فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب مسح الرأس كله

( بابُُ مَسْحِ الرَّأْسِ كُلِّهِ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان حكم مسح كل الرَّأْس فِي الْوضُوء وَلَفظ: ( كُله) ، مَوْجُود عِنْدهم إلاَّ فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي فَإِنَّهُ سَاقِط.

والمناسبة بَين الْبابَُُيْنِ أَن الْبابُُ الأول مترجم بترك الْوضُوء من الغشي إلاَّ إِذا كَانَ مُثقلًا، وَهَذَا الْبابُُ يشْتَمل على مسح جَمِيع الرَّأْس، وَهُوَ جُزْء من الْوضُوء.

لِقَوْلِ اللَّهِ تَعالىَ وامْسَحُوا بِرُوسِكُمْ

احْتج البُخَارِيّ فِي وجوب مسح جَمِيع الرَّأْس بقوله تَعَالَى { وامسحو برؤوسكم} ( الْمَائِدَة: 6) واحتجاجه بِهِ إِنَّمَا يتم إِذا كَانَت: الْبَاء، زَائِدَة كَمَا ذهب إِلَيْهِ مَالك، رَحمَه الله تَعَالَى.

وقالَ ابنُ المُسَيَّبِ المَرْأةُ بِمَنْزِلَةِ الرَّجُلِ تمْسَحُ عَلَى رَأْسِهَا

أَي: قَالَ ابْن الْمسيب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَوَصله ابْن أبي شيبَة فِي ( مُصَنفه) : حَدثنَا وَكِيع عَن سُفْيَان عَن عبد الْكَرِيم يعْنى ابْن مَالك عَن سعيد بن الْمسيب الْمَرْأَة وَالرجل فِي مسح الرَّأْس سَوَاء.
قَوْله: ( بِمَنْزِلَة الرجل) أَي: فِي وجوب مسح جَمِيع الرَّأْس، هَكَذَا فسره الْكرْمَانِي، وَمَعَ هَذَا يحْتَمل أَن يكون مُرَاده أَنه بِمَنْزِلَة الرجل فِي وجوب أصل الْمسْح، فَحِينَئِذٍ هَذَا الْأَثر لَا يساعد البُخَارِيّ فِي تبويبه لمسح كل الرَّأْس، وَنقل عَن أَحْمد أَنه قَالَ: يَكْفِي الْمَرْأَة مسح مقدم رَأسهَا.
وَسُئِلَ مالِكٌ: أيُجْزِىءُ أنْ يَمْسَحَ بَعْضَ الرَّأْسِ فاحْتَجَّ بِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بنِ زَيْدٍ

أيجزىء: يجوز فِيهِ الوجان: احدهما: بِفَتْح الْيَاء من جزى أَي كفى، والهمزة فِيهِ للاستفهام.
وَالثَّانِي: بِضَم الْيَاء من الْإِجْزَاء وَهُوَ الْأَدَاء الْكَافِي لسُقُوط التَّعَبُّد بِهِ، وَفِي بعض النّسخ: بِبَعْض رَأسه، وَفِي بَعْضهَا: بعض الرَّأْس، والسائل عَن مَالك فِي مسح الرَّأْس هُوَ إِسْحَاق بن عِيسَى ابْن الطباع، بَينه ابْن خُزَيْمَة فِي ( صَحِيحه) من طَرِيقه، وَلَفظه: سَأَلت مَالِكًا عَن الرجل يمسح مقدم رَأسه فِي وضوئِهِ أيجزيه؟ فَقَالَ: حَدثنِي عَمْرو بن يحيى عَن أَبِيه عَن عبد الله بن زيد، قَالَ: ( مسح رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي وضوئِهِ من ناصيته إِلَى قَفاهُ، ثمَّ رد يَدَيْهِ إِلَى ناصيته فَمسح رَأسه كُله) .
.

     وَقَالَ  بَعضهم: مَوضِع الدّلَالَة من الحَدِيث وَالْآيَة: ان لفظ الْآيَة مُجمل لِأَنَّهُ يحْتَمل أَن يُرَاد بهَا مسح الْكل، عَن أَن: الْبَاء، زَائِدَة، أَو مسح الْبَعْض على أَنَّهَا تبعيضية، فَتبين بِفعل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن المُرَاد الأول.
قلت: لَا إِجْمَال فِي الْآيَة، وَإِنَّمَا الْإِجْمَال فِي الْمِقْدَار دون الْمحل، لِأَن الرَّأْس وَهُوَ مَعْلُوم، وَفعله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ بَيَانا للإجمال الَّذِي فِي الْمِقْدَار، وَهَذَا الْقَائِل لَو علم معنى الْإِجْمَال لما قَالَ لفظ الْآيَة مُجمل.
قَوْله: ( فاحتج) اي: مَالك احْتج بِحَدِيث عبد الله بن زيد الَّذِي سَاقه هُنَا على عدم الْإِجْزَاء فِي مسح بعض الرَّأْس، وَالْمعْنَى: أَنه لما سُئِلَ عَن مسح الرَّأْس روى هَذَا الحَدِيث وَاحْتج بِهِ على أَنه لَا يجوز أَن يقْتَصر بِبَعْض الرَّأْس.



[ قــ :182 ... غــ :185 ]
- حدّثنا عَبْدُ اللَّهِ بنُ يُوسُفَ قالَ أخبرنَا مالِكٌ عَنْ عَمرِو بن يَحْيىَ المَازِنيِّ عَنْ أبِيهِ أنَّ رَجُلاً قالَ لَعْبدِ اللَّهِ بنِ زَيْدٍ وَهوَ جَدُّ عَمْرِو بنِ يَحْيىَ أتَسْتَطِيعُ أنْ تُرِيَنِي كَيْفَ كانَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَتَوَضَّا فَقالَ عَبْدُ اللَّهِ بنُ زَيْدٍ نَعَمْ فَدَعًّ بِماءٍ فَأفْرَغَ عَلَى يَدَيْهِ فَغَسَلَ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ مَضْمَضَ وَاسْتَنْثَرَ ثَلاثاً ثُمَّ غَسَلَ وجْهَهُ ثَلاثاً ثُمَّ غَسَلَ يَدَيْهِ مَرَّتَيْن مَرَّتَيْنِ إلَى المِرْفَقَيْنِ ثُمَّ مَسَحَ رأْسَهُ بِيَدَيْهِ فأقْبَلَ بِهِمَا وَأدْبَرَ بَدَأَ بِمقَدَّم رَأْسِهِ حَتَّى ذَهَبَ بِهِمَا إلَى قَفَاهُ ثُمَّ رَدَّهُمَا إلَى المَكانِ الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيهِ..
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: ( ثمَّ مسح رَأسه) .
إِلَى آخِره.

بَيَان رِجَاله وهم سِتَّة.
الأول: عبد الله يُوسُف التنيسِي.
الثَّانِي: مَالك بن انس.
الثَّالِث: عَمْرو بن يحيى بن عمَارَة، بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَتَخْفِيف الْمِيم، وَقد تقدمُوا.
الرَّابِع: أَبوهُ يحيى بن عمَارَة بن أبي حسن، واسْمه تَمِيم بن عبد بن عَمْرو بن قيس، وَأَبُو حسن لَهُ صُحْبَة، وَكَذَا لعمارة فِيمَا جزم بِهِ ابْن عبد الْبر.
.

     وَقَالَ  أَبُو نعيم: فِيهِ نظر.
.

     وَقَالَ  الذَّهَبِيّ: عمَارَة بن أبي حسن الْأنْصَارِيّ الْمَازِني، لَهُ صُحْبَة، وَقيل: ابوه بَدْرِي وعقبي.
الْخَامِس: الرجل السَّائِل هُوَ عمر بن يحيى، وَإِنَّمَا قَالَ: جد عَمْرو بن يحيى تجوزاً لِأَنَّهُ عَم أَبِيه، وَسَماهُ جَداً لكَونه فِي مَنْزِلَته.
وَقيل: إِن المُرَاد بقوله هُوَ عبد الله بن زيد وَهَذَا وهم، لِأَنَّهُ لَيْسَ جَداً لعَمْرو بن يحيى لَا حَقِيقَة وَلَا مجَازًا، وَذكر فِي ( الْكَمَال) فِي تَرْجَمَة عَمْرو بن يحيى أَنه ابْن بنت عبد الله بن زيد.
قَالُوا: إِنَّه غلط، وَقد ذكر مُحَمَّد بن سعد أَن أم عَمْرو بن يحيى هِيَ حميدة بنت مُحَمَّد بن إِيَاس بن بكير،.

     وَقَالَ  غَيره: هِيَ أم النُّعْمَان بنت أبي حَيَّة.
وَالله اعْلَم.
وَقد اخْتلف رُوَاة ( الْمُوَطَّأ) فِي تعْيين هَذَا السَّائِل فأبهمه أَكْثَرهم.
قَالَ معن بن عِيسَى فِي رِوَايَته عَن عَمْرو عَن ابيه يحيى: إِنَّه سمع أَبَا مُحَمَّد بن حسن، وَهُوَ جد عَمْرو بن يحيى.
قَالَ لعبد الله بن زيد، وَكَانَ من الصَّحَابَة فَذكر الحَدِيث،.

     وَقَالَ  مُحَمَّد بن الْحسن الشَّيْبَانِيّ: عَن مَالك حَدثنَا عَمْرو عَن أَبِيه يحيى أَنه سمع جده أَبَا حسن يسْأَل عبد الله بن زيد، وَكَذَا سَاقه سَحْنُون فِي ( الْمُدَوَّنَة) .
.

     وَقَالَ  الشَّافِعِي فِي ( الْأُم) : عَن مَالك عَن عَمْرو عَن أَبِيه.
فَإِن قلت: هَل يُمكن أَن يجمع هَذَا الِاخْتِلَاف؟ قلت: يُمكن أَن يُقَال: اجْتمع عِنْد عبد الله بن زيد بن ابي حسن الْأنْصَارِيّ وَابْنه عَمْرو وَابْن ابْنه عمَارَة بن أبي حسن، فَسَأَلُوهُ عَن صفة وضوء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَتَوَلَّى السُّؤَال مِنْهُم لَهُ عمَارَة بن أبي حسن، فَحَيْثُ نسب إِلَيْهِ السُّؤَال كَانَ على الْحَقِيقَة، وَيُؤَيِّدهُ رِوَايَة سُلَيْمَان بن بِلَال عِنْد البُخَارِيّ فِي بابُُ الْوضُوء من التور، قَالَ: حَدثنِي عَمْرو بن يحيى عَن أَبِيه قَالَ: كَانَ عمي، يعْنى عَمْرو بن أبي حسن، يكثر الْوضُوء، فَقَالَ لعبد الله ابْن زيد: أَخْبرنِي، فَذكره.
وَحَيْثُ نسب السُّؤَال إِلَى أبي حسن فعلى الْمجَاز لكَونه كَانَ الْأَكْبَر وَكَانَ حَاضرا، وَحَيْثُ نسب السُّؤَال ليحيى بن عمَارَة فعلى الْمجَاز أَيْضا لكَونه ناقل الحَدِيث، وَقد حضر السُّؤَال، وَكَانُوا كلهم متفقين على السُّؤَال، غير أَن السَّائِل مِنْهُم كَانَ عَمْرو بن أبي حسن، ويوضح ذَلِك مَا رَوَاهُ أَبُو نعيم فِي ( الْمُسْتَخْرج) من حَدِيث الدَّرَاورْدِي عَن عَمْرو بن يحيى عَن أَبِيه عَن عَمه عَمْرو بن أبي حسن.
قَالَ: كنت كثير الْوضُوء فَقلت لعبد الله بن زيد ... الحَدِيث السَّادِس: من الرِّجَال عبد الله بن زيد الْأنْصَارِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.

بَيَان لطائف اسناده مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع وَالْأَخْبَار، كَذَلِك والعنعنة وَالْقَوْل.
وَمِنْهَا: أَن رُوَاته كلهم مذنيون إلاَّ عبد الله بن يُوسُف وَقد دَخلهَا.
وَمِنْهَا: أَن فِيهِ رِوَايَة الابْن عَن الْأَب.

بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ فِي الطَّهَارَة فِي خَمْسَة مَوَاضِع عَن عبد الله بن يُوسُف هُنَا، وَعَن مُوسَى ابْن إِسْمَاعِيل وَسليمَان بن حَرْب، كِلَاهُمَا عَن وهيب، وَعَن خَالِد بن مخلد عَن سُلَيْمَان بن بِلَال، وَعَن مُسَدّد عَن خَالِد بن عبد الله وَعَن أَحْمد ابْن يُونُس عَن عبد الْعَزِيز بن أبي سَلمَة الْمَاجشون، خمستهم عَن عَمْرو بن يحيى الْمَازِني عَن أَبِيه بِهِ.
وَأخرجه مُسلم فِي الطَّهَارَة أَيْضا عَن مُحَمَّد بن الصَّباح، وَعَن الْقَاسِم بن زَكَرِيَّا، وَعَن إِسْحَاق بن مُوسَى، وَعَن عبد الرَّحْمَن بن بشر.
وَأخرجه الْأَرْبَعَة أَيْضا فِي الطَّهَارَة: فَأَبُو دَاوُد عَن مُسَدّد وَعَن القعْنبِي وَعَن الْحسن بن عَليّ، وَالتِّرْمِذِيّ عَن إِسْحَاق بن مُوسَى الْأنْصَارِيّ بِهِ مُخْتَصرا.
وَالنَّسَائِيّ عَن عقبَة بن عبد الله بن الْيَعْمرِي وَعَن مُحَمَّد بن مسلمة والْحَارث بن مِسْكين وَعَن مُحَمَّد بن مَنْصُور؛ وَابْن مَاجَه عَن الرّبيع بن سُلَيْمَان وحرملة بن عِيسَى كِلَاهُمَا عَن الشَّافِعِي عَن مَالك وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة مُخْتَصرا، وَعَن عَليّ بن مُحَمَّد مُخْتَصرا.

بَيَان اللُّغَات والمعاني قَوْله: ( فأفرغ على يَده) أَي: فصب المَاء على يَده، وَفِي بعض الرِّوَايَات: ( يَدَيْهِ) .
قَوْله: وَفِي رِوَايَة مُوسَى عَن وهيب: فأكفأ، بهمزتين.
وَفِي رِوَايَة سُلَيْمَان بن حَرْب فِي بابُُ مسح الرَّأْس مرّة عَن وهيب: فكفأ، بِفَتْح الْكَاف وهما لُغَتَانِ بِمَعْنى.
يُقَال: كفأ الْإِنَاء وأكفأه إِذا أماله.
.

     وَقَالَ  الْكسَائي: كفأت الْإِنَاء كببته، وأكفأته أملته، وَالْمرَاد فِي الْمَوْضِعَيْنِ أفراغ المَاء من الْإِنَاء على الْيَد.
قَوْله: ( فَغسل يَده مرَّتَيْنِ) بإفراد الْيَد فِي رِوَايَة مَالك، وتثنية الْيَد فِي رِوَايَة وهيب وَسليمَان بن بِلَال عِنْد البُخَارِيّ، وَكَذَا الدراورذي عِنْد ابي نعيم، وَفِي رِوَايَة مَالك: ( فَغسل يَده مرَّتَيْنِ) .
بإفراد الْيَد، يحمل على الْجِنْس، ثمَّ إِنَّه عِنْد مَالك مرَّتَيْنِ، وَعند هَؤُلَاءِ ثَلَاثًا، وَكَذَا لخَالِد بن عبد الله عِنْد مُسلم فان قلت: لِمَ لَا يحمل هَذَا على الوقعتين؟ قلت: الْمخْرج وَاحِد وَالْأَصْل عدم التَّعَدُّد.
قَوْله: ( ثمَّ تمضمض واستنثر) ، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: ( مضمض واستنشق) وَمعنى استنثر: استنشق المَاء ثمَّ اسْتِخْرَاج ذَلِك بِنَفس الْأنف، والنثرة الخيشوم وَمَا ولاه وتشق واستنشق المَاء فِي أَنفه صبه فِيهِ وَيُقَال نشر وانتشر واستنشر إِذا حرك النشرة، وَهِي طرف الْأنف.
.

     وَقَالَ  بَعضهم: الاستنثار يسْتَلْزم الِاسْتِنْشَاق بِلَا عكس.
قلت: لَا نسلم ذَلِك، فَقَالَ ابْن الْأَعرَابِي وَابْن قُتَيْبَة: الِاسْتِنْشَاق والاستنثار وَاحِد.
قَوْله: ( ثمَّ غسل وَجهه ثَلَاثًا) أَي: ثَلَاث مَرَّات، وَلم تخْتَلف الرِّوَايَات فِي ذَلِك.
قَوْله: ( ثمَّ غسل يَدَيْهِ مرَّتَيْنِ مرَّتَيْنِ) كَذَا بتكرار: مرَّتَيْنِ، وَلم تخْتَلف الرِّوَايَات عَن عَمْرو بن يحيى فِي غسل الْيَدَيْنِ مرَّتَيْنِ مرَّتَيْنِ، وَفِي رِوَايَة مُسلم من طَرِيق حبَان بن وَاسع عَن عبد الله بن زيد: ( انه رأى النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، تَوَضَّأ وَفِيه يَده الْيُمْنَى ثَلَاثًا ثمَّ الْأُخْرَى ثَلَاثًا) فَيحمل عل أَنه وضوء آخر لكَون مخرج الْحَدِيثين غير مُتحد.
قَوْله: ( إِلَى الْمرْفقين) كَذَا رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي والحموي: إِلَى الْمرْفق، بِالْإِفْرَادِ على إِرَادَة الْجِنْس.
قَوْله: ( ثمَّ مسح رَأسه) زَاد ابْن الطباع لَفظه: كُله، وَكَذَا فِي رِوَايَة ابْن خُزَيْمَة، وَفِي رِوَايَة خَالِد بن عبد الله: ( مسح بِرَأْسِهِ) ، بِزِيَادَة: الْبَاء.
قَوْله: ( ثمَّ غسل رجلَيْهِ) ، وَفِي رِوَايَة وهيب الْآتِيَة إِلَى الْكَعْبَيْنِ.

بَيَان الْإِعْرَاب قَوْله: ( أتستطيع) ؟ الْهمزَة فِيهِ للاستفهام.
قَوْله: ( أَن تريني) فكلمة أَن، مَصْدَرِيَّة، وَالْجُمْلَة فِي مَحل النصب على أَنَّهَا مفعول: تَسْتَطِيع، وَالتَّقْدِير: هَل تَسْتَطِيع الإراءة إيَّايَ كَيفَ كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يتَوَضَّأ؟ قَوْله: ( يتَوَضَّأ) جملَة فِي مَحل النصب على أَنَّهَا خبر: كَانَ، وَيجوز أَن تكون تَامَّة وَيكون قَوْله: ( يتَوَضَّأ) حَالا.
قَوْله: ( نعم) ، مقول القَوْل، وَهُوَ يكون جملَة، وَالتَّقْدِير: نعم أَسْتَطِيع أَن أريك.
قَوْله: ( فَدَعَا بِمَاء) الْفَاء: للتعقيب، وَكَذَا: الْفَاء فِي: فافرغ، وَفِي: فَغسل يَدَيْهِ، وَأما كلمة: ثمَّ، فِي سِتَّة مَوَاضِع فِي الحَدِيث بِمَعْنى: الْوَاو، وَلَيْسَت على مَعْنَاهَا الْأَصْلِيّ، وَهُوَ: الْإِمْهَال.
كَذَا قَالَ ابْن بطال.
قلت: ثمَّ، فِي هَذِه الْمَوَاضِع للتَّرْتِيب لِأَن: ثمَّ، تسْتَعْمل لثَلَاثَة معَان: التَّشْرِيك فِي الحكم، وَالتَّرْتِيب، والمهلة.
مَعَ أَن فِي كل وَاحِد خلافًا، وَالْمرَاد من التَّرْتِيب هُوَ التَّرْتِيب فِي الْإِخْبَار لَا التَّرْتِيب فِي الحكم مثل مَا يُقَال بَلغنِي مَا صنعت الْيَوْم ثمَّ مَا صنعت أمس أعجب! أَي: ثمَّ أخْبرك أَن الَّذِي صَنعته أمس أعجب.
قَوْله: ( بَدَأَ بِمقدم رَأسه) إِلَى قَوْله: ( مِنْهُ) بَيَان لقَوْله: ( فَأقبل بهما وَأدبر) ، وَلذَلِك لم تدخل الْوَاو عَلَيْهِ.
قَوْله: ( بَدَأَ مِنْهُ) إِلَى آخِره من الحَدِيث، وَلَيْسَ مدرجاً من كَلَام مَالك.

بَيَان استنباط الاحكام الأول: فِيهِ غسل الْيَد قبل شُرُوعه فِي الْوضُوء، وَذكر هُنَا مرَّتَيْنِ، وَذكر فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، مرَّتَيْنِ أَو ثَلَاثًا، ثمَّ إِن هَذَا الْغسْل لَيْسَ من سنَن الْوضُوء وَلَا من الْفُرُوض، وَذهب دَاوُد وَابْن جرير الطَّبَرِيّ إِلَى إِيجَاب ذَلِك، وَأَن المَاء ينجس إِن لم تكن الْيَد مغسولة.
.

     وَقَالَ  ابْن الْقَاسِم: غسلهمَا عبَادَة؛.

     وَقَالَ  مَالك: السّنة أَن يغسل يَدَيْهِ قبل الشُّرُوع فِي الْوضُوء مرَّتَيْنِ، كَمَا هُوَ فِي رِوَايَة هَذَا الحَدِيث.
قلت: فِيهِ أَقْوَال خَمْسَة: الأول: إِنَّه سنة، وَهُوَ الْمَشْهُور عندنَا، كَذَا فِي ( الْمُحِيط) و ( الْمَبْسُوط) وَيدل عَلَيْهِ أَنه، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لم يتَوَضَّأ قطّ إلاَّ غسل يَدَيْهِ.
وَفِي ( الْمَنَافِع) تَقْدِيم غسلهمَا إِلَى الرسغين سنة تنوب عَن الْفَرْض، كالفاتحة تنوب عَن الْوَاجِب وَفرض الْقِرَاءَة.
الثَّانِي: إِنَّه مُسْتَحبّ للشَّاكِّ فِي طَهَارَة يَده، كَذَا رُوِيَ عَن مَالك.
الثَّالِث: إِنَّه وَاجِب على المنتبه من نوم اللَّيْل دون نوم النَّهَار، قَالَ أَحْمد.
الرَّابِع: إِن من شكّ: هَل أَصَابَت يَده نَجَاسَة أم لَا؟ يجب غسلهمَا فِي مَشْهُور مَذْهَب مَالك.
الْخَامِس: إِنَّه وَاجِب على المنتبه من النّوم مُطلقًا، وَبِه قَالَ دَاوُد وَأَصْحَابه.
وَفِي الْحَوَاشِي تَقْدِيم غسل الْيَدَيْنِ للمستيقظ يتْرك بِالْحَدِيثِ، وإلاَّ فسببه شَامِل لَهُ وَلغيره.

الثَّانِي: فِيهِ الْمَضْمَضَة وَالِاسْتِنْشَاق، وهما سنتَانِ فِي الْوضُوء، فرضان فِي الْغسْل.
وَبِه قَالَ الثَّوْريّ.
.

     وَقَالَ  الشَّافِعِي: سنتَانِ فيهمَا، وَحَكَاهُ ابْن الْمُنْذر عَن الْحسن الْبَصْرِيّ وَالزهْرِيّ وَقَتَادَة وَالْحكم وَرَبِيعَة وَيحيى بن سعيد الْأنْصَارِيّ وَمَالك وَالْأَوْزَاعِيّ وَاللَّيْث، وَهُوَ رِوَايَة عَن عَطاء وَأحمد، وَعنهُ أَنَّهُمَا واجبتان فيهمَا، وَهُوَ مَذْهَب ابْن أبي ليلى وَحَمَّاد وَإِسْحَاق.
وَالْمذهب الرَّابِع: أَن الِاسْتِنْشَاق وَاجِب فِي الْوضُوء وَالْغسْل دون الْمَضْمَضَة، وَبِه قَالَ أَبُو ثَوْر وَأَبُو عبيد، وَهُوَ رِوَايَة عَن أَحْمد.

الثَّالِث: فِيهِ أَنه، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، مضمض واستنشق ثَلَاثًا بِثَلَاث غرفات، وَبِه قَالَ الشَّافِعِي، وَفِي ( الرَّوْضَة) .
فِي كيفيته وَجْهَان: أصَحهمَا: يتمضمض من غرفَة ثَلَاثًا، ويستنشق من أُخْرَى ثَلَاثًا.
وَالثَّانِي: بست غرفات.
وَاسْتدلَّ أَصْحَابنَا بِحَدِيث التِّرْمِذِيّ رَوَاهُ عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَفِي: ( مضمض ثَلَاثًا، واستنشق ثَلَاثًا) ،.

     وَقَالَ : حَدِيث حسن صَحِيح.
فَإِن قلت: لَمْ يحكِ فِيهِ ان كل وَاحِدَة من المضامض والاستنشاقات بِمَاء وَاحِدَة بل حكى انه تمضمض ثَلَاثًا واستنشق ثَلَاثًا قلت مضمونه ظَاهرا مَا ذَكرْنَاهُ، وَهُوَ أَن يَأْخُذ لكل وَاحِد مِنْهُمَا مَاء جَدِيدا، وَكَذَا روى الْبُوَيْطِيّ عَن الشَّافِعِي أَنه يَأْخُذ ثَلَاث غرفات للمضمضة، وَثَلَاث غرفات للاستنشاق.

الرَّابِع: فِيهِ غسل الْوَجْه ثَلَاث مَرَّات، وَلَيْسَ فِيهِ خلاف.

الْخَامِس: فِيهِ غسل يَدَيْهِ مرَّتَيْنِ، وَجَاء فِي رِوَايَة مُسلم: ثَلَاثًا.
فَإِن قلت: هَل هَذَا يغسل يَدَيْهِ هَهُنَا من أول الْأَصَابِع أَو يغسل ذِرَاعَيْهِ؟ قلت: ذكر فِي الأَصْل غسل ذِرَاعَيْهِ لَا غير لتقدم غسل الْيَدَيْنِ إِلَى الرسغ مرّة، وَفِي ( الذَّخِيرَة) : الْأَصَح عِنْدِي أَن يُعِيد غسل الْيَدَيْنِ ظاهرهما وباطنهما، لِأَن الأول كَانَ سنة افْتِتَاح الْوضُوء، فَلَا يَنُوب عَن فرض الْوضُوء.

السَّادِس: فِيهِ أَن الْمرْفقين هما يدخلَانِ فِي غسل الْيَدَيْنِ عِنْد الْجُمْهُور، خلافًا لزفَر وَمَالك فِي رِوَايَة، وَقد روى الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث جَابر: ( كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا تَوَضَّأ أدَار المَاء على مرفقيه) ، وروى الْبَزَّار وَالطَّبَرَانِيّ من حَدِيث وَائِل بن حجر: ( وَغسل ذِرَاعَيْهِ حَتَّى جَاوز الْمرْفق) ، وروى الطَّحَاوِيّ وَالطَّبَرَانِيّ من حَدِيث ثَعْلَبَة بن عباد الْعَبْدي عَن أَبِيه مَرْفُوعا: ( ثمَّ غسل ذِرَاعَيْهِ حَتَّى يسيل المَاء على مرفقيه) .

السَّابِع: فِيهِ مسح رَأسه، احْتج بِهِ مَالك وَابْن علية وَأحمد فِي رِوَايَة عَليّ أَن مسح جَمِيع الرَّأْس فرض؛ وَلَكِن أَصْحَاب مَالك اخْتلفُوا، فَقَالَ أَشهب: يجوز مسح بعض الرَّأْس،.

     وَقَالَ  غَيره: الثُّلُث فَصَاعِدا، وَعِنْدنَا وَعند الشَّافِعِي: الْفَرْض مسح بعض الرَّأْس.
فَقَالَ أَصْحَابنَا: ذَلِك الْبَعْض هُوَ ربع الرَّأْس، وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيث الْمُغيرَة بن شُعْبَة لِأَن الْكتاب مُجمل فِي حق الْمِقْدَار فَقَط، لِأَن: الْبَاء، فِي ( وامسحو برؤوسكم) للإلصاق بِاعْتِبَار أصل الْوَضع، فَإِذا قرنت بِآلَة الْمسْح يتَعَدَّى الْفِعْل بهَا إِلَى مَحل الْمسْح فَيتَنَاوَل جَمِيعه، كَمَا تَقول: مسحت الْحَائِط بيَدي، ومسحت رَأس الْيَتِيم بيَدي، فَيتَنَاوَل كُله، وَإِذا قرنت بِمحل الْمسْح يتَعَدَّى الْفِعْل بهَا إِلَى الْآلَة فَلَا يَقْتَضِي الِاسْتِيعَاب، وَإِنَّمَا يَقْتَضِي إلصاق الْآلَة بِالْمحل، وَذَلِكَ يستوعب الْكل عَادَة بل أَكثر الْآلَة ينزل منزلَة الْكل فيتأدى الْمسْح بإلصاق ثَلَاثَة أَصَابِع بِمحل الْمسْح، وَمعنى التَّبْعِيض إِنَّمَا يثبت بِهَذَا الطَّرِيق لَا بِمَعْنى أَن: الْبَاء، للتَّبْعِيض، كَمَا قَالَه الْبَعْض.
وَقد أنكر بعض أهل الْعَرَبيَّة كَون: الْبَاء، للتَّبْعِيض،.

     وَقَالَ  ابْن برهَان: من زعم أَن: الْبَاء، تفِيد التَّبْعِيض فقد جَاءَ أهل اللُّغَة بِمَا لَا يعْرفُونَ، وَقد جعل الْجِرْجَانِيّ معنى الإلصاق فِي: الْبَاء، أصلا وَإِن كَانَت تَجِيء لمعانٍ كَثِيرَة.
.

     وَقَالَ  ابْن هَاشم: أثبت مَجِيء: الْبَاء، للتَّبْعِيض الْأَصْمَعِي والفارسي والقتبي وَابْن مَالك.
قيل: والكوفيون، وَجعلُوا مِنْهُ: { عينا يشرب بهَا عباد الله} ( الْإِنْسَان: 6) قيل وَمِنْه: { وامسحوا برؤوسكم} ( الْمَائِدَة: 6) فَالظَّاهِر

أَن: الْبَاء، فيهمَا للإلصاق.
وَقيل: هِيَ فِي آيَة الْوضُوء للاستعانة، وَإِن فِي الْكَلَام حذفا وَقَلْبًا، فَإِن: مسح، يتَعَدَّى إِلَى المزال عَنهُ بِنَفسِهِ، وَإِلَى المزيل: بِالْبَاء، فَالْأَصْل امسحوا رؤوسكم بِالْمَاءِ.
فان قلت: أَلَيْسَ أَن فِي التَّيَمُّم حكم الْمسْح ثَبت بقوله: { فامسحوا بوجوهكم وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} ( النِّسَاء: 43) ، ثمَّ الإستيعاب فِيهِ شَرط؟ قلت: عرف الِاسْتِيعَاب فِيهِ إِمَّا بِإِشَارَة الْكتاب، وَهُوَ أَن الله تَعَالَى أَقَامَ التَّيَمُّم فِي هذَيْن العضوين مقَام الْغسْل عِنْد تعذره، والاستيعاب فرض بِالنَّصِّ، وَكَذَا فِيمَا قَامَ مقَامه، أَو عرف ذَلِك بِالسنةِ وَهُوَ قَوْله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لعُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: ( يَكْفِيك ضربتان: ضَرْبَة للْوَجْه وضربه للذراعين) .
وَأما على رِوَايَة الْحسن عَن أبي حنيفَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، إِنَّه لَا يشْتَرط الِاسْتِيعَاب فَلَا يرد شَيْء.
فَإِن قلت: الْمسْح فرض، والمفروض مِقْدَار الناصية، وَمن حكم الْفَرْض أَن يكفر جاحده، وجاحد الْمِقْدَار لَا يكفر، فَكيف يكون فرضا؟ قلت: بل جَاحد، أصل الْمسْح كَافِر لِأَنَّهُ قَطْعِيّ، وجاحد الْمِقْدَار لَا يكفر لِأَنَّهُ فِي حق الْمِقْدَار ظَنِّي.
فان قلت: أَيهَا الْحَنَفِيّ! إِنَّك استدللت بِحَدِيث الْمُغيرَة على أَن الْمِقْدَار فِي الْمسْح هُوَ قدر الناصية، وَتركت بَقِيَّة الحَدِيث وَهُوَ: الْمسْح على الْعِمَامَة.
قلت: لَو عَملنَا بِكُل الحَدِيث يلْزم بِهِ الزِّيَادَة على النَّص، لِأَن هَذَا خبر الْوَاحِد، وَالزِّيَادَة بِهِ على الْكتاب نسخ، فَلَا يجوز.
وَأما الْمسْح على الرَّأْس فقد ثَبت بِالْكتاب فَلَا يلْزم ذَلِك، وَأما مَسحه، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، على الْعِمَامَة فأوله الْبَعْض بَان المُرَاد بِهِ مَا تَحْتَهُ من قبيل إِطْلَاق اسْم الْحَال على الْمحل، وأوله الْبَعْض بِأَن الرَّاوِي كَانَ بَعيدا عَن النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَمسح على رَأسه وَلم يضع الْعِمَامَة من رَأسه، فَظن الرَّاوِي أَنه مسح على الْعِمَامَة.
.

     وَقَالَ  القَاضِي عِيَاض: وَأحسن مَا حمل عَلَيْهِ أَصْحَابنَا حَدِيث الْمسْح على الْعِمَامَة أَنه، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لَعَلَّه كَانَ بِهِ مرض مَنعه كشف رَأسه، فَصَارَت الْعِمَامَة كالجبيرة الَّتِي يمسح عَلَيْهَا للضَّرُورَة.
.

     وَقَالَ  بَعضهم: فَإِن قيل: فَلَعَلَّهُ اقْتصر على مسح الناصية لعذر لِأَنَّهُ كَانَ فِي سفر، وَهُوَ مَظَنَّة الْعذر، وَلِهَذَا مسح على الْعِمَامَة بعد مسح الناصية، كَمَا هُوَ ظَاهر سِيَاق مُسلم من حَدِيث الْمُغيرَة.
قُلْنَا: قد رُوِيَ عَنهُ مسح مقدم الرَّأْس من غير مسح على الْعِمَامَة.
وَهُوَ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِي من حَدِيث عَطاء: ( أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَوَضَّأ فحسر الْعِمَامَة عَن رَأسه وَمسح مقدم رَأسه) ، وَهُوَ مُرْسل، لكنه اعتضد من وَجه آخر مَوْصُولا، أخرجه أَبُو دَاوُد من حَدِيث أنس.
وَفِي إِسْنَاده أَبُو معقل لَا يعرف حَاله، فقد اعتضد كل من الْمُرْسل والموصول بِالْآخرِ، وحصلت الْقُوَّة من الصُّورَة الْمَجْمُوعَة.
قلت: قَول هَذَا الْقَائِل من أعجب الْعَجَائِب لِأَنَّهُ يَدعِي أَن الْمُرْسل غير حجَّة عِنْد إِمَامه، ثمَّ يَدعِي أَنه اعتضد بِحَدِيث مَوْصُول ضَعِيف باعترافه هُوَ، ثمَّ يَقُول: وحصلت الْقُوَّة من الصُّورَة الْمَجْمُوعَة، فَكيف تحصل الْقُوَّة من شَيْء لَيْسَ بِحجَّة وَشَيْء ضَعِيف؟ فَإِذا كَانَ الْمُرْسل غير حجَّة يكون فِي حكم الْعَدَم، وَلَا يبْقى إلاَّ الحَدِيث الضَّعِيف وَحده، فَكيف تكون الصُّورَة الْمَجْمُوعَة؟ .

الثَّامِن: فِيهِ الْبدَاءَة فِي مسح الرَّأْس بمقدمه، وَرُوِيَ فِي هَذَا الْبابُُ أَحَادِيث كَثِيرَة.
فَعِنْدَ النَّسَائِيّ من حَدِيث عبد الله بن زيد: ( ثمَّ مسح رَأسه بيدَيْهِ، فَأقبل بهما وادبر، بَدَأَ بِمقدم رَأسه ثمَّ ذهب بهما إِلَى قَفاهُ، ثمَّ ردهما حَتَّى رَجَعَ إِلَى الْمَكَان الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ) .
وَعند ابْن أبي شيبَة من حَدِيث الرّبيع: ( بَدَأَ بمؤخره ثمَّ مد يَدَيْهِ على ناصيته) .
وَعند الطَّبَرَانِيّ: ( بَدَأَ بمؤخر رَأسه ثمَّ جَرّه إِلَى مؤخره) .
وَعند أبي دَاوُد: ( يبْدَأ بمؤخره ثمَّ بمقدمه وبإذنه كليهمَا) .
وَفِي لفظ: ( مسح الراس كُله من قرن الشّعْر كل ناحيته لمنصب الشّعْر لَا يُحَرك الشّعْر عَن هَيئته) .
وَفِي لفظ: ( مسح رَأسه كُله وَمَا أقبل وَمَا أدبر وصدغيه) .
وَعند الْبَزَّار من حَدِيث أبي بكرَة يرفعهُ: ( تَوَضَّأ ثَلَاثًا ثَلَاثًا) وَفِيه: ( مسح بِرَأْسِهِ يقبل بِيَدِهِ من مقدمه إِلَى مؤخره وَمن مؤخره إِلَى مقدمه) .
وَعند ابْن نَافِع من حَدِيث أبي هُرَيْرَة: ( وضع يَدَيْهِ على النّصْف من رَأسه ثمَّ جرهما إِلَى مقدم رَأسه ثمَّ أعادهما إِلَى الْمَكَان الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ وجرهما إِلَى صدغيه) .
وَعند أبي دَاوُد من حَدِيث أنس: ( أَدخل يَده من تَحت الْعِمَامَة فَمسح بِمقدم رَأسه) .
وَفِي كتاب ابْن السكن: ( فَمسح بَاطِن لحيته وَقَفاهُ) .
وَفِي ( مُعْجم) الْبَغَوِيّ وَكتاب ابْن ابي خَيْثَمَة: ( مسح رَأسه إِلَى سالفته) .
وَفِي كتاب النَّسَائِيّ عَن عَائِشَة، ووصفت وضوءه، عَلَيْهِ السَّلَام، وَوضعت يَدهَا فِي مقدم رَأسهَا ثمَّ مسحت إِلَى مؤخره، ثمَّ مدت بِيَدَيْهَا بأذنيها، ثمَّ مدت على الْخَدين.
فَهَذِهِ أوجه كَثِيره يخْتَار المتوضىء أَيهَا شَاءَ، وَاخْتَارَ بعض أَصْحَابنَا رِوَايَة عبد الله بن زيد.
.

     وَقَالَ  بَعضهم: فِي قَوْله: بَدَأَ بِمقدم رَأسه، حجَّة على من قَالَ: السّنة أَن يبْدَأ بمؤخر الرَّأْس الى ان يَنْتَهِي الى مقدمه.
قلت: لَا يُقَال: إِن مثل هَذَا حجَّة عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ ورد فِيهِ الْأَوْجه الَّتِي ذَكرنَاهَا الْآن، وَالَّذِي قَالَ: السّنة أَن يبْدَأ بمؤخر الرَّأْس اخْتَار الْوَجْه الَّذِي فِيهِ البداء بمؤخر الرَّأْس، وَله أَيْضا أَن يَقُول: هَذَا الْوَجْه حجَّة عَلَيْك أَيهَا الْمُخْتَار فِي الْبدَاءَة بالمقدم.

التَّاسِع: فِيهِ غسل الرجلَيْن إِلَى الْكَعْبَيْنِ، وَالْكَلَام فِيهِ كَالْكَلَامِ فِي الْمرْفقين.

الْعَاشِر: فِيهِ جَرَيَان التلطف بَين الشَّيْخ وتلميذه فِي قَوْله: ( أتستطيع أَن تريني) إِلَى آخِره.

الْحَادِي عشر: فِيهِ جَوَاز الِاسْتِعَانَة فِي إِحْضَار المَاء من غير كَرَاهَة.

الثَّانِي عشر: فِيهِ التَّعْلِيم بِالْفِعْلِ.

الثَّالِث عشر: فِيهِ أَن الاغتراف من المَاء الْقَلِيل لَا يصير المَاء مُسْتَعْملا، لِأَن فِي رِوَايَة وهيب وَغَيره: ثمَّ أَدخل يَده.

الرَّابِع عشر: فِيهِ اسْتِيعَاب مسح الرَّأْس، وَلَكِن سنة لَا فرضا، كَمَا قَرَّرْنَاهُ.

الْخَامِس عشر: فِيهِ الِاقْتِصَار فِي مسح الرَّأْس على مرّة وَاحِدَة.