فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب وضوء الرجل مع امرأته، وفضل وضوء المرأة

(بابُُ وُضُوءِ الرَّجُلِ مَعَ إمْرَأَتِهِ وَفَضْلِ وَضُوءِ المَرْأَةِ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان حكم وضوء الرجل مَعَ امْرَأَته فِي إِنَاء وَاحِد، وَالْوُضُوء فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِضَم الْوَاو فِي الأول وَفِي الثَّانِي بِالْفَتْح، لِأَن المُرَاد من الأول وَالْفِعْل، وَمن الثَّانِي المَاء الَّذِي يتَوَضَّأ بِهِ.
قَوْله: (وَفضل) بِالْجَرِّ عطفا على قَوْله: (وضوء الرجل) وَفِي بعض النّسخ: (بابُُ وضوء الرجل مَعَ الْمَرْأَة) ، وَهُوَ أَعم من أَن تكون: امْرَأَته، أَو غَيرهَا.

وَتَوَضَّأَ عُمَرُ بِالحَمِيمِ مِنْ بَيْتِ نَصْرَانِيَّةٍ

هَذَا الْأَثر الْمُعَلق لَيْسَ لَهُ مُطَابقَة للتَّرْجَمَة أصلا، وَهَذَا ظَاهر كَمَا ترى.
.

     وَقَالَ  بَعضهم: ومناسبته للتَّرْجَمَة من جِهَة الْغَالِب أَن أهل الرجل تبع لَهُ فِيمَا يفعل، فَأَشَارَ البُخَارِيّ إِلَى الرَّد على من منع الْمَرْأَة أَن تتطهر بِفضل الرجل، لِأَن الظَّاهِر أَن امْرَأَة عمر، رَضِي الله عَنهُ، كَانَت تَغْتَسِل بفضله أَو مَعَه، فَنَاسَبَ قَوْله: وضوء الرجل مَعَ امْرَأَته من إِنَاء وَاحِد.
قلت: من لَهُ ذوق أَو إِدْرَاك يَقُول هَذَا الْكَلَام الْبعيد، فمراده من قَوْله: إِن اهل الرجل تبع لَهُ فِيمَا يفعل، فِي كل الْأَشْيَاء أَو فِي بضعهما؟ فَإِن كَانَ الأول فَلَا نسلم ذَلِك، وَإِن كَانَ الثَّانِي فَيجب التَّعْيِين.
وَقَوله: لِأَن الظَّاهِر.
إِلَى آخِره، أَي: ظَاهر دلّ على هَذَا.
وَهل هَذَا إلاَّ حدس وتخمين؟.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: مَا وَجه مناسبته للتَّرْجَمَة؟ قلت: غَرَض البُخَارِيّ فِي هَذَا الْكتاب لَيْسَ منحصراً فِي ذكر متون الْأَحَادِيث، بل يُرِيد الإفادة أَعم من ذَلِك، وَلِهَذَا يذكر آثَار الصَّحَابَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وفتاوى السّلف وأقوال الْعلمَاء، ومعاني اللُّغَات وَغَيرهَا، فقصد هَهُنَا بَيَان التوضيء بِالْمَاءِ الَّذِي مسته النَّار وتسخن بهَا بِلَا كَرَاهَة دفعا لما قَالَ مُجَاهِد.
قلت: هَذَا أعجب من الأول وَأغْرب، وَكَيف يُطَابق هَذَا الْكَلَام وَقد وضع أبواباً مترجمة، وَلَا بُد من رِعَايَة تطابق بَين تِلْكَ الْأَبْوَاب وَبَين الْآثَار الَّتِي يذكرهَا فِيهَا، وإلاَّ يعد من التخابيط؟ وَكَونه يذكر فَتَاوَى السّلف وأقوال الْعلمَاء ومعاني اللُّغَات لَا يدل على ترك المناسبات والمطابقات، وَهَذِه الْأَشْيَاء أَيْضا إِذا ذكرت بِلَا مُنَاسبَة يكون التَّرْتِيب مخبطاً، فَلَو ذكر شخص مَسْأَلَة فِي الطَّلَاق مثلا فِي كتاب الطَّهَارَة، أَو مَسْأَلَة من كتاب الطَّهَارَة فِي كتاب الْعتاق مثلا، نسب إِلَيْهِ التخبيط.
ثمَّ هَذَا الْأَثر الأول وَصله سعيد بن مَنْصُور وَعبد الرَّزَّاق وَغَيرهمَا بِإِسْنَاد صَحِيح بِلَفْظ: إِن عمر، رَضِي الله عَنهُ، كَانَ يتَوَضَّأ بالحميم ثمَّ يغْتَسل مِنْهُ، وَرَوَاهُ ابي شيبَة وَالدَّارَقُطْنِيّ بِلَفْظ: (كَانَ يسخن لَهُ مَاء فِي حميم ثمَّ يغْتَسل مِنْهُ) .
قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: إِسْنَاده صَحِيح.

قَوْله: (بالحميم) ، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة: وَهُوَ المَاء المسخن.
.

     وَقَالَ  ابْن بطال: قَالَ الطَّبَرِيّ: هُوَ المَاء السخين، فعيل بِمَعْنى مفعول.
وَمِنْه سمي الْحمام حَماما لإسخانه من دخله، والمحموم محموماً لسخونة جسده.
.

     وَقَالَ  ابْن الْمُنْذر: أجمع أهل الْحجاز وَأهل الْعرَاق جَمِيعًا على الْوضُوء بِالْمَاءِ السخن غير مُجَاهِد فَإِنَّهُ كرهه.
رَوَاهُ عَنهُ لَيْث بن أبي سليم.
وَذكر الرَّافِعِيّ فِي كِتَابه: إِن الصَّحَابَة تطهروا بِالْمَاءِ المسخن بَين يَدي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلم يُنكر عَلَيْهِم هَذَا الْخَبَر.
.

     وَقَالَ  الْمُحب الطَّبَرِيّ: لم أره فِي غير الرَّافِعِيّ! قلت: قد وَقع ذَلِك لبَعض الصَّحَابَة فِيمَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) وَالْحسن بن سُفْيَان فِي (مُسْنده) ؛ وَأَبُو نعيم فِي (الْمعرفَة) ، وَالْمَشْهُور من طَرِيق الأسلع بن شريك، قَالَ: كنت أرحل نَاقَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأصابتني جَنَابَة فِي لَيْلَة بَارِدَة، وَأَرَادَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الرحلة فَكرِهت أَن أرحل نَاقَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَنا جنب، وخشيت أَن اغْتسل بِالْمَاءِ الْبَارِد فأموت أَو أمرض، فَأمرت رجلا من الْأَنْصَار يرحلها، وَوضعت أحجاراً فاسخنت بهَا مَاء فاغتسلت، ثمَّ لحقت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَذكرت ذَلِك لَهُ فَأنْزل الله تَعَالَى: { يَا ايها الَّذين آمنُوا لَا تقربُوا الصَّلَاة وانتم سكارى} (النِّسَاء: 43) إِلَى { غَفُورًا} (النِّسَاء: 43) وَفِي سَنَده: الْهَيْثَم بن زُرَيْق الرَّاوِي لَهُ عَن أَبِيه عَن الأسلع مَجْهُولَانِ، والْعَلَاء بن الْفضل رَاوِيه عَن الْهَيْثَم وَفِيه ضعف، وَقد قيل: إِنَّه تفرد بِهِ.
وَقد رُوِيَ ذَلِك عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة مِنْهُم عمر بن الْخطاب، رَضِي الله عَنهُ، كَمَا ذكره البُخَارِيّ، وَمِنْهُم سَلمَة بن الْأَكْوَع أَنه كَانَ يسخن المَاء يتَوَضَّأ بِهِ، رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة بِإِسْنَاد صَحِيح، وَمِنْهُم ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، أَنه قَالَ: (إِنَّا نَتَوَضَّأ بالحميم وَقد أغلي على النَّار) ، رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) عَن مُحَمَّد بن بشر عَن مُحَمَّد بن عَمْرو: حَدثنَا سملة، قَالَ: قَالَ ابْن عَبَّاس.
وَمِنْهُم ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، رَوَاهُ عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن أَيُّوب عَن نَافِع: أَن ابْن عمر كَانَ يتَوَضَّأ بالحميم.

قَوْله: (وَمن بَيت نَصْرَانِيَّة) وَهُوَ الْأَثر الثَّانِي، وَهُوَ عطف على قَوْله: (بالحميم) أَي: وَتَوَضَّأ عمر من بَيت نَصْرَانِيَّة.
وَوَقع فِي رِوَايَة كَرِيمَة بِحَذْف الْوَاو من قَوْله: (وَمن بَيت) ، وَهَذَا غير صَحِيح لِأَنَّهُمَا أثران مستقلان، فَالْأول ذَكرْنَاهُ، وَالثَّانِي الَّذِي علقه البُخَارِيّ وَوَصله الشَّافِعِي وَعبد الرَّزَّاق وَغَيرهمَا عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن زيد بن أسلم عَن أَبِيه: (أَن عمر تَوَضَّأ من مَاء نَصْرَانِيَّة فِي جر نَصْرَانِيَّة) ، وَهَذَا لفظ الشَّافِعِي.
.

     وَقَالَ  الْحَافِظ أَبُو بكر الْحَازِمِي: رَوَاهُ خَلاد بن أسلم عَن سُفْيَان بِسَنَدِهِ فَقَالَ: (مَاء نَصْرَانِيّ) ، بالتذكير.
وَالْمَحْفُوظ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِي: (نَصْرَانِيَّة) ، بالتأنيث.
وَفِي (الام) للشَّافِعِيّ: من جرة نَصْرَانِيَّة، بِالْهَاءِ فِي آخرهَا.
وَفِي (الْمُهَذّب) لأبي إِسْحَاق: جر نَصْرَانِيّ،.

     وَقَالَ : صَحِيح.
وَذكر ابْن فَارس فِي (حلية الْعلمَاء) : هَذَا سلاخة عرقوب الْبَعِير يَجْعَل وعَاء للْمَاء، فَإِن قلت: مَا وَجه تطابق هَذَا الاثر للتَّرْجَمَة؟ قلت: قَالَ الْكرْمَانِي: بِنَاء على حذف وَاو الْعَطف من قَوْله: (وَمن بَيت نَصْرَانِيَّة) ، ومعتقداً أَنه أثر وَاحِد لما كَانَ هَذَا الاخير الَّذِي هُوَ مُنَاسِب لترجمة الْبابُُ من فعل عمر، رَضِي الله عَنهُ.
ذكر الْأَمر الأول أَيْضا، وَإِن لم يكن مناسباً لَهَا، لاشْتِرَاكهمَا فِي كَونهمَا من فعله تكثيراً للفائدة واختصاراً فِي الْكتاب.
وَيحْتَمل أَن يكون هَذَا قصَّة وَاحِدَة، أَي: تَوَضَّأ من بَيت النَّصْرَانِيَّة بِالْمَاءِ الْحَمِيم، وَيكون الْمَقْصُود ذكر اسْتِعْمَال سُؤْر الْمَرْأَة النَّصْرَانِيَّة، وَذكر الْحَمِيم إِنَّمَا هُوَ لبَيَان الْوَاقِع، فَتكون مناسبته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة قلت: هَذَا مِنْهُ لعدم إطلاعه فِي كتب الْقَوْم، فَظن أَنه أثر وَاحِد، وَقد عرفت أَنَّهُمَا أثران مستقلان.
ثمَّ ادّعى أَن الْأَمر الْأَخير مُنَاسِب للتَّرْجَمَة، فهيهات أَن يكون مناسباً، لِأَن الْبابُُ فِي وضوء الرجل مَعَ امْرَأَته، وَفضل وضوء الْمَرْأَة؟ فَأَي وَاحِد من هذَيْن مُنَاسِب لهَذَا؟ وَأي وَاحِد من هذَيْن يدل على ذَلِك؟ أما توضؤ عمر بالحميم فَلَا يدل على شَيْء من ذَلِك ظَاهرا، وَأما توضؤ عمر من بَيت نَصْرَانِيَّة فَهَل يدل على أَن وضوءه كَانَ من فضل هَذِه النَّصْرَانِيَّة؟ فَلَا يدل وَلَا يسْتَلْزم ذَلِك.
فَمن ادّعى ذَلِك فَعَلَيهِ الْبَيَان بالبرهان.

وَقَالَ بَعضهم الثَّانِي مُنَاسِب لقَوْله: وَفضل وضوء الْمَرْأَة، لِأَن عمر، رَضِي الله عَنهُ، تَوَضَّأ بِمَائِهَا، وَفِيه دَلِيل على جَوَاز التطهر بِفضل وضوء المراة الْمسلمَة لِأَنَّهَا لَا تكون أَسْوَأ حَالا من النَّصْرَانِيَّة.
قلت: التَّرْجَمَة فضل وضوء الْمَرْأَة، والنصرانية هَل لَهَا فضل وضوء حَتَّى يكون التطابق بَينه وَبَين التَّرْجَمَة؟ فَقَوله: من بَيت نَصْرَانِيَّة لَا يدل على أَن المَاء كَانَ من فضل اسْتِعْمَال النَّصْرَانِيَّة، وَلِأَن المَاء كَانَ لَهَا.
فَإِن قلت: فِي رِوَايَة الشَّافِعِي: من مَاء نَصْرَانِيَّة فِي جر نَصْرَانِيَّة، قلت: نعم، وَلَكِن لَا يدل على أَنه كَانَ من فضل اسْتِعْمَالهَا، وَالَّذِي يدل عَلَيْهِ هَذَا الْأَثر جَوَاز اسْتِعْمَال مِيَاههمْ، وَلَكِن يكره اسْتِعْمَال أوانيهم وثيابهم.
سَوَاء فِيهِ أهل الْكتاب وَغَيرهم.
.

     وَقَالَ  الشَّافِعِيَّة: وأوانيهم المستعملة فِي المَاء أخف كَرَاهَة، فَإِن تَيَقّن طَهَارَة أوانيهم أَو ثِيَابهمْ فَلَا كَرَاهَة إِذا فِي اسْتِعْمَالهَا.
قَالُوا: وَلَا نعلم فِيهَا خلافًا، وَإِذا تطهر من إِنَاء كَافِر وَلم يتَيَقَّن طَهَارَته وَلَا نَجَاسَته، فَإِن كَانَ من قوم لَا يتدينون باستعمالها صحت طَهَارَته قطعا، وَإِن كَانَ من قوم يتدينون باستعمالها فَوَجْهَانِ: أصَحهمَا: الصِّحَّة، وَالثَّانِي: الْمَنْع.
وَمِمَّنْ كَانَ لَا يرى بَأْسا بِهِ: الْأَوْزَاعِيّ وَالثَّوْري وَأَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وأصحابهما.
.

     وَقَالَ  ابْن الْمُنْذر: وَلَا أعلم أحدا كرهه إلاَّ أَحْمد وَإِسْحَاق.
قلت: وتبعهما أهل الظَّاهِر، وَاخْتلف قَول مَالك فِي هَذَا، فَفِي (الْمُدَوَّنَة) : لَا يتَوَضَّأ بسؤر النَّصْرَانِي وَلَا بِمَاء أَدخل يَده فِيهِ.
وَفِي (الْعُتْبِيَّة) أجَازه مرّة وَكَرِهَهُ أُخْرَى.
.

     وَقَالَ  الشَّافِعِي فِي (الام) : لَا بَأْس بِالْوضُوءِ من مَاء الْمُشرك وبفضل وضوئِهِ مَا لم يعلم فِيهِ نَجَاسَة.
.

     وَقَالَ  ابْن الْمُنْذر: انْفَرد إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ بِكَرَاهَة فضل الْمَرْأَة إِن كَانَت جنبا.



[ قــ :189 ... غــ :193 ]
- حدّثنا عَبْدُ اللَّهِ بنُ يُوسُفَ قَالَ: أخبرنَا مالِكٌ عنْ نافِعٍ عنْ عبْدِ اللَّهِ بنِ عُمَرَ انَّهُ قالَ كانَ الرِّجالُ والنِّسَاءُ يَتَوَضَّؤُنَ فِي زَمانِ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جمِيعاً.

مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة غير ظَاهِرَة لِأَنَّهُ يدل على التَّرْجَمَة صَرِيحًا، لِأَن الْمَذْكُور فِيهَا شَيْئَانِ، والْحَدِيث لَيْسَ فِيهِ إلاَّ شَيْء وَاحِد.
.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: يدل على الأول صَرِيحًا، وعَلى الثَّانِي التزاماً.
فَإِن قلت: هَذَا لَا يدل على أَن الرِّجَال وَالنِّسَاء كَانُوا يتوضؤون من إِنَاء وَاحِد.
قلت: قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: وروى هَذَا الحَدِيث مُحَمَّد بن النُّعْمَان عَن مَالك بِلَفْظ: (من الميضأة) .
وَفِي رِوَايَة القعْنبِي وَابْن وهب عَنهُ: (كَانُوا يتوضؤون زمن النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فِي الْإِنَاء الْوَاحِد) .
وَأخرجه أَبُو دَاوُد أَيْضا من حَدِيث أَيُّوب عَن نَافِع عَن ابْن عمر قَالَ: (كُنَّا نَتَوَضَّأ نَحن وَالنِّسَاء من إِنَاء وَاحِد على عهد رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، ندلي فِيهِ أَيْدِينَا) ، وَلَا شكّ أَن الْأَحَادِيث يُفَسر بَعْضهَا بَعْضًا.

بَيَان رِجَاله وهم أَرْبَعَة كلهم تقدمُوا، وَعبد الله هُوَ التنيسِي.

بَيَان لطائف اسناده مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع والإخبار بِصِيغَة الْجمع والعنعنة وَالْقَوْل.
وَمِنْهَا: أَن رُوَاته مَا بَين تنيسي ومدني.
وَمِنْهَا: أَن هَذَا السَّنَد من سلسلة الذَّهَب، وَعَن البُخَارِيّ: أصح أَسَانِيد مَالك عَن نَافِع عَن ابْن عمر.

بَيَان الْمعَانِي قَالَ بَعضهم ظَاهر: (كَانَ الرِّجَال) التَّعْمِيم، لَكِن: اللَّام، للْجِنْس لَا للاستغراق.
قلت: أَخذ هَذَا من كَلَام الْكرْمَانِي حَيْثُ قَالَ: فَإِن قلت: يُقرر فِي علم الْأُصُول أَن الْجمع الْمحلى بِالْألف وَاللَّام للاستغراق، فَمَا حكمه هَهُنَا؟ قلت: قَالُوا بِعُمُومِهِ إِلَّا إِذا دلّ الدَّلِيل على الْخُصُوص، وَهَهُنَا الْقَرِينَة العادية مخصصة بالبغض.
قلت: الْجمع مثل الرِّجَال وَالنِّسَاء وَمَا فِي مَعْنَاهُ من الْعَام المتناول للمجموع إِذا عرّف بِاللَّامِ يكون مجَازًا عَن الْجِنْس، مثلا إِذا قلت: فلَان يركب الْخَيل ويلبس الثِّيَاب الْبيض، يكون للْجِنْس للْقطع بِأَن لَيْسَ الْقَصْد إِلَى عهد أَو استغراق، فَلَو حلف لَا يتَزَوَّج النِّسَاء وَلَا يَشْتَرِي العبيد أَو لَا يكلم النَّاس يَحْنَث بِالْوَاحِدِ، إِلَّا أَن يَنْوِي الْعُمُوم فَلَا يَحْنَث قطّ، لِأَنَّهُ نوى حَقِيقَة كَلَامه، ثمَّ هَذَا الْجِنْس بِمَنْزِلَة النكرَة يخص فِي الْإِثْبَات، كَمَا إِذا حلف أَن يركب الْخَيل يحصل الْبر بركوب وَاحِد، ثمَّ قَول ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا: (كَانَ الرِّجَال وَالنِّسَاء) إِثْبَات فَيَقَع على الْأَقَل بِقَرِينَة الْعَادة، وَإِن كَانَ يحْتَمل الْكل.
فَإِن قلت: لَا يصلح التَّمَسُّك بِهِ لِأَن قَوْله: (جَمِيعًا) يُنَافِي وُقُوعه على الْأَقَل.
قلت: مَعْنَاهُ مُجْتَمعين، فالاجتماع رَاجع إِلَى حَالَة كَونهم يتوضؤون لَا إِلَى كَون الرِّجَال وَالنِّسَاء مُطلقًا.
فَافْهَم.
فَإِنَّهُ مَوضِع دَقِيق.
ثمَّ قَالَ الْكرْمَانِي.
فان قلت: لَا يَصح التَّمَسُّك بِهِ، لِأَن فعل البغض لَيْسَ بِحجَّة.
قلت: التَّمَسُّك لَيْسَ بِالْإِجْمَاع بل بتقرير الرَّسُول، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام.
أَقُول: حَاصِل السُّؤَال أَنه لَا يَصح التَّمَسُّك بِمَا رُوِيَ عَن ابْن عمر من قَوْله: (كَانَ الرِّجَال وَالنِّسَاء يتوضؤون فِي زمن النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام) لِأَنَّك قد قلت: إِن المُرَاد الْبَعْض لقِيَام الْقَرِينَة عَلَيْهِ بذلك، واجتماع الْكل مُتَعَذر، فَلَا يكون حجَّة لعدم الْإِجْمَاع عَلَيْهِ، وَحَاصِل الْجَواب أَن التَّمَسُّك لَيْسَ بطرِيق الِاجْتِمَاع، بل بِأَن الرَّسُول، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، قررهم على ذَلِك وَلم يُنكر عَلَيْهِم، فَيكون ذَلِك حجَّة للْجُوَاز.
وَقد ذكر أهل الْأُصُول أَن قَول الصَّحَابِيّ: كَانَ النَّاس يَفْعَلُونَ، وَنَحْو ذَلِك، حجَّة فِي الْعَمَل.
لَا سِيمَا إِذا قيد الصَّحَابِيّ ذَلِك بِزَمن النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، ثمَّ قَالَ الْكرْمَانِي: لِمَ لَا يكون من بابُُ الْإِجْمَاع السكوتي، وَهُوَ حجَّة عِنْد الْأَكْثَر؟ قلت: لَا يتَصَوَّر الْإِجْمَاع إلاَّ بعد وَفَاة رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام.

بَيَان استنباط الاحكام الأول: فِيهِ أَن الصَّحَابِيّ إِذا أسْند الْفِعْل إِلَى زمن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يكون حكمه الرّفْع عِنْد الْجُمْهُور، خلافًا لقوم.
.

     وَقَالَ  بعضهمم: يُسْتَفَاد مِنْهُ أَن البُخَارِيّ يرى ذَلِك.
قلت: لَا نسلم ذَلِك، لِأَن البُخَارِيّ وضع هَذَا الْمَرْوِيّ عَن ابْن عمر لبَيَان جَوَاز وضوء الرِّجَال وَالنِّسَاء جَمِيعًا من إِنَاء وَاحِد، وَمَعَ هَذَا لَا يُطَابق هَذَا تَرْجَمَة الْبابُُ بِحَسب الظَّاهِر كَمَا قَرَّرْنَاهُ.

الثَّانِي فِيهِ دَلِيل على جَوَاز توضيء الرجل وَالْمَرْأَة من إِنَاء وَاحِد.
وَأما فضل الْمَرْأَة فَيجوز عِنْد الشَّافِعِي الْوضُوء بِهِ أَيْضا للرجل، سَوَاء خلت بِهِ أَو لَا.
قَالَ الْبَغَوِيّ، وَغَيره: فَلَا كَرَاهَة فِيهِ للأحاديث الصَّحِيحَة فِيهِ، وَبِهَذَا قَالَ مَالك وَأَبُو حنيفَة وَجُمْهُور الْعلمَاء.
.

     وَقَالَ  أَحْمد وَدَاوُد: لَا يجوز إِذا خلت بِهِ، وَرُوِيَ هَذَا عَن عبد الله بن سرجس وَالْحسن الْبَصْرِيّ، وَرُوِيَ عَن أَحْمد كمذهبنا، وَعَن ابْن الْمسيب وَالْحسن كَرَاهَة فَضلهَا مُطلقًا.
وَحكى ابو عمر فِيهَا خَمْسَة مَذَاهِب: أَحدهَا: أَنه لَا بَأْس أَن يغْتَسل الرجل بفضلها مَا لم تكن جنبا أَو حَائِضًا.
وَالثَّانِي: يكره أَن يتَوَضَّأ بفضلها وَعَكسه.
وَالثَّالِث: كَرَاهَة فَضلهَا لَهُ والرخصة فِي عَكسه.
وَالرَّابِع: لَا بَأْس بشروعهما مَعًا، وَلَا ضير فِي فَضلهَا، وَهُوَ قَول احْمَد.
وَالْخَامِس: لَا بَأْس بِفضل كل مِنْهُمَا شرعا جَمِيعًا أَو خلا كل وَاحِد مِنْهُم بِهِ، وَعَلِيهِ فُقَهَاء الْأَمْصَار.

اما اغتسال الرِّجَال وَالنِّسَاء من إِنَاء وَاحِد، فقد نقل الطَّحَاوِيّ والقرطبي وَالنَّوَوِيّ الِاتِّفَاق على جَوَاز ذَلِك،.

     وَقَالَ  بَعضهم: وَفِيه نظر لما حَكَاهُ ابْن الْمُنْذر عَن أبي هُرَيْرَة أَنه كَانَ يُنْهِي عَنهُ.
وَكَذَا حَكَاهُ ابْن عبد الْبر عَن قوم.
قلت: فِي نظره نظر، لأَنهم قَالُوا بالِاتِّفَاقِ دون الْإِجْمَاع، فَهَذَا الْقَائِل لم يعرف الْفرق بَين الِاتِّفَاق والاجماع، على أَنه روى جَوَاز ذَلِك عَن تِسْعَة من الصَّحَابَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وهم: عَليّ بن أبي طَالب وَابْن عَبَّاس وَجَابِر وَأنس وَأَبُو هُرَيْرَة وَعَائِشَة وَأم سَلمَة وَأم هانىء ومَيْمُونَة.
فَحَدِيث عَليّ، رَضِي الله عَنهُ، عَن أَحْمد قَالَ: (كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَهله يغتسلون من إِنَاء وَاحِد) ، وَحَدِيث ابْن عَبَّاس عِنْد الطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) من حَدِيث عِكْرِمَة عَنهُ: (أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَعَائِشَة اغتسلا من إِنَاء وَاحِد من جَنَابَة، وتوضآ جَمِيعًا للصَّلَاة) ؛ وَحَدِيث جَابر، رَضِي الله عَنهُ، عِنْد ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) قَالَ: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وأزواجه يغتسلون من إِنَاء وَاحِد) ؛ وَحَدِيث أنس عِنْد البُخَارِيّ عَن أبي الْوَلِيد عَن شُعْبَة عَن عبد الله بن جُبَير عَن أنس بن مَالك، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: (كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يغْتَسل هُوَ وَالْمَرْأَة من نِسَائِهِ من الْإِنَاء الْوَاحِد) .
وروى الطَّحَاوِيّ نَحوه عَن أبي بكرَة القَاضِي؛ وَحَدِيث أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله عَنهُ، عِنْد الْبَزَّار فِي (مُسْنده) قَالَ: (كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَهله أَو بعض أَهله.
يغتسلون من إِنَاء وَاحِد) ؛ وَحَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، عِنْد الطَّحَاوِيّ وَالْبَيْهَقِيّ، قَالَ: (كنت اغْتسل أَنا وَرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من إِنَاء وَاحِد فَيبْدَأ قبلي) ؛ وَحَدِيث أم سَلمَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا عِنْد ابْن مَاجَه والطَّحَاوِي، قَالَت: (كنت أَغْتَسِل أَنا وَرَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، من إِنَاء وَاحِد) ، وَأخرجه البُخَارِيّ بأتم مِنْهُ، وَحَدِيث أم هانىء، رَضِي الله عَنْهَا، عِنْد النَّسَائِيّ: (أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اغْتسل هُوَ ومَيْمُونَة من إِنَاء وَاحِد فِي قَصْعَة فِيهَا أثر الْعَجِين) ؛ وَحَدِيث مَيْمُونَة عِنْد التِّرْمِذِيّ بِإِسْنَادِهِ إِلَى ابْن عَبَّاس، قَالَ: حَدَّثتنِي مَيْمُونَة، قَالَت: (كنت اغْتسل أَنا وَرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من إِنَاء وَاحِد من الْجَنَابَة) .
.

     وَقَالَ : هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح، فَهَذِهِ الْأَحَادِيث كلهَا حجَّة على من يكره أَن يتَوَضَّأ الرجل بِفضل الْمَرْأَة، أَو تتوضأ الْمَرْأَة بِفضل الرجل، وَبَقِي الْكَلَام فِي ابْتِدَاء أَحدهمَا قبل الآخر.
وَجَاء حَدِيث بعض أَزوَاج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (اغْتَسَلت من جَنَابَة، فجَاء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ليتوضأ مِنْهَا أَو يغْتَسل.
فَقَالَت لَهُ: يَا رَسُول الله إِنِّي كنت جنبا فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِن المَاء لَا يجنب) .
وَجَاء أَيْضا حَدِيث أم حَبِيبَة الجهنية عِنْد ابْن مَاجَه والطَّحَاوِي قَالَت: (رُبمَا اخْتلفت يَدي وَيَد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْوضُوء من إِنَاء وَاحِد) ، وَهَذَا فِي حق الْوضُوء.
قَالَ الطَّحَاوِيّ: هَذَا يدل على أَن أَحدهمَا كَانَ يَأْخُذ من المَاء بعد صَاحبه.

فَإِن قلت: رُوِيَ عَن عبد الله بن سرجس، قَالَ: (نهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يغْتَسل الرجل بِفضل المراة وَالْمَرْأَة بِفضل الرجل، وَلَكِن يشرعان جَمِيعًا) ، وَأخرجه الطَّحَاوِيّ وَالدَّارَقُطْنِيّ، وَرُوِيَ أَيْضا من حَدِيث الحكم الْغِفَارِيّ، قَالَ: (نهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يتَوَضَّأ الرجل بِفضل الْمَرْأَة أَو بسؤر الْمَرْأَة، لَا يدْرِي أَبُو حَاجِب أَيهمَا قَالَ) .
وَأَبُو حَاجِب هُوَ الَّذِي روى عَن الحكم، وَاسم أبي حَاجِب: سوَادَة بن عَاصِم الْعَنزي.
وَأخرجه أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه والطَّحَاوِي، وَرُوِيَ أَيْضا عَن حميد بن عبد الرَّحْمَن، قَالَ: (كنت لقِيت من صحب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَمَا صَحبه أَبُو هُرَيْرَة أَربع سِنِين، قَالَ: نهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، فَذكر مثله، أخرجه الطَّحَاوِيّ وَالْبَيْهَقِيّ فِي الْمعرفَة.
قلت: نقل عَن الإِمَام أَحْمد أَن الْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي منع التطهر بِفضل الْمَرْأَة، وَفِي جَوَاز ذَلِك مضطربة، قَالَ: لَكِن صَحَّ من الصَّحَابَة الْمَنْع فِيمَا إِذا دخلت بِهِ، وَلَكِن يُعَارض هَذَا مَا رُوِيَ بِصِحَّة الْجَوَاز عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة الَّذين ذَكَرْنَاهُمْ.

وَأشهر الْأَحَادِيث عِنْد المانعين: حَدِيث عبد الله ابْن سرجس، وَحَدِيث حكم الْغِفَارِيّ.
وَأما حَدِيث عبد الله بن سرجس، فَإِنَّهُ رُوِيَ مَرْفُوعا وموقوفاً.
.

     وَقَالَ  الْبَيْهَقِيّ: الْمَوْقُوف أولى بِالصَّوَابِ، وَقد قَالَ البُخَارِيّ: أَخطَأ من رَفعه.
قلت: الحكم للرافع، لِأَنَّهُ زَاد: والراوي قد يُفْتِي بالشَّيْء ثمَّ يرويهِ مرّة أُخْرَى، وَيجْعَل الْمَوْقُوف فَتْوَى فَلَا يُعَارض الْمَرْفُوع، وَصَححهُ ابْن حزم مَرْفُوعا من حَدِيث عبد الْعَزِيز بن الْمُخْتَار الَّذِي فِي مُسْنده، والشيخان أخرجَا لَهُ، وَوَثَّقَهُ ابْن معِين وَأَبُو حَاتِم وَأَبُو زرْعَة، فَلَا يضرّهُ وقف من وَقفه.
وَتوقف ابْن الْقطَّان فِي تَصْحِيحه لِأَنَّهُ لم يره إلاَّ فِي كتاب الدَّارَقُطْنِيّ، وَشَيخ الدَّارَقُطْنِيّ فِيهِ لَا يعرف حَاله.
قلت: شَيْخه فِيهِ عبد الله بن مُحَمَّد بن سعد المَقْبُري، وَلَو رَآهُ عِنْد ابْن مَاجَه أَو عِنْد الطَّحَاوِيّ لما توقف، لَان ابْن مَاجَه رَوَاهُ عَن مُحَمَّد بن يحيى عَن المعلي بن أَسد، والطَّحَاوِي رَوَاهُ مُحَمَّد بن خُزَيْمَة، وهما مشهوران.
وَأما حَدِيث الحكم الْغِفَارِيّ، فَقَالَت جمَاعَة من أهل الحَدِيث، إِن هَذَا الحَدِيث لَا يَصح، وَأَشَارَ الْخطابِيّ أَيْضا إِلَى عدم صِحَّته،.

     وَقَالَ  ابْن مَنْدَه: لَا يثبت من جِهَة السَّنَد.
قلت: لما أخرجه التِّرْمِذِيّ قَالَ: هَذَا حَدِيث حسن، وَرجحه ابْن مَاجَه على حَدِيث عبد الله بن سرجس، وَصَححهُ ابْن حبَان وَأَبُو مُحَمَّد الْفَارِسِي، وَالْقَوْل قَول من صَححهُ لَا من ضعفه، لِأَنَّهُ مُسْند ظَاهره السَّلامَة من تضعف وَانْقِطَاع،.

     وَقَالَ  ابْن قدامَة: الحَدِيث رَوَاهُ أَحْمد وَاحْتج بِهِ، وتضعيف البُخَارِيّ لَهُ بعد ذَلِك لَا يقبل لاحْتِمَال أَن يكون وَقع لَهُ من غير طَرِيق صَحِيح، وَيرد بِهَذَا أَيْضا قَول النَّوَوِيّ: اتّفق الْحفاظ على تَضْعِيفه.

الثَّالِث من الْأَحْكَام أَن ظَاهر الحَدِيث يدل على جَوَاز تنَاول الرِّجَال وَالنِّسَاء المَاء فِي حَالَة وَاحِدَة، وَحكى ابْن التِّين عَن قوم: أَن الرِّجَال وَالنِّسَاء كَانُوا يتوضؤون جَمِيعًا من إِنَاء وَاحِد، هَؤُلَاءِ على حِدة وَهَؤُلَاء على حِدة.
قلت: الزِّيَادَة فِي الحَدِيث وَهُوَ قَوْله: (من إِنَاء وَاحِد) يرد عَلَيْهِم، وَكَأَنَّهُم استبعدوا إجتماع الرِّجَال وَالنِّسَاء الأجنبيات، وَأجَاب ابْن التِّين عَن ذَلِك بِمَا حَكَاهُ عَن سَحْنُون أَن مَعْنَاهُ كَانَ الرِّجَال يتوضؤون ويذهبون، ثمَّ تَأتي النِّسَاء فيتوضأن.
قلت: هَذَا خلاف الَّذِي يدل عَلَيْهِ جَمِيعًا، وَمَعَ هَذَا جَاءَ صَرِيحًا وحدة الْإِنَاء فِي (صَحِيح ابْن خُزَيْمَة) فِي هَذَا الحَدِيث من طَرِيق مُعْتَمر عَن عبيد الله بن عمر عَن نَافِع عَن ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا: (أَنه أبْصر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابه يتطهرون، وَالنِّسَاء مَعَهم، من إِنَاء وَاحِد كلهم يتطهرون مِنْهُ) .
قيل: وَلنَا أَن نقُول: مَا كَانَ مَانع من ذَلِك قبل نزُول آيَة الْحجاب، وَأما بعده فَيخْتَص بالزوجات والمحارم، وَفِيه نظر، وَالله تَعَالَى أعلم.