيعَة، فَالرِّبْح لَهُ وَهُوَ ضَامِن لما اسْتهْلك من مَال غَيره، وَالله أعلم بِالصَّوَابِ.