فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب الوضوء من التور

( بابُُ الوُضُوء مِنَ التَّوْرِ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان حكم الْوضُوء من التور، وَقد مر تَفْسِير التور مُسْتَوفى، وَوَقع فِي حَدِيث شريك عَن أنس فِي الْمِعْرَاج فَأتى بطشت من ذهب فِيهِ تور من ذهب، فَدلَّ هَذَا أَن التور غير الطشت، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَن يكون التور إبريقاً وَنَحْوه، لِأَن الطشت لَا بُد لَهُ من ذَلِك.
والمناسبة بَين الْبابَُُيْنِ ظَاهِرَة.



[ قــ :195 ... غــ :199 ]
- حدّثنا خالِدُ بنُ مَخْلَدٍ قالَ حدّثنا سُلَيْمانُ قالَ حدّثنى عَمْرُو بنُ يَحْيَ عَنْ أبِيهِ قالَ كانَ عَمِّي يُكْثِرُ مِنَ الوُضُوءِ قَالَ لَعَبْدِ اللَّهِ بن زَيْدٍ أَخْبِرْنِي كَيْفَ رَأيْتَ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَتَوضَّأُ فَدَعَا بِتَوْرٍ مِنْ ماءٍ فَكَفَأَ عَلَى يَدَيْهِ فَغَسَلَهُمَا ثَلاثَ مِرَارٍ ثُمَّ أدْخَلَ يَدَهُ فِي التَّوْرِ فَمضْمَضَ واسْتَنْثَرَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ غَرْفَةٍ واحِدَةٍ ثُمَّ أدْخَلَ يَدَهُ فاغْتَرَفَ بِها فَغَسَلَ وَجْهَهُ ثَلاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ غَسَلَ يَدَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ أخَذَ بِيَدِهِ مَاء فَمَسَحَ رَأْسَهُ فأدْبَرَ بِهِ وأقْبَلَ ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ فقالَ هَكَذَا رَأيْتُ النَّبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَتَوَضَّأُ..
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.

بَيَان رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: خَالِد بن مخلد، بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْخَاء الْمُعْجَمَة وَفتح اللَّام: الْقَطوَانِي البَجلِيّ، مر فِي أول كتاب الْعلم.
الثَّانِي: سُلَيْمَان بن بِلَال أَبُو مُحَمَّد، مر فِي أول كتاب الْإِيمَان.
الثَّالِث: عَمْرو بن يحيى.
الرَّابِع: يحيى بن عمَارَة.
الْخَامِس: عَم يحيى هُوَ عَمْرو بن أبي حسن، كَمَا تقدم.

وَبَقِيَّة الْكَلَام فِيهِ وَفِيمَا يتَعَلَّق بِالْحَدِيثِ مر فِي بابُُ مسح الرَّأْس كُله، ولنذكر هُنَا مَا لم نذكرهُ هُنَاكَ.

قَوْله: ( ثَلَاث مَرَّات) وَفِي رِوَايَة: ( ثَلَاث مَرَّات) ، فَإِن قلت: حكم الْعدَد فِي ثَلَاثَة إِلَى عشرَة أَن يُضَاف إِلَى جمع الْقلَّة، فَلم أضيف إِلَى جمع الْكَثْرَة مَعَ وجود الْقلَّة وَهُوَ: مَرَّات؟ قلت: هما يتعاوضان فيستعمل كل مِنْهُمَا مَكَان الآخر كَقَوْلِه تَعَالَى: { ثَلَاثَة قُرُوء} ( الْبَقَرَة: 228) .
قَوْله: ( ثمَّ ادخل يَده فِي التور فَمَضْمض) فِيهِ حذف تَقْدِيره: ثمَّ أخرجهَا فَمَضْمض، وَقد صرح بِهِ مُسلم فِي رِوَايَته.
قَوْله: ( واستنثر) قد مر تَفْسِير الاستنثار هُنَاكَ.
فَإِن قلت: لِمَ لَمْ يذكر الِاسْتِنْشَاق؟ قلت: الاستنثار مُسْتَلْزم للاستنشاق لِأَنَّهُ إِخْرَاج المَاء من الْأنف، هَكَذَا قَالَه الْكرْمَانِي.
قلت: لَا يَتَأَتَّى هَذَا على قَول من يَقُول: الاستنثار وَالِاسْتِنْشَاق وَاحِد، فعلى قَول هَذَا يكون هَذَا من بابُُ الِاكْتِفَاء أَو الِاعْتِمَاد على الرِّوَايَة الاخرى.
قَوْله: ( من غرفَة وَاحِدَة) حَال من الضَّمِير الَّذِي فِي: ( مضمض) ، وَالْمعْنَى: مضمض ثَلَاث مَرَّات واستنثر ثَلَاث مَرَّات حَال كَونه مغترفاً بغرفة وَاحِدَة وَهُوَ أحد الْوُجُوه الْخَمْسَة للشَّافِعِيَّة.
.

     وَقَالَ  بَعضهم قَوْله ( من غرفَة وَاحِدَة) يتَعَلَّق بقوله: ( فَمَضْمض واستنثر) ، وَالْمعْنَى جمع بَينهمَا بِثَلَاث مَرَّات من غرفَة وَاحِدَة كل مرّة بغرفة.
قلت: يكون الْجَمِيع ثَلَاث غرفات، والتركيب لَا يدل على هَذَا، وَهُوَ يُصَرح بغرفة وَاحِدَة.
نعم، جَاءَ فِي حَدِيث عبد الله بن زيد: بِثَلَاث غرفات، وَفِي رِوَايَة ابي دَاوُد وَمُسلم: ( فَمَضْمض واستنشق من كف وَاحِدَة، يفعل ذَلِك ثَلَاثًا) .
يَعْنِي: بِفعل الْمَضْمَضَة وَالِاسْتِنْشَاق كل مرّة مِنْهُمَا بغرفة، فَتكون المضامض الثَّلَاث والاستنشاقات الثَّلَاث بِثَلَاث غرفات، وَهُوَ أحد الْوُجُوه للشَّافِعِيَّة وَهُوَ الْأَصَح عِنْدهم قَوْله: ( فَغسل وَجهه ثَلَاث مَرَّات) لفظ: ثَلَاث مَرَّات، مُتَعَلق بالفعلين اي: اغترف ثَلَاثًا فَغسل ثَلَاثًا، وَهُوَ على سَبِيل تنَازع العاملين، وَذَلِكَ لِأَن الْغسْل ثَلَاثًا لَا يُمكن باغتراف وَاحِد.
قَوْله: ( فَأَدْبَرَ بيدَيْهِ وَأَقْبل) ، احْتج بِهِ الْحسن بن حَيّ على أَن الْبدَاءَة بمؤخر الرَّأْس، وَالْجَوَاب أَن: الْوَاو، لَا تدل على التَّرْتِيب، وَقد سبقت الرِّوَايَة بِتَقْدِيم الإقبال حَيْثُ قَالَ: ( فَأقبل بِيَدِهِ وَأدبر بهَا) ، وَإِنَّمَا اخْتلف فعل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي التَّأْخِير والتقديم ليري أمته السعَة فِي ذَلِك والتيسير لَهُم.
قَوْله: ( فَقَالَ) ، أَي: عبد الله بن زيد.





[ قــ :196 ... غــ :00 ]
- حدّثنا مُسَدَّدٌ قالَ حدّثنا حَمَّادٌ عَنْ ثابِتٍ عَنْ أنَسٍ أنّ النَّبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دَعا بِاناءٍ مِنْ ماءٍ فُاتِيَ بِقَدَحٍ رَحْرَاحٍ فِيهِ شَيءٌ مِنْ ماءٍ فَوَضَعَ أصَابِعَهُ فِيهِ قَالَ أنَسٌ فَجَعَلْتُ أنْظُرُ إلَى المَاءِ يَنْبُعُ مِنْ بَيْنِ أصَابِعِه قالَ أنَسٌ فَحَزَرْتُ مَنْ تَوضَّأَ مِنْهُ مَا بَيْنَ السَّبْعِين إِلَى الثَّمَانِينِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة غير ظَاهِرَة لِأَن التَّرْجَمَة بابُُ الْوضُوء من التور، اللَّهُمَّ إلاَّ إِذا أطلق اسْم التور على الْقدح.

بَيَان رِجَاله وهم أَرْبَعَة.
الأول: مُسَدّد بن مسهرد.
الثَّانِي: حَمَّاد بن زيد، تقدم كِلَاهُمَا.
فَإِن قلت: فَلِمَ لَا يجوز أَن يكون حَمَّاد هَذَا هُوَ حَمَّاد ابْن سَلمَة؟ قلت: لِأَن مُسَددًا لم يسمع من حَمَّاد بن سَلمَة.
الثَّالِث: ثَابت الْبنانِيّ، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وبالنونين، مر فِي بابُُ الْقِرَاءَة الْعرض.
الرَّابِع: أنس بن مَالك، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.

بَيَان لطائف اسناده مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع والعنعنة.
وَمِنْهَا: أَن رُوَاته كلهم بصريون.
وَمِنْهَا: أَنهم كلهم أَئِمَّة أجلاء.

بَيَان من أخرجه غَيره أخرجه مُسلم فِي فَضَائِل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن أبي الرّبيع الزهْرَانِي.

بَيَان الْمَعْنى قَوْله: ( رحراح) ، بِفَتْح الرَّاء وبالحاءين الْمُهْمَلَتَيْنِ أَي: وَاسع، وَيُقَال: رحرح أَيْضا بِحَذْف الْألف.
.

     وَقَالَ  الْخطابِيّ: الرحراح: الْإِنَاء الْوَاسِع الْفَم الْقَرِيب القعر، وَمثله لَا يسع المَاء الْكثير، فَهُوَ أدل على المعجزة.
وروى ابْن خُزَيْمَة هَذَا الحَدِيث عَن أَحْمد بن عَبدة عَن حَمَّاد بن زيد، فَقَالَ بدل رحراح: زجاج، بزاي مَضْمُومَة وجيمين، وَبَوَّبَ عَلَيْهِ الْوضُوء من آنِية الزّجاج، وَفِي مُسْنده عَن ابْن عَبَّاس أَن الْمُقَوْقس أهْدى للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قدحاً من زجاج، لَكِن فِي إِسْنَاده مقَال.
قَوْله: ( فِيهِ شَيْء من مَاء) أَي: قَلِيل من مَاء، لِأَن التَّنْوِين للتقليل، وَمن، للتَّبْعِيض.
قَوْله: ( يَنْبع) يجوز فِيهِ فتح الْبَاء الْمُوَحدَة وَضمّهَا وَكسرهَا.
قَوْله: ( فحزرت) من الحزر، بِتَقْدِيم الزَّاي على الرَّاء، وَهُوَ: الْخرص.
وَالتَّقْدِير قَوْله: ( من) .
فِي مَحل النصب على المفعولية قَوْله ( مَا بَين السّبْعين إِلَى الثَّمَانِينَ) وَتقدم من رِوَايَة حميد أَنهم كَانُوا ثَمَانِينَ وَزِيَادَة، وَالْجمع بَينهمَا أَن أنسا لم يكن يضْبط الْعدة بل كَانَ يتَحَقَّق أَنَّهَا تنيف على السّبْعين، ويشك هَل بلغت العقد الثَّامِن أَو جاوزته، كَذَا قَالَ بَعضهم.
.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: ورد أَيْضا عَن جَابر ثمَّة: ( كُنَّا خَمْسَة عشر وَمِائَة) ، وَهَذِه قضايا مُتعَدِّدَة فِي مَوَاطِن مُخْتَلفَة وأحوال مُتَغَايِرَة، وَهَذَا أوجه من ذَاك، وَيُسْتَفَاد من هَذَا بلاغه معجزته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهُوَ أبلغ من تفجير المَاء من الْحجر لمُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لِأَن فِي طبع الْحِجَارَة أَن يخرج مِنْهَا المَاء الغدق الْكثير، وَلَيْسَ ذَلِك فِي طباع أَعْضَاء بني آدم.