فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب من مضمض واستنشق من غرفة واحدة

( بابُُ مَنْ مَضْمَضَ واسْتَنْشَقَ مِنْ غَرْفَةٍ وَاحِدةٍ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان حكم الْمَضْمَضَة وَالِاسْتِنْشَاق من غرفَة وَاحِدَة، كَمَا فعله عبد الله بن زيد.

والمناسبة بَين الْبابَُُيْنِ من حَيْثُ إِن كلا مِنْهُمَا من تعلقات الْوضُوء.
فَالْأول: فِي الْوضُوء، بِالْفَتْح، وَالثَّانِي: فِي الْوضُوء، بِالضَّمِّ.

[ قــ :187 ... غــ :191 ]
- حدّثنا مُسَدَّدٌ قالَ حدّثنى خالِدُ بنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حدّثنا عَمْرُو بنُ يَحْيَى عنْ أَبِيهِ عنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ زَيْدٍ أنَّهُ أفْرَغَ مِنَ الاِناءِ علَى يَدَيْهِ فَغَسَلهُمَا ثُمَّ غَسَلَ أوْ مَضْمَضَ واسْتَنْشَقَ مِنْ كَفَّةٍ وَاحِدَةٍ فَفَعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثًا فغَسَلَ وَجْهَهُ ثَلاَثاً ثُمَّ غَسَل يَدَيْهِ إِلَى المِرْفَقَيْنِ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ ومَسَحَ برَأُسِهِ مَا أَقْبلَ وَمَا أَدْبَرَ وَغَسَلَ رِجْلَيْهِ إِلَى الكَعْبَيْنِ ثُمَّ قالَ هَكَذَا وُضُوءُ رَسُول اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم..
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.

بَيَان رِجَاله وهم خَمْسَة.
الأول: مُسَدّد بِفَتْح الدَّال المسددة، وَقد تقدم فِي أول كتاب الايمان.
الثَّانِي: خَالِد بن عبد الله بن عبد الرَّحْمَن الوَاسِطِيّ، أَبُو الْهَيْثَم الطَّحَّان، يحْكى أَنه تصدق بزنة بدنه فضَّة ثَلَاث مَرَّات، مَاتَ سنة تسع وَسِتِّينَ وَمِائَة.
الثَّالِث: عَمْرو بن يحيى، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، ابْن عمَارَة الْمَازِني الْأنْصَارِيّ، تقدم قَرِيبا.
الرَّابِع: أَبوهُ يحيى، تقدم أَيْضا.
الْخَامِس: عبد الله بن زيد الْأنْصَارِيّ.

بَيَان لطائف اسناده مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع والعنعنة.
وَمِنْهَا: أَن رُوَاته مَا بَين بَصرِي وواسطي ومدني.
وَمِنْهَا: أَن فِيهِ فعل الصَّحَابِيّ ثمَّ إِسْنَاده إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.

بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره قد ذكرنَا عَن قريب أَن البُخَارِيّ قد أخرج حَدِيث عبد الله بن زيد فِي خَمْسَة مَوَاضِع.
وَأخرجه مُسلم عَن مُحَمَّد بن الصَّباح عَن خَالِد بن عبد الله بِسَنَدِهِ هَذَا من غير شكّ، وَلَفظه: ( ثمَّ أَدخل يَده فاستخرجها فَمَضْمض واستنشق) : وَأخرجه أَيْضا الْإِسْمَاعِيلِيّ من طَرِيق وهب بن بَقِيَّة عَن خَالِد كَذَلِك.

بَيَان لغاته وَمَعْنَاهُ قَوْله: ( أفرغ) اي: صب المَاء فِي الْإِنَاء على يَدَيْهِ.
قَوْله: ( ثمَّ غسل) أَي: فَمه.
قَوْله: ( أَو مضمض) شكّ من الرَّاوِي.
قَالَ الْكرْمَانِي: الظَّاهِر أَن الشَّك من يحيى.
.

     وَقَالَ  بَعضهم: الظَّاهِر أَن الشَّك من مُسَدّد شيخ البُخَارِيّ، ثمَّ قَالَ: وَأغْرب الْكرْمَانِي فَقَالَ: الظَّاهِر أَن الشَّك فِيهِ من التَّابِعِيّ: قلت: كل مِنْهُمَا مُحْتَمل، وَكَونه من الظَّاهِر من أَيْن بِلَا قرينَة؟ قَوْله: ( من كفة) كَذَا فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَفِي رِوَايَة الْأَكْثَر بن: ( من كف) بِلَا هَاء، وَفِي بعض النّسخ: ( من غرفَة وَاحِدَة) .
.

     وَقَالَ  ابْن بطال: من كفة، أَي: من حفْنَة وَاحِدَة، فاشتق لذَلِك من اسْم الْكَفّ عبارَة عَن ذَلِك الْمَعْنى، وَلَا يعرف فِي كَلَام الْعَرَب إِلْحَاق هَاء التَّأْنِيث فِي الْكَفّ.
.

     وَقَالَ  ابْن التِّين: اشتق بذلك من اسْم الْكَفّ، وَسمي الشَّيْء باسم مَا كَانَ فِيهِ.
.

     وَقَالَ  صَاحب ( الْمطَالع) : هِيَ بِالضَّمِّ وَالْفَتْح مثل غرفَة وغرفة، أَي: مَلأ كَفه من مَاء.
.

     وَقَالَ  بَعضهم: ومحصل ذَلِك أَن المُرَاد من قَوْله: ( كَفه) فعلة فِي أَنَّهَا تَأْنِيث الْكَفّ.
قلت: هَذَا مُحَصل غير حَاصِل، فَكيف يكون كفة تَأْنِيث كف، والكف مؤنث؟ وَالْأَقْرَب إِلَى الصَّوَاب مَا ذكره ابْن التِّين قَوْله: ( فَغسل يَدَيْهِ إِلَى الْمرْفقين) .
وَلَا يكون ذَلِك إلاَّ بعد غسل الْوَجْه، وَلم يذكر غسل الْوَجْه.
.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: فان قلت: أَيْن ذكر غسل الْوَجْه؟ قلت: هُوَ من بابُُ اخْتِصَار الحَدِيث وَذكر مَا هُوَ الْمَقْصُود، وَهُوَ الَّذِي ترْجم لَهُ الْبابُُ مَعَ زِيَادَة بَيَان مَا اخْتلف فِيهِ من التَّثْلِيث فِي الْمَضْمَضَة وَالِاسْتِنْشَاق وَإِدْخَال الْمرْفق فِي الْيَد وتثنية غسل الْيَد وَمسح مَا أقبل وَأدبر من الرَّأْس وَغسل الرجل منتهياً إِلَى الكعب، وَأما غسل الْوَجْه فَأمره ظَاهر لَا احْتِيَاج لَهُ إِلَى الْبُنيان؛ فالتشبيه فِي: ( هَكَذَا وضوء رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) لَيْسَ من جَمِيع الْوُجُوه، بل فِي حكم الْمَضْمَضَة وَالِاسْتِنْشَاق.
قلت: هَذَا جَوَاب لَيْسَ فِيهِ طائل، وَتصرف غير موجه، لِأَن هَذَا فِي بابُُ التَّعْلِيم لغيره صفة الْوضُوء، فَيشْهد بذلك قَوْله: ( هَكَذَا وضوء رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، وَيُؤَيّد ذَلِك مَا جَاءَ فِي حَدِيث الآخر عَن عَمْرو بن يحيى الْمَازِني، عَن أَبِيه أَن رجلا قَالَ لعبد الله بن زيد، وَهُوَ حد عَمْرو بن يحيى: ( أتستطيع أَن تريني كَيفَ كَانَ رَسُول الله يتَوَضَّأ) ؟ الحَدِيث ... وَقد مر عَن قريب، وكل مَا رُوِيَ عَن عبد الله بن زيد فِي هَذَا الْبابُُ حَدِيث وَاحِد وَقد ذكر فِيهِ غسل الْوَجْه، وَكَذَا ثَبت ذَلِك فِي رِوَايَة مُسلم وَغَيره، فَإِذا كَانَ هَذَا فِي بابُُ التَّعْلِيم فَكيف يجوز لَهُ ترك فرض من فروض الْوضُوء وَذكر شَيْء من الزَّوَائِد؟ وَالظَّاهِر أَنه سقط من الرَّاوِي كَمَا أَنه شكّ فِي قَوْله: ( ثمَّ غسل أَو مضمض) .
وَقَول الْكرْمَانِي: واما غسل الْوَجْه فَأمره ظَاهر، غير ظَاهر، وَكَونه ظَاهرا عِنْد عبد الله بن زيد لَا يسْتَلْزم أَن يكون ظَاهرا عِنْد السَّائِل عَنهُ، وَلَو كَانَ ظَاهرا لما سَأَلَهُ.
وَقَوله : ذكر مَا هُوَ الْمَقْصُود، أَي: ذكر البُخَارِيّ مَا هُوَ الْمَقْصُود، وَهُوَ الَّذِي ترْجم لَهُ الْبابُُ.
قلت: كَانَ يَنْبَغِي أَن يقْتَصر على المضمضمة وَالِاسْتِنْشَاق فَقَط، كَمَا هُوَ عَادَته فِي تقطيع الحَدِيث لأجل التراجم، فَيتْرك اختصاراً ذكر فرض من الْفُرُوض القطعية، وَيذكر زَوَائِد لَا تطابق التَّرْجَمَة.
.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: وَقد يُجَاب أَيْضا بِأَن الْمَفْعُول الْمَحْذُوف الْوَجْه، أَي: ثمَّ غسل وَجهه، وَحذف لظُهُوره، فأو، بِمَعْنى: الْوَاو، فِي قَوْله: ( أَو مضمض) ، وَمن كفة وَاحِدَة يتَعَلَّق: بمضمض واستنشق فَقَط.
قلت: هَذَا أقرب إِلَى الصَّوَاب لِأَنَّهُ لَا يُقَال فِي الْفَم فِي الْوضُوء إلاَّ مضمض، وَإِن كَانَ يُطلق عَلَيْهِ الْغسْل.

بَيَان استنباط الْأَحْكَام قد تقدم، وَإِنَّمَا مُرَاد البُخَارِيّ هَهُنَا بَيَان أَن الْمَضْمَضَة وَالِاسْتِنْشَاق من غرفَة وَاحِدَة، وَهَذَا أحد الْوُجُوه الْخَمْسَة الْمُتَقَدّمَة، وَلَيْسَ هَذَا حجَّة على من يرى خلاف هَذَا الْوَجْه، لِأَن الْكل نقل عَنهُ، عَلَيْهِ السَّلَام، بَيَانا للْجُوَاز.