فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب بول الصبيان

( بابُُ بَوْلِ الصِّبْيَانِ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان حكم بَوْل الصّبيان، وَهُوَ، بِكَسْر الصَّاد: جمع صبي.
قَالَ الْجَوْهَرِي: الصَّبِي: الْغُلَام، وَالْجمع: صبية وصبيان، وَهُوَ من الواوي.
وَفِي ( الْمُخَصّص) : ذكر بن سَيّده عَن ثَابت: يكون صبيان مَا دَامَ رضيعاً، وَفِي ( الْمُنْتَخب) للكراع: أول مَا يُولد الْوَلَد يُقَال لَهُ: وليد، وطفل، وَصبي.
.

     وَقَالَ  ابْن دُرَيْد: صبي وصبيان وصبوان، وَهَذِه أضعفها.
.

     وَقَالَ  ابْن السّكيت: صبية وصبوة، وَفِي ( الْمُحكم) صبية وصبية وصبوان وصبوان.
.

     وَقَالَ  بَعضهم: الصّبيان، بِكَسْر الصَّاد، وَيجوز ضمهَا، جمع: صبي.
قلت: فِي الضَّم لَا يُقَال إلاَّ صبوان بِالْوَاو، وَقد وهم هَذَا الْقَائِل حَيْثُ لم يعلم الْفرق بَين الْمَادَّة الواوية والمادة اليائية، وأصل: صبيان، بِالْكَسْرِ: صبوان، لِأَن الْمَادَّة واوية، فقلبت الْوَاو يَاء، لانكسار مَا قبلهَا.

وَوجه الْمُنَاسبَة بَين الْبابَُُيْنِ ظَاهر لَا يخفى.



[ قــ :218 ... غــ :222 ]
- حدّثنا عَبْدُ اللَّهِ بنُ يُوسُفَ قالَ أخْبرنا مالِكٌ عنْ هِشامِ بنِ عُرْوَةَ عنْ أبِيهِ عنْ عائِشَةَ أمِّ المُؤْمِنينَ أنَّها قالَتْ اُتِيَ رسولَ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِصَبيٍّ فَبَالَ عَلَى ثَوْبِه فَدَعا بِماءٍ فَأتْبَعَهُ إيَّاهُ..
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.

بَيَان رِجَاله وهم خَمْسَة، وَالْكل قد تقدمُوا، وَعبد الله هُوَ التنيسِي، وَعُرْوَة هُوَ ابْن الزبير بن الْعَوام، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.

بَيَان لطائف اسناده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع والإخبار بِصِيغَة الْجمع.
وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاث مَوَاضِع.

بَيَان من أخرجه غَيره أخرجه النَّسَائِيّ فِي الطَّهَارَة عَن قُتَيْبَة عَن مَالك.

بَيَان لغته وَمَعْنَاهُ قَوْله: ( بصبي) ، قد مر تَفْسِير الصَّبِي الْآن وَذكر الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث الْحجَّاج بن أَرْطَاة: أَن هَذَا الصَّبِي هُوَ عبد الله بن الزبير، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا: ( وَأَنَّهَا قَالَت: فَأَخَذته أخذا عنيفاً، فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِنَّه لم يَأْكُل الطَّعَام فَلَا يضر بَوْله) .
وَفِي لفظ: ( فَإِنَّهُ لم يطعم الطَّعَام فَلم يقذر بَوْله) .
وَقد قيل: إِنَّه الْحسن، وَقيل: إِنَّه الْحُسَيْن.
.

     وَقَالَ  بَعضهم: يظْهر لي أَن المُرَاد بِهِ ابْن ام قيس الْمَذْكُور بعده.
قلت: هَذَا لَيْسَ بِظَاهِر أصلا، وَالظَّاهِر أحد الْأَقْوَال الثَّلَاثَة، وأظهرها مَا ذكره الدَّارَقُطْنِيّ.
قَوْله: ( فَاتبعهُ إِيَّاه) أَي: فَاتبع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْبَوْل الَّذِي على الثَّوْب المَاء، وَذَلِكَ بصبه عَلَيْهِ.
وَفِي رِوَايَة مُسلم زَاد: ( وَلم يغسلهُ) ، وَلابْن الْمُنْذر من طَرِيق الثَّوْريّ عَن هِشَام: ( فصب عَلَيْهِ المَاء) ، وَفِي رِوَايَة الطَّحَاوِيّ من طَرِيق زَائِدَة الثَّقَفِيّ عَن هِشَام: ( فنضحه عَلَيْهِ) .

بَيَان استنباط الْأَحْكَام مِنْهَا: أَن الشَّافِعِيَّة احْتَجُّوا بِهَذَا على أَن بَوْل الصَّبِي يُكتفى فِيهِ بِاتِّبَاع المَاء إِيَّاه، وَلَا يحْتَاج إِلَى الْغسْل لظَاهِر رِوَايَة مُسلم.
وَلم يغسلهُ، وَعَن هَذَا قَالَ بَعضهم بِطَهَارَة بَوْله.
.

     وَقَالَ  النَّوَوِيّ: الْخلاف فِي كَيْفيَّة تَطْهِير الشَّيْء الَّذِي بَال عَلَيْهِ الصَّبِي، وَلَا خلاف فِي نَجَاسَته، وَقد نقل بعض أَصْحَابنَا إِجْمَاع الْعلمَاء على نَجَاسَة بَوْل الصَّبِي، وَأَنه لم يُخَالف فِيهِ إلاَّ دَاوُد.
وَأما مَا حَكَاهُ أَبُو الْحسن بن بطال، ثمَّ القَاضِي عِيَاض عَن الشَّافِعِي وَغَيره أَنهم قَالُوا: بَوْل الصَّبِي طَاهِر وينضح، فحكايته بَاطِلَة قطعا.
قلت: هَذَا إِنْكَار من غير برهَان، وَلم ينْقل هَذَا عَن الشَّافِعِي وَحده، بل نقل عَن مَالك أَيْضا أَن بَوْل الصَّغِير الَّذِي لَا يطعم طَاهِر، وَكَذَا نقل عَن الْأَوْزَاعِيّ وَدَاوُد الظَّاهِرِيّ، ثمَّ قَالَ النَّوَوِيّ وَكَيْفِيَّة طَهَارَة بَوْل الصَّبِي وَالْجَارِيَة على ثَلَاثَة مَذَاهِب: وفيهَا ثَلَاثَة أوجه لِأَصْحَابِنَا: الصَّحِيح الْمَشْهُور الْمُخْتَار أَنه يَكْفِي النَّضْح فِي بَوْل الصَّبِي وَلَا يَكْفِي فِي بَوْل الْجَارِيَة، بل لَا بُد من غسله كَغَيْرِهِ من النَّجَاسَات.
وَالثَّانِي: أَنه يَكْفِي النَّضْح فيهمَا.
وَالثَّالِث: لَا يَكْفِي النَّضْح فيهمَا، وهما شَاذان ضعيفان.
وَمِمَّنْ قَالَ بِالْفرقِ: عَليّ بن أبي طَالب وَعَطَاء بن أبي رَبَاح وَالْحسن الْبَصْرِيّ وَأحمد بن حَنْبَل وَإِسْحَاق بن رَاهَوَيْه وَابْن وهب من أَصْحَاب مَالك، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم أَجْمَعِينَ.
وَرُوِيَ عَن أبي حنيفَة، رَحمَه الله تَعَالَى، قلت: علم من ذَلِك أَن الصَّحِيح من مَذْهَب الشَّافِعِي هُوَ التَّفْرِيق بَين حكم بَوْل الصَّبِي وَبَوْل الصبية قبل أَن يَأْكُل الطَّعَام، وَأَنه يدل على أَن بَوْل الصَّبِي طَاهِر، وَبَوْل الصبية نجس، وَبِه قَالَ أَحْمد وَإِسْحَق وَأَبُو ثَوْر.

وَاحْتَجُّوا على ذَلِك باحاديث مِنْهَا: حَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، الْمَذْكُور.
لِأَن إتباع المَاء الْبَوْل هُوَ النَّضْح دون الْغسْل، وَلِهَذَا صرح فِي رِوَايَة مُسلم: ( وَلم يغسلهُ) ، وَعدم الْغسْل دلّ على طَهَارَة بَوْل الصَّبِي.
وَمِنْهَا: حَدِيث عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ فِي الرَّضِيع: ( يغسل بَوْل الْجَارِيَة وينضح بَوْل الْغُلَام) ، أخرجه أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه.
وَمِنْهَا: حَدِيث لبابَُُة بنت الْحَارِث، أُخْت مَيْمُونَة بنت الْحَارِث زوج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَت: ( كَانَ الْحُسَيْن بن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، فِي حجر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَبَال عَلَيْهِ، فَقلت: إلبس ثوبا وَأَعْطِنِي إزارك حَتَّى أغسله.
قَالَ: إِنَّمَا يغسل من بَوْل الْأُنْثَى وينضح من بَوْل الذّكر)
، أخرجه أَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه وَابْن خُزَيْمَة فِي ( صَحِيحه) والكبحي فِي ( سنَنه) وَالْبَيْهَقِيّ أَيْضا فِي ( سنَنه) من وُجُوه كَثِيرَة، والطَّحَاوِي أَيْضا من وَجْهَيْن.
وَمِنْهَا: حَدِيث أم قيس على مَا يَأْتِي عَن قريب إِن شَاءَ الله.
وَمِنْهَا: حَدِيث زَيْنَب بنت جحش، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، أخرجه الطَّبَرَانِيّ فِي ( الْكَبِير) مطولا، وَفِيه: ( أَنه يصب من الْغُلَام وَيغسل من الْجَارِيَة) ، وَفِي إِسْنَاده: لَيْث بن أبي سليم وَهُوَ ضَعِيف.
وَمِنْهَا: حَدِيث أبي السَّمْح، أخرجه أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه قَالَ: ( كنت أخدم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ... .
)
الحَدِيث، وَفِيه: ( يغسل من بَوْل الْجَارِيَة ويرش من بَوْل الْغُلَام) ، وَأَبُو السَّمْح، بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَسُكُون الْمِيم وَفِي آخِره حاء مُهْملَة، وَلَا يعرف لَهُ اسْم وَلَا يعرف لَهُ غير هَذَا الحَدِيث، كَذَا قَالَه ابو زرْعَة الرَّازِيّ، وَقيل: اسْمه إياد.
وَمِنْهَا: حَدِيث عبد الله بن عَمْرو، أخرجه الطَّبَرَانِيّ فِي ( الْأَوْسَط) عَنهُ: ( أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَتَى بصبي فَبَال عَلَيْهِ، فنضحه وَأتي بِجَارِيَة فبالت عَلَيْهِ فَغسله) .
وَمِنْهَا: حَدِيث ابْن عَبَّاس، أخرجه الدَّارَقُطْنِيّ عَنهُ، قَالَ: ( أصَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو، جلده، بَوْل صبي وَهُوَ صَغِير، فصب عَلَيْهِ من المَاء بِقدر الْبَوْل) .
وَمِنْهَا: حَدِيث أنس بن مَالك أخرجه الطَّبَرَانِيّ فِي ( الْكَبِير) مطولا، وَفِيه: ( يصب على بَوْل الْغُلَام وَيغسل بَوْل الْجَارِيَة) .
وَفِي إِسْنَاده نَافِع بن هُرْمُز، وَأَجْمعُوا على ضعفه.
وَمِنْهَا: حَدِيث أبي أُمَامَة، أخرجه أَيْضا فِي ( الْكَبِير) : ( أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَتَى بالحسين فَجعل يقبله، فَبَال عَلَيْهِ، فَذَهَبُوا ليتناولوه فَقَالَ: ذرْوَة، فَتَركه حَتَّى فرغ من بَوْله) .
وَفِي إِسْنَاده عَمْرو بن معدان، وَأَجْمعُوا على ضعفه.
وَمِنْهَا: حَدِيث أم سَلمَة، رَضِي الله عَنْهَا، عِنْده أَيْضا فِي ( الْأَوْسَط) أَن الْحسن، أَو الْحُسَيْن، بَال على بطن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: ( لَا تزرموا ابْني أَو، لَا تستعجلوه، فَتَرَكُوهُ حَتَّى قضى بَوْله، فَدَعَا بِمَاء فَصَبَّهُ عَلَيْهِ) .
وَمِنْهَا: حَدِيث أم كرز، أخرجه ابْن مَاجَه عَنْهَا أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: ( بَوْل الْغُلَام ينضح وَبَوْل الْجَارِيَة يغسل) ، وَمذهب أبي حنيفَة وَأَصْحَابه وَمَالك أَنه لَا يفرق بَين بَوْل الصَّغِير وَالصَّغِيرَة فِي نَجَاسَته، وجعلوهما سَوَاء فِي وجوب غسله مِنْهُمَا، وَهُوَ مَذْهَب إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَسَعِيد ابْن الْمسيب وَالْحسن بن حَيّ وَالثَّوْري.

وَأَجَابُوا عَن ذَلِك بِأَن النَّضْح هُوَ صب المَاء لِأَن الْعَرَب تسمي ذَلِك نضحاً، وَقد يذكر وَيُرَاد بِهِ الْغسْل، وَكَذَلِكَ الرش يذكر وَيُرَاد بِهِ الْغسْل.

أما الأول: فَيدل عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيره: ( عَن الْمِقْدَاد بن الْأسود أَن عَليّ بن ابي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أمره أَن يسْأَل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الرجل إِذا دنا من أَهله فَخرج مِنْهُ الْمَذْي مَاذَا عَلَيْهِ؟ قَالَ: عَليّ: فَأن عِنْدِي ابْنَته وانا استحي أَن اسأله.
قَالَ الْمِقْدَاد: فَسَأَلت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن ذَلِك، فَقَالَ: إِذا وجد أحدكُم ذَلِك فلينضح فرجه وليتوضأ وضوءه للصَّلَاة)
، ثمَّ الَّذِي يدل على أَنه أُرِيد بالنضح هَهُنَا الْغسْل، مَا رَوَاهُ مُسلم وَغَيره عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: ( كنت رجلا مذاءً فَاسْتَحْيَيْت أَن أسأَل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لمَكَان ابْنَته، فامرت الْمِقْدَاد بن الْأسود فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: يغسل ذكره وَيتَوَضَّأ) .
والقصة وَاحِدَة، والراوي عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَاحِد، وَمِمَّا يدل على أَن النَّضْح يذكر وَيُرَاد بِهِ الْغسْل مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَغَيره عَن سهل بن حنيف قَالَ: ( كنت ألْقى من الْمَذْي شدَّة، وَكنت أَكثر مِنْهُ الْغسْل، فَسَأَلت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: إِنَّمَا يجْزِيك من ذَلِك الْوضُوء.
قلت: يَا رَسُول الله فَكيف بِمَا يُصِيب ثوبي مِنْهُ؟ فَقَالَ: يَكْفِيك أَن تَأْخُذ كفا من مَاء فتنضح بِهِ من ثَوْبك حَيْثُ يرى أَنه أَصَابَهُ)
.
وَأَنه أَرَادَ بالنضح هَهُنَا الْغسْل.

واما الثَّانِي: وَهُوَ أَن الرش يذكر وَيُرَاد بِهِ الْغسْل، فقد صَحَّ عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، أَنه لما حكى وضوء رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَخذ غرفَة من مَاء فرش على رجله الْيُمْنَى حَتَّى غسلهَا، وَأَرَادَ بالرش هَهُنَا صب المَاء قَلِيلا قَلِيلا، وَهُوَ الْغسْل بِعَيْنِه.

وَمِمَّا يدل على أَن النَّضْح والرش يذكران وَيُرَاد بهما الْغسْل قَوْله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَفِي حَدِيث أَسمَاء، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا: ( تَحْتَهُ ثمَّ تقرصه بِالْمَاءِ ثمَّ تنضحه ثمَّ تصلي فِيهِ) .
مَعْنَاهُ: تغسله، هَذَا فِي رِوَايَة الصَّحِيحَيْنِ، وَفِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ: ( حتيه ثمَّ اقرضيه ثمَّ رشيه وَصلي فِيهِ) .
أَرَادَ: اغسليه، قَالَه الْبَغَوِيّ، فَلَمَّا ثَبت أَن النَّضْح والرش يذكران وَيُرَاد بهما الْغسْل، وَجب حمل مَا جَاءَ فِي هَذَا الْبابُُ من النَّضْح والرش على الْغسْل بِمَعْنى إسالة المَاء عَلَيْهِ من غير عَرك، لِأَنَّهُ مَتى صب المَاء عَلَيْهِ قَلِيلا قَلِيلا حَتَّى تقاطر وسال حصل الْغسْل، لِأَن الْغسْل هُوَ الإسالة.
فَافْهَم.

فَإِن قلت: قد صرح فِي رِوَايَة مُسلم وَغَيره: ( فَاتبعهُ بَوْله وَلم يغسلهُ) ، فَكيف يحمل النَّضْح والرش على الْغسْل؟ قلت: مَعْنَاهُ وَلم يغسلهُ بالعرك كَمَا يغسل الثِّيَاب إِذا أصابتها النَّجَاسَة، وَنحن نقُول بِهِ.
قَالَ النَّوَوِيّ: وَأما حَقِيقَة النَّضْح هَهُنَا فقد اخْتلف اصحابنا فِيهَا، فَذهب الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد الْجُوَيْنِيّ وَالْقَاضِي حُسَيْن وَالْبَغوِيّ إِلَى أَن مَعْنَاهُ أَن الشَّيْء الَّذِي أَصَابَهُ الْبَوْل يغمر بِالْمَاءِ كَسَائِر النَّجَاسَات، بِحَيْثُ لَو عصر لانعصر، وَذهب إِمَام الْحَرَمَيْنِ والمحققون إِلَى أَن النَّضْح أَن يغمر ويكاثر بِالْمَاءِ مكاثرة لَا يبلغ جَرَيَان المَاء وتقاطره، بِخِلَاف المكاثرة فِي غَيره، فَإِنَّهُ يشْتَرط فِيهَا أَن يكون بِحَيْثُ يجْرِي بعض المَاء ويتقاطر من الْمحل، وَإِن لم يشْتَرط عصره، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح الْمُخْتَار، ثمَّ إِن النَّضْح إِنَّمَا يجزىء مَا دَامَ الصَّبِي يقْتَصر بِهِ على الرَّضَاع، أما إِذا أكل الطَّعَام على جِهَة التغذية فَإِنَّهُ يجب الْغسْل بِلَا خلاف، وسنقول معنى النَّضْح مِمَّا قَالَه أهل اللُّغَة فِي الحَدِيث الْآتِي، وَلَا فرق بَين النَّضْح وَالْغسْل فِيمَا قَالَه الْبَغَوِيّ والجويني.
.

     وَقَالَ  ابْن دَقِيق الْعِيد: اتبعُوا فِي ذَلِك الْقيَاس، أَرَادَ أَن الْحَنَفِيَّة اتبعُوا فِي هَذِه الْمَسْأَلَة الْقيَاس، يَعْنِي: تركُوا الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة وذهبوا إِلَى الْقيَاس، وَقَالُوا: المُرَاد من قَوْلهمَا، أَي: من قَول أم قيس، وَلم يغسلهُ، أَي: غسلا مبالغاً فِيهِ، وَهُوَ خلاف الظَّاهِر.

ويبعده مَا ورد فِي الْأَحَادِيث الْأُخَر الَّتِي فِيهَا التَّفْرِقَة بَينهمَا أوجه: مِنْهَا: مَا هُوَ رَكِيك، وَأقوى ذَلِك مَا قيل إِن النُّفُوس أعلق بالذكور مِنْهَا بالإناث، يَعْنِي: فحصت الرُّخْصَة فِي الذُّكُور لِكَثْرَة الْمَشَقَّة.
قلت: نقل عَن بَعضهم للغمز على الْحَنَفِيَّة، وَلَكِن هَذَا لَا يشفي غلتهم، فَقَوله: اتبعُوا فِي ذَلِك الْقيَاس، غير صَحِيح، لأَنهم مَا اتبعُوا فِي ذَلِك إلاَّ الْأَحَادِيث الَّتِي احْتج خصمهم بهَا، وَلَكِن على غير الْوَجْه الَّذِي ذكرُوا، وَقد ذَكرْنَاهُ الْآن محرراً، على أَنه قد رُوِيَ عَن بعض الْمُتَقَدِّمين من التَّابِعين مَا يدل على أَن الأبوال كلهَا سَوَاء فِي النَّجَاسَة، وَأَنه لَا فرق بَين بَوْل الذّكر والانثى، فَمِنْهَا مَا رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ،.

     وَقَالَ : حَدثنَا مُحَمَّد بن خُزَيْمَة، قَالَ: حَدثنَا حجاج، قَالَ: حَدثنَا حَمَّاد عَن قَتَادَة عَن سعيد بن الْمسيب أَنه قَالَ: الرش بالرش والصب بالصب من الأبوال كلهَا.
حَدثنَا مُحَمَّد بن خُزَيْمَة، قَالَ: حَدثنَا حجاج، قَالَ: حَدثنَا حَمَّاد عَن حميد عَن الْحسن أَنه قَالَ: بَوْل الْجَارِيَة يغسل غسلا وَبَوْل الْغُلَام يتبع بِالْمَاءِ، أَفلا يرى أَن سعيداً قد سوى بَين حكم الأبوال كلهَا، من الصّبيان وَغَيرهم، فَجعل مَا كَانَ مِنْهُ رشاً يطهر بالرش، وَمَا كَانَ مِنْهُ صبا يطهر بالصب، لَيْسَ لِأَن بَعْضهَا عِنْده طَاهِر وَبَعضهَا غير طَاهِر، وَلكنهَا كلهَا عِنْده نَجِسَة، وَفرق بَين التَّطْهِير من نجاستها عِنْده بِضيق مخرجها وسعته إنتهى كَلَام الطَّحَاوِيّ وَمعنى قَوْله: وَفرق ... إِلَى آخِره، أَن مخرج الْبَوْل من الصَّبِي ضيق فيرش الْبَوْل، وَمن الْجَارِيَة وَاسع فَيصب الْبَوْل صبا، فيقابل الرش بالرش والصب بالصب.

وَمِنْهَا: أَن فِيهِ النّدب إِلَى حسن المعاشرة واللين والتواضع والرفق بالصغار وَغَيرهم.

وَمِنْهَا اسْتِحْبابُُ حمل الاطفال إِلَى أهل الْفضل للتبرك بهم، وَسَوَاء فِي هَذَا الِاسْتِحْبابُُ الْمَوْلُود حَال وِلَادَته أَو بعْدهَا.



[ قــ :19 ... غــ :3 ]
- حدّثنا عَبْدُ اللَّهِ بنُ يُوسُفَ قالَ أخبرنَا مالِكٌ عنِ ابنِ شهابٍ عنْ عُبيْدٍ اللَّهِ بنِ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عُتْبةَ عنْ أمِّ قَيْسٍ بنْتِ مِحْصَنٍ أنَّها أتَتْ بِابن لَهَا صَغِيرٍ لَمْ يَأْكلِ الطَّعَامَ إِلَى رسولِ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأجْلَسَهُ رسولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حِجْرِهِ فَبَالَ عَلَى ثَوْبِهِ فدَعا بِماءٍ فَنَضَحَهُ وَلَمْ يَغْسِلْهُ.

( الحَدِيث 3 طرفه فِي: 5693) .

مُطَابقَة للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.

بَيَان رِجَاله وهم خَمْسَة تقدمُوا كلهم، وَابْن شهَاب مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ، وَأم قيس، بِفَتْح الْقَاف وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف.
ومحصن، بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون الْحَاء الْمُهْملَة وَفتح الصَّاد الْمُهْملَة وَفِي آخِره نون، وَهِي أُخْت عكاشة ابْن مُحصن، أسلمت بِمَكَّة قَدِيما، وبايعت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهَاجَرت إِلَى مَدِينَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رُوِيَ لَهَا أَرْبَعَة وَعِشْرُونَ حَدِيثا، فِي الصَّحِيحَيْنِ.
مِنْهَا إثنان، وَهِي من المعمرات.
.

     وَقَالَ  ابْن عبد الْبر: اسْمهَا جذامفة، بِالْجِيم والذال الْمُعْجَمَة،.

     وَقَالَ  السُّهيْلي: اسْمهَا آمِنَة، وَذكرهَا الْحَافِظ الذَّهَبِيّ فِي ( تَجْرِيد الصَّحَابَة) فِي الكنى، وَلم يذكرهَا لَهَا اسْما.

بَيَان لطائف اسناده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع، والإخبار بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع، والعنعنة فِي ثَلَاث مَوَاضِع، وَرُوَاته مَا بَين تنيسي ومدني.

بَيَان من أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ هُنَا فَقَط.
وَأخرجه بَقِيَّة الْجَمَاعَة: فَمُسلم فِي الطِّبّ عَن ابْن أبي عمر، وَفِيه وَفِي الطَّهَارَة عَن يحيى بن يحيى وَأبي بكر بن ابي شيبَة وَعَمْرو النَّاقِد وَأبي خَيْثَمَة زُهَيْر بن حَرْب، خمستهم عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة، وَفِي الطَّهَارَة أَيْضا عَن مُحَمَّد ابْن رمح عَن اللَّيْث بن سعد وَعَن حَرْمَلَة بن يحيى عَن ابْن وهب عَن يُونُس، ثَلَاثَتهمْ عَن الزُّهْرِيّ بِهِ.
وخرجه أَبُو دَاوُد فِي الطَّهَارَة عَن القعْنبِي عَن مَالك بِهِ، وَالتِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة، وَأحمد بن منيع، كِلَاهُمَا عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة بِهِ، وَالنَّسَائِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة عَن مَالك، وَابْن مَاجَه عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَمُحَمّد بن الصَّباح، كِلَاهُمَا عَن سُفْيَان بِهِ.

بَيَان لغته وَإِعْرَابه قَوْله: ( بابُنٍ لَهَا) الإبن: لَا يُطلق إلاَّ على الذّكر بِخِلَاف: الْوَلَد.
قَوْله: ( صَغِير) هُوَ ضد: الْكَبِير، وَلَكِن المُرَاد مِنْهُ: الرَّضِيع، لِأَنَّهُ فسره بقوله: ( لم يَأْكُل الطَّعَام) ، فَإِذا أكل يُسمى: فطيماً، وَغُلَامًا أَيْضا إِلَى سبع سِنِين.
.

     وَقَالَ  الزَّمَخْشَرِيّ: الْغُلَام هُوَ الصَّغِير إِلَى حد الالتحاء.
.

     وَقَالَ  بَعضهم من أهل اللُّغَة: مَا دَامَ الْوَلَد فِي بطن أمه فَهُوَ: جَنِين، فاذا وَلدته يُسمى: صَبيا مَا دَامَ رضيعاً، فَإِذا فطم يُسمى غُلَاما إِلَى سبع سِنِين، فَمن هَذَا عرفت أَن الصَّغِير يُطلق إِلَى حد الالتحاء من حِين يُولد، فَلذَلِك قيد فِي الْحَدث بقوله: ( لم يَأْكُل الطَّعَام) ، وَالطَّعَام فِي اللُّغَة مَا يُؤْكَل، وَرُبمَا خص الطَّعَام بِالْبرِّ، وَفِي حَدِيث أبي سعيد: ( كُنَّا نخرج صَدَقَة الْفطر على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَاعا من طَعَام أَو صَاعا من شعير) .
والطعم، بِالْفَتْح: مَا يُؤَدِّيه الذَّوْق، وَيُقَال: طعمه مر، والطعم، بِالضَّمِّ: الطَّعَام: وَقد طعم يطعم طعماً فَهُوَ طاعم إِذا أكل وذاق، مثل: غنم يغنم غنما فَهُوَ غَانِم، الذَّوْق، يُقَال: طعمه مر، والطعم، بِالضَّمِّ: الطَّعَام.
وَقد طعم يطعم طعماً فَهُوَ طاعم إِذا أكل وذاق، مثل: غنم يغنم غنما فَهُوَ غَانِم، قَالَ تَعَالَى: { فاذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشرُوا} ( الْأَحْزَاب: 53) .

     وَقَالَ  تَعَالَى: { وَمن لم يطعمهُ فانه منى} ( الْبَقَرَة: 49) اي: من لم يذقه، قَالَه الْجَوْهَرِي.
.

     وَقَالَ  الزَّمَخْشَرِيّ أَيْضا: وَمن لم يطعمهُ وَمن لم يذقه، من طعم الشَّيْء إِذا ذاقه.
وَمِنْه: طعم الشَّيْء لمذاقه، قَالَ:
( وان شِئْت لم اطعم نقاخا وَلَا بردا)

أَلاَ ترى كَيفَ عطف عَلَيْهِ الْبرد وَهُوَ النّوم؟ قلت: أَو الْبَيْت.

( وان شِئْت حرمت النِّسَاء سواكم.
)


والنقاخ، بِضَم النُّون وبالقاف وَالْخَاء الْمُعْجَمَة: المَاء العذب،.

     وَقَالَ  بَعضهم: وَقد أَخذه من كَلَام النَّوَوِيّ: المُرَاد من الطَّعَام مَا عدا اللَّبن الَّذِي يرتضعه، وَالتَّمْر الَّذِي يحنك بِهِ، وَالْعَسَل الَّذِي يلعقه للمداواة وَغَيرهَا.
قلت: لَا يحْتَاج إِلَى هَذِه التقديرات، لِأَن المُرَاد من قَوْله: ( لم يَأْكُل الطَّعَام) لم يقدر على مضغ الطَّعَام وَلَا على دَفعه إِلَى بَاطِنه، لِأَنَّهُ رَضِيع لَا يقدر على ذَلِك، أما اللَّبن فَإِنَّهُ مشروب غير مَأْكُول فَلَا يحْتَاج إِلَى استثنائه لِأَنَّهُ لم يدْخل فِي.
قَوْله: ( لم يَأْكُل الطَّعَام) حَتَّى يسْتَثْنى مِنْهُ، وَأما التَّمْر الَّذِي يحنك بِهِ، أَو الْعَسَل الَّذِي يلعقه، فَلَيْسَ بِاخْتِيَارِهِ، بل بعنف من فَاعله قصدا للتبرك أَو المداواة، فَلَا حَاجَة أَيْضا لاستثنائهما، فَعلم مِمَّا ذكرنَا أَن المُرَاد من قَوْله: ( لم يَأْكُل الطَّعَام) أَي: قصدا أَو اسْتِقْلَالا أَو تقوياً فَهَذَا شَأْن الصَّغِير الرَّضِيع، وَقد علمت من هَذَا أَن الَّذِي نَقله الْقَائِل الْمَذْكُور من النَّوَوِيّ، وَمن نكت التَّنْبِيه صادر من غير روية وَلَا تَحْقِيق، وَكَذَلِكَ لَا يحْتَاج إِلَى سُؤال الْكرْمَانِي وَجَوَابه هَهُنَا، بقوله: فان قلت: اللَّبن طَعَام، فَهَل يخص الطَّعَام بِغَيْر اللَّبن أم لَا؟ قلت: الطَّعَام هُوَ مَا يُؤْكَل، وَاللَّبن مشروب لَا مَأْكُول فَلَا يخصص، قَوْله: ( فأجلسه رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، الضَّمِير الْمَنْصُوب فِيهِ يرجع إِلَى الابْن.
قَالَ بَعضهم: أَي وَضعه.
إِن قُلْنَا: إِنَّه كَانَ كَمَا ولد، وَيحْتَمل أَن يكون الْجُلُوس حصل مِنْهُ على الْعَادة.
إِن قُلْنَا: إِنَّه كَانَ فِي سنّ من يحبو.
قلت: لَيْسَ الْمَعْنى كَذَلِك لِأَن الْجُلُوس يكون عَن نوم أَو اضطجاع، وَإِذا كَانَ قَائِما كَانَت الْحَال الَّتِي يُخَالِفهَا الْقعُود، وَالْمعْنَى هَهُنَا: أَقَامَهُ عَن مضجعه، لِأَن الظَّاهِر أَن أم قيس أَتَت بِهِ وَهُوَ فِي قماطة مُضْطَجع، فأجلسه النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَي: أَقَامَ فِي حجره، وَإِن كَانَت اتت بِهِ وَهُوَ فِي يَدهَا، بِأَن كَانَ عمره مِقْدَار سنة أَو جاوزها قَلِيلا، وَالْحَال أَنه رَضِيع، يكون الْمَعْنى: تنَاوله مِنْهَا وَأَجْلسهُ فِي حجره وَهُوَ يمسِكهُ لعدم مسكته، لِأَن أصل تركيب هَذِه الْمَادَّة يدل على ارْتِفَاع فِي الشَّيْء، و: الْحجر، بِكَسْر الْحَاء وَفتحهَا وَسُكُون الْجِيم، لُغَتَانِ مشهورتان.
قَوْله: ( فَبَال على ثَوْبه) الظَّاهِر أَن الضَّمِير فِي ثَوْبه يرجع إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقد قيل: إِنَّه يرجع إِلَى الابْن اي: بَال الابْن على الثَّوْب نَفسه، وَهُوَ فِي حجره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فنضح عَلَيْهِ المَاء خوفًا أَن يكون طَار على ثَوْبه مِنْهُ شَيْء.
قلت: هَذَا مِمَّا يُؤَيّد قَول الْحَنَفِيَّة، وَقد نسب هَذَا القَوْل إِلَى ابْن شعْبَان.
قَوْله: ( فنضحه) ، قد ذكرنَا أَن النَّضْح هُوَ الرش،.

     وَقَالَ  ابْن سَيّده: نضح المَاء عَلَيْهِ ينضحه نضحاً إِذا ضربه بِشَيْء فَأَصَابَهُ مِنْهُ رشاش، ونضح عَلَيْهِ المَاء: رش.
.

     وَقَالَ  ابْن الْأَعرَابِي: النَّضْح مَا كَانَ على اعْتِمَاد، والنضح مَا كَانَ على غير اعْتِمَاد.
وَقيل: هما لُغَتَانِ بِمَعْنى، وَكله: رش.
قلت: الأول: بِالْحَاء الْمُهْملَة، وَالثَّانِي: بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة، وَفِي ( الواعي) لأبي مُحَمَّد، و ( الصِّحَاح) لأبي نصر، و ( الْمُجْمل) لِابْنِ فَارس، و ( الجمهرة) لِابْنِ دُرَيْد، وَابْن القطوية وَابْن القطاع وَابْن طريف فِي ( الافعال) والفارابي فِي ( ديوَان الادب) وكراع فِي ( الْمُنْتَخب) وَغَيرهم: النَّضْح الرش، وَقد استقصينا الْكَلَام بِهِ فِي الحَدِيث السَّابِق مستقصىً.
قَوْله: ( وَلم يغسلهُ) ، وَلمُسلم من طَرِيق اللَّيْث عَن ابْن شهَاب: ( فَلم يزدْ على أَن نضح بِالْمَاءِ) ، وَله من طَرِيق ابْن عُيَيْنَة عَن ابْن شهَاب: فرشَّه.
.

     وَقَالَ  بَعضهم: وَلَا تخَالف بَين الرِّوَايَتَيْنِ بَين نضح ورش، لِأَن المُرَاد بِهِ أَن الِابْتِدَاء كَانَ بالرش وَهُوَ بتنقيط المَاء.
فَانْتهى إِلَى النَّضْح، وَهُوَ صب المَاء، وَيُؤَيِّدهُ رِوَايَة مُسلم فِي حَدِيث عَائِشَة من طَرِيق جرير عَن هِشَام: ( فَدَعَا بِمَاء فَصَبَّهُ عَلَيْهِ) ، وَلأبي عوَانَة: ( فَصَبَّهُ على الْبَوْل يتبعهُ إِيَّاه) .
قلت: عدم التخالف بَين الرِّوَايَتَيْنِ لَيْسَ من الْوَجْه الَّذِي ذكره، بل بِاعْتِبَار أَن النَّضْح والرش بِمَعْنى، كَمَا ذكرنَا عَن الْكتب الْمَذْكُورَة، وَالْوَجْه الَّذِي ذكره لَيْسَ بِوَجْه على مَا لَا يخفى، وَأما رِوَايَة مُسلم فَإِنَّهَا تثبت أَن النَّضْح بِمَعْنى: الصب، لِأَن الْأَحَادِيث الْمَذْكُورَة فِي هَذَا الْبابُُ، باخْتلَاف ألفاظها، تَنْتَهِي إِلَى معنى وَاحِد، دفعا للتضاد.
أَلا ترى أَن أم الْفضل، لبابَُُة بنت الْحَارِث، قد رُوِيَ عَنْهَا حديثان: أَحدهمَا فِيهِ النَّضْح، وَالثَّانِي: فِيهِ الصب، فَحمل النَّضْح على الصب دفعا للتضاد، وَعَملا بِالْحَدِيثين على أَن الْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي حكم وَاحِد باخْتلَاف ألفاظها يُفَسر بَعْضهَا بَعْضًا، وَمن الدَّلِيل على أَن النَّضْح هُوَ صب المَاء وَالْغسْل من غير عَرك قَول الْعَرَب: غسلني السَّمَاء، وَإِنَّمَا يَقُولُونَ ذَلِك عِنْد انصبابُ الْمَطَر عَلَيْهِم، وَكَذَلِكَ يُقَال غسلني التُّرَاب: إِذا انصب عَلَيْهِ.
فَإِن قلت: يُعَكر على هَذَا قَوْله: ( فنضحه وَلم يغسلهُ) قلت: قد مر جَوَابه فِي تَفْسِير الحَدِيث السَّابِق، على أَن الْأصيلِيّ ادّعى أَن قَوْله: ( وَلم يغسلهُ) من كَلَام ابْن شهَاب رَاوِي الحَدِيث، وَأَن الْمَرْفُوع انْتهى عِنْد قَوْله: ( فنضحه) .
قَالَ: وَكَذَلِكَ رَوَاهُ معمر عَن ابْن شهَاب، وَكَذَا أخرجه ابْن أبي شيبَة، قَالَ: فرشه، وَلم يزدْ على ذَلِك.

وَأما الْإِعْرَاب فَقَوله: ( لَهَا) : جملَة فِي مَحل الْجَرّ لِأَنَّهَا صفة لِابْنِ، وَكَذَلِكَ، قَوْله: ( صَغِير) بِالْجَرِّ صفة ابْن، وَكَذَلِكَ قَوْله: ( لم يَأْكُل الطَّعَام) ، وَقَوله: ( إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) كلمة: إِلَى، تتَعَلَّق بقوله: ( اتت) ، و: الْفَا آتٍ، الْأَرْبَعَة للْعَطْف بَين الْكَلَام، بِمَعْنى التعقيب.

بَيَان استنباط الْأَحْكَام مِنْهَا: حكم بَوْل الْغُلَام الرَّضِيع وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مستقصى.
وَمِنْهَا: الرِّفْق بالصغار والشفقة عَلَيْهِم، أَلا ترى أَن سيد الْأَوَّلين والآخرين كَيفَ كَانَ يَأْخُذهُمْ فِي حجره ويتلطف بهم؟ حَتَّى إِن مِنْهُم من يَبُول على ثَوْبه فَلَا يُؤثر فِيهِ ذَلِك، وَلَا يتَغَيَّر، وَلِهَذَا كَانَ يُخَفف الصَّلَاة عِنْد سَمَاعه بكاء الصَّبِي وَأمه وَرَاءه، وَرُوِيَ عَنهُ أَنه قَالَ: من لم يرحم صَغِيرنَا فَلَيْسَ منا.
وَمِنْهَا: حمل الْأَطْفَال إِلَى أهل الْفضل وَالصَّلَاح ليدعوا لَهُم، سَوَاء كَانَ عقيب الْولادَة أَو بعْدهَا،.

     وَقَالَ  بَعضهم: حمل الاطفال حَال الْولادَة.
قلت: حملهمْ حَال الْولادَة غير مُتَصَوّر، فَهَذَا كَلَام صادر عَن غير ترو، وَأَيْضًا قَالَ هَذَا الْقَائِل: فِي هَذَا الحَدِيث من الْفَوَائِد كَذَا وَكَذَا، وعدَّ مِنْهَا: تحنيك الْمَوْلُود، وَلَيْسَ فِي الحَدِيث مَا يدل على ذَلِك صَرِيحًا، وَإِن كَانَ جَاءَ هَذَا فِي أَحَادِيث أخر لِأَن ظَاهر الحَدِيث يدل على أَن أم قيس إِنَّمَا أَتَت بِهِ إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأجل التَّبَرُّك، ولدعائه لَهُ، لِأَن من دَعَا لَهُ هَذَا النَّبِي الْكَرِيم يسْعد فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة، وَإِن كَانَ فِيهِ احْتِمَال التحنيك.